رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة يتفقد مستشفى الجكيكة بالمتمة    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    مدير شرطة محلية مروي يتفقد العمل بادارات المحلية    المريخ يتدرب بجدية وعبد اللطيف يركز على الجوانب البدنية    شاهد بالصورة والفيديو.. على أنغام أغنية (حبيب الروح من هواك مجروح) فتاة سودانية تثير ضجة واسعة بتقديمها فواصل من الرقص المثير وهي ترتدي (النقاب)    شاهد بالصور.. بأزياء مثيرة للجدل الحسناء السودانية تسابيح دياب تستعرض جمالها خلال جلسة تصوير بدبي    شاهد بالصور والفيديو.. حسناء سودانية تشعل مواقع التواصل برقصات مثيرة ولقطات رومانسية مع زوجها البريطاني    شاهد بالفيديو.. حسناوات سودانيات بقيادة الفنانة "مونيكا" يقدمن فواصل من الرقص المثير خلال حفل بالقاهرة والجمهور يتغزل: (العسل اتكشح في الصالة)    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب مصري يقتحم حفل غناء شعبي سوداني بالقاهرة ويتفاعل في الرقص ومطرب الحفل يغني له أشهر الأغنيات المصرية: (المال الحلال أهو والنهار دا فرحي يا جدعان)    مخاطر جديدة لإدمان تيك توك    محمد وداعة يكتب: شيخ موسى .. و شيخ الامين    خالد التيجاني النور يكتب: فعاليات باريس: وصفة لإنهاء الحرب، أم لإدارة الأزمة؟    «الفضول» يُسقط «متعاطين» في فخ المخدرات عبر «رسائل مجهولة»    إيران : ليس هناك أي خطط للرد على هجوم أصفهان    قطر.. الداخلية توضح 5 شروط لاستقدام عائلات المقيمين للزيارة    قمة أبوجا لمكافحة الإرهاب.. البحث عن حلول أفريقية خارج الصندوق    هل رضيت؟    زيلينسكي: أوكرانيا والولايات المتحدة "بدأتا العمل على اتفاق أمني"    مصر ترفض اتهامات إسرائيلية "باطلة" بشأن الحدود وتؤكد موقفها    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على ناشفيل    لجنة المنتخبات الوطنية تختار البرتغالي جواو موتا لتولي الإدارة الفنية للقطاعات السنية – صورة    بعد سرقته وتهريبه قبل أكثر من 3 عقود.. مصر تستعيد تمثال عمره 3400 عام للملك رمسيس الثاني    خلد للراحة الجمعة..منتخبنا يعود للتحضيرات بملعب مقر الشباب..استدعاء نجوم الهلال وبوغبا يعود بعد غياب    المدهش هبة السماء لرياضة الوطن    نتنياهو: سنحارب من يفكر بمعاقبة جيشنا    كولر: أهدرنا الفوز في ملعب مازيمبي.. والحسم في القاهرة    إيران وإسرائيل.. من ربح ومن خسر؟    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    ملف السعودية لاستضافة «مونديال 2034» في «كونجرس الفيفا»    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



السودان : الانقلاب الديموغرافي وال( سودو-فوبيا) ! (1)

درج الجميع بأن يعيدوا أسباب النزاعات القائمة في السودان إلى الاختلال التنموي بين المركز والأطراف باعتباره المجلب الأساسي للغبن السياسي ، حيث تستمد حركات التمرد والعصيان بعمومها السند والدعم الشعبي من هذا المورد الذي لا ينضب ، تحت العنوان البارز (قسمة الثروة والسلطة ).. هذا الصحيح ولكن في الأمر الكثير من التفريعات ذات الأبعاد الثقافية والاجتماعية التي قد تكون ذات أثر أمضى من الاختلال التنموي نفسه... وعلى رأس هذه التفريعات الممارسات والمسلكيات السيكو-ثقافية الكلية الصادرة من الطبقة النيلية والمبنية على آليات الفرز والعزل والطرد على أساس العرق و(اللون) ..وهي ممارسات في أغلبها تحتية ، أي غير بادية للأعيان عينا ، وإنما قابعة في المكنون الثقافي وتمارس عن طريق الإسقاط .
ثمة هنالك عوامل كثيرة ساهمت في تنشيط الأساس الثقافي النيلي الفارز في العقود الأخيرة ، حيث كان كامنا في طبقة الخلفية من الذهنية النيلية متواريا في عمق ذكريات ميراث الاسترقاق والتفاعلات السيكولوجية السلبية لعقدة (المركب اللوني )..فمن هذه العوامل التي ساهمت في إحماء هذا الفص الثقافي المقموع ؛ ظهور مشروع (السودان الجديد ) وصدور( الكتاب الأسود) وبروز ظاهرة (الانقلاب الديموغرافي) واندلاع (حرب دارفور ) ، حيث بدأ الفارز الثقافي/الاجتماعي يسري ويتعمق وفقاً التحديدات اللونية السودانية الغريبة لأي شخص غير ملم بمفردات الثقافة السودانية (أخضر/ أخدر وأصفر وأزرق ..الخ) ، وأخذ المجتمع النيلي يبدي خوفاً من المآل الديموغرافي للسودان الذي توحي به دينامية حركة السكان بأن ("السود" سيسودون السودان الذي سمي أصلا ب"بلاد السودان" لأن أهله سود)! .. وأن عملية (التسويد) - من وجهة نظر النيلية تجري على قدم وساق في أطراف المدن المركزية .. وفقد جلب الوعي بهذا المآل الخوف والرعب والفزع إلى قلوب العناصر النيلية بمعدل يمكن وصفه بأنه أعلى من الطبيعي ، أي حالة من ال(فوبيا/خواف ) ، وهو مظهر متطرف من الخوف اللاواقعي واللاشعوري أحياناً.
ودون حاجة إلى امتلاك موهبة الإنصات الاجتماعي وفن قبض الظواهر بالحدس ، يمكن استراق السمع إلى حفيف الفزع الذي يموج في أعماق المجتمع النيلي نتيجة التبدلات الاجتماعية وتسارع وتائر الانقلابات الديموغرافية ... وإذا أخذنا التغير المستمر في البنية الديموغرافية التي تشهدها الخرطوم العاصمة والحراك الساعد لسكان مستوطنات (الكمبو )في المشاريع المروية في وسط السودان كمثالين ، نجد أن أصوات المنبهين بخطورة ماله من النخبة النيلية آخذة في ارتفاع وزيادة خلال العقدين الأخيرين .
فيما يتعلق بالخرطوم كان قد اشتهر كل من المحاميين عبد الوهاب محمد عبدالوهاب (بوب) وأحمد سليمان محمد أحمد (أمد الله في عمريهما إن كانا على قيد الحياة ويرحمهما الله وإن توفيا ) بأنهما أكثر من تناول موضوعة الحراك الديموغرافي في العاصمة .. فقد كانا على طرفي النقيض في الفكر السياسي ، ولكنهما يتفقان تماما في هذا الموضوع .. وكان خطابهما تحذيريا حول ما أسمياها ب(أفرقة ) المدن السودانية .. ويتناولانها من زاوية حادة للغاية ، وتتسم مفرداتهما بالصرامة الشديدة ..حيث كانا يسديان أوصافا ونعوتاً قاسية وفظة – وفجة أحياناً – للنازحين من الريف إلى العاصمة لأسباب عدة ، منها الاختلال التنموي السالف الذكر. وكانت مقالاتهما تفيض بعبارات من شاكلة " القادمون من وراء الحدود " !.. " رمتنا أفريقيا بحثالاتها " !.. "أنهم يتناسلون كالأرانب " ..الخ . وقلما تجد في كتاباتهما وقائع موضوعية أو معطيات علمية لتفسير ظاهرة الهجرة المكثفة من الريف إلى المدن ، فيما سمي بظاهرة "ترييف المدن " ..وهي ظاهرة كونية ،غالباً ما تنجم عن اختلالات هيكلية في البنى الاقتصادية والتنموية وذلك لتركز التنمية في العواصم والمراكز وإهمال الأطراف ، ونتيجة للكوارث الطبيعية مثل موجات الجفاف أو اندلاع الحروب والنزاعات .
خرج النقاش حول هذا الموضوع خلال العقد الأخير إلى حيز أرحب ، ليشمل معظم كتاب النخبة النيلية ، فرغم تباين مشاربهم الفكرية والسياسية إلا إنهم يتفقون على المعالجات التي تتم حول هذه الموضوعة والتي تسلك الخطوط العرقية والجهوية ويعبرون عن خوف جماعي من مصير الخرطوم العاصمة المصونة.. " العاصمة ومعظم المدن تنام خائفة وتصحو واجفة بسبب حزام الخطر النازح " هكذا كتب أحدهم . ويتحسر محمد سعيد محمد الحسن على الحالة التي آلت إليها الخرطوم "..والتي كانت في الخمسينات والستينات القرن الماضي مدينة عربية صرفة ، فغدت الآن مدينة مثل (كانو) و ( أبشى) " ..ويقول كاتب آخر في مقال تحت عنوان ( الخرطوم في طريقها إلى "التكرنة" ) " ..أن الوافدين يتناسلون بوتائر متسارعة مقارنة بمواليد الأسر السودانية ... أن أمر زحف النازحين والوافدين عبر الحدود ومن داخلها لم يتوقف عند المناطق الحدودية أو الريفية أو المدن المختلفة بما فيها شندي وحلفاء ، وإنما جاءوا بعشرات ومئات ثم ألوف ، ومع الغفلة واللامبالاة ارتفع عدد الواصلين إلى العاصمة الخرطوم إلى عدة ملايين ، واستطاعوا وبمهارة فائقة تحويل الخرطوم الأنيقة ، النظيفة ، الجميلة المتقدمة على كل عواصم المنطقة إلى خرطوم أخرى تعلوها القذارة وتكسوها التخلف وتلفها الأوبئة مثل الملاريا والتايفويد واليرقان والسل والنزلات المعوية .. وضاقت الشوارع بالطبالي والشحاذين وذوي العاهات والمرضى . وتحولت الأحياء الجميلة القديمة إلى نقاط صغيرة وتفاقم عدد المناطق العشوائية وتضاعف سكانها في مطلع الثمانينات وارتفع إلى أعلى معدلاته في فترة التسعينات "!.
ويكتب المرحوم سيد أحمد خليفة – وهو ممن طرقوا هذا الموضوع بكثافة في خلال العقد الأخير من حياته - " حدث خلل كبير في التوازن السكاني في العاصمة التي أصبح الوجود السكاني فيها مناصفة بين أهلها التاريخين والوافدين والنازحين من مناطق الهروب .. إن هذا الواقع السكاني للعاصمة ينذر بقنبلة قابلة للانفجار العنصري .. إن التغيير الذي أحدثه (الإنقاذ) في الطبيعة السكانية في العاصمة التي هاجر أو أجبر على الهجرة معظم سكانها القدامى قد ساهم في إحلال سكان منعدمي الحس الخدمي ناهيك عن الحس الحضاري " . وبما أن المرحوم سيد أحمد خليفة كان معارضا لمشروع" الإنقاذ" ومواليا للتجمع الوطني الديمقراطي المعارض الذي كان يبشر ب"انتفاضة شعبية " آنذاك فيرى أن تأخر قيام هذه الانتفاضة سببه هؤلاء( القادمون الجدد) ويقول: " إن الهجرة إلى المدنية أدت إلى تردي خدمات المياه والكهرباء ولكن السكان لا يثورون لأن أكثرهم نازحون أصلاً ولا يعرفون هذه الخدمات ..فكيف يتحركون إن هم افتقدوا شيئاً لم يكن أصلاً من مكتسباتهم "..
وباستخدام فينومولوجيا الخصائص الاثنوغرافية للأقاليم السودانية ،يستطيع المرء وبكل يسر تحديد الأوطان الأصلية من تلقاء الألقاب والأسماء فلذلك إذا تمعنا الاسمين السابقين ( محمد الحسن ) و(سيد أحمد) نجدهما ينتميان إلى الشمالية – منطقة الشايقية بالتحديد – ولكن ما الذي يدفعهما باعتبار نفسيهما غير نازحين إلى العاصمة ؟ هذا الإحساس الغامض هو أس المعضلة .. أن استخدام مفاهيم غريبة مثل (أهلها التاريخيين ) يومئ إلى دلالات أقلها وقعاً (الفرز العنصري ).
من الواضح أن العناصر النيلية –خاصة النخبة الشمالية منها- والتي سبقت الجماعات الأخرى في القدوم إلى الخرطوم بعقد أو عقدين تظن أنها المالك الفعلي للمدينة ؛ التي تصورها كأنها غانية عذراء مصونة يخشى عليها من حشود السوقة والدهماء الذين يرومون هتك عفتها وتدنيس شرفها . وكثيراً ما ترجمت هذه النزعة الاستحواذية والاقصائية والاستئثار الجهوي بالعاصمة في شكل قرارات إدارية قاسية ترمي إلى حرمان (الآخرين) من منافع العاصمة ، وهي القرارات التي نشأت عليها نظرية (الكشة) التي ابتدعتها حكومة الراحل جعفر نميري والتي مؤداها أبعاد جميع من يحملون سحنات أهل دارفور من الباعة الجائلين وغيرهم من العاصمة وإعادتهم قسراً إلى أوطانهم ألأصلية بإجراءات وأساليب قاسية ومهينة للغاية . ولم يتوقف الأمر على الإقصاء والإبعاد المادي لهؤلاء الريفيين البسطاء ، بل ثمة إقصاء نفسي للمثقفين والمتعلمين الذين يعملون في العاصمة بحجة أنهم تركوا أهلهم وذويهم في دارفور وجاءوا ل(يزاحموننا ) ! ، حيث يكتب أحدهم قائلاً " المثقفين من أبناء دارفور يحرصون على شغل المناصب الرفيعة بالحكومة المركزية ويتناسون مشاكل أهلهم ، وحتى الذين يأتون إليهم من دارفور يتهربون منهم " .. أما أن يأتي ثمانين بالمائة من سكان الشمالية إلى العاصمة فأمر طبيعي ولا يمكن أن يثير حفيظة أحد.
إذن المسألة أكثر تعقيداً من مجرد حسد طبقي ، لانسحابها على أبعاد ثقافية عميقة الغور. فمثلاً في عام 2001ا أصدر والي الخرطوم - المرحوم مجذوب الخليفة - قرارا يمنع بموجبه النساء من مزاولة بعض المهن ، ورفعت المتضررات من القرار قضيتهن إلى المحكمة الدستورية ،فوقف محامي الولاية يقدم مرافعته قائلاً " السادة الإجلاء قضاة المحكمة الدستورية تعلمون إننا في السودان نستقبل أرتالاً من اللاجئين والنازحين ، والجميع يحملون أخلاقاً وأعرافاً غريبة ومدمرة .. وكان للقرار صدى لكل صوت صادق، ومتنفسا لكل كريم ذو نخوة وبشارة ولكل حر وحرة "! ...
كما ترون ، قد نأت المرافعة عن تقديم الأسانيد والدفوع القانونية وتحولت إلى مقال صحفي من العينة التي أوردنا مقتطفات منها وذلك باستدعائها مفاهيم غائرة من الثقافة العربية المركزية مثل ( كريم و نخوة وبشارة وحر وحرة )! . ولكن المفارقة أن مذكرة المدافع عن المتضررات لم تحد عن هذه القاعدة إلا في الظاهر عندما قال : " حول ما جاء في مذكرة الدفاع بحق اللاجئين والسباب الذي لحق بهم اسمحوا لنا أن نعتذر بالإنابة عن أهل السودان للأسرة الدولية ونجدد التزام بلادنا بمراعاة حقوق اللاجئين ومعاملتهم أفضل معاملة ممكنة . أما التحقير الذي لحق بالنازحين (I.D.P ) هم من المواطنين السودانيين الذين نزحوا من الحرب الأهلية لداخل البلاد ، فلا غرابة إذ أن التسلط الذي عكسه قرار الوالي تمتد بالضرورة آثاره لتشمل قطاعات أخرى في المجتمع نفسه .. إن ما يخلف المنفعة ويجلب الضرر يختلف حوله أهل السودان ، وليس بالضرورة أن يتفق ويتوافق ما يراه ويعتقد فيه أهلنا في كبوشية وديم القراي وجبل أم علي مع ما يراه أهلنا في نمولي وجنوب النيل الأزرق وجبال النوبة وشرق البلاد وغربها "
الملاحظة الأولى للمرافعة الثانية أن أسماء القرى والبلدات ( كبوشية وديم القراي وجبل أم علي) التي وردت لمماثلتها بمناطق الطرفية أخرى كلها من منطقة الجعليين بإشارة إلى أن الوالي ينتمي إليها ولكن المحامي المدافع عن الطاعنات (غازي سليمان ) أيضا ينتمي لذات المنطقة .بذلك نجد أن الصيحات المتبادلة بين المدعي والمدافع لن تخرج عن الإرث الثقافي المشترك. إذ حاول كلا الرجلين أن يزج بموضوع اللاجئين والنازحين دون أن يكون له أدنى علاقة بالقضية المعروضة أللهم إلا من باب" الإسقاط " . وقد حاول المدافع عن الطاعنات الإيحاء بأنهن نازحات من الأطراف بذكره للمناطق مثل " نمولي وجنوب النيل الأزرق وجبال النوبة والشرق والغرب " ولكن تدقيق الأسماء الطاعنات التي وردت في العريضة وسحنات العاملات في الفنادق ومحطات الوقود اللاتي شملهن القرار عن طريق أداة الفينومولوجيا الاثنوجرافية عينها ، لا نجد أية إشارة واضحة تدل على أنهن من تلك المناطق فلذلك أن الحيثيات التي أوردها كلا الرجلين ما هي إلا محض إسقاطات تاريخية وثقافية ونفسية مؤداها أن مثل هذه المهن (المُهينة)! لا يمكن أن يمتهنها إلا العناصر القادمة من مناطق بعينها... فقد اتفق الرجلان لا شعورياً رغم التناقض الظاهري في موقفيهما.
وولج ( مدرسة الإنذار المبكر) من مالآت مشروع (السودان الجديد) و (الانقلاب الديموغرافي)بعض الأكاديميين الذين من المفترض أن يلتزموا بالمنهجية في تحليلاتهم فإذا بهم يحذون حذوا الصحفيين .. مثل كتابات كل من علي إسماعيل العتباني وحسن مكي -( حسب التعليقات التي اطلع عليها من حين لآخر يبدو أن متصدر هذا الاتجاه في السنوات الأخيرة هو (الطيب مصطفى) ولكن لغيابي عن البلد لم أكن متابعا لكتاباته) - حيث يقول علي اسماعيل العتباني: " (السودان الجديد )يصنع في ضواحي العاصمة العشوائية " ويضيف إسماعيل العتباني – والد الأول – " تكاد العاصمة المثلثة أن تحاط بسياج من قرى الجنوب ، التي لو أحصي سكانها لفاق عدد سكان العاصمة المثلثة "..
أما الدكتور حسن مكي فيعود بنا إلى الفرضية القائلة بأن أهل الأطراف يتناسلون ويتكاثرون بوتائر أسرع مما لدى المجتمعات النيلية فيقول .. " إن نسبة الخصوبة عند الدارفوريين والجنوبيين عالية جداً مع فقرهم المريع اقتصادياً حيث 90% منهم بلا مساكن صحية ولا مأوى لائق داخل العاصمة القومية وما يبلغ 60 بالمائة من أطفالهم لا يدركون حظاً في التعليم وما يبلغ 50% من الذي أدركوا حظهم في التعليم الأولي مصيرهم المؤكد الفاقد التربوي " ..وأناس هذا حالهم عوضاً أن يجدوا الشفقة والرأفة والرثاء تنزع هذه الفئة من المعلقين إلى تلفيقات فاشية .. تصف ألسنتهم وأقلامهم المواطنين البؤساء بأنهم أغراب منبتون وأجانب أشرار ومنبوذون لفظتهم أوطانهم ودفعت بهم إلى السودان .. ولعل خير دليل على هذه النزعة الفاشستية ما كتبه الصحفي حسين خوجلي مرة قائلاً " أخاف على السودان الذي ستملأ ساحاته قبائل الداهومي وسيراليون وزائير والهوتو والتوتسي طمعاً في الأمن والأمان (!) والمياه والزرع والضرع والبترول وهرباً من الحروب والايدز وانقطاع العشم ... من يحفظ للخرطوم العاصمة والرمز تأثيرها وبصمتها من الغرباء والنازحين وشذاذ الآفاق"! ...
وقد نحت حسن مكي خلال السنوات الماضية الكثير من المصطلحات الجديدة حول ظاهرة (الانقلاب الديموغرافي) كلها ذات دلالات ازدرائية مثل (قوى السوداء ) و(الأحزمة السوداء ) ..الخ ، وظل ينبه المسئولين من مغبة إعادة تخطيط وإدخال الخدمات لهذه الأحزمة ، أحيانا بصورة مباشرة وأخرى مبطنة مثل قوله :" ثورة شرف الدين بانقا (وزير إسكان سابق في ولاية الخرطوم ) التي استطاعت أن تسكن خمسمائة وخمسة وستين ألف أسرة في وحدات سكنية .. هذا هو العدد الممنوح للنازحين لمحاربة السكن العشوائي ، وإذا ضربت كل قطعة في خمسة أشخاص (565000 ×5) هذا يعني إنك قد أسكنت أكثر من 2مليون شخص .. بذلك أن الأحزمة العرقية التي تلتف بالخرطوم تسكنها أربعة ملايين شخص ".
أفكار حسن مكي دائما مهلهلة مثل زيه! (سمعت مرة من لسانه يقول أن الشيوعيين في الجامعة كانوا يسمونه (حسن زي) لعدم اعتنائه بهندامه )! لذلك نجده أحيانا يبدي عطفا تجاه سكان هذه الأحزمة الذين يعيشون في حالة من البؤس والفاقة نتيجة لتحيز العاملين في المؤسسات و المنظمات المعنية بمحاربة الفقر مثل ديوان الزكاة ضدهم ويقول " ...إذا أرادت مجموعات الأحزمة الاقتراب من ديوان الزكاة فلابد من (واسطة)... ولكن هذه المجموعات ليست لها وساطة ولا تعرف ما هي الزكاة..وهي لا تعرف إلا الفقر والحقد وتتغذى على الجوع وتنضح بمرارة الحرمان والعيش على الشظف والمعاناة وتشعر بعدم الاعتراف من كل الجهات .. إن الخرطوم قد تفقد السلام الاجتماعي والأمن والطمأنينة وتتجه إلى نموذج جوهانسبرج (انتشار الجريمة )إذا لم يتم إعمال الفكر في أبعاد التغيير السكاني الذي أخذ يعمل عمله في الخرطوم ". ويضيف في مقال آخر " نصف سكان الخرطوم يرفضون النسق الاجتماعي القائم " . وعين الغرابة في استخدام عبارة ( نصف سكان الخرطوم ) ، كأن الخرطوم ليست عاصمة للسودان كله..وإنما ضيعة مخصوصة لفئة بعينها .. وكيف لشخص مولود في الحصاحصا في وسط الجزيرة من عائلة نازحة من الشمالية أن يدلي مثل هذا القول بكل اطمئنان ؟
وقد آثار مثل هذه الأحاديث حفيظة كثير من أبناء دارفور وقد رد أحدهم عليه قائلاً " قال حسن مكي في محاضرة في إحدى الجامعات الغرابة غزوا العاصمة العربية وكادوا أن يغيروا ملامحها العربية إلى أفريقية ويختل بذلك ميزان سكانها ... الآن الغرابة أكبر نسبة جهوية ، ,أنهم بعد عشر سنوات سيكونون أغلبية مطلقة ، ويختل بذلك النسيج السكاني للعاصمة العربية لصالحهم ". ويبدي الكاتب نفس الملاحظة السابقة [أن القادمين من الشمالية لا يعتبرون أنفسهم وافدين إلى العاصمة ويقول " نصف أهل الشمال قد ارتحلوا إلى الخرطوم ... وإنهم الآن يحتلون (القلوب والكبد ) من العاصمة والوظائف المرموقة والبيوتات المالية بينما الغرابة في هوامش العاصمة وأطرافها وفي وظائف هامشية ومع ذلك يخشى الدكتور (تلويث ) العاصمة ب( الأفرقتة ) والتأثير الغرابي "
تجلت دلائل العزل والطرد في رفض تخطيط مناطق السكن العشوائي ، " .. الكل ينزح إلى ولاية الخرطوم ... لقد غصت الخرطوم بالملايين التي تجمعت وغدت فيها كل سحنات قبائل السودان .. اصطدم وتصارع المفهوم الحضاري "القح " بثقافة العواصم المخلوطة... بالكثير من المفاهيم والسلوكيات الوافدة والزائفة والمجلوبة التي أثرت سلباً على ما كان سائداً في السابق وغيرته وطبعته وشكلته.. أن العاصمة المثلثة (ولاية الخرطوم ) ليست هي الحل الأمثل وإني لاستهجن المحاباة التي وجدتها هذه الهجرة من كل الساسة والحكومات المتعاقبة والعمل على إقامة العشرات من القرى والحارات والأحياء الهامشية التي تحيط المدن الثلاث كما السوار بالمعصم .. التعامل كان عاطفياً وقحاً ، ها هو ناتج الغفلة أمامنا ، وزارة الإسكان تبنت إعادة التوطين بدون مرجعية " وربما المرجعية المقصودة هي سياسة مركزية تقوم على قاعدة ( هذا يستحق السكن في العاصمة وذاك لا يستحق )!.
ومن الواضح أن هذا الاعتقاد المضلل والعميق والشامل جرف حتى أولئك الذين عرفوا تقليدياً بأنهم مدافعون عن قضايا أهل الأطراف ، أو ممن كانوا يصنفون من فئة اللبراليين الذين من المفترض أن تتسم أحكامهم عن الوقائع بالموضوعية ، إلا أن الإسقاطات كثيرا ما تفلت من ثنايا أحاديثهم وكتاباتهم حتى إن قصدوا تقريع خصومهم السياسيين ، ها هو ذا منصور خالد يقول:" أحفاد هؤلاء – أي الأغراب المنبتين – صاروا جزءاً من النسيج الاجتماعي السوداني.. وتم إضفاء الجنسية السودانية عليهم في مطلع الاستقلال .. وبلغ التغالي ببعض منهم ، لكيما يلقوا القبول في السودان الوسيط ، حداً جعلهم يخايلون ب(عروبة ) مصطنعة خاصة في ظل النظام الحالي ، مما دفعنا إلى تذكيرهم – والذكرى تنفع المؤمنين - بكيف ومن أين جاءوا إلى السودان محمولين على ظهور أمهاتهم "!.
ويقول إبراهيم دقش " مجتمعنا المدني شلوه عن طريق تغيير الديموغرافي في العاصمة المثلثة ..لأنهم يريدون ألا تعرفنا الشوارع أو نعرفها .. وحتى الآن نجحوا في تغريب الشوارع عنا .. أن الجميع يعون مدى خطورة الوضع ولكنهم عاجزون عن فعل أي شيء .. إذا تحدثت إلى أي سوداني اليوم لهالك ما يعرفه من مخاطر تهدد بالانفجار في لحظة ، بالعاصمة في مساكن عشوائية تنضح بالمرارة والحقد والتربص " لاحظ الفرز في العبارات مثل" الجميع يعون " و" أي سوداني " أما سكان تلك العشوائيات فلا علاقة لهم بالسودان!.
حتى من قبل انفجار الأوضاع في دارفور كانت الصحف السودانية تفيض بالتعليقات التي تتحدث عن الانقلاب الديموغرافي ،إلى حد استقصاء آراء الدبلوماسيين العرب في الخرطوم حيث يقول أحد هم" زرت الخرطوم قبل سنوات وكانت عاصمة ( عربية مسلمة ) وأراها اليوم ( عاصمة أفريقية )".. والمحزن أنه كلما أوغلوا في نزعة الطرد والفرز والعزل عضد ذلك المشاريع التي يرومون محاربتها مثل مشروع ( السودان الجديد ) وأطروحات( الكتاب الأسود ) ..حيث يقول الراحل جون قرنق في أحد أحاديثه " أن الشماليين يعتقدون أن وجود مدن الكرتون والصفيح التي يسكنها العمال القادمون من الغرب والجنوب حول المدن النيلية الكبيرة فيما يسمى بالأحزمة السوداء بأنها تشكل خطراً على شخصية مدنهم وعلى نقائهم العرقي (Racial Purity) ..وأن هذا الوجود الأسود ينظر إليه دائماً على أنه مؤامرة محبوكة من قبل قوى خارجية معادية لعروبة السودان ..وعلى رأسها بعض الدول الغربية والأفريقية والمنظمات الكنسية والحركة الصهيونية .. حتى يخيل للذين لا يعرفون دقائق الأمور في السودان بأن سكان الأحزمة قادمون من (روريتانيا) (!)-( ربما مكان وهمي مثل "واق الواق" في الآداب العربية )- وليسوا بسودانيين أصليين ".
ومن جوانب هذا الفرز البائنة زحلقة كل المظاهر السلوكية الشائنة مثل التسول والتسيب والتسكع صوب هؤلاء القادمين من (روريتانيا )! حيث يقول أحدهم " أغلب الشحاذين في الخرطوم قادمون من الولايات البعيدة .. ومن مناطق بعينها ..والغالبية العظمى من خارج السودان.... هذه الوجوه المكدرة قد أصبحت مألوفة خاصة النساء اللاتي يحملن ( روشتات ) الدواء وأصبح عملهن مبرمجاً بالساعات "!.
هكذا ، على الرغم من أن الجميع يعلم بأن هؤلاء النسوة بالذات معظمهن من ريف أمدرمان الغربي حيث توجد هنالك قرى تسكنها قبائل عربية قحة تسمى ب(قرى الشحاذين )! .. ويضيف آخر " إنه ونسبة لحدود السودان المفتوحة مع دول الجوار تصل الأنباء للمتسولين في تلك الدول تبشرهم بوجود الهبات والصدقات في السودان خاصة في المواسم والأعياد وتغريهم على التدفق ..وكذلك وجود الأجانب من مواطني الدول العربية الذين يتصدقون بمبالغ طائلة ... " ويصل الكاتب إلى حد السخف ويقول "..إن اكتشاف البترول سيؤدي إلى دخول أعداد كبيرة من مواطني الدول المجاورة للتسول لأن الحياة الاجتماعية والاقتصادية ستصبح مرخية " (!! ).يكاد نص هذا الكلام يتطابق تماما مع ما قاله حسين خوجلي سابقاً مما يعضد الافتراض القائل بوجود رفض جماعي لل(آخر ) كامن في اللاشعور النيلي ، اعتقد هو ما يسميه منصور خالد ب(الصامت في الخطاب الشمالي ) بأبعاده المكبوتة ودلالاته المغيبة وستائره المسدلة .. وقد تواطأ صانعو الرأي العام في السودان على طيه وكتمانه .إلا أنه كثيراً ما تظهر في شكل إسقاطات غير واعية في الكلام والسلوك وحتما تجد طريقها إلى القرارات والممارسة .
يعزي عالم عباس ميل الجماعات النيلية بإسقاط كل شائنة على (الآخر) إلى ذهنية الاستعلاء والنظر من عل . لأن أهل المركز دائماً يجعلون لأنفسهم الكلمة الأخيرة في الأمور ، فمثلاً يُنقل أحدهم من المركز إلى الأطراف فيحمل معه كل عنجهيته وعقده وينظر إلى المواطنين من عل ، فيعمد إلى استخدام سلطته لتغيير أسماء بعض القرى والبلدات التي لا يستسيغها ، فيغير مثلاً ( أدان حمار) إلى( الفردوس)و(عد الغنم )إلى (عد الفرسان) و(عريجة )إلى (عديلة) و(كتال) إلى (دار السلام )..الخ وهو يجهل المعنى الرمزي ومحمولات الإرث التاريخي ومحكومات الظرف البيئي ومدلولات الإطار الجغرافي التي تنطوي عليها هذه الأسماء . ومع مفارقة تتجلى في أن المسئول نفسه قد يكون قادم من (الشكنيبة) أو (كاب الجداد) أو (قنتي) أو (فطيس) أو( شلعوها) أو (الفشيشوية )..الخ . وهي نزعة يحسبها عباس ضمن ما أسماه ب(الاضطهاد الثقافي) .. وقد دعم فرضيته بمثال آخر هو مسألة استبدال مخارج بعض الحروف العربية ، وهي عاهة يشترك فيها جميع السودانيين ، كل أهل منطقة بطريقتهم ، إلا أن أهل الوسط لا يعترفون بأنهم مصابون بها ولا يرون إلا العيب الذي يظهر في نطق( الآخرين ) ويضرب عباس مثالاً على ذلك عندما يقرأ أحدهم من دارفور سورة الإخلاص على صيغة " قل هو الله أهد"! يضحك عليه ابن النيل في حين هو نفسه يقرأ سورة القدر على صيغة " إنا أنزلناه في ليلة الغدر وما أدراك ما ليلة الغدر "! .. (بالغين )ولا أحد يضحك ، ولعل المراقب المحايد يتساءل أية القراءتين مدعاة للضحك ( كنت أحضر حلقة تلاوة في أحد المساجد ولاحظت أن مدير الحلقة لا ينبه القارئ عند يقلب القاف إلى غين ولفت نظره علي ذلك فقال لي " هذه عاهة سودانية عامة لا سبيل إلى علاجها"! .
هذه هي بنيان الثقافة المركزية الرئيسية في السودان التي عليها مهمة استعياب الثقافات الفرعية والقيم القطاعية ولكن عملية الفرز والنخل لا تتم وفق الأصلح من القيم والمفردات الثقافية والتلاقح والتبادل وإنما بتجريد تلك الثقافات من أية قيمة وتعميم الثقافة المركزية بعلاتها ومقوعاتها السرية مثال لذلك ما كتبه أحدهم قائلاً :" في أوائل الخمسينات شغرت وظيفة سباك في إحدى المصالح الحكومية ..وأعلن عن المنافسة لشغلها، وتقدم الكثيرون ولكن الاختيار وقع على شخص اسمه (أبكر كوسة ) ، هنأته لجنة الاختيار بالفوز بالوظيفة وطلبت منه أن يسعى لتغيير اسمه حتى يتم إجراءات التعيين لأن هذا الاسم غير لائق وغير سياحي (!!) . ذهب المواطن إلى المحكمة الشرعية وأكمل إجراءات تغيير الاسم وعاد إلى اللجنة مبتسما فرحاً جزلاً ، وسال أعضاء اللجنة عن الاسم الجديد ، فرد بابتسامه عريضة إنه صار (علي كوسة ) ، وأصيب أعضاء اللجنة بخيبة الأمل لأن المراد تغييره هو (كوسة ) وليس (أبكر) " هذه الحكاية مترعة بالإسقاطات السيكو- ثقافية لكلا الطرفين . الفاضل (أبكر) اعتقد أن الجزء غير اللائق وغير السياحي من اسمه هو (أبكر) لما يحمله من دلالات جهوية ولعلمه لما يتعرض له مثل هذه الأسماء الطرفية من ازدراء في الثقافة المركزية / النيلية ، ولم يدر في خلده أن ثمة (تابو) على اسمه الثاني (كوسة ) ، وهي المفردة التي لمست شعيرات الطبقة اللوبيدية في أذهان أعضاء اللجنة وأوحت إليهم بمعنى شائن وغير لائق لقربها من نطق ورسم كلمة أخرى من مفردات الجنس ، بينما لا توجد في ثقافة (أبكر) المحلية مثل هذا المعني السري أو أي إيحاء رمزي يدل على عدم اللياقة .. وتأخذ عملية السخرية من الأسماء أحياناً طابعاً عاماً وعلنياً ..فمثلا علقت إحدى الصحف في عهد الديمقراطية الثالثة على إحدى التشكيلات الوزارية التي وردت فيها أسماء مثل (أبكر (آدم) قائلة " هل هذه تشكيلة وزراية أم سكن عشوائي"؟! والإشارة هنا واضحة أن لا يقطن تلك المناطق البائسة إلا من يحمل هذه العينة من الأسماء .
ويعيد باقان أموم أحد قيادات الحركة الشعبية في دولة جنوب السودان حالة الاستعلاء الثقافي إلى التنشئة الاجتماعية الخاطئة ، والتي تقوم على أساس الفوارق المصطنعة بين القبائل ، وتدفع دائما في تجاه حجب مفاهيم الحداثة وقبول الآخر واحترام ثقافته وخصوصيته ومراعاة مشاعره كإنسان لا ذنب له سوى إنهم غرسوا فيه هذه النعرات منذ صغره... في المقابل هناك فتاة شلكاوية تذم وتعَّير في المدرسة بأنها سوداء وقبيحة مما تضطر إلى البحث عن المساحيق والكريمات لتغيير لون بشرتها حتى تصبح "بيضاء فاقع لونها تسر الناظرين " ! مثل هذا السلوك وهذه الأحاسيس من شأنها أن تجعل الفرد يتوجه بالدعاء إلى ربه لماذا لم يخلقه عربياً حتى يعيش مطمئناً بين الناس " ويرى أموم أن عبارة " الإخوة الجنوبيين " التي كانت متداولة بين الشماليين للتأشير للجنوبيين تحمل دلالات استنكارية لقيمة " الأخوة" لأنهم لا يقولون "الأخوة الشماليين " للتأشير على بعضهم البعض .
لقد اعتمد (حراس البوابات ) الذين في الغالب من النخبة النيلية ، والتي في يدها تأشيرة المرور إلى الوظائف ذات الوجاهة مثل السلك الدبلوماسي والعمل في المصارف والفنادق وشركات التأمين والمعاهد العسكرية ، على فينومولوجيا الأسماء والسحنة واللون في سماح للأفراد بالمرور ، بعيدا عن الكفاءة والأهلية . ..حيث تجد في أحاديثهم الكثير من التزوير وقلب الحقائق فهذا مثلا حد الدبلوماسيين السابقين يقول " من خلال عملي في السلك الدبلوماسي مررت بالعديد من المواقف .. منها أنه كان مطلوباً للعمل الدبلوماسي خمسة وعشرين شخصاً ، وتقدم مائتان ، ولكنني فوجئت بأن تسعة عشر من أوائل المتقدمين الذين اجتازوا الامتحان غير سودانيين ، فكان الأول نيجيرياً والثاني تشادياً والثالث من مالي ، وكانت سياسة تعيين آنذاك تنص بأن يكون الدبلوماسي سوداني الأصل والجذر ، ولذلك رفضت تعيينهم ، ولكني فوجئت بعد تقاعدي بأن من رفضت تعينهم للأسباب آنف الذكر قد عينوا في الوزارة وخصوصاً في سفارتنا في الخارج .. وتساءلت بيني وبين نفسي هل إذا قمت بتقديم أوراقي هكذا في دولة مجاورة كالصومال أو تشاد هل أحظ بوظيفة؟ ".. يمور هذا النص بتناقضات رهيبة ..ولكنه يمر لأن صاحبه حارس من حراس البوابات ، واستناداً لهذه القاعدة وهو لا يشعر بأدنى حرج من رواية مثل هذه الحكاية التي لا يمكن أن يصدقها أحد، إذ كيف أن يتقدم الأجانب لملء الوظائف في مرفق حساس مثل الخارجية ؟ . ومن الواضح أن الكاتب قد نظر إلى الأسماء من عل وأخضع كل اسم إلى المنظور الفيلولوجي ، وإذا رأى اسماً مثل (بيلو) هذا نيجري وإذا وجد (اسحق ) هذا تشادي و (أحمدو) أنه مالي وهكذا . فضلا عن حالته السيكولوجية الناتجة عن إحالته للتقاعد ..قد نشطت بنية الإقصاء في ذهنه وأوحت له بأن بعض الأسماء التي ظهرت في قوائم الخارجية غير متوافقة مع وجاهة هذه الوزارة من وجهة نظر الثقافية الخاصة به. وقد كشف أمره – ربما بدون وعي- في نهاية المقال عندما قال :" بعد أن أحلت للمعاش التحقت للعمل بالديوان الملكي الهاشمي كمستشار سياسي إلى أن توفى الملك حسين وعدت إلى السودان " أي أنه قدم أوراقه إلى دولة أخرى أجنبية وحظي بالوظيفة (!) .
(نواصل .. )
وكل عام وانتم بخير


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.