شاهد.. تفاصيل القصة التي أثارت ضجة واسعة.. بمهر قيمته 3 مليار دفعوها مناصفة فيما بينهم.. ثلاثة من أفرد الدعم السريع يتزوجون فتاة حسناء بولاية الجزيرة ويعاشرونها بالتناوب تحت تهديد السلاح    بعد اتهام أطباء بوفاته.. تقرير طبي يفجر مفاجأة عن مارادونا    موظفة في "أمازون" تعثر على قطة في أحد الطرود    "غريم حميدتي".. هل يؤثر انحياز زعيم المحاميد للجيش على مسار حرب السودان؟    تعويضاً لرجل سبّته امرأة.. 2000 درهم    الحراك الطلابي الأمريكي    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الثلاثاء    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الثلاثاء    نهب أكثر من 45 الف جوال سماد بمشروع الجزيرة    معمل (استاك) يبدأ عمله بولاية الخرطوم بمستشفيات ام درمان    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الثلاثاء    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الثلاثاء    ابتسامات البرهان والمبعوث الروسي .. ما القصة؟    انتدابات الهلال لون رمادي    المريخ يواصل تدريباته وتجدد إصابة كردمان    أنشيلوتي: لا للانتقام.. وهذا رأيي في توخيل    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    بعد أزمة كلوب.. صلاح يصدم الأندية السعودية    الإمارات وأوكرانيا تنجزان مفاوضات اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة    القلق سيد الموقف..قطر تكشف موقفها تجاه السودان    الداخلية السودانية: سيذهب فريق مكون من المرور للنيجر لاستعادة هذه المسروقات    السودان..مساعد البرهان في غرف العمليات    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    تدرب على فترتين..المريخ يرفع من نسق تحضيراته بمعسكر الإسماعيلية    إيران تحظر بث مسلسل "الحشاشين" المصري    شاهد بالفيديو.. سائق "حافلة" مواصلات سوداني في مصر يطرب مواطنيه الركاب بأحد شوارع القاهرة على أنغام أغنيات (الزنق والهجيج) السودانية ومتابعون: (كدة أوفر شديد والله)    شاهد بالصورة والفيديو.. طلاب كلية الطب بجامعة مأمون حميدة في تنزانيا يتخرجون على أنغام الإنشاد الترند (براؤون يا رسول الله)    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    يس علي يس يكتب: روابط الهلال.. بيضو وإنتو ساكتين..!!    تجارة المعاداة للسامية    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    تدمير دبابة "ميركافا" الإسرائيلية بتدريب لجيش مصر.. رسالة أم تهديد؟    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تمويل ودعم شبكات المسلمين المعتدلين والليبراليين: الغايات والوسائل_ بين الأستاذ محمود والنعيم (1 من 2)

بعد أن أوضحنا مبدأ الأستاذ محمود، الواضح والحاسم، فيما يخص رفض التمويل، من أي جهة كانت، لنشر أفكاره ودعوته، وقارناه بسعي النعيم للاستفادة القصوى، من كافة إمكانيات التمويل المتاحة، مستغلاً اسم الأستاذ محمود، في ذلك، ومدعياً التلمذة له، نود أن نوضح، فيما يلي، المنطلق والأساس الواضح لفكر الأستاذ محمود، ورأي النعيم القاطع في هذا المنطلق، وفي أساسيات فكر الأستاذ، ليبين لجمهور القراء، أن اختلاف الوسائل، بين الأستاذ والنعيم، يقوم على اختلافٍ مبدئي، بين منطلق، ومنهج، الأستاذ محمود الفكري، ومنطلق ومنهج النعيم.. بل سوف يبين، من أقوال وأفعال النعيم، أنه ظن أن الجو قد خلا له، بعد التنفيذ1985م، لتشويه أفكار الأستاذ محمود، وفقا لهواه، وغرضه، والباسها لباس العلمانية، الذي يتناقض معها، خدمةً لأهداف، وأغراض، الجهات الغربية الممولة له، وسعيا لتحقيق الشهرة والمجد الذاتي، على حساب الأستاذ محمود، ودعوته.
فالأستاذ محمود محمد طه يقول عن الفكرة الجمهورية إن توجهها كان إسلامياً، منذ البداية، بالرغم من أن الفهم التوحيدي، على النحو الذي تبلور لاحقا، لم تكن معالمه واضحة تماما، في ذهنه، باديء الأمر.. ولكن الشيء الذي كان واضحا، عنده، هو: أنْ لا حل لمشاكل السودان، المستعمَر آنذاك، ومن ورائه، مشاكل البشرية قاطبة إلا عن طريق الإسلام، ذلك أنّ طريق العلمانية طريقٌ مسدود.. وقد ذكر ذلك، تحديدا، في كتابه "السفر الأول" الذي صدرت طبعته الأولى عام 1945، أي قبل ظهور الفهم التوحيدي المبوّب، في الفكرة، لاحقا.. حيث جاء في مقدمة الطبعة الثانية للسفر الأول، ما يلي:
(لقد كانت "الفكرة الجمهورية" إسلامية منذ يومها الأول.. ولقد كانت في ذلك، واعيةً، متحررة.. ها هو "السفر الأول" يتحدث عنها: نحن اليوم بسبيل حركة وطنية تسير بالبلاد، في شحوب أصيل حياة العالم هذه المدبرة، إلى فجر حياة جديدة، على هدىً من الدين الإسلامي، وبرشدٍ من الفحولة العربية، وبسببٍ من التكوين الشرقي)..
أمّا عن المدنية الغربية، ومن باب أولى العلمانية، فيقول الأستاذ في ذات "السفر الأول" الصادر عام 1945، ما يلي:
(ورأيُ هذا الحزب في المدنية الغربية هو أنها محاولة إنسانية نحو الكمال.. وهي، ككلّ عملٍ إنساني خطير، مزاجٌ بين الهدى والضلال.. وهي، لهذا، جمّة الخير، جمّة الشر.. وشرُّها أكبرُ من خيرها.. وهي كذلك، بوجهٍ خاص، على الشرقيِّ الذي يصرفُه بَهْرَجُها، وبريقُها، وزيفُها، عن مجالِ الخيرِ فيها، ومظانِّ الرشدِ منها.. ويرى هذا الحزب: أنّنا ما ينبغي أن نتقي هذه المدنية، بكل سبيل، كما يريدُ المتزمتون من أبناء الشرق.. ولا ينبغي أن نروّج لها، بكل سبيل، ونعتنقها، كما يريد بعضُ المفتونين، المتطرفين، من أبناء الشرق.. وإنما ينبغي أن نتدبّرها، وأن ندرسَها، وأن نتمثّل الصالحَ منها.. وهذه المدنية تضلُّ، وتخطيء، من حيثُ تنعدمُ فيها معاييرُ القيم، وتنحطُّ فيها اعتباراتُ الأفكار المجردة.. فليس شيء لديها ببالغٍ فتيلا إذا لم يكن ذا نفعٍ مادي، يخضع لنظام العدد، والرصد)..
ويخلص الأستاذ محمود إلى القول:
(ويعتقدُ الحزبُ الجمهوري أنّ الشرق، عامة، والسودان، خاصة، يمكنهما أن يُضيفا عنصراً إلى المدنية الغربية هي في أمسّ الحاجة إليه، وذلك هو العنصر الروحي)..
وبعد أن دخل الأستاذ محمود _بفضل الله، وعلى قدرٍ منه، تعالى_ في تجربة الخلوة، التي أعانته على تحصيل المعرفة، ومعرفة سبيل التغيير، كتب الأستاذ، في أواخر شهر يناير عام 1951، خطاباً إلى جريدة الشعب السودانية، إيذاناً، فيما يبدو، بنهاية فترة الخلوة والاعتكاف في رفاعة، والتي استمرت حوالي ثلاث سنوات، تتويجا لخلوة العامين في السجن، إثر مواجهته الحاسمة للمستعمرين الإنجليز.. وقد لخص الأستاذ محمود، في ذلك الخطاب، مسيرة تجربته المعرفية، في الإسلام، كما يلي:
(ثم نظرتُ موضوعَ الدعوة إلى الإسلام، فإذا أنا لا أعرفُ عنها بعضَ ما أحبُّ أن أعرف.. فإنّ قولَك "الإسلام" كلمةٌ جامعة، قد أسيء فهمُ مدلولها الحقيقي، لأنّ النّاسَ قد ألفوا، منذ زمنٍ بعيد، أن تنصرفَ أذهانُهم، عند سماعها، إلى ما عليه الأممُ الإسلامية اليوم من تأخّرٍ منكر.. وما علموا أنّ المسلمينَ اليومَ ليسوا على شيء.. فأنت، إذا أردتَ أن تدعو إلى الإسلام، فإنّ عليك لأنْ تردَّه إلى المعينِ المصفّى الذي استقى منه محمد، وأبوبكر، وعمر.. وإلا فإنّ الدعوةَ جَعْجعةٌ لا طائلَ تحتها.. ولم تطب نفسي بأنْ أجعجع)!!
وهذا (المعين المصفّى) هو ما ظل عليه أمر الأستاذ محمود، منذ منتصف أربعينات القرن العشرين...
أما د.النعيم، فهو قد التحق بالفكرة الجمهورية، أواخر ستينات القرن الماضي، كما يقول.. والتسجيلات الصوتية، الموجودة حالياً للجلسات المختلفة منذ التزامه، تعكس أن الاعتراض على المسائل الروحية، وجوانب العقيدة في الدين، له بدايات مبكرة عند النعيم!! وليس وليد اليوم.. فهو، مثلا، في إحدى الجلسات يبدي اعتراضا على حديثٍ للأستاذ يبشّر فيه بمستوى الكمالات الإنسانية القادمة، من حيث كونها كمالات فكرية، وأن الإنسان، بتحقيقه لهذه الكمالات الفكرية، يستطيع أن يخترق حاجز الزمن، وأن يتشكل في الصور، على نفس النحو الذي كان يتشكّل به، ملكُ الوحي، جبريل.. وقد قال الأستاذ إنّ ومضات من هذا الأمر قد ظهرت عند المحقّقين من المتصوفة، من أصحابِ الخطوة مثلا.. ولكنّها ستكونُ أمرا عاما في مقبل أيام البشرية.. وبالرغم من أن حديث الأستاذ، هذا، يسنده القرآن الكريم مثلاً ، في قصة (الذي عنده علم من الكتاب)، في سورة النمل، وفي حادثتي (الإسراء والمعراج)، في السيرة النبوية الشريفة، إلا أنّ للنعيم اعتراضٌ مرصود، في هذه الجلسة، كان كما يلي:
(عن مسألة التشكل دي، في اعتراض إنّه طوّالي بقوم إنّها بتخفي الانتظام اللي ماخْدا بيهُ الحياة، واللي الناس بقدروا يعيشوا بيهُ.. فنحن اسّع دي حياتنا منتظمة، والزول بقدر يعيشها لأنه بِيَعرف إنّها خاضعة لقوانين وماشّة بالسببية والمسبَّب.. أو المسبِّب والمسبَّب.. لكن لو اختفت دي، ولاّ بقى الإنسان مكمّل بعضه، ومتحكّم في كلّ شيء، وممكن يتحكّم في نفسه، أو يعيد تشكيل نفسه، النظام برتبك، والمسألة بِتْجُوط شوية)..
وكان رد الأستاذ محمود، على النعيم، في ذات الجلسة، كما يلي:
(هو طبعاً الانتظام، بالصورة الإنت بتتكلّم عنها، مَا، مَرْحَلة!! يعني نحن، البشر، اخترعنا الجماعة، لنتوسّل بيها لغاية معينة.. الجماعة مُشْ صفة لازمة لينا، ولا الحكومة.. نحن شكّلنا الجماعة، وعملنا حكومة، وعملنا قوانين، وعملنا قضاء، دا كلّه ضروري ليهُو أن نكون نحن في مرحلتنا دي.. لكنه دا وسيلتنا نحن لنتخطّى المرحلة دي نفسها، لنجي لمرحلة الأفراد.. لمّن نَجِي لمرحلة الأفراد إنتَ حكومة في ذاتك.. والآخرين، كل واحد حكومة.. مافي حكومة علينا.. أها، المرحلة دي، بتجي منها ومضة في الكوكب دا.. لكن حقائق ما يحصل في موضوع التطور دا في كوكب غير الكوكب دا.. لكن مؤكد بِتَجي ومضات منه في الكوكب دا.. وإنتَ ذكرت حكاية الصوفية.. حكاية الصوفية، ومضة من المسائل دي.. مثلاً، أهل الخطوة.. تُطوى ليهم الأرض.. خطوة هنا، خطوة في كوستي مثلا، أو الأبيض.. مشوا الناس خلُّوه هنا، وساروا بأسرع الوسائل الساروا بيها، لقوهُو هناك.. أو يَجِيك طالع من الجدار دا.. الجدار الإنتَ شايفُه أصم دا.. هو عنده من المقدرة ما يشوف أنه فيه مسام تخرجه هو.. أها، دي مقدرة حقيقية.. نحن ماشّين ليها.. لكن في كوكبنا دا، النظام الإنتَ قلتُه، بِنْبني على إننا نحن لازم نكون عندنا شخصياتنا المميزة وعندنا عجزنا الظاهر، البي تتمُّه لينا الجماعة.. لكن مؤكّد الجماعة مش غايتنا، ولا راح تستمر معانا سرمدية.. أنا وإيّاك راح نستغني عن الجماعة.. والتالت والرابع بالصورة دي.. وقاعدة البشرية البتحتاج للجماعة راح تظل فيها.. لكن لمن يجي يقول ليك في الجنة (لهم ما يشاءون فيها)، ما تشاء إنتَ أنْ تكون قادر، نحن هسع قادرين بغيرنا.. نحن قادرين بالعربية، وقادرين بالطيارة، لكن المقدرة الحقيقية أن نكون قادرين بأنفسنا.. نحن ماشّين لي دي مؤكّد)!!
وقد ذكر له الأستاذ، في نهاية الحديث، أن من يكونون على مثل هذه الدرجة من الكمال، لن يتورّطوا لك في قوانينك، حتى تأخذهم بيها، ونبّه إلى أنه، ولحسن التوفيق، كلّ من انفعلت لهم الأشياء من أصحاب الكمالات، في المتصوّفة، قد كان انفعالها، لصالح وخير الناس!! وجديرٌ بالذكر، أن للنعيم، الآن، أقوالاً مرصودةٌ أيضا، يعلن فيها عدم اكتراثه بعدد من الأمور الغيبية، التي يجب على المؤمن الإيمان بها.. وقد قال الأستاذ محمود إن الإيمان بها من أوليّات الإسلام.. ونحن، سنتعرض لذلك في حينه..
أيضا، في جلسة عامة ناقشت موضوع الحدود، سأل الأستاذ إن كان لأحد الحاضرين اعتراضٌ على موضوع الحدود، فقال النعيم ما معناه، إنْ كانت هناك فرصة للاعتراض، فهو يعترض، مبرّرا ذلك بأنّه يعتقد أنّ الله يمكنه أن يصلح المسيء، بطرق أقل قسوة من الحدود!! والغريب أن النعيم، الآن، وبعد أن أصبح بصورة تامة في جانب العلمانية، يفخر، في مقابلة صحفية عالمية، بهذا الموقف، ويحاول الإيحاء، للغربيين، بأنّ الأستاذ كان على علم باتجاهه العلماني، وإنّ الأستاذ بسكوته عما قال النعيم، أراد أن يقول له: (كلامك صحيح، ولكن ليس هذا وقته)!! والنعيم، لا شك، يعتقد أنّ وقت كلامه قد جاء الآن!! لذلك هو يقول إنّه بموقفه، ذاك، كان متقدماً بحدسه 30 عاماً، على معاصريه من الجمهوريين، آنئذٍ!! وعلى هذا هو يرى أن موقفه العلماني الآن، إنما هو مواصلة لموقفه ذاك، الذي تم بعلم وموافقة الأستاذ!! وهذا ما أعلنه النعيم، صراحة!! فهو يدّعي أن الأستاذ قال له، عندما حضر إليه مودعا، إنه سعيد أن أحد تلاميذه اعترض على الحدود!! وبهذا يريد أن يوحي أن الأستاذ يقول في السر، ما يخفيه في العلن!! وهذا، بلا ريب، إيحاء، لا يلحق بالأستاذ محمود، بل تدحضه وتكذّبه السيرة المعروفة، والمعهودة، في الوضوح، والمباشرة، والقصد الصريح، للأستاذ!! فعندما أثار الفقهاء، وتبعتهم بعضُ الصحف، الجدل حول عنوان محاضرة: (الإسلام برسالته الأولى لا يصلح لإنسانية القرن العشرين)، مدّعين أن الأستاذ يعني أن: (الإسلام لا يصلح لإنسانية القرن العشرين)، فنّد الأستاذ ادعاءهم ذاك، وقال، ما معناه، إننا دائما نعتمد الوضوح والقصد الصريح، في دعوتنا، ولو كنا نعني ما يدّعيه الفقهاء وبعض الصحف، عنا، لقلناه بعبارات مباشرة، وصريحة، وواضحة، توضّح قصدنا، دون لف أو دوران!! مذكّرا أنه اعتمد المواجهة، المباشرة، مع المستعمر، حين كان هؤلاء الفقهاء يتجلببون بجلابيب الشرف الممنوحة لهم من المستعمر!!
وعلى ذات النحو، في الوضوح والقصد الصريح، فإنّ ما نعلمه، نحن، عن الأستاذ محمود، وفيما هو موثّقٌ، عندنا، كتابةً وحديثاً، أنّ الأستاذ يشرح العلاقة بين العقوبات الحدية، والعقل، بصورة واضحة ومحددة.. حيث يقول إنّ العقوبة الحدية الغرض منها، أساسا، تنبيهُ وترقيةُ عقلِ مَنْ اقترف الجرم الحدي، حين انحطّ بعقله إلى دركات الحيوان، فأخضعَه لشهوات نفسه، ونزواتها، بارتكابه الخطيئة.. والقرينة في ذلك هي أن حاجة الخالق إلى الخلق، دائما، هي صفاء عقولهم، وسلامة قلوبهم.. والأستاذ، يضرب مثالا بالقرينة بين اليد والعقل، في حد السرقة مثلا، مدلّلا بالكيفية، المتواترة، التي يستخدم بها الإنسان يديه في التعبير عن أفكاره، أثناء الكلام.. ويقول إن تعطيل اليد بالحد، الغرض منه هو إيقاظ العقل، في الأساس.. عن الحدود، يقول الأستاذ، مثلا:
(ولقد تبدو، لأول وهلة، هذه العقوبات قاسية، وعنيفة، ولكنها ليست كذلك، في حقيقة الأمر، وإنما هي حكيمة، كل الحكمة، حيثُ وفّقت توفيقا تاما، بين حاجة الفرد إلى الحرية الفردية المطلقة، وحاجة الجماعة إلى العدالة الاجتماعية الشاملة.. ويجب أن يكون مفهوماً أنّ هذه الحدود لا تُطبّق إلا من أجل إصلاح الفرد، في المقام الأول، ثم إصلاح المجتمع في المكان الثاني، وذلك لأنّ، في الإسلام، الفرد هو محط نظر الله إلى الوجود _ الفرد هو الغاية، وكل شيء ما عداه هو وسيلته لتكميل نفسه، وتطويرها، وترقيتها في المراقي، لتلاقي الله)..
جديرٌ بالذكر أن الأستاذ محمود يؤكّد أنّ الحدود، بما هي أمر الله، فهي لا تطبق إلا على خلفية من العدالة الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية الشاملة.. بينما النعيم، يعترض على الحدود من حيث المبدأ كما قال، أي من حيث مبدأ فرضها من قبل الله، ويرى أنها ليست أمرا حيويا، بل هي في الأساس، نتيجة فهم بشري للنص القرآني.. أي هي فهم النبي، عليه الصلاة والسلام، للنص القرآني!! المرجع: مقابلة للنعيم مع عثمان أبوبكر مراسل صحيفة ديلي ترست، أبوجا، بتاريخ 13/9/2006.. وقول النعيم هذا يخالف بصورة واضحة النص القرآني، الذي ينسب الحدود إلى ربّ العزة، تعالى، مباشرة: (تلك حدود الله)، ويتبع من ذلك أنه لا يجوز للحاكم _وإنْ كان النبي عليه السلام_ العفو عن الحد إذا وصل إلى علمه.. كما يخالف قول النعيم، كذلك، ما هو موثق عن الأستاذ بخصوص الحدود، مما أوردنا مثالَه أعلاه..
والنعيم، لم يكتفِ بإلباس دعوته العلمانية لبوس الفكرة الجمهورية، فحسب، بل هو، بعد أن انحاز إلى جانب الدولة العلمانية تماما، يحاول، الآن، أن يذكّر بعض الجمهوريين، بأن الأستاذ قال عنه، ذات مرة، إنه: (علماني.. لكنه علماني مروحن)، في محاولة لإيجاد جذور لدعوته في الفكرة الجمهورية!! بل هو قد ذهب إلى التصريح، في كتاباته، بأن الأستاذ، نفسه، كان أمامه خياران: إمّا أنْ يدعو إلى العلمانية صراحة، أو يدعو إليها تحت غطاء الدعوة إلى الإسلام!! وهذا الادعاء المضلِّل تكذّبه، بوضوح، نصوص الأستاذ التي استهلَلْتُ بها هذا المقال، والتي يرجع بعضها إلى منتصف أربعينات القرن العشرين، قبل أن يظهر الفهم التوحيدي المبوّب للفكرة، عند الأستاذ!! وهو ادّعاءٌ سيعود وباله، لا ريب، على صاحبه، ومشايعيه..
لقد قلتُ في الحلقة الأولى، من هذه المقالات:
(ولكن، هل يمكن أن يكون المرء على دينين، في آن واحد؟؟ هل بالإمكان الجمع بين الدعوة إلى العلمانية، والدولة العلمانية، والانضواء تحت شبكة المسلمين الليبراليين، والدعوة إلى الفكرة الجمهورية، والاهتداء بتعاليم الأستاذ محمود، في آن واحد؟؟ الواضح أنه لا يمكن أن يتم ذلك، لأحد.. لذلك لا بد أن يكون النعيم، قد ركن إلى العلمانية، والليبرالية، عن رأي واضح، في الأستاذ محمود، ودعوته.. وهذا ما سنراه لاحقا)..
والآن، سأستعرضُ، فيما يلي من هذا المقال، رأي النعيم، الواضح، في الأستاذ محمود، وفي دعوته، ومحاولته التلبيس والتخليط، بغرض نسبة طرحه العلماني، إلى الأستاذ محمود..
في مقال للنعيم، نشر في دورية (ريليجن) الصادرة عن أكاديميك بريس إنك (لندن) ليمتد- العدد 16 على الصفحات 197 – 224، عام 1986، بعنوان (قانون الردة الإسلامي).. وبعد أن شرح النعيم أن الأستاذ يدعو إلى إحياء الإسلام (وتفسيره)، واستبدال قوانين الشريعة الحالية، بقوانين أكثر تسامحا ومساواة، قال النعيم إن الأستاذ محمود، اقترح طريقا إسلاميا للإصلاح، مفضّلا إيّاه على الدعوة، السافرة، إلى العلمانية:
يقول النعيم: (فبدلا من الدعوة، مباشرة إلى العلمانية، فضّل الأستاذ محمود أن يقترح طريقا إسلاميا للخروج من المشاكل الناجمة عن بعض نواحي الشريعة التقليدية، مثل مشاكل الحقوق المدنية والسياسية، لمواطني الدولة الإسلامية، بما في ذلك حقوق النساء وحقوق غير المسلمين. وقد دعا إلى تأسيس نظام اقتصادي إسلامي أكثر عدالة، يوفّر لكافة المواطنين احتياجاتهم الأساسية، كحق، وليس كصدقة. كما ناضل من أجل أن يفرق بين مفهومه للديمقراطية والاشتراكية عن مفاهيم الديمقراطية الليبرالية والاشتراكية الماركسية).
وبهذا النص، ظنّ النعيم أنه قد وضع، لنفسه، لبنةً للعلمانية، في فكر الأستاذ محمود، ليبني عليها مستقبلا.. وإذا علمنا أن هذا المقال، يكاد يكون أول مقال كتبه النعيم، في تقييم الفكرة الجمهورية، برعاية مؤسسة فورد، بعد خروجه من السودان عام 1985، بعد التنفيذ مباشرة، ذلك الخروج الذي كان برعاية مؤسسة فورد أيضاً، حسبما أقرّ مؤخرا، يبين لنا أن النعيم قد افتتح بهذا المقال مشروعه العملي، للاستحواذ على الفكرة الجمهورية، وعلمنتها، تحت غطاء الانتساب إلى الأستاذ محمود، بغيةَ الشهرة، وخدمةً لغايات الممولين الغربيين من أمثال مؤسسة فورد، على حساب الأستاذ محمود.. ولذلك ليس غريبا أن يجرؤ النعيم على القول، وفي جلسة عامة لمجموعة من الجمهوريين انعقدت خصيصا لمناقشة طرحه: (أنا شخصيا بعتقد انو أطروحتي ما بتختلف مع رأي الأستاذ محمود وأقوال الأستاذ محمود والفكرة الجمهورية) و (دا الطرح الأنا بطرحو.. أنا على قناعة انو ما بختلف مع الأستاذ محمود.. أنا على قناعة باني أنا تلميذ الأستاذ محمود في الأمر دا ذاته..)!! ثم يقول إن أمر ادعائه هذا، نفسه، لا يمكن حسمه، والوصول إلى رأي نهائي فيه!!
الغريب أن النعيم، في مقدمته التي كتبها للنسخة المترجمة من كتاب (الرسالة الثانية من الإسلام) لم يملك إلا أن يتحدث عن (العلمانية)، برأي الفكرة الجمهورية، صراحة، حيث قال:
(في ظل فشل الفلسفة العلمانية في تلبية حاجاتنا المادية والروحية، يجب أن ننظر بعمق أكثر في الدين، خصوصا إذا كان الدين يُقدّم لنا على هذا النحو من الانفتاح الذهني، والاستنارة)..
وقد خلص، في ختام مقدمته لترجمة الكتاب، إلى نصيحة المسلمين، بما يلي:
(إنّ البحث عن حلول علمانية لمشاكلنا الراهنة، يعني، ببساطة، أن نترك الميدان خاليا للإسلاميين، الذين سينجحون في جذب أغلبية السكان إلى جانبهم عبر ما يذيعونه من نصوص دينية تدعم سياساتهم، وأفكارهم.. لذلك، أنصحُ الأذكياء والمستنيرين، من المسلمين، إلى أن يظلُّوا في الإطار الديني، ويناضلوا لتحقيق الإصلاحات التي تجعل من الإسلام فكرا حديثا قابلا للتطبيق)!!
ولكن، النعيم، لا يثبت على هذا كثيرا، إذ لا مجال لحرية الحركة، والتعبير، في ظل التمويل، ورغبات المموّلين.. ولعل مما يدعو إلى الاستغراب حقا، في أمر التمويل هذا، أن يذكر النعيم، في ختام مقالة له في دورية (ريليجن) بعنوان (قانون الردة الإسلامي)، الذي استعرضتُه أعلاه، والذي لا تزيد صفحاته عن 28 صفحة، أنه قد أعد مسوّدة المقال، بمنحة (سخيّة!!)، من مؤسسة فورد!! فقد قال:
(المسودة الأولى لهذا المقال تم إعدادها في جامعة كولومبيا، بمدينة نيويورك، بمنحة سخيّة من مؤسسة فورد)!!
فهل نجد من يشرح لنا كيف يتم إعداد (مسوّدة مقال) صغير كهذا، بمنحة (سخية) من مؤسسة فورد، ولماذا!!!
وفي مقال تالٍ، نشره شتاء عام 1988، في جورنال أوف اكيومينيكال ستديز، العدد 25 : 1 بعنوان: (محمود محمد طه وأزمة إصلاح القانون الإسلامي: مضامين العلاقات بين الأديان)، أعيد نشره ضمن كتاب بعنوان: (المسلمون يشاركون في الحوار) صدر عام 1992، ذهب النعيم إلى إبداء رأي قاطع، في الأستاذ محمود، وفي الفكرة الجمهورية، بصورة وصلت إلى حد زعمه أن قول الأستاذ محمود، بتدخل العناية الالهية، وارتباط تطبيق الاسلام بمجيء المسيح، جاء تلميحاً وليس صراحة، في أقوال الأستاذ محمود وتلاميذه!! وقال في ذلك: (يتم التلميح إليه، خفية، في أدب المجموعة)!!
فبعد أن سرد النعيم تداعيات الأحداث، قبل مؤامرة التنفيذ، وضع عنوانا جانبيا أسماه (التقييم)، تحدث تحته عن أن موضوع المستويين من التشريع، عند الأستاذ، قد يبدو مقنعا للعقل المنطقي لشخصٍ ملتزم سلفا بالأسس الأخلاقية والفلسفية، التي تنبني عليها الفكرة، ولكنه أشار إلى أنه يمكن الاعتراض على هذا الموضوع، بحجة مناسبة التوقيت (حكم الوقت).. علما بأن (حكم الوقت) موضوع أساسي في طرح (الرسالة الثانية)، حيث يقول الأستاذ إن (حكم الوقت) الحاضر، هو للرسالة الثانية.. ولكن النعيم، يصف قول الأستاذ هذا بأنه: (حكم قيمي نابع عن اعتقاد ذاتي)!! ثم يذهب ليقول:
(إمكانية التطبيق العملي للرسالة الثانية من الإسلام تعتبر جزءا لا يتجزأ من النظرية نفسها، حيث أن النظرية تفترض أن الظرف التاريخي الراهن هو الوقت المناسب للدعوة.. إلا أن إعدام الأستاذ محمود بتهمة الردة وجرائم سياسية، يمثّل تحديا لهذه العقيدة الأساسية في الفكرة.. فلو استمر تطبيق الشريعة على يد الرئيس الأسبق النميري، ولو أن الدول المسلمة الأخرى قد حذت حذو السودان، وإيران وباكستان، في تطبيق الشريعة، لن تكون هناك أي فرص مستقبلية للدعوة المفتوحة إلى الرسالة الثانية من الإسلام.. وعليه، فإنّ إعدام مؤلف النظرية ومؤسس الحركة، ربما تكون له آثار وخيمة، وبعيدة المدى، على إمكانية تطبيق منهجه)..
يُلاحظ أن النعيم، قبل عام تقريبا من هذا القول، وفي مقدمته التي كتبها لترجمة كتاب (الرسالة الثانية من الإسلام) التي تطرقتُ لها أعلاه، كان قد قال عكس هذا القول، تماما، حيث نفي أن يؤثّر تنفيذ الحكم في الأستاذ على انتشار الفكرة، بل رأى أن التنفيذ سيزيد من انتشارها، حيث قال:
(بالرغم من أن الأستاذ محمود نشأ في السودان، حيث عاش حياته وأصدر كل أعماله الدينية الفكرية، إلا أن فكره ستظل له آثاره الباقية وبعيدة المدى في كافة أنحاء العالم الإسلامي.. بل من المحتمل جدا أن يكون لفكر الأستاذ محمود آخر الأمر تأثيرا على مجريات الأحداث العالمية)!!
ثم يواصل النعيم، في تقييمه، لآثار التنفيذ، ويقول بضرورة وجود شخص يواصل المشوار، وسنلاحظ لاحقا أن هذا القول تكرر من النعيم، في أكثر من مناسبة، بل سنرى أنه يقول صراحة إن أكبر تقدير يقدمه التلميذ لأستاذه، هو أن يواصل نشر فكرته.. ولكن يبدو أن التلميذ (النعيم) يريد أن يواصل بما يريده، ويراه هو، وليس بما يريده، ويراه، مؤسّس الفكرة!! فبعد أن وصف الفوضى التنظيمية، التي أصابت الجمهوريين، بعد التنفيذ، وتوقفهم عن الحركة، يقول النعيم:
(سيبين مستقبلا، ما إذا كان عدم التحرك هذا ناجما عن أثر الصدمة الأولى، وفداحة فقد مؤسس وقائد الحركة، أم أنه ظاهرة دائمة.. ولكن الواقع العقلاني والمادي يحتّم أن يقوم شخص ما بمواصلة الدعوة إلى النظرية، إن كان لها أن تصل إلى، وتُقبل من قبل، جماهير المسلمين التي ستتولى تطبيقها العملي)!!
وفيما يبدو تمهيداً لأمره، يقول النعيم، في نفس مقدمته للترجمة:
(هناك عدد كبير من الأفكار الدينية والفكرية، في الماضي، قد وجدت القبول والتطبيق، بعد عدة سنوات من وفاة مؤسسيها، وغالبا ما يتم ذلك في أرضٍ أجنبية)!! هل مثل أمريكا مثلاً؟!
وفي سياق تقييمه، وضع النعيم عددا من السيناريوهات الخاصة بمستقبل الفكرة، منها احتمال نسيان فكر الأستاذ محمود، وهذا الاحتمال هو قد استبعده.. فبقي لديه احتمالان آخران.. في أحدهما، المذكور أدناه، يعبّر النعيم بوضوح عن رأيه في (عدم عقلانية) المبدأ الأساسي في الفكرة الجمهورية، وهو مبدأ، تدخل العناية الالهية، و(عودة المسيح) ليحقق (جنة الأرض) حسب الوعد القرآني، والبشارة النبوية!! إضافة إلى تقوّله على الأستاذ، في هذا المقتطف، حيث يزعم إن هذا المبدأ كان يتم التلميح إليه (خفية في أدب المجموعة)، إذ يقول:
(السيناريو الآخر، على الرغم من عدم عقلانيته، فيما يبدو، والذي يتم التلميح إليه، خفية، في أدب المجموعة، هو تحديدا احتمال التدخل الإلهي المباشر. ففي كتاباته الميتافيزيقية الخاصة، وعبر عدد من النشرات التي وافق على نشرها للعامة باسم المجموعة، أعلن الأستاذ محمود عن عقيدته في العودة الوشيكة للمسيح. وفي أحد كتبه الأساسية، مثلا، احتج بأن البعث واليوم الآخر في القرآن له معنيان. المعنى القريب هو أن هذه الأحداث الكونية ستتجسد في هذه الحياة بعودة المسيح. وبالمعنى الثاني والنهائي، أضاف، أن البعث واليوم الآخر يعنيان نهاية هذا العالم وبداية الحياة الأخرى. والدلالة التي يتم التلميح لها، في هذا الصدد في كتابات الأستاذ محمود، ولكن لا يتم التصريح بها بصورة واضحة أبدا، هي أن الرسالة الثانية من الإسلام سيطبقها المسيح. أنا لست مؤهلا للإدلاء برأيي حول هذه المعارف والاعتقاد الميتافيزيقي، بخصوص موضوع النقاش هذا، ولكن يمكن أن أقول هنا إنه وفقا لمنطق هذا الحدث الكوني، فسوف لن تكون هناك ضرورة للدعوة والقبول والتطبيق التدريجي لنظرية الرسالة الثانية. فكل شيء سيتم بضربة واحدة، وبصورة قاهرة ومهيمنة، بحيث لا يكون هناك مجال للاختلاف أو تأخر الاستجابة).
وأمر عودة المسيح، في الفكرة الجمهورية صدرت فيه كتيبات واضحة.. وفي كتاب الأستاذ محمود: (القرآن ومصطفى محمود والفهم العصري) ورد هذا النص القاطع، والذي لا يمكن أن يقال معه ان الأمر مجرد تلميح!! يقول الأستاذ: (فأما ساعة التعمير فهي لحظة مجيء المسيح ليرد الأشياء الى ربها، حساً ومعنى، وليملأ الأرض عدلاً، كما ملئت جوراً.. ويومئذ يظهر الاسلام على جميع الأديان.. ويتحقق موعود الله: "هو الذي أرسل رسوله، بالهدى ودين الحق، ليظهره على الدين كله.. وكفى بالله شهيدا".. ويتأذن الله بالتطبيق، كما تأذن بالانزال..وذلك فيما يتعلق بقوله تعالى: "اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الاسلام ديناً" وهذه هي ساعة التجلي الكمالي).. فهل يمكن أن يقال عن مثل هذا القول أنه (لا يتم التصريح به بصورة واضحة أبداً)!!
والقول أعلاه، سأناقشه بتوسع، في الجزء الثاني، من هذا المقال..
ثم، يواصل النعيم في استعراض احتمالاته، ليقول:
(الاحتمال المنطقي الثالث، بالطبع، هو أن لا يتم أبدا تطبيق فكرة الأستاذ محمود، عبر القبول الواسع لها وتطبيقها من قبل المسلمين، لا تدريجيا ولا فوريا. وما يبقى جديرا بالاعتبار، في هذه الحالة، هو ما إذا كانت فكرة الأستاذ محمود سيكون لها أثرٌ ما، دون التطبيق الشامل. ولكن، في مستوى من المستويات، سيكون هنالك دائما أثر للرجل ولأسلوب حياته، الذي عاشه سلفا في المحيط القريب منه، وللطريقة التي أثّر بها على أتباعه، وعلى سير الأحداث في السودان. إلا أن الدلالات المحددة لهذا الجانب تظل مفتوحة للناس لتقييمها والاتفاق حولها. وأثر الأستاذ محمود، في هذا الجانب، مهما كان كبيرا، سيكون لا قيمة له، من وجهة نظري، عند مقارنته بالأثر المحتمل للرجل وأسلوب حياته على مستقبل الفكر الإسلامي. ذلك أن مساهمته في هذا المجال ستنال التقدير عندما تُناقش كتاباته، على المستوى الأكاديمي، من قبل طلاب الدارسات الإسلامية، عبر العالم).
قول النعيم أعلاه، أيضا، له دلالاته التي سنناقشها.. فقد صدرت عنه أقوال صريحة بأنه لا يعتقد أن فكر الأستاذ محمود قابل للتطبيق، أو الاستجابة، في المستقبل القريب.. وبانتظار مناقشة أقواله لاحقا، أودُّ أن ألفتُ النظر تحديدا، هنا، إلى أنه جعل احتمال عدم تطبيق الفكرة، احتمالا منطقيا، في حين أنه وصف المبدأ الأساسي، والوحيد الذي يقول به الأستاذ في أمر حتمية انتصار الاسلام، بعدم العقلانية!!
وبما أن النعيم في عجلة من أمره، فقد اتجه، فيما يبدو، إلى الخيار القابل للتطبيق، حسب رأيه، في المستقبل القريب، وهو خلطة (الشريعة والعلمانية)، سعيا منه لاصطياد عصفورين بحجر واحد: (العلمانيين والسلفيين المسلمين)، خدمة لأغراض، وأهداف الغرب، في العالم الإسلامي!! ولذلك ليس غريبا أن يصرّح للغربيين، إنه قد غير رأيه السابق في علمانية الدولة، واقتنع بها واعتنقها بالكامل!!
ففي سياق حديث للنعيم عن سيرة حياته، في مؤتمر عقده معهد (كوزموبوليس)، في هولندا، خلال الفترة 25 – 26 مايو 2009، بعنوان: (تشجيع وترويج التعددية من خلال المنطق المدني)، أوضح النعيم للمؤتمرين أنه قد غير رأيه في العلمانية، الذي صدر عنه، في كتابه (نحو تطوير التشريع) عام 1990!!، قائلاً:
(لقد كنتُ دائما متشائما جدا بخصوص العلمانية والدولة العلمانية.. في الواقع الكتاب الأول الذي أصدرته عندما غادرت السودان، في الثمانينات كان بعنوان (نحو تطوير التشريع الإسلامي - طبعة 1990)، وفي هذا الكتاب رفضتُ بوضوح فكرة الدولة العلمانية أو العلمانية، كطريق يمكن للمسلمين أن ينتهجوه للتقدم إلى الأمام.. ولكن بمرور الوقت تبيّن لي أن فهمي للعلمانية، من حيث أنها ضد الدين، ومعادية للدين، هو الذي كان سلبيا، وأن الوضع ليس بالضرورة كذلك.. وبدأتُ أعيدُ النظر في موقفي.. حيثُ وصلتُ الآن إلى أن أعتنق فكرة الدولة العلمانية بالكامل)!!
واعتناق فكرة الدولة العلمانية بالكامل، لدى النعيم، دفعه إلى أنْ يقول إن الدين نفسه علماني، وإن الدين من صنع البشر، مدّعياً أن الدين والثقافة سيان في ذلك، وبما أنهما الاثنان من صنع البشر، فإنه يمكن للبشر أن يعيدوا صنعهما.. وقد جاء هذا الزعم الباطل، من النعيم، ضمن أقوال له نشرت في دورية (ذي أميركان يونيفيرسيتي لو ريفيو - عدد 44 : 1383)، حيث يقول ما يلي:
(الدين علماني.. الدين من صنع البشر....... عندما أتحدث عن الدين والثقافة، أتحدث عنهما بنفس المعنى، بمعنى أنهما الاثنان من صنع البشر.. وبالتالي يمكن للبشر أيضا إعادة صنعهما)!!
ولخطورة هذا القول، ومناقضته بصورة أساسية للدين، من الأفضل أن نورد نص النعيم في أصله الانجليزي
فالعبارة بالإنجليزية، هي كما يلي:
(Religion is secular. Religion is human-made... When I speak of religion and culture, I speak in the same vein, in the sense that they are both human-made, are both human-remade)..
فالنعيم، بتصريحاته أعلاه، يكشف، بوضوح تام، عن اختلافه الأساسي له مع الفكرة الجمهورية، بخصوص الدين والعلمانية والدولة العلمانية.. ولكنه، في مخاطبته للجمهوريين قبل وقت قصير، ناقض ذلك، وقال بغيره!! ولا عجب!! فازدواجية الخطاب، عند النعيم، تقوم على فلسفة معتمدة لديه في الإنكار والتخفي، حسب مقتضى المصلحة!! وقد وضع الأساس النظري لهذه الفلسفة في كتابه (الإسلام وعلمانية الدولة).. وهذا الجانب، لدى النعيم، سأفرد له مقالا منفصلا، في وقت لاحق، بإذن الله..
فبالرغم من تصريحه الوارد أعلاه، للمؤتمرين في الغرب، ورأيه المحدد في أن الدين من صنع البشر، اقتضت مصلحة النعيم، عندما حوصر في النقاش مع الجمهوريين، أن يتنكر لأقواله أعلاه، ليطمئن الجمهوريين أنه لا يزال على رأي الفكرة الجمهورية في العلمانية، حيث خاطبهم، أواخر العام الماضي فقط، (نوفمبر 2011)، قائلا:
(أنا أعارض العلمانية كفلسفة للحياة، وقد قلت بذلك وأكدت عليه، في كتاب الإسلام و علمانية الدولة)..
سوف أستكمل، بعون الله وبتوفيقه، مناقشة أقوال النعيم أعلاه، إضافة إلى أقوال أخرى له في نفس المعنى، في الجزء الثاني من هذا المقال..
إبراهيم عبدالنبي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.