شاهد بالصور.. الفنانة مروة الدولية تكتسح "الترند" بلقطات رومانسية مع زوجها الضابط الشاب وساخرون: (دي اسمها لمن القطر يفوتك وتشتري القطر بقروشك)    شاهد بالفيديو.. بشريات عودة الحياة لطبيعتها في أم درمان.. افتتاح مسجد جديد بأحد أحياء أم در العريقة والمئات من المواطنين يصلون فيه صلاة الجمعة    شاهد بالصور.. الفنانة مروة الدولية تكتسح "الترند" بلقطات رومانسية مع زوجها الضابط الشاب وساخرون: (دي اسمها لمن القطر يفوتك وتشتري القطر بقروشك)    شاهد بالصورة.. زواج الفنانة الشهيرة مروة الدولية من ضابط شاب يقيم بالقاهرة يشعل مواقع التواصل السودانية    القوة المشتركة لحركات الكفاح المسلح: بدأت قواتكم المشتركة الباسلة لحركات الكفاح المسلح بجانب القوات المسلحة معركة حاسمة لتحرير مصفاة الجيلي    مصطفى بكري يكشف مفاجآت التعديل الوزاري الجديد 2024.. هؤلاء مرشحون للرحيل!    شاهد مجندات بالحركات المسلحة الداعمة للجيش في الخطوط الأمامية للدفاع عن مدينة الفاشر    إجتماع مهم للإتحاد السوداني مع الكاف بخصوص إيقاف الرخص الإفريقية للمدربين السودانيين    وزير الصحة: فرق التحصين استطاعت ايصال ادوية لدارفور تكفى لشهرين    وكيل الحكم الاتحادى يشيد بتجربةمحلية بحرى في خدمة المواطنين    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    ضربة موجعة لمليشيا التمرد داخل معسكر كشلنقو جنوب مدينة نيالا    مدير مستشفي الشرطة دنقلا يلتقي وزير الصحة المكلف بالولاية الشمالية        ضياء الدين بلال يكتب: نحن نزرع الشوك    غوتيريش: الشرق الأوسط على شفير الانزلاق إلى نزاع إقليمي شامل    أنشيلوتي: ريال مدريد لا يموت أبدا.. وهذا ما قاله لي جوارديولا    غوارديولا يعلّق بعد الإقصاء أمام ريال مدريد    محاصرة مليوني هاتف في السوق السوداء وخلق 5 آلاف منصب عمل    امين حكومة غرب كردفان يتفقد سير العمل بديوان الزكاة    نوير يبصم على إنجاز أوروبي غير مسبوق    تسلا تطالب المساهمين بالموافقة على صرف 56 مليار دولار لرئيسها التنفيذي    محافظ بنك إنجلترا : المملكة المتحدة تواجه خطر تضخم أقل من الولايات المتحدة    منتخبنا يواصل تدريباته بنجاح..أسامة والشاعر الى الإمارات ..الأولمبي يبدأ تحضيراته بقوة..باشري يتجاوز الأحزان ويعود للتدريبات    بايرن ميونخ يطيح بآرسنال من الأبطال    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    العين يهزم الهلال في قمة ركلات الجزاء بدوري أبطال آسيا    مباحث المستهلك تضبط 110 الف كرتونة شاي مخالفة للمواصفات    قرار عاجل من النيابة بشأن حريق مول تجاري بأسوان    الرئيس الإيراني: القوات المسلحة جاهزة ومستعدة لأي خطوة للدفاع عن حماية أمن البلاد    بعد سحق برشلونة..مبابي يغرق في السعادة    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    خلال ساعات.. الشرطة المغربية توقع بسارقي مجوهرات    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    وزير الخارجية السعودي: المنطقة لا تحتمل مزيداً من الصراعات    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



السودان : الانقلاب الديموغرافي وال( سودو-فوبيا) ! (2)

ما أن وضعت حرب الجنوب الطويلة ، بخسائرها البشرية والمادية الرهيبة وآثارها الاقتصادية والسياسية و الاجتماعية والنفسية العميقة، أوزارها ، حتى اندلعت حرب دارفور ، واستمرت ظاهرة هروب أهل الأطراف إلى المركز ..وهروب أهل المركز إلى الخارج لعدم قدرتهم النفسية على تحمل الخسائر وعسر التكيف مع هذا الفيض الذي لا ينقطع ، حيث يقول حسن مكي بأن " (القوى السوداء ) لها المقدرة على التضحية والاحتراق بالمقارنة مع المجتمع النيلي الذي لو فقد مائة شخص يصبح متوتراً ومتوجساً وتعم الخرطوم المآتم والتعازي ولا يستطيع مجاراة (القوى السوداء) التي قد تفقد الألوف ولا تسمع لها نواحاً ولا عويلاً. "! .
وعلى الرغم من أن دوافع الهجرة كثيرة – سياسية واقتصادية – وتشترك فيها كل العناصر ، إلا أنه من الضروري عدم تجاهل العامل النفسي كدافع إضافي للعنصر النيلي الذي اعتمد على سياسات الفرز المركزية لتحصين نفسه إلا أن قوة ادفع تيار التقلبات الديموغرافية كانت أقوى من أن تسد ، ومع عدم القدرة على التكيف والعيش والخوف من احتمال الذوبان في هذا الفيض (الأسود)! لم يبق أمامه إلا الهروب إلى الخارج.
يعتبر مضوي الترابي من الذين عالجوا هذا الموضوع باهتمام .. حيث يؤكد أن مجتمع (الوسط العربي الإسلامي) –كما يسميه- قد أصيب في صميم كيانه النفسي وذلك في قوله : " إن تفاقم الأزمة قد أصاب الوسط العربي الإسلامي في السودان في الحكم والمعارضة " ..وأصبح لا خيار لهذا الوسط للتكيف مع الواقع الجديد إلا الانسحاب والهروب إلى الخارج . ويقدر الترابي عدد المهاجرين من هذا الوسط بأربعة ملايين شخص، وهو رقم مبالغ فيه بدون شك.. إلا أن المبالغة هي السمة الأساسية لكثير من التقارير الخاصة بأعداد المهاجرين السودانيين ، فمثلا إحدى الدراسات الصادرة في القاهرة تقول: " في الوقت الذي لا يزيد سكان السودان عن 35 مليون نسمة ، هاجر أكثر من ثلثهم إلى دول أوربا وأمريكا فضلاً عن مصر التي تحتوي في أحضانها الملايين منهم ... في خلال السنوات العشرة الأخيرة تدفق إلى مصر قرابة الخمسة ملايين سوداني ". وثمة تقارير تقول بأن 15% من طالبي اللجوء في العالم من السودانيين. في كل الأحوال ورغم المبالغات فإن معدلات هجرة السودانيين تفوق المعدلات الطبيعية، لأن الأوضاع في السودان غير طبيعية.
يحدد مضوي الترابي أسباب الهجرة ومآلاتها الديموغرافية في النقاط التالية:
أولا: نتيجة لسياسة الإفقار الاقتصادي وقهر السلطة وانتفاخ نفقات الدولة ( أجهزة بيروقراطية منتفخة وأجهزة أمنية متشبعة ونفقات عسكرية متزايدة "
ثانياً : 95 % من الذين هاجروا واغتربوا هم من العنصر العربي في السودان وهو من أكثر العناصر استجابة لبرامج إعادة التوطين الذي يتم في تسمانيا (استراليا ) ونيوزيلندا والولايات المتحدة الأمريكية وبعض دول غرب أوروبا . وأصبح الأمل ضعيفاً في عودتهم إلا إذا حدثت نهضة اقتصادية واجتماعية تشابه أوضاعهم في دول الاغتراب.
ثالثاً : الفراغ الذي تركه العنصر العربي في السودان أخذت بتعبئته عناصر أفريقية .. وقد أحاطت أحزمة الفقر بالمدن الشمالية من الأبيض وكوستي إلى حلفا وبورتسودان ..ومعظمها عناصر غير سودانية . وحول العاصمة الخرطوم وحدها حزام يسكنه 2مليون نسمة ولا تتجاوز نسبة السودانيين منهم 50%.
رابعاً : يعاني من تبقي من العنصر العربي داخل السودان من أوضاع معيشية مأساوية سببها بعض سياسات النظام وبعضها الآخر سياسات الحصار ووقف المعونات والعون الإنساني وأصبح معدل وفيات الرضع وسط أبناء العنصر العربي هو أربعة أضعاف مثيله في وسط أطفال أحزمة المدن السودانية (!!)
خامساً : أصبح متوسط الأسرة لأبناء العنصر العربي في الشمال بمعدل 5 أشخاص وارتفع معدل الأسرة للعناصر الأفريقية إلى 11فرد .
وهو يتفق مع حسن مكي عندما يقول :" الجنوبيون مثلاً في أقل من ربع قرن ازدادوا في كثافتهم السكانية في العاصمة وحدها من ألف شخص إلى أكثر من مليون ونصف مليون من البشر " وهي زيادة يقابلها نقص وقلة الخصوبة لدى الشماليين الذين " تركوا التكاثر بسبب البطالة وعدم القدرة على الزواج والهجرة وفقر الأرياف ".
معظم هذه النقاط مجرد مغالطات تنافي المنطق السليم ، ويعتبر مقلوبها هو الصحيح ، فمثلاً برنامج إعادة التوطين التي ذكرها الترابي من المعروف أنه قد تركز على الجنوبيين والدرارفوريين وليس على الشماليين .. كما أن مقاربته حول وفيات الرضع تتناقض مع ابسط البديهيات ارتفاع نسبة الوفيات في الأحزمة وأحياء الفقيرة لانتشار حالات سوء التغذية وبؤس الأوضاع الصحية .. أضف إلى ذلك أن قلة عدد أفراد الأسرة لا تعزى لعامل بيولوجي وإنما لتنظيم اجتماعي ،أي كلما ترقي الإنسان اجتماعياً وتحسنت حالته الاقتصادية كلما حرص على تحجيم تناسله للمحافظة على هذا المستوى المعيشي ..
تنبع كل هذه التهويلات الرقمية من عمق الهلع النفسي من مآلات السيرورة الديموغرافية الماضية التي أخذت ملامحها تتجلى حتى للمراقب غير المتخصص ..وهو الهاجس الذي بات يأرق المجتمع النيلي فمثلاً عندما أجرى أحد الصحفيين لقاءا مع الأستاذ الجامعي المعروف عبد الله حمدنا الله وطرح عليه سؤالاً مكتنزاً ب(فوبيا الأفرقة )وهو :" يدور الحديث الآن بأن هنالك تغييراً أثنياً واسعاً يجري في السودان .. وأن السودان بعوامل النزوح والتناسل الأفريقي وفي المقابل الهجرة المعاكسة للعناصر العربية والعزوف عن الزواج سيصبح السودان دولة أفريقية صرفة أقرب للسنغال أو لتشاد فما رأيك ؟" وقد رد الدكتور حمدنا الله رداً مقتضباً ولكنه مفعم بالحقيقة و بعكس مما أراد سمعه السائل حيث اكتفى بقوله " ولكن تشاد أكثر عروبة من السودان!" .. وهو على الحق ، لأن مستوى الاستعراب في كثير من دول الحزام السوداني لا يقل عما وصل إليه الحال في السودان الشرقي.
الحراك في مستوطنات " الكمبو"
قبل أقامة مشروع الجزيرة مع نهاية الحرب العالمية الأولى.. كانت التركيبة المجتمعية لهذا السهل الخصب الذي يقع بين النيلين الأزرق والأبيض تتكون من كبار الملاك الذين يملكون مساحات تزيد عن 1500 فدان للمالك الواحد .. وكانوا يستغلونها باستخدام عدد كبير من العبيد الذين كانوا يقومون بجميع العمليات الفلاحية . وعند تطبيق قانون منع الرق بعد استعادة السودان حدث اضطراب كبير في علاقات الإنتاج.. وخير دليل يعبر عن هذا الاضطراب ما ورد في الرسالة الشهيرة لكل من السيد عبد الرحمن المهدي و السيد علي الميرغني والشريف يوسف الهندي بتاريخ 6مارس 1925م والتي نصها :
" إلى مدبر مخابرات الخرطوم
نرى من واجبنا أن نشير إليكم رأينا في موضوع الرق في السودان ونأمل أن توليه الحكومة عنايتها .
لقد تابعنا سياسة الحكومة تجاه هذه الطبقة من إعادة الفتح . وطبيعي إننا لا نستطيع أن ننتقد أمراً توحد كل العالم المتمدن لإلغائه، وهو واحد من أهم الأمور التي يعني بها القانون الدولي.
على أن ما بهمنا في الأمر هو أن الرق في السودان اليوم لا يمت بصلة لما هو متعارف عليه بشكل عام. فالأرقاء الذين يعملون في زراعة الأرض ، شركاء في واقع الأمر لملاك الأرض ولهم من الامتيازات والحقوق ما جعلهم طبقة قائمة بذاتها ، ولا يمكن تصنيفهم من الأرقاء بالمعنى المتعارف . وأهل السودان الذين مازال لهم أرقاء في الوقت الحاضر، وإنما يعاملونهم كما لو كانوا من أفراد العائلة، بسبب احتياجهم المتعاظم لعملهم. ولو كان لطرف أن يتظلم الآن ، فهم الملاك الذين أصبحوا تحت رحمة أرقائهم .
وكما تعلمون تمام العلم، فإن العمل في ظرف الراهن هو أهم قضية في السودان، ويتطلب علاجها الاهتمام الأكبر. فالحكومة والشركات والأفراد المهتمون بالزراعة، يحتاجون لكل يد عاملة يمكن الحصول عليها لتسهم في نجاح المشاريع .
ولابد أن الحكومة وموظفيها ، قد لاحظوا خلال السنوات القليلة الماضية أن أغلبية الأرقاء الذين اعتقوا ، أصبحوا لا يصلحون لأي عمل ، إذ جنحت النساء منهم نحو الدعارة ، وأدمن الرجال الخمر والكسل .
لهذه الأسباب نحث الحكومة أن تنظر باهتمام في الحكمة من إصدار أوراق الحرية دون تمييز، لأشخاص يعتبرون أن هذه الأوراق تمنحهم حرية من أي مسئولية للعمل، والتخلي عن أداء الالتزامات التي تفيدهم.
وبما أن هؤلاء الأرقاء ليسوا عبيداً بالمعنى الذي يفهمه القانون الدولي ، فلم تعد هناك حوجة لإعطائهم أوراق الحرية ، إلا إذا كانت هناك حوجة لإعطائها لملاك الأراضي الذين يعملون لهم . وإنه لمن مصلحة كل الأطراف المعنية، الحكومة وملاك الأرض والأرقاء، أن يبقى الأرقاء للعمل في الزراعة. أما إذا استمرت سياسة تشجيع الأرقاء على ترك العمل في الزراعة والتسول في المدن فلن ينتج عن ذلك إلا الشر .
نتمنى أن تأخذ الحكومة هذا الأمر بعين الاعتبار وأن تصدر أوامرها لكل موظفيها بعدم إعطاء أي أوراق حرية إلا إذا برهن الأرقاء سوء المعاملة .
توقيع : علي الميرغتي ، الشريف يوسف الهندي ، عبد الرحمن المهدي."
بعد هذه الطبقة من كبار ملاك الأرض الذين يعتمدون على العبيد في استغلال الأرض تأتي طبقة صغار الملاك الذين يستخدمون نظام "الدقندي" في علاقات الإنتاج أي قيام بعض الأسر بفلاحة الأرض مقابل نصف المحصول .ثم جاء نظام العمال الأجراء (عمال اليومية ) بعد قيام مشروع الجزيرة وجميع المشاريع المروية فيما بعد .
تعتبر علاقات الإنتاج في مشروع الجزيرة من أهم أدوات الضبط الإداري لمنع التغيير الاجتماعي .. وذلك بتقوية دور النخب التقليدية ومنع المبادرات وروح الابتكار ومحاربة مظاهر التحديث في المسكن والملبس والمأكل..وهو نوع من أنواع "صناعة التخلف".. وكان من أهم العقوبات التي تفرض على المزارعين الذين يتأخرون عن تسليم المحصول في مواعيده هي اللجوء لعملية " الطُلبة " وتعني استئجار عدد كبير من العمال لأداء العمل المتأخر في وقت وجيز على حساب المزارع وهي أحد العوامل التي ساعدت على تحويل تجمعات العمالية العادية (البراقين ) إلى مستوطنات مؤقتة ال( كنابي ) –جمع (كمبو )وفي الأصل من الكلمة الإنجليزية Camp- أي معسكر- ولكن بحكم التعليم وتحسن الوضع الاقتصادي للمزارعين ، خاصة في العهد الوطني ، تم تحديث نمط الحياة في قرى المزارعين .. بذلك تم تكثيف عملية صناعة التخلف على الكمبو . فقد تم حرمان هذه المستوطنات من أبسط الخدمات بالقانون للمحافظة على وضعها المعيشي في مستوى متدن للغاية لضمان استمرار هؤلاء العمال في العمل كأجراء بأجور زهيدة لأطول فترة ممكنة.. فهذه السياسة جعلت الكنابي نوعا من" المناطق المقفولة " حتى لا تغشاها رياح التغيير التي أخذت تهب على قرى المزارعين . وكان من الشروط الإدارية لبناء منازل الكمبو أن تكون مواد البناء من(حطب وقش ) فقط .. ويتم إزالتها فور أن قررت إدارة المشروع ذلك.
مَن هم سكان الكنابي ؟
يقول الباحثان عبد اللطيف البوني وصديق مضوي بأن عدد الكنابي في الجزيرة قد بلغت في عام 2001م ألف كمبو بعدما كانت 710 في عام 1981م .. وقد صنفا سكان الكنابي إلى خمس مجموعات رئيسية وهي :
المجموعة الأولى : القادمون من غرب ووسط أفريقيا .. وتشكل قبائل التاما 33% منهم والبرقو 10% وتتوزع بقية النسبة ما بين الهوسا والفلاتة والزغاوة والقمر والسلامات والمراريت .. نلحظ أن تعبير (قادمون من غرب ووسط أفريقيا ) يعوزه الدقة لأن أغلب القبائل المذكورة إما سودانية صرفة أو مشتركة مع جمهورية تشاد .. ولعل استثناء الوحيد هو المجموعة (الهوسا والفلاتة ) وهي معروفة بهجرتها التاريخية التي امتدت لقرون وساهمت في التشكيلة الديموغرافية للسودان بعمومه .
المجموعة الثانية : قبائل دارفور ؛ وتضم الفور والمساليت والداجو الرزيقات و والبني هلبة والتعايشة . إن تعبير ( قبائل دارفور) جد مطاط وفضفاض ، إذ يصعب فصلهم عن المجموعة الأولى بمثل هذا التعبير .
المجموعة الثالثة : تضم قبائل كردفان مثل الكبابيش والكواهلة والجوامعة والمسيرية وبني جرار والشنابلة
المجموعة الرابعة : هي مجموعة النيل الأبيض : وتضم الحسانية والمسلمية والحسنات والمحمدية والعواضية والجعافرة ..الخ
المجموعة الخامسة : قبائل النيل الأزرق : وتضم الشكرية والبطاحين والرفاعة .
ويذكر الباحثان أنه ليست للمجموعات الثلاثة الأخيرة أي تأثير ديموغرافي يذكر على البنية السكانية للمشروع .. لأنها تأتي موسمياً من أجل الاستفادة من مخلفات الزراعة في رعي مواشيها وتعود إلى مناطقها الأصلية .
ويصف الباحثان القبائل القادمة من تشاد ودارفور بأنها تتميز ب" ملامح زنجية .. ولا تجيد اللغة العربية ..وهي أقل إلماماً بالحياة العامة "! ، ولا أدري ما المقصود ب" الإلمام بالحياة العامة "؟ أهو الوعي بأهمية الخدمات العامة ؟ جائز إذا كانت المقارنة مع سكان القرى، ولكن من المستبعد أن تكون أقل وعياً بالحياة العامة من المجموعات البدوية أو شبه البدوية..
بدأت القرى والمستوطنات( الكمبو) تشهد تغيرات في بنيانها الهيكلي اعتبارا من ثمانينات القرن الماضي .. كل على طريقتها .. فمع تدهور عائدات الزراعة في المشاريع المروية وارتفاع معدلات التعليم في القرى أخذ الجيل الجديد من أبناء المزارعين يتحول عن الزراعة للعمل في الوظائف الحكومية والهجرة إلى الخارج واستثمار ودائعه خارج العمل الزراعي. بينما نشط أبناء الكنابي في فلاحة الأرض بعد إعادة تنظيم علاقات الانتاج مع الملاك مع إضافة نشاطات جديدة مثل التجارة وتربية الماشية ، و أخذت الثروة تتراكم لدى سكان الكمبو بعد عقود من الحرمان .. وبدأت الفوارق الاقتصادية بين القرية والكمبو تضيق رويدا رويداً . ويعزي كل من البوني ومضوي هذا الانقلاب الاقتصادي إلى عوامل ثقافية واجتماعية يتمتع بها سكان الكنابي على رأسهما ارتفاع في الدخل لا يوازيه ارتفاع في الاستهلاك عكس ما هو سائد في القرية ، وبذلك يمكن ادخار هذا الفائض وإعادة تدويره لخلق مزيد من الثروة.
ومع التقدم الاقتصادي والترقي الاجتماعي برز الوعي السياسي .. وبدأ سكان الكنابي يطالبون ب(حقوقهم ) ومساواتهم بالقرى في الخدمات والامتيازات ، ودخلت الأحزاب والتنظيمات السياسية الحلبة من أجل الاستفادة من هذه الكتل البشرية الهائلة في الاستحقاقات الانتخابية ، وماجت الساحة بالأفكار المتناقضة ، بعضها تطالب بالإقصاء وأخرى تدعو للاستيعاب ، كل حسب مصلحته .
وبدأت التوترات بين القرية والكمبو تزداد يوما بعد يوم .. فكانت أشهرها حوادث مدينة الفاو بمشروع الرهد الزراعي في أواخر ثمانينات القرن الماضي بين المزارعين والعمال الزراعيين .. ثم تتالت الحوادث الدموية المؤسفة في أغلب المشاريع المروية بين تلك الفئتين .. وبدأ سكان القرى حملة منظمة ضد الكمبو وسكانه، مستعينين بارتباطاتهم المدينية الممتدة في النطاق الحضري النيلي ، وأخذوا يرمونهم بكل شين وقبيح من الأوزار ، فهم لصوص يأخذون سيقان القطن إلى منازلهم في موسم " القليع" ويسرقون القناديل في جنح الليل في موسم قطع الذرة .. ويخفون التبن ومقادير كبيرة من الفول المتساقط في منازلهم في موسم حصاد الفول . وأن الكمبو أصبح وكراً للجريمة ومأوى للسكارى والسفلة والسفاحين . حتى عادة شرب المريسة – وهي عادة سودانية عامة – صنفت بأنها جزء من ثقافة سكان الكمبو " عادة شرب المريسة لدى قبائل دارفور تعتبر عادة متأصلة في ثقافتهم وجزءاً لا يتجزأ من حياتهم ، بل يعتبرونها نوعاً من الغذاء .. الدين لم يستطع أن يتغلب على ظاهرة شرب الخمر الضاربة في وجدان وثقافة هذه القبائل " هذا افتراء لأن الحقيقة تقول أن المريسة قد تصنع في الكمبوا ولكن معظم شاربيها يأتون من القرى ومضارب البدو !..مثلها مثل (التمباك ) الذي يزرع في دارفور ويستهلك في النيل .
في إطار هذه المماحكة وصل التشنيع إلى حد اتهام سكان الكمبو بجريرة جلب مرض البلهارسيا الذي ينتشر على طول النيل منذ أيام الفراعنة ! .. يكتب أحدهم قائلا .." إن مهاجري غرب أفريقيا وغرب السودان مسئولون عن سوء الأحوال الصحية في المنطقة المروية لجلبهم مرضين خطرين هما الحمى الراجعة والبلهارسيا "..
رغم التحيز الرسمي والشعبي ضد الكمبو تطورت عددا من الكنابي إلى قرى عامرة تتمتع بمباني جيدة التشييد ،خاصة في المشاريع التي تديرها شركات ذات طبيعة دوليه مثل شركة سكر كنانة ، حيث قام مسئولو تلك الشركة بإعادة تخطيط الكنابي ودمجها في النسيج العمراني للمشروع ، بينما رفضت سلطات مشروع الجزيرة وشركة سكر السودانية أي تجاه للإدماج والاستيعاب ، بل وقررت ترحيل الكنابي أحيانا إلى مناطق أخرى نائية ومؤقتة.. وقد نتجت عن ذلك مصادمات دموية كما حدث في (وادي الشعير) في شمال الجزيرة عام 1999م وبعض المستوطنات بالقرب من مدينة سنار في نفس العام .
صحيح إن الرفض الاجتماعي للتدامج القومي مرجعه أن المجتمع لا يشهد حراكاً طبيعيا متأتيا من تنمية اقتصادية شاملة وإنما محض انقلابات ديموغرافية نتيجة الكوارث والمحن المفاجئة .. إن التقبل النفسي والتراضي الاجتماعي بين الجماعات الوطنية في حاجة إلى داعم دينامي ، إذا ما سيبل لتوفير هذا الداعم ؟..
هنالك رأيان : الأول يرى وجوب فتح الأبواب والنوافذ لرياح التغيير والسماح للقوى الجديدة بالمرور الآمن بفتح المسارات والسكك والتفاعل الإيجابي والواعي لكبح الجموح والتطرف والترويض والسيطرة على الحراك بدلاً من الانتظار القدري لانقلابات الجذرية من أصحاب هذا الرأي حسن مكي ( في الجزء الأول من المقال عندما وصفت أفكار حسن مكي بأنها مهلهلة غضب بعض المعلقين وذكروا بأنني شتمت وسببت .. على رسلكم يا أخواني ! هو أستاذي وأنا أجله وأقدره كل ما قصدت أنه كثيرا ما ينتقل من الفكرة إلى نقيضها ).. على كل حال ، يقول مكي أن هنالك حوالي ثلاثة ملايين فتاة من الوسط النيلي يبحثن عن الزوج و لا يجدن لأن معظم الشباب هذا الوسط قد هرب إلى الخارج .. ففي الوقت الذي تضاعفت أعداد القادمين من مناطق التداخل مائة مرة ، فلا يوجد فرصة –حسب رأي مكي - للحصول على الأزواج لهذا العدد الهائل من الفتيات إلا بتحطيم القواعد الاجتماعية العتيقة التي تحرمهن من اختيار الأزواج من وسط (القوى السوداء).
ويرى أن عملاً اجتماعياً ضخماً يجرى داخل أسوار الجامعات ، حيث أن الفتاة المتعلمة ليست من أولوياتها المشاركة السياسية والمحافظة على الأعراف البالية ، وإنما وظيفة مضمونة وعريس مأمون (!). ويؤكد مكي بأن المستقبل السوسيو – سياسي للسودان مرهون بثلاثة متغيرات : وهي تغير ذهنية المرأة الجديدة ، وبروز دور شباب مناطق التداخل ، وأخيراً عائدات النفط.
وفي نهاية تعميماته يصل مكي إلى نتيجة مفادها أن (القوى السوداء ) ستكسب السودان وتحكمه.. وحدد عام 2016م كحد أقصى .. إذا صبرت على الوحدة لأنها القوى الوحيدة المهيأة والمستعدة لمآلات السيرورة الحالية.. وعلى الرغم من أنه استنتاج مخيف للغاية بالنسبة للطبقة النيلية إلا أنه لامناص منه – في رأي مكي- والحكمة توجب حسن الإدارة وليس دفن الرؤوس في الرمال . ويوصي بأن نبدأ (نحن النيليون ) باقتلاع شجرة الدونية من نفوس أفراد (القوى السوداء).بإحلال نظرة التكامل والمساواة من أجل بناء مجتمع (السودان الواحد)، وليس أمام المجتمع النيلي أي خيار آخر لأن" العناصر الأفريقية إن لم تحكم السودان بالإسلام فستحكمه بغير الإسلام " لأن " القوى السوداء نواتها المركزية(مشروع السودان الجديد)"- هذا الكلام قبل قبر (مشروع السودان الجديد ) بانفصال الجنوب وهو مشروع لعين والحمد لله أنه قبر.
أما أصحاب الرأي الثاني فلا يؤمنون بسياسة الأبواب المفتوحة ، وتتشبثون بالتقاليد الاجتماعية /الثقافية العتيقة ، ويرون أن تضحية بعنوسة الفتيات أهون من نتائج قرنهن بأغراب منبتين .."حيث الأب والأم يجهلان أصل ونسب وقبيلة زوج ابنتهما ..دون البحث عن جذور الشباب زوجوا بناتهم لمن هم دونهم سواء أكان على مستوى الاجتماعي أو المالي ، مما أحدث خلخلة اجتماعية يتعذر تقويمها"(نقلا عن مزمل سلمان غندور).
يعد عملية خلق العلاقات وتحقيق المصالح على الأسس الطبقية من سمات المجتمعات السليمة والحية ، حيث يقوم الأفراد والجماعات ببناء علاقات مصلحية بغض النظر عن الأصول العرقية والألوان الجِبلية للأفراد المكونين لهذه الطبقات ، فلذلك تعتبر الطبقة الوسطى هي حاملة القيم الايجابية وحامية المجتمع من الانهيارات المفاجئة . ولما كانت هذه الطبقة حية في السودان قد مثلت إحدى قنوات تذويب التميزات العرقية والحد من التحيزات الجهوية حيث " أضحت الطبقة الوسطى تمثل في مستوياتها المتعددة الشخصية الخلاسية الوليدة التي بدأت تشكل اللبنة الأولى للذاتية السودانية في طريقها الشاق إلى إذابة الفوارق العرقية والقبلية والجهوية "
ولعل أوضح مثال للأدوار التي حاولت الطبقة الوسطى السودانية لعبها ؛ ما كان يحدث في وسط الفئة المسماة ب(الإسلاميين ) من زيجات عابرة للقبلية والجهوية رغم أن دروب الوصول إلي تلك الزيجات لم تكن سالكة والأبواب لم تكن مشرعة ..وقد انحصرت هذه الزيجات في شريحة (أصحاب الكسب)! من رؤساء الاتحادات الطلابية والتنظيمات الشبابية .. حتى هذه كانت مصحوبة بمواقف ووقائع محزنة ومحرجة ومضحكة أحيانا ( كنت شاهد أعيان لإحداها كلما أتذكر أموت من الضحك !! ) نتيجة لرفض أهل الفتاة ..ويختتم الفصل النهائي من هذا المسلسل الكوميدي بإتمام الزواج إما بالتدخل المباشر من أحد قادة الحركة الإسلامية للتأثير على موقف والد الفتاة – والذي غالباً ما يكون عضواً في الحركة- أو أن يصل الأمر إلى المحكمة الشرعية ، والتي غالباً ما توافق على إتمام الزواج لأن معظم قضاتها يردون من نفس المورد الفكري . وقد صارت بعض هذه الحكايات قصصاً تروي للتسلي والاعتبار ( تذكروا حكاية ولو مؤذن في الحرم )! .
ولكن ليس بالزواج وحده تحل معضلة اجتماعية /ثقافية مركبة مثل التي نتحدث عنها الآن، فكل هذه المحاولات الجزئية قد فشلت تماما.. وأحيانا أنتجت ردود فعل عكسية ، فمثلا أنني قد لاحظت (مجرد ملاحظة وليست ظاهرة عامة ) أن كثيرا من قادة الحركات ومعارضي الهيمنة النيلية هم من أصهارهم !.
إن الخطاب العام المتشبع بالأخوة الوطنية وشائج العقيدة الدينية لم يستطع محو هذه القيم القطاعية لضعف الحراك الاجتماعي الطبيعي والصحي ، ولكن يجب أن يكون هذا هو اتجاه التأطير والتنظير من قبل المفكرين والباحثين وليس النزوع إلى التحذيرات والنبيهات التي تزيد من معدل الفوبيا .. فليس ثمة هنالك كتلة صماء اسمها (قوى السوداء) تضم المسلم والمسيحي والوثني.. ويحب أن تكون نقطة الارتكاز هي الفكر والعقيدة وليس اللون لأن مفهوم (السواد) في السودان الذي معناه (السواد العظيم ) مركب ، وفي غاية من التعقيد ، لأن المعادل له يجب أن يكون( البياض) (كما هو الحال في موريتانيا مثلا "البيضان" و"السودان" )وهو ما لا يتوفر في السودان ..
إن الجماعة النيلية في ظل فوبيا الانقلاب الديموغرافي تتوهم شرا داهما ودائما ، رغم أن مثل هذا الشر لا وجود له إلا في عقلها الباطني ، وهو الأمر الذي غيب ذكاءها .. وطفقت تعالج الأمر بطرق غريبة وأحياناً غبية ، فبدلا من أن تقرب وتقترب من الجماعات التي ترتبط معها بأواصر العقيدة والثقافة واللغة ، مثل أهل دارفور ، تدفعها بطوع إرادتها صوب مشروع (السودان الجديد )بمزيد من العزل والإقصاء وتحقق بذلك مآرب بعض قيادات الطرفية الغريرة التي تؤمن بعقيدة (السودان الجديد ) الوثنية ..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.