ظلت القوي السياسية القديمة والعريقة والفاعلة في جنوب السودان ومنذ أمد بعيد تعيش في حالة خمول غريب تعتريها دهشة أو إندهاش من جراء التحول الذي حدث لمجمل الحياة السياسية في الجنوب بعد سلام نايفاشا .. فقد عرف أهل السودان أن أهل جنوب السودان يتمتعون بتجربة حزبية ليبرالية متميزة وراسخة ، تماما مثل أهل شمال السودان ، وقد كانت تلك الأحزاب الجنوبية وبكل مسميات جبهاتها تمارس الفعل السياسي بكل هدوء وتؤدة ، وتترشح في دوائر الجنوب في كافة مراحل الحياة النيابية خلال تجارب الديمقراطية الثلاثة ، بدءاً من مرحلة سنوات الحكم الذاتي في إنتخابات العام 1954م ثم بعد ثورة أكتوبر في العام 1965م وأخيرا إنتخابات أبريل 1986م بعد نهاية حكم الرئيس الراحل جعفر نميري... ولكن ... وبعد إنفصال الجنوب وفقا لإتفاقية نايفاشا للسلام فإن حظ تلك الأحزاب الجنوبية الديمقراطية قد أصبح صفرا كبيرا علي الشمال ، خاصة وأنه فور إستلام الحركة الشعبية لمقاليد الحكم في جنوب السودان حسب نيفاشا فإن مصير تلك الأحزاب التي قامت بأدوار عظيمة وتاريخية في خلق مناخ إيجابي للعمل السياسي بالجنوب برغم سنوات الحرب الأهلية قد كان مصيرا مجهولاً إختفت علي إثره من الساحة السياسية تماما ، علما بان تواجدها القديم قد ساعد في خلق تفكير ليبرالي متقدم يصبح أساساً لحياة سياسية راشدة بجنوب البلاد وعلاقته بالشمال ، وقد أتاح ذلك الحراك السياسي ظهور كوادر جنوبية سواء تخرجت من جامعات الشمال أو من الشقيقة مصر ، بحيث تعمل علي ترسيخ قيم الديمقراطية والتسامح والتجانس بين كافة التيارات السياسية في جنوب السودان ... وعند سيطرة الحركة الشعبية علي الحكم في الجنوب ، وأيضال علي الوظائف العسكرية والأمنية والشرطية وحتي الدبلوماسية منها ، فإن الرأي الأحادي والإقصاء السياسي قد بانت ملامحه بوضوح تام ، حيث مورس الأمر ضد كل من يقف في طريق حماسة رجال الحركة الشعبية وهيجانهم المتواصل ، حيث أدي ذلك إلي عدم توافر تكافؤ الفرص بين متعلمي الجنوب من كافة التيارات ، برغم أن العديد من الكوادر الفاعلة والمتعلمة قد تركت تجاربها وتراثها الحزبي خلف ظهرها وهرولت تجاه تنظيم الحركة الشعبية حتي تحظي بالوظيفة والإمتيازات ، ولكنها لا تتاح لها فرصة إتخاذ القرارات الإستراتيجية ، فقد ظل هذا الحق لا يقترب منه سوي أصحاب الحركة الذين قدموا معها من الخارج وفق إتفاقية نايفاشا ... ولقد كررت قيادة الحركة الشعبية عند إستلامها لحكم الجنوب ذات الأخطاء التي كررها المؤتمر الوطني منذ بداية سنوات الإنقاذ الأولي بالمسطرة ، برغم أن الحركة الشعبية من خلال سنوات معارضتها السياسية لحكومة الإنقاذ كانت تستنكر وبإستمرار هذا الضرب من الإقصاء السياسي والوظيفي الذي ضرب الخدمتين العسكرية والمدنية في مقتل ظلت تعاني منه البلاد حتي اللحظة ، بل لم تتخلص الحركة والمؤتمر معا من هذا الداء ، داء الإقصاء في وظائف قيادة الدولة الفنية والمهنية في كافة المؤسسات ، ماجعل الإحتقان في أوساط الناس هنا وبالجنوب لا يتزحزح مطلقاً ... والآن ، وبعد أن حدثت مأساة هجليج فإن الناس تظل تتساءل وبحيرة شديدة تعتريهم ، لماذا وكيف فكرت وقدرت وقررت قيادات الحركة الشعبية إحتلال أرض السودان يمثل تلك السذاجة السياسية والعسكرية أيضا ، ألم يدر بخلد قيادات الحكم في دولة جنوب السودان بأنها سوف تواجه جيشا نظاميا لديه إرثه العسكري والتاكتيكي والإستراتيجي الذي إكتسبه منذ العام 1924م أي إبان ثورة اللواء الأبيض وحتي اللحظة ؟ ألم يدر بخلد قيادات الحركة الشعبية بأن تجربة الجيش السوداني في جنوب البلاد كانت كلها إيجابية تظللها نجاحات باهرة حيث تمكنت من دحر التمرد من كافة مناطق الجنوب ، وبرغم ذلك فقد كانت الحياة تسير سيرها الطبيعي في كافة مدن الجنوب الكبري ؟ ثم ألم تقدرالحركة الشعبية بأن إتفاقية السلام قد منحتها حقا عريضا جدا سيطرت بموجبه علي كل مقدرات ولايات الجنوب العشر دون أن تشاركها فيه قيادات الأحزاب الجنوبية العريقة سابقة التجربة والإرث السياسي ؟ فكيف إذن ترمي بفلذات أكباد شعب الجنوب المسكين في أتون حرب تغزو بموجبه هجليج التي إنتهت إلي محرقة للجيش الشعبي أفقدته عقله ، وأفقدت الأهالي إبنائه المقاتلين السذج إن هم رفضوا تنفيذ الأوامر بغزو السودان الشمالي !!! وهنا يطل وبقوة السؤال التاريخي الكبير ، هل الجيش الشعبي نحروه أم إنتحر ؟؟ ومن الذي نحره ؟ وبالطبع لم ينتحر من تلقاء نفسه .. ومن هنا أيضا يظل السؤال مطروحاً وبقوة أيضاً .. من أين يبدأ الحساب في أوساط حكومة الجنوب ، حيث من المؤكد إستراتيجيا أنه ليس هناك لدولة من الخارج أي مخطط عسكري مثل المخطط الساذج هذا ، ذلك أن دولة إسرائيل وبكافة كفاءات خبرائها لايمكن أن تهلك الجيش الشعبي بهذه السهولة ، وكذلك دول الجوار .. إذن علي قيادة الحكم في جنوب السودان أن تبدأ تحقيقا مهنيا ومتقدما ومستقلا إن كان هناك قضاء مستقلا الآن ، تتم بموجبه محاسبة مرتكبي تلك الأفكار الرعناء التي نحرت بموجبها شباب الجيش الشعبي في هجليج ، ذلك أن معظمهم لا يستطيع عصيان أوامر الحركة الشعبية ، وبالتالي فإن الأمر يستوجب أن تخلق الحركة الشعبية حراكا تشاوريا كبيرا بعيدا عن الهيجان ، لعل ذلك يأتي بقيادات سياسية ذات رؤية جديدة تستفيد من محاسن العلاقة الأزلية بين شعبي الشمال والجنوب حتي تعيش المنطقة إستقرارا مستقبلياً باهرا يحقن دماء أبناء السودان الكبير القديم ويعيد خواص التسامح الشعبي الذي كان مضربا للأمثال لقرن كامل من الزمان الماضي ، ويدفع بعملية التنمية المتوازنة في البلدين إلي الأمام ، خاصة وأن هناك الكثير من القواسم المشتركة في القطرين تؤمن الإستقرار والنماء مدي الحياة بمثلما نشاهده الآن في دول الإتحاد الأوربي ... إذن الأمر يحتاج إلي تحقيق شفاف وسط عناصر الحكم في الجنوب لتقييم قرار إحتلال هجليج عشوائياً ، بمثلما يحتاج الأمر كله إلي قيادات جنوبية جديدة ومتميزة تكون أكثر قدرة علي الحفاظ علي مقدرات وأرواح أهل الجنوب .. والإبتعاد قدر الإمكان عن ثقافة ( الغطغطة ) لهذه القرارات العشوائية الساذجة والتي أصابت الجيش الشعبي في مقتل الآن ،،،،،