إدارة مرور ولاية نهر النيل تنظم حركة سير المركبات بمحلية عطبرة    اللاعبين الأعلى دخلًا بالعالم.. من جاء في القائمة؟    جبريل : مرحباً بأموال الإستثمار الاجنبي في قطاع الصناعة بالسودان    قيادي سابق ببنك السودان يطالب بصندوق تعويضي لمنهوبات المصارف    بعد رحلة شاقة "بورتسودان.. الدوحة ثم الرباط ونهاية بالخميسات"..بعثة منتخب الشباب تحط رحالها في منتجع ضاية الرومي بالخميسات    على هامش مشاركته في عمومية الفيفا ببانكوك..وفد الاتحاد السوداني ينخرط في اجتماعات متواصلة مع مكاتب الفيفا    شاهد بالصورة.. (سالي عثمان) قصة إعلامية ومذيعة سودانية حسناء أهلها من (مروي الباسا) وولدت في الجزيرة ودرست بمصر    شاهد بالفيديو.. الرجل السودني الذي ظهر في مقطع مع الراقصة آية أفرو وهو يتغزل فيها يشكو من سخرية الجمهور : (ما تعرضت له من هجوم لم يتعرض له أهل بغداد في زمن التتار)    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان أحمد محمد عوض يتغزل في الحسناء المصرية العاشقة للفن السوداني (زولتنا وحبيبتنا وبنحبها جداً) وساخرون: (انبراش قدام النور والجمهور)    الخارجية تنفي تصريحا بعدم منحها تأشيرة للمبعوث    آفاق الهجوم الروسي الجديد    كيف يتم تهريب محاصيل الجزيرة من تمبول إلي أسواق محلية حلفا الجديدة ؟!    شبكة إجرامية متخصصة في تزوير المستندات والمكاتبات الرسمية الخاصة بوزارة التجارة الخارجية    مناوي: وصلتنا اخبار أكيدة ان قيادة مليشات الدعم السريع قامت بإطلاق استنفار جديد لاجتياح الفاشر ونهبها    يوفنتوس يتوج بكأس إيطاليا للمرة ال15 في تاريخه على حساب أتالانتا    مانشستر يونايتد يهزم نيوكاسل ليعزز آماله في التأهل لبطولة أوروبية    عثمان ميرغني يكتب: السودان… العودة المنتظرة    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    بعد حريق.. هبوط اضطراري لطائرة ركاب متجهة إلى السعودية    نهضة بركان من صنع نجومية لفلوران!!؟؟    واشنطن تعلن فرض عقوبات على قائدين بالدعم السريع.. من هما؟    د. الشفيع خضر سعيد يكتب: لابد من تفعيل آليات وقف القتال في السودان    الكشف عن شرط مورينيو للتدريب في السعودية    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني في الموازي ليوم الأربعاء    رسميا.. كأس العرب في قطر    وسط توترات بشأن رفح.. مسؤول أميركي يعتزم إجراء محادثات بالسعودية وإسرائيل    "تسونامي" الذكاء الاصطناعي يضرب الوظائف حول العالم.. ما وضع المنطقة العربية؟    عالم آثار: التاريخ والعلم لم يثبتا أن الله كلم موسى في سيناء    "بسبب تزايد خطف النساء".. دعوى قضائية لإلغاء ترخيص شركتي "أوبر" و"كريم" في مصر    شاهد بالصورة.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تنعي جوان الخطيب بعبارات مؤثرة: (حمودي دا حته من قلبي وياريت لو بتعرفوه زي ما أنا بعرفه ولا بتشوفوه بعيوني.. البعملو في السر مازي الظاهر ليكم)    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    5 طرق للتخلص من "إدمان" الخلوي في السرير    انتخابات تشاد.. صاحب المركز الثاني يطعن على النتائج    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    روضة الحاج: فأنا أحبكَ سيَّدي مذ لم أكُنْ حُبَّاً تخلَّلَ فيَّ كلَّ خليةٍ مذ كنتُ حتى ساعتي يتخلَّلُ!    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    أسترازينيكا تبدأ سحب لقاح كوفيد-19 عالمياً    القبض على الخادمة السودانية التي تعدت على الصغيرة أثناء صراخها بالتجمع    الصحة العالمية: نصف مستشفيات السودان خارج الخدمة    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هل من سبيل أفضل؟ المقال الخامس
نشر في سودانيزاونلاين يوم 25 - 10 - 2012

"وهناك ميزة لا تجارى في الإسلام وإن كانت هذه الميزة مجهولة من كثيرين، بل إن أكثر الناس يعرف للإسلام عكسها تماما.. تلك الميزة هي حرية الفكر.. إنه لا يجارى في هذا المضمار.. وشعار الإسلام وهو شهادة "لا إله إلا الله" لا تعني شيئا أكثر من هذا.. فإنها تقول ان ليس في جميع العوالم شيء هو حق مائة في المائة إلا الله، ومن ثم فإن التعصب لأي رأي أو معتقد أو عادة تعصبا يمنع التفكير في احتمال غيرها جهل وغباء، وهذا هو السر في صياغة الشهادة بصورة تجمع بين النفي والإثبات "لا إله إلا الله"، فكأن كل ما عدا الله يحوي الحق والباطل في إطار واحد.. ففي كل حق نسبة من الباطل وفي كل باطل نسبة من الحق مما يجعل الرجل العاقل يفكر مرات ومرات قبل أن يجزم بصحة ما يرى هو جزما يجعله يزري بمعتقدات غيره وهو مطمئن كل الاطمئنان..".
- الأستاذ محمود محمد طه، أمدرمان، الثلاثاء 21 أكتوبر، 1958
أبتدر هذا المقال بقول الأستاذ أعلاه، ونتحدث، من ثم، عن موضوع "حرية الفكر" حديثا عاما، يرتبط بسلسلة هذه المقالات، لكنه أيضا يتجاوز إطارها الضيق إلى محاولة لتوثيق بعض مواقف الفكرة الجمهورية بخصوص هذا الموضوع – حرية الفكر – وانعكاساته على الحياة العامة، والممارسة التي تثبّته وتمدده في واقع الناس، أفرادا وجماعات.. ومن المهم في تناول هذا الأمر أن نكون على إدراك لأن الفكرة الجمهورية لا تمثل نتيجة لتطور اعتيادي في الفكر الديني، بل هي طفرة فيه، بمعنى أن طرحها جديد بصورة ملفتة جدا، وليس ظاهرة عادية في سياقها التاريخي.. من المؤكد أن الفكرة تبني قاعدتها على تراث ديني عتيد، لكنها تنطلق من تلك القاعدة لرحاب واسعة وجديدة على عموم الفكر الديني، وهي بذلك تُعتبر ثورة في الفكر الإنساني ككل، وليس الديني فحسب.. هذا التقديم مهم، لأن فهم الفكرة واستيعابها يعتمد على توقع هذا المحتوى الجديد، الغريب، لأنه بالضرورة سيخالف الكثير مما هو في رصيد القديم والسائد.. هذه الغرابة أكدها الأستاذ كثيرا، واستعان في تبيانها بحديث النبي الكريم: "بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا، كما بدأ، فطوبى للغرباء".
وحرية الفكر، في الفكرة، هي حق ومسؤولية في نفس الوقت.. هي حق لأنها مطلب من مطالب الإنسان الجوهرية، وتوق مبذور في كينونته التي فطره الله عليها، لكنها أيضا، لذلك، مسؤولية عظيمة، إذ أن إساءة استعمالها تعني انتهاك حريات الآخرين.. في هذا المضمار، هناك حدود لا بد من مراعاتها في المجتمع، من أجل حماية الحقوق الأساسية للجميع من التغول عليها من خارجها، لكن يجب الحذر من التناقض دوما، لأن التمادي في رفع مستوى تلك الحدود يحد بدوره من الحرية نفسها، التي هي الهدف الأساسي للحماية.
حرية الفكر هي مطلب أساسي، وأولي، في درب الحرية المطلقة، والحرية المطلقة هي صفة الحياة المطلقة، والحياة المطلقة هي غاية الغايات، وهي غاية في نفسها، وكل ما سواها وسيلة لها.. الأستاذ يعرّف الخير والشر، في الوجود، عن طريق هذه الغاية الأساسية، ولهذا يعرّف الخير بأنه التعبير الذي يعطي الحياة سعة، والشر بأنه التعبير الذي يعطي الحياة ضيقا (راجع تسجيل "ندوة الخواطر"، 1972).. هذا هو وضع حرية الفكر في الإسلام، كما تعرضه الفكرة الجمهورية، وهو وضع جوهري كما نرى، بحيث أنه أكبر من أي عقيدة، وأي أيدولوجية، لأن العقائد والأيدولوجيات إنما تأخذ شرعيتها من قربها أو بعدها عن هذه الغاية.
هذا الأمر يضع الإنسان الذي يتصدى لعملية "التبشير" الديني، عموما، والإسلامي خصوصا، أمام مسؤولية كبيرة، وشروط صعبة، لخصها الأستاذ حين قال: "التبشير بالإسلام أمر يتطلب أن يكون المبشر، من سعة العلم بدقائق الإسلام، وبدقائق الأديان، والأفكار، والفلسفات المعاصرة، بحيث يستطيع أن يجري مقارنة تبرز امتياز الإسلام على كل فلسفة اجتماعية معاصرة، وعلى كل دين، بصورة تقنع العقول الذكية.. وأن يكون من سعة الصدر بحيث لا ينكر على الآخرين حقهم في الرأي.. وأن يكون من حلاوة الشمائل بحيث يألف، ويؤلف من الذين يخالفونه الرأي.. وهذه هي الصفات التي لا تكتسب إلا بالممارسة.. أعني أن يمارس الداعي دعوته في نفسه، وأن يعيشها أعني أن يدعو نفسه أولاً، فإن استجابت نفسه للدعوة دعا الآخرين.. فإن شر الدعاة هم الوعاظ الذين يقولون مالا يفعلون." (من كتاب "الثورة الثقافية").
لا يمكن إذن، في الفكرة الجمهورية، أن يكون استنكار حق الآخرين في الرأي، والتعنيف بهم بصورة تشحن الضغائن نحوهم، مما يدخل في منهج الدعوة الصحيحة للإسلام، بلّه الحوار الفكري، الديمقراطي، العام.
لكن، قد يقول البعض، من أنصار الفكرة الجمهورية وأصدقائها، إن الأستاذ نفسه، وفي نصوص ومواقف مشهودة عنه، كان شديدا في لغته مع بعض المعارضين، بحيث أسمعهم قولا بليغا وقويا في أنفسهم؛ مثل ما ذكره بخصوص القضاة الشرعيين، وما ذكره بخصوص جماعات الهوس الديني والجماعات الطائفية، وجماعات ما يسمى بالإسلام السياسي، التي تمتطي الدين من أجل السلطة.. هذا القول عموما صحيح، كاستثناءات واردة لا تمثل عموم لغة الأستاذ – حيث سمتها العام هو الرحمة والصبر والسعة – لكنه سيجعلنا ننظر للأمر المشترك بين جميع الذين واجههم الأستاذ بهذه الصورة، لنعرف السبب الذي جعل الأستاذ يستثنيهم ويخاطبهم بتلك اللغة الشديدة؛ وسنرى أن الرابط المشترك بين جميع هؤلاء هو معارضة حرية الفكر نفسها، فالأستاذ قد خصص لغته الشديدة للذين استباحوا لأنفسهم مصادرة حريات الآخرين.. الأستاذ كان أشد ما يكون في نقده، ليس في حالات الخلاف الفكري العام، مهما كانت حدته، وإنما في حالات رده على الذين يسعون لقهر حرية الفكر.. هذه المشاهدة التاريخية تفيدنا بمدى أهمية حرية الفكر عند الأستاذ وردع كل من ينتهكها، لأنه ليس من الحرية أن تنتهك حريات الآخرين.
إضافة لذلك فإن من يحتج بهذه الحجة – حجة أن الأستاذ كان شديدا مع البعض أحيانا، حين تطلب الظروف ذلك – إنما يعطي نفسه عموما السراح بأن يقلد أسلوب الأستاذ في استثناءات الشدة في حين أنه لم يستوف تقليده في الحالة العامة، وهو الأسلوب الموضوعي، الرحيم، الصبور، الذي يحترم كينونة الآخر احتراما واضحا، في القول والفعل.. هذا باب واسع لأن نبرر لأنفسنا رخصة كل الاستثناءات الممكنة، فتصبح هي النمط العام عندنا، ونعفي أنفسنا من كل العزائم المطلوبة، فتصبح هي الاستثناءات، وهو باب سبقنا له الكثيرون من قبلنا، في تاريخ الإسلام وتاريخ الأديان عموما.
هذا يقودنا للحديث عن القضايا التي تتجسد عبرها حرية الفكر في حيواتنا:
(1) الفكرة الجمهورية، والديمقراطية وحقوق الإنسان:
المسألة الجوهرية في الديمقراطية هي أن الكائن البشري المعاصر هو موضع حسن ظن منذ البداية، وليس موضع سوء ظن.. هو موضع ثقة لأن الديمقراطية إنما تنحاز لعنصر الخير في الإنسان منذ البداية.. ما يعنيه هذا أن التشريع لا يفترض أن الناس ستتعدى على القانون الدستوري إذا مُنحت الحريات الأساسية (أي تسيء التصرف في تلك الحريات)، ومن ثم فإن التشريع لا يعطيهم تلك الحريات إلا بعد أن يثبتوا أنهم يستحقونها ولن يسيئوا استعمالها.. لا.. إنما يفترض التشريع أن عموم الناس سيحسنوا التصرف في الحريات الأساسية، بحيث أنهم لن ينتهكوا حقوق بعضهم بعضا، وسيحترموا الحد الأدنى الموضوع في القانون الدستوري، وعليه فإن الحريات الأساسية مبذولة للجميع منذ البداية، ثم لا تُصادر إلا ممن يثبتون، بالممارسة، أنهم يسيئون التصرف فيها.. هذه مسألة جوهرية، وعلى أساسها يقوم التشريع، فالتشريع لهذا يقوم على حسن الظن بالناس – الإيمان بالخير في الناس – لا العكس.. وعليه فالعقاب، ومصادرة الحقوق الدستورية، هو "استثناء" في التشريع، لحالات استثنائية، وليس هو مراد التشريع ووجهته الأساسية.
التطبيقات الأولية لهذا الفهم هي أن الديمقراطية تبدأ بممارسة الشعوب لها، في أقرب فرصة تاريخية ممكنة، وان الشعب يتعلمها عن طريق ممارستها، فهي لا تتنزل جاهزة وكاملة.. معنى هذا أن الخطأ متوقع جدا في هذه الممارسة، على مستوى الافراد ومستوى الجماعة، لأن الخطأ سمة ملازمة للتجربة البشرية عموما، خصوصا في المسائل الجديدة.. لهذا عرّف الأستاذ محمود الديمقراطية بأنها "حق الخطأ".. هذا تعريف من نوع السهل الممتنع.. الديمقراطية تكفل للأفراد والجماعة حق ان يخطئوا ويتعلموا من أخطائهم، في مناخ يحترم الخطأ كوسيلة من وسائل تعلم الإنسان، وأيضا كصفة من صفاته التي تجعله قادرا على التطور نحو الكمالات بصورة مستمرة.. عن تشريف الإنسان بالقدرة على الخطأ، يقول النبي الكريم "إن لم تخطئوا وتستغفروا فسيأت الله بقوم يخطئون ويستغفرون فيغفر لهم".. ولقد قدم الأستاذ الديمقراطية في هذا المستوى حين قال: "وإنما تجيء كرامة الانسان من كونه أقدر الأحياء على التعلم والترقي، وإنما تجئ كرامة الديمقراطية من كونها، كأسلوب للحكم أقدر الأساليب لاتاحة الفرص للانسان ليبلغ منازل كرامته وشرفه، وإنما يتعلم الإنسان من أخطائه، وتلك هي الطريقة المثلى للتعليم.. ففي الدكتاتورية تمنع الحكومة الفرد من أن يجرب، أو يعمل بنفسه، وبذلك تعطل نموه الفكري والعاطفي والخلقي، لأن كل أولئك إنما يتوقف نموه على ممارسة العمل، وتحمل مسئولية الخطأ في القول، وفي العمل، ثم التعلم من الخطأ.. وعلى العكس من الديكتاتورية، نجد أن الديمقراطية قائمة على الحق في ارتكاب الأخطاء، وهذا ليس معناه الرغبة في الخطأ من أجل الخطأ، وإنما اعترافا بأن الحرية توجب الاختيار بين السبل المختلفة للعمل [.....] على شرط واحد هو أن الانسان يتحمل نتيجة خطأه في القول، وفي العمل، وفق قانون دستوري.. فالديمقراطية هي حق الخطأ [.....] ومن كرامة الانسان عند الله أن الحرية الفردية لم يجعل عليها وصيا، حتى ولو كان هذا الوصي هو النبي على رفعة خلقه وكمال سجاياه [.....] ومن هذا نأخذ أنه ليس هناك رجل هو من الكمال بحيث يؤتمن على حريات الآخرين." (من كتاب الرسالة الثانية من الإسلام).
هذا التعريف للديمقراطية له انعكاساته على الفرد والمجتمع معا، فالمجتمع الديمقراطي هو الذي يمنح أعضاءه حق الخطأ، ثم ينظم هذا الحق بحيث يكون مستقرا ومستمرا، بمعنى أن لا يسمح أن تؤدي ممارسة الخطأ نفسها لنتائج تجعل المجتمع نفسه غير ملائم لاستمرارية كفالة هذا الحق للجميع.. يعني، مثلا، الحكومة لا يسمح لها الدستور أن تمارس حق الخطأ لدرجة أن تصادر حريات الآخرين (من معارضيها مثلا، أو الأقليات)، والأفراد لا يسمح لهم الدستور أن يمارسوا حق الخطأ لدرجة أن يحرموا الآخرين من نفس هذا الحق.. ببساطة: تنتهي حرياتنا، في المجتمع، حيث تبدأ حريات الآخرين.. وهذا هو دور القانون، ولذلك سماه الأستاذ "الحد الأدنى من الاخلاق".. أي الحد الأدنى الذي يكفل ديمومة واستقرار "حق الخطأ" في المجتمع.. بهذا فإن القانون الدستوري هو الذي يوفق بين حاجة الأفراد لاستمرارية حق الخطا هذا، وحاجة المجتمع لأن لا تكون ممارسة هذا الحق ضارة باستقراره العام.. ولهذا فإن القانون الدستوري هو بالضرورة القانون الذي يحفظ استدامة الديمقراطية في المجتمع، وأي قانون يخالف جوهر الديمقراطية هذا فهو قانون غير دستوري.. القانون الدستوري، بهذا المعنى، هو خادم للديمقراطية، لا رقيبا عليها أو مانحا لها.
والفرد الديمقراطي، إذن، ليس هو، بالضرورة، الفرد الذي لا ينشغل بنقد أقوال وأفعال الآخرين في المجتمع – فهذا أمر طبيعي ومطلوب عموما – وإنما هو الفرد الذي يعرف حدوده بالنسبة لحريات الآخرين بحيث لا يظن أن مجرد إدراكه هو للحق – أو اعتقاده أنه يدرك الحق أكثر من غيره – يعطيه الصلاحية لمنع الآخرين من ممارسة حق الخطأ.. الفرد الديمقراطي يبتعد عن الوصاية على الناس، ويندمج معهم في "حوار" يحترم كونهم "غير".. بهذا المعنى فإن من الصعب جدا على الفرد أن يكون ديمقراطيا حقا، ولهذا فإن أكثر الناس كمالا، في الأخلاق وفي الفكر، تجدهم أيضا أكثرهم ديمقراطية، لا وصاية، والعكس صحيح.. معرفتهم للحق أكثر من غيرهم تجعلهم يحفظون لغيرهم حقهم في أن يخطئوا، بل إن محبتهم للآخرين، ومحبة الخير لهم، تجعلهم يصونون لهم حق الخطأ هذا، فلا يسعون للسيطرة عليهم.. الفرد الكامل، الحر، هو الذي لا يتبطر على الآخرين بما لديه، ولا يسعى للسيطرة عليهم، وقد أورد القرآن الكريم، في آيات الأصول، هذا الأمر حين قال: ((فذكّر إنما أنت مذكّر، لست عليهم بمسيطر)) و((قل الحق من ربكم، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)).. وبعد كل هذا فالأمر أعمق في مستوياته، لدرجة أن يقول الأستاذ إنه ليس هناك رجل من الكمال بحيث يؤتمن على حريات الآخرين.
لهذا فإن الديمقراطية مرتبطة رباطا وثيقا بحرية الفكر، وفي مجال المجتمع فهذا يتجسد أيضا في أن الرأي العام لا يحق له فرض نفسه على الأقليات التي تختلف معه بواسطة القانون، مهما كان هذا الرأي العام متقدما ومستنيرا (فما بالك إن كان غير ذلك؟).. في هذا يقول الأستاذ: "وللرأي العام أحكام تصدر من وراء حكم القانون، وهي غير ملزمة لأحد، ولا منفذة بسلطة، ولكنها قد تكون، مع ذلك، أكثر فعالية من القانون، في ردع الشواذ والمارقين. ويمكن للرأي العام بالطبع، أن يصدر حكمه على أي سلوك لا يوافق عليه، ولكن يجب تجنب العنف في إحداث أي تغيير في ذلك، فإن العنف لا يبعث إلا إحدى خصلتين: إما العنف ممن يطيقون المقاومة، أو النفاق من العاجزين عنها، وليس في أيهما خير.. ثم، لدى الضرورة، يمكن لأحكام الرأي العام، والعرف الجماعي، أن تدخل حرم القانون، وذلك باقتراح التشريعات التي تسد النقص الذي بدا لمن شاء، وبالطبع لن تكون التشريعات غير دستورية، ودستورية القانون عندنا معروفة." (من كتاب "الرسالة الثانية من الإسلام").
إن تمييز الأستاذ بين "الرأي العام"، و"الأخلاق"، و"القانون"، يعطينا صورة عن الدينامية التي تتطلبها ممارسة الديمقراطية في المجتمع.. فالقانون لا ينفذ مراد الرأي العام ببساطة، كما أن الرأي العام نفسه يُفترض به أن يكون سمحا في عمومه، بحيث لا يضيق بأنماط السلوك المختلفة من شخصيات المجتمع المتباينة، ما دام سلوكهم ذلك لا يجلب الاستهجان.. لكن حتى لو جلبت بعض أنماط السلوك الاستهجان، لكنها لم تتورط في التعدي المباشر على حقوق الآخرين في المجتمع، فإن العنف في ردعها ليس هو السبيل – حتى لو كان "عنفا قانونيا" – والقانون لا يتدخل بمجرد أن يقول الرأي العام قولته.. "الرأي العام" و"القانون" مستويان مختلفان من الأخلاق، وأحدهما لا يتجاوز الحد الأدنى منها، كما أن المجال الفردي للأخلاق قادر على أن يكون فوقهما الاثنين.. لكن حماية استدامة الديمقراطية هي هدف مشترك عند جميع تلك المستويات.
وهذا يأتي بنا لمفهوم حقوق الإنسان.. ذلك لأن هذا المفهوم هو إحدى نتائج التجربة البشرية في هذا الكوكب حتى اليوم.. هو نتاج تجربة طويلة، فيها الكثير من الدم والعرق والدموع.. فيها الكثير من الأخطاء والتعلم من الأخطاء.. وهذا المفهوم في عمومه يسعى اليوم لتأسيس حق الخطأ في كافة المجتمعات البشرية، بكافة ثقافاتها وبيئاتها، بحيث تكون هناك حدود لحق الخطأ لا تنتهك حقوق الآخرين.. هذا عموما اتجاه حميد من التجربة البشرية المعاصرة.. عليه فإن السعي من أجل التطور البشري، في الأخلاق والأنظمة، إنما يكون إيجابيا حين يبني على هذه التجربة، وليس حين يتنكر لها ويرفضها كلها بحجة أنها ناقصة أو فيها خلل في موازين القيم في بعض القضايا؛ فالناقص ناقص بقياس ما هو أكمل منه، وإذا قسناه بما دونه فهو أفضل وأكمل، فإن كان هناك مجال للسير به قُدُما فهو هو التوجه الإيجابي.
يقول الاخوان الجمهوريون، في كتاب "السادات" الذي صدر عام 1982: "كل أنظمة الحكم، (بما فيها الأنظمة فى العالم الإسلامي)، انما يحسب قربها أو بعدها من البعث الإسلامي المنتظر بقدرما تحققه من حقوق الإنسان [.....] وكل نظام حكم فى الأرض يحقق حقوق الإنسان إنما هو يمهد لمجيء البعث الإسلامي".. وعن هذا البعث الإسلامي، المذكور، يقول الأستاذ، في كتيب "أسس حماية الحقوق الأساسية": "في هذا المستوى الناس لا يتفاضلون بالعقيدة، وانما يتفاضلون بالعقل والخلق.. فلا يُسأل الإنسان عن عقيدته وإنما يُسأل عن صفاء الفكر واحسان العمل.. ومن هنا لا يقع تمييز ضد مواطن بسبب دينه ولا بسبب عدم دينه.. وهذا الدستور لا يسمى اسلاميا لأنه لا يسعى لإقامة حكومة دينية وإنما يسعى لإقامة حكومة انسانية ويستظل بظلها كل البشر بصرف النظر عن ألوانهم، وألسنتهم، ومعتقداتهم، على قدم المساواة في الحقوق والواجبات".. ثم يستطرد، "ولكن مصدره القرآن.. وهو إنما مصدره القرآن لأن القرآن موظف لجلاء الفطرة البشرية من حيث هي بشرية".. لهذا فهو "بعث إسلامي" بهذا المعنى، فالاستطراد الأخير لا يلغي ما قبله، كما هو واضح، إنما يشير لمستوى الفهم المدعوم والممدود من القرآن في هذا المستوى، الذي لا يشبه مستوى الشريعة أو مستوى الفهم السطحى للقرآن عموما، عند عموم المسلمين، لأن القرآن عند الاستاذ لا ينص على دستور أو قانون دستوري نصا مباشرا (وهذا قول الأستاذ نفسه، كما سنرى أدناه).
في نفس هذا الاتجاه – اتجاه الحرص على حرية الفكر وعلى ضمانات الديمقراطية لممارسة حرية الفكر – جاء منشور "هذا أو الطوفان"، في أواخر ديسمبر 1984، في أواخر أيام الأستاذ وحركته الجمهورية، وفيه الدعوة الصريحة لإلغاء قوانين سبتمبر، ولوقف الحرب الأهلية، ولفتح المنابر العامة للنقاش الحر في جميع القضايا.. وكان ذلك المنشور هو الذي حوكم به الأستاذ وتلاميذه، وهو البيان الذي اختار الأستاذ أن يفدي الشعب السوداني عبره.
الطرح الديني، في هذا المستوى، وهذا العصر، مواجه بتحديات كبيرة، كان الأستاذ مدركا لها تماما، وكان يفهم الدين على أنه وسيلة لتحقيق كرامة الإنسان، وليس غاية يخدمها الإنسان خدمة المفضول للفاضل.. لهذا فإن الدين يوُظف في نصرة المستضعفين، أولا وابتداء، لا في مطالبتهم الشرطية أن يتحلوا أولا بالمستويات الأخلاقية العليا التي يندبهم لها الدين.. باختصار، إذا لم تكن لدعاة الدين "حقوقا دستورية" يقدمونها للمضطَهدين في العالم، بصورة صادقة وعملية، فهذا لا يعطي هؤلاء الدعاة الحق في أن يبذلوا للمستضعَفين الموعظة الأخلاقية من أبراج عاجية، بله أن يهددوهم بالعقوبات الإلهية، في الدنيا والآخرة (وكأنهم في نعيم الآن).. يقول الأستاذ في هذا الأمر: "وفي الحق، ان الدين، سواء كان مسيحية أو إسلاما، إن لم يستوعب كل نشاط المجتمع، ونشاط الأفراد، ويتولى تنظيم كل طاقات الحياة الفردية والجماعية، على رشد وعلى هدى، فإنه ينصل من حياة الناس، ويقل أثره، ويخلي مكانه لأية فلسفة أخرى، مهما كان مبلغها من الضلال، ما دامت هذه الفلسفة قادرة على تقديم الحلول العملية لمشاكل الناس اليومية، أو حتى ما دامت قادرة على تضليل الناس، إلى حين، باسم خدمة مصالحهم المعيشية، فإن الناس، ما داموا أصحاب معدات وأجساد، يجب ألا تهمل دعوتهم إلى الفضيلة حاجة معداتهم وأجسادهم، بل إن المعرفة بطبائع الأشياء تقضي بأن تكون دعوتهم إلى الفضيلة عن طريق معداتهم وأجسادهم." (من كتاب الرسالة الثانية).
بل إن الأستاذ قد أكد هذا الأمر بصورة أكبر، في جلسة نقاش بعنوان "تعلموا كيف تتعاملون"، في العام 1972، إذ ذكر فيها أن بذل الحقوق الدستورية الأساسية للمجتمع السوداني، والسعي في تطبيقها، هو العمل الصحيح في اتجاه تنزيل الفكرة لواقع الناس واتجاه تفصيل حلولها لمشاكل المجتمع (السوداني خاصة، ومن ورائه المجتمع العالمي عامة).. ذكر أيضا في ذلك السياق أن مخاطبة الشعب، ودعوته للفكرة الجمهورية، لا تكون، عند التنزيل، عن طريق الحديث عن الرسالة الثانية وما إلى ذلك، في التعميم، كما جرى في الكتب الأساسية، وإنما عن طريق مواجهة المشاكل المباشرة التي يواجهها الشعب في أرض الواقع.. يقول الأستاذ في تلك الجلسة: "غير كده ما فى فرصة.. أى فرصة تانية للتقدم، تستمد من الدستور، فى حقوقه الأساسية المتساوية.. فدى هنا التفصيل يجيء، ما راح يكون كلامنا فى مستوى تطوير شريعة الأحوال الشخصية.. ولا فى مستوى الرسالة التانية فى التعميم.. مسائل معينة.. وتبتدئ من تحت الخط.. اللى قلنا، ((إن الله يأمر بالعدل والاحسان وايتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي))، الناس الفى الفحشاء والمنكر والبغي، بتخرجهم كيفن في تعاملك معاهم؟ الا اذا أديتهم حقوق الدستور يديهم ياها، فكل مشكلة تواجهها، إذن، بحلها بالصورة دي، الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.. وده المحك العملى هسع.. المحك العملي لدعوتنا كلها جاء هنا.. وده البنقول بيه أنه الفكرة وصلت لأرض الناس."
(2) الفكرة الجمهورية، ومدار التكليف، والفهم الفردي:
يعترض البعض على مقولة إن الفهم الديني إنما هو فهم ذاتي، ويقولون إن هذه المقولة تنافي كون الدين يرشد أيضا لنظم اجتماعية واقتصادية مرادها العدالة، ويبني على حقائق موضوعية في الوجود، ويحسبون أيضا أن هذه المقولة تنافي كون الدين يعتمد الانخراط الجماعي حتى في العبادات، مثل الحج وصلاة الجماعة وغيرها، وأيضا فإن الحديث عن "الذاتية" يعني أن النفس هي التي تقرر لنفسها معايير الخطأ والصواب، في حين أن الدين إنما يقوم أساسا على مناهضة نزعات النفس وتهذيبها بمبادئ ليست نابعة منها بالضرورة، وإنما تُساق لها سوقا.. ببساطة يكمن الاعتراض على هذه المقولة من افتراض أنها تجعل المرجعية الدينية أمرا هلاميا، يتقرر ويُنفّذ باستقلالية شخصية وبدون نتائج وترتبات اجتماعية وبيئية وسلوكية واضحة.
هذا الاعتراض قائم على افتراض غير صحيح، باختصار، ذلك لأن الإنسان مهما كانت أفكاره فهي إنما تتشكل عبر المجتمع والبيئة وتتجسد في ممارسته في المجتمع، بصورة دينامية مستمرة، وهو يدرك من حياته الاجتماعية أنه لا يمكنه ببساطة أن يتبع أهواءه كما يشاء.. الأخلاق نفسها مربوطة بالمجتمع، ويستقيها المرء من حياته في المجتمع منذ الصغر وعبر سنوات العمر، والدين إنما يعمل أساسا في منطقة الأخلاق (وقد قال النبي الكريم، عليه الصلاة والسلام، "إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق").. لكن كل ذلك لا يلغي شيئين واضحين في الدين وضوحا تاما، وخصوصا في الأديان الإبراهيمية:
- أولا: الفردية هي مدار التكليف والجزاء في الدين، بمعنى أن المرء غير محاسب، وهو في الجماعة، إلا على أقواله وأعماله هو.. هذا الأمر مؤكد في القرآن في آيات كثيرة، وفي الحديث الشريف أيضا، وقد قال عنه الأستاذ: "وهذه الفردية هي جوهر الأمر كله، إذ عليها مدار التكليف، ومدار التشريف، وإذ لا تنصب موازين الحساب، يوم تنصب، إلا للأفراد – يتساوى في ذلك الرجال والنساء وهذه النقطة نحب لها أن تكون مركزة في الأذهان – فالله تعالى يقول ((ولا تزر وازرة وزر أخرى)) ويقول ((فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره)) ويقول ((ونرثه ما يقول ويأتينا فردا)) ويقول ((إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا * لقد أحصاهم وعدهم عدا * وكلهم آتيه يوم القيامة فردا)) ويقول ((ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة))". (من كتاب الرسالة الثانية).
- ثانيا: إن من أساسيات الفهم الديني عند أي شخص هو تصوره – أي تصور هذا الشخص – لله.. هذا التصور هو محور إيمان كل فرد، وعليه يعتمد تصوره للوجود كله، بمختلف عوامله.. هذا التصور أيضا "ذاتي"، بمعنى أن الفرد لا يلتقطه بصورة شاملة من المجتمع ومن التعاليم الدينية المكتوبة والمنطوقة، وإنما تتشكل هذه جميعها داخل خياله لتنتج صورة "ذاتية" – أي خاصة – هي في تصور هذا الشخص فقط، لا غيره.. في هذا الأمر يقول الأستاذ: "كل إنسان من الناس، بالغا ما بلغ من الرفعة، له (( إله )) غير (( الله )) ذلك (( الإله )) هو تصوره هو ((لله))" (من كتاب "طريق محمد").
فإذا كان التكليف في الدين مداره الفردية، والتصوّر الديني نفسه يقوم أساسا على المعرفة والتجربة الفردية، فهل بقي غير أن الفهم الديني هو فعلا فهم ذاتي في الأساس؟ بمعنى أن كل واحد منا صاحب فهم فردي، متجدد ومتحرك باستمرار، وهو مسؤول مسؤولية فردية عنه؟ خصوصا في أمر الدين؟ هذا الأمر مرتبط ارتباطا وثيقا بالمسؤولية الفردية، فالذي يدرك أنه مسؤول عن فهمه هو، ولا حوالة لجهة أخرى، فهو سيكون حريصا على أن يمحص فهمه، وتطبيقه لفهمه، ثم يكون مستعدا لتحمل نتائج قوله وفعله الناتجة عن فهمه هذا.
وهل هذه الخلاصة تعني أن ليس هناك تطبيقات للدين في مجال المجتمع والحياة العامة، وليست هناك مبادئ مشتركة وأساسية يعمل تحت رايتها المتدينون في المجتمع؟ كلا! ذلك ببساطة لأن كون كل شخص له تجربته الذاتية لا يعني أن هذه التجارب لا تتقارب وتشترك في نسبة كبيرة من تصوراتها وتطلعاتها، حسب انتماءاتها التاريخية والأيدولوجية، وكذلك لا يعني أنها غير متأثرة تأثرا كبيرا بشروط البيئة المحيطة بها وقوانينها الموضوعية.. هذا معنى أن هناك دوما تجسيدات ل"مجتمعات من المؤمنين"، ولكن ليس هناك "مجتمع مؤمن" ككينونة قائمة بذاتها.. ليس هناك "مجتمع" يحاسَب دينيا ككينونة كاملة، أمام الله، لكن المؤمنين الذين تواضعوا على ريادة ذلك المجتمع هم من يحاسَبون كأفراد.. هذا الفهم يضع الأمور في نصابها، بحيث أن المجتمع ليس أمرا هيّنا، فهو وسيلة كبيرة ومهمة لحياة الأفراد وتجسيد أخلاقهم ورسم تطلعاتهم، لكنه في نفس الوقت ليس موضع نظر الله، وإنما الأفراد هم موضع نظره – كل فرد على حدة.
(3) ضرورة التمييز بين "المجتمع" و"الدولة":
ما قيل أعلاه يسوقنا لهذه النقطة، وهي أيضا تعيننا على فهم ما قيل أعلاه أكثر.
الفرق الأساسي بين المجتمع والدولة هو أن الدولة، بصورتها المعروفة اليوم، بدأت قبل فترة بسيطة في تاريخ البشرية، وستنتهي بعد فترة بسيطة أيضا في مقياس هذا التاريخ، أما المجتمع فهو قديم جدا، قِدم الكائن البشري في كوكب الأرض، وهو سيستمر مع ظاهرة الإنسان حتى في المستويات المستقبلية، التي تصبح الفردية فيها هي المحور الأساسي لحيوات الناس.. إضافة إلى أن المجتمع كان دوما، وسيبقى، أوسع من الدولة، فالدولة "هيكل" سِمَته النمطية والتكرار والإجبار، أما المجتمع فوجود دينامي ومتطور وخلّاق باستمرار.
إذا استطعنا تمييز هذه النقطة بوضوح – الدولة فانية والمجتمع باقي – فسنستطيع بعدها استيضاح الفرق بينهما بصورة جلية، وسندرك الحكمة في أن ارتباط الدين بالمجتمع أقوى وأكبر من ارتباطه بالدولة، وأن هذا هو الوضع الأفضل للاثنين.. لكن، هل هذا كلامي أنا ببساطة؟ كلا! بل هو مبني على أقوال موثقة للأستاذ.. تحدث الأستاذ عن الدولة، وتحدث عن المجتمع، فأما عن الدولة فقد قال الآتي: "وليس من شك عندي أن تطور الجماعة سيطرد حتى يجيء اليوم الذي تبطل فيه الدولة، كما نعرفها الآن، من السطوة، والقوة، بحيث تصبح عبارة عن جهاز لا يعدو نفوذه تنسيق جهود الجماعات المحلية المختلفة، في كل متسق" (من خطاب الاستاذ لمحامي عام الباكستان، عام 1953، بجريدة صوت السودان).. أي أنها باختصار تصبح جهازا تنسيقيا، وهي اليوم أكثر من ذلك بكثير، فالدولة اليوم شديدة النفوذ، أفقيا ورأسيا، فهي مركز كل القوة الجبرية والسلطة التشريعية والاقتصادية في مناطق نفوذها، بل هي التي تحدد أهم هوية اجتماعية – عمليا – لأي شخص يعيش في عالمنا المعاصر، وهي الهوية الجيوسياسية (المواطنة) وما يترتب عليها من مستندات وصلاحيات وفروضات.. لو نظرنا لهذا النموذج الحالي للدولة، ثم نظرنا لأي منظمة تعمل ك"جهاز تنسيقي" اليوم، سنرى الفرق هائلا وواضحا، لكن يمكن تصور مستقبل كهذا.
وهذا المستقبل – مستقبل بطلان الدولة المعاصرة – هو مستقبل أدخل في الإنسانية الجامعة، كهوية أهم وأجدى من الهوية الجيوسياسية، كما أنه مستقبل أدخل في الديمقراطية، لأنه يعطي المجتمعات المحلية، وأفرادها، استقلالية أكبر في تنظيم أنفسهم، اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا، تحت مظلة "أجهزة تنسيقية" إيجابية، تدعم "الفدرالية" الحقيقية، على المستوى المناطقي والمستوى العالمي (وهذا ما دعا له الأستاذ نفسه، في "أسس دستور السودان"، بمنهج الفدرالية اللامركزية التدريجية)، بحيث يصبح التنوع الثقافي من دعامات الوحدة الإنسانية (الوحدة في التنوع)، كما أنه يعطي الأفراد حرية أكبر في اكتشاف أنفسهم بعيدا عن هياكل فوقية كثيرة، تفرض عليهم الكثير من الهويات غير الجوهرية، وفي نفس الوقت فإن هذا المستقبل لا يقوّض من أهمية المجتمع.. هذا تصوّر متقدم، قدّمه الاستاذ، وهو تصوّر يتفق معه فيه عدد من الفلاسفة الاجتماعيين المتميزين، القديمين والمعاصرين، من العالم الثالث والعالم الأول، إضافة إلى أنه مبني على قراءة مستبصرة للتاريخ.. كما أن هذا التصور لا يناقض الإخلاص للهوية الوطنية المعاصرة، والعمل لخير الوطن، كواجب مباشر اليوم، ما دام متسقا مع خير الإنسانية جمعاء، ثم هو تبقى بقاياه في المستقبل في الهويات الثقافية والاجتماعية والبيئية والفدرالية المشتركة.
فإذا بطلت الدولة، بهذه الصورة، هل يصبح الدين غير ذي جدوى في المجال الاجتماعي، لكون "الدولة الدينية" تصبح برمّتها، كقضية، خارج التاريخ؟ أم أن الدين أقدم من الدولة، وهو أيضا سيتجاوزها مستقبلا؟ القراءة التاريخية تقول إن الاحتمال الثاني هو الصحيح، وأن الدين سيبقى فاعلا في المجتمعات حتى مع غياب نموذج الدولة، بل إن غياب نموذج الدولة المعاصرة هو أمر طيّب للهوية الدينية عموما، لأن هذا النموذج فرض على هذه الهوية قوالب كثيرة، مادية وخالية من الروح، الدين في غنى عنها.
لكن المجتمع باقي، وفي ذلك قال الأستاذ: "هل نحن مسافرين في طريق الاستغناء عن المجتمع لأننا استغنينا عن قوانينه لتردعنا، وللا بنلوّن حاجتنا للمجتمع في مستوى جديد؟ وهل نحن طريقنا طريق الاستغناء عن المجتمع؟ وللا طريق تحقيق فردياتنا في مجتمع نحن محتاجين ليه برضو، لكن في مستويات تتلون وتختلف.. النقطة العايز أذكر بيها الاخوان انه ما في شيء بدأ، الأشياء كلها كانت في الأزل وراح تظل في الأبد، وانه ما في شيء بينتهي.. الأشياء بتتلون، يعني اذا كانت عندنا حاجة للمجتمع في الصورة الغليظة راح تظل عندنا حاجة للمجتمع في صور لطيفة.. لكن ما ممكن تكون بدت حاجتنا للمجتمع في وقت وانتهت.. ده في أصل الوجود ما يكون.. الأشياء لا تنعدم، لكنها تتطور، وخذوا حاجتنا للمجتمع.. ما ممكن الناس يجيء وقت يستغنوا عن المجتمع، لكن يجيء وقت يكون عندهم مع المجتمع تفاعل يختلف عن الصورة الغليظة.. وزي ما قلنا اذا كان نحن ماشين في ان نكون في فردياتنا زي الأجرام، كل واحد جُرم براه، كل واحد مننا نحن كوكب براه، أو نجم أو شمس.. ويكون كماله فيه، وعلاقته مع الكون الخارجي موجودة، وزي ما الكون الخارجي محفوظ بالجاذبية بين أجرامه المختلفة، نحن قانوننا راح يبقى الجاذبية بين الافراد المختلفين، اللي هي قانون المحبة، نحن ماشين تفاعلنا مع المجتمع أن يكون تفاعل المحبة المتبادلة." (من حديث الأستاذ في تسجيل ندوة الخواطر، 1972).
الدولة، إذن، شكل مرحلي لتنظيم المجتمع، والمجتمع أكبر منها وأبقى منها.. والمجتمع أيضا أكبر من الدستور، لأن الدستور وُضع لخدمة المجتمع وأفراده، والدستور أكبر من الدولة، لأن الدولة تدار تحت رقابة الدستور.. الدستور قادر على أن يستمر في مصاقبة المجتمعات حسب تشكلها، لأن الدستور بطبيعته وثيقة وممارسة مستمرة التطور، أما الدولة، كما نعرفها اليوم، فهي آيلة للزوال.. هذا أمر نستطيع تصوره، ومن ثم نستطيع البناء عليه حين نميّز بين الدولة والمجتمع، ونميّز علاقة الدين بكل واحد فيهما، فإذا قال شخص إن قبول علمانية مؤسسات الدولة لا تعني أن نقبل علمانية المجتمع، يمكن أن نفهم كلامه هذا، بل يمكن أن نشاهد نماذج نسبية له في الواقع.. إضافة لأن الأستاذ نفسه قد قال يوما "العلمية لا تستغني عن العلمانية" (في مخطوطته "الديباجة"، وهي من آخر ما كتب قبل استشهاده)، في إشارة منه لأن النهج العلمي، المطروح في الفكرة، يميز الجوانب والإنجازات الإيجابية في التراث العلماني، الهيكلي والتقني، ولا يطرحها أرضا، بل يستوعبها ضمن نسق إنساني أكبر وأشمل وأعمق، بعد أن يميز سلبياتها ويتجاوزها.
والأستاذ لم يترك الأمر هكذا فقط، بل هو وضحه أكثر، فمثلا قال في نفس خطابه لمحامي عام الباكستان: "هذا هو معنى القانون الدستوري، فمن قال إن الشريعة الإسلامية تنص عليه، نصا صريحا، فهو متهم النصيحة، مزور في الكلام، غير عالم بحقيقة ما يخوض فيه.. أما من قال إن القرآن ينص عليه نصا صريحا، فهو شر مكانا..".. ثم يقول بعد فترة، في نفس المقال، "فإن أنت استطعت أن تضع دستورا، سمحا، يكون دعامة تشريع يجعل الحكومة تنظم الحياة الخارجية على شكل يمكن الفرد، من رجل وإمرأة، من أن يجد فيه أقل قدر ممكن من الصعاب، وأكبر قدر ممكن من التشجيع، في سبيل جهوده الفردية الرامية إلى تحرير مواهبه الطبيعية من الأوهام والأباطيل، فإن هذا الدستور هو دستور القرآن".. من هذا القول، ومن أمثاله، نفهم لماذا الأستاذ يرفض بوضوح أطروحة الحكومة الدينية والمسميات الدينية عموما للهياكل السياسية، كما أن الدين عنده يساهم في تقويم المجتمع والدولة كمرشد أخلاقي وسلوكي يتجسد في عقول وقلوب الشعوب وقاداتها، ومن ثم ينعكس على هياكل الحكم والوثائق القانونية، وفي الثقافة العامة (وهذا هو الأهم)، ولكن ليس كنصوص يحاكيها الدستور والقانون بصورة مباشرة.. اسمعوه يقول أيضا: "والحق الذي لا مرية فيه: ان قوانين القرآن، فى نصها وروحها، إنما هي وسيلة.. بيد أن الوسيلة فى روح القرآن، أقرب إفضاء إلى الغاية، من الوسيلة في نصه.. ولذلك لا يرى القرآن بأسا بالخروج على النص، بل إن الخروج على النص عمل يستهدفه التطور، الذي يرعاه، ويهديه القرآن." (من تعقيب للأستاذ على حديث للدكتور طه حسين، في جريدة السودان الجديد).
وهذا الدور للدين، وللنصوص الدينية، وللمنهج الديني، ليس بالأمر السهل إطلاقا، وليس بالطفيف أبدا، بل هو جوهري ودائم.. ذلك أن الدين، في الفكرة الجمهورية، هو مصفاة للتراث الإنساني، بحيث يقدم موازين القيم التي تعين على تصفية الإنتاج الإنساني، بشتى ضروبه، من الاتجاهات التي لا تخدم حاضر ومستقبل الإنسانية خدمة سليمة، ويعمل الدين أيضا على دعم وتنمية الاتجاهات التي تخدم ذلك الحاضر والمستقبل، عن طريق رعاية هذه الاتجاهات، وتشجيعها، وتهذيبها، بصورة مستدامة.. الإنتاج الإنساني واسع وشامل، ومتنوع، وسينمو أكثر في هذا المسار، والدين لا يحجر هذا النماء، بل يحتفي به ويسمو به.. يفعل الدين هذا في الأفراد، وفي المجتمع، سواء في وجود الدولة أو في غير وجودها.
خاتمة
شعرت شخصيا بضرورة أن تكون هذه الحلقة، من سلسلة المقال، ذات صورة مختلفة، لأن الانحصار في الموضوع الابتدائي لهذه المقالات ما كان سيجدي، لأنه كان سيدخلنا في دائرة من التكرار، وما كان سيوفي القضية الكبيرة حقها، وهي قضية حرية الفكر، والديمقراطية، والحوار الإنساني الخلاق.
لكن الحديث الموسع، أعلاه، يصب في وجهة اهتمامي في هذا الأمر،وهي أننا، في حالات وقضايا متنوعة، نفقد الكثير من ميزان الموضوعية، وتعريف النقد الفكري، حتى يظن كثيرون أن اللغة التي تحمل تقريرات عظيمة وخطيرة بحق الخصوم، وتمسّهم في هوياتهم الأساسية، كما يعرّفونها، وبتعسف بيّن ونتائج هائلة، ليست في مستوى القرائن المطروحة – وأحيانا بدون قرائن، أو قرائن صحيحة، أساسا – هي أيضا لغة حوار فكري وموضوعي ما دامت عبّرت عن نفسها ب"تركيبة" معيّنة، هي تركيبة تشتهر بها الكتابة النقدية الموضوعية – بمعنى أن محتوى النقد وأسلوبه استعيض عنهما بالتركيبة، فأصبحت الأخيرة دليلا على الاثنين (المحتوى والأسلوب)، بدل أن يكونا هما دليلا عليها ومرشدان لها.. مثلا، يظن البعض أنهم بمجرد أن يضعوا اقتباسات لشخص ما، ثم يضعوا مصادرها، وترجماتهم لها، يكونون قد اتبعوا نهجا "موضوعيا" في التدليل (حسب التركيبة المتبعة)، في سبيل خطوتهم التالية، وهي تجريم ذلك الشخص واغتيال شخصيته لأقصى الحدود الممكنة، ثم لا مانع، بعد كل ذلك، من تزيين كتابتهم بأقوال عن المحبة والإخاء والنصيحة والحزن النبيل.. هذا تيار تفقد معه الموضوعية، والمحبة والإخاء، معظم شروطها ومعانيها، إن لم نقل كلها، بحيث يصبح العنف والإقصاء مقبولا كخطاب إنساني طيب.
والواقع أن معظمنا – إن لم نقل كلنا – يقع مرات، تكثر أو تقل، في استعمال الخطاب التعنيفي والتجريمي مع الخصوم الفكريين، وهذه مشكلة يجب أن نواجهها ونتخلص منها، لكن المشكلة تصبح أعمق وأكبر حين يتم التبرير لهذا الخطاب بالقيم العظيمة والطيبة، وحين نُدعى لقبول ذلك الخطاب على هذا الأساس.. إذا قُدّر لهذا الخلل في ميزان الموضوعية والحوار الفكري أن يصبح شيئا عاديا، يقبله الناس عموما ولا يرون فيه مشكلة، من أي جهة أتى، فهذا سيؤدي في النهاية إلى أن تختطف أصوات الإقصاء والتجريم والتعصب، واغتيال الشخصية، منابر الحوار الفكري؛ وما في ذلك مصلحة للديمقراطية ولا للقضايا الإنسانية النبيلة.
قصي همرور
24 أكتوبر 2012


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.