بلينكن عن التدقيق في مزاعم انتهاك إسرائيل لحقوق الإنسان: سترون النتائج قريبا    عام على الحرب فى السودان.. لا غالب ولا مغلوب    يمضي بخطوات واثقة في البناء..كواسي أبياه يعمل بإجتهاد لبناء منتخبين على مستوى عال    اللواء 43مشاة باروما يكرم المتفوقين بشهادة الاساس بالمحلية    السيارات الكهربائية.. والتنافس القادم!    واشنطن توافق على سحب قواتها من النيجر    الخطوة التالية    ملف السعودية لاستضافة «مونديال 2034» في «كونجرس الفيفا»    سوق الابيض يصدر اكثر من عشرين الف طنا من المحاصيل    الأكاديمية خطوة في الطريق الصحيح    شاهد بالصورة.. المذيعة السودانية الحسناء فاطمة كباشي تلفت أنظار المتابعين وتخطف الأضواء بإطلالة مثيرة ب"البنطلون" المحذق    شاهد بالصور.. الفنانة مروة الدولية تكتسح "الترند" بلقطات رومانسية مع زوجها الضابط الشاب وساخرون: (دي اسمها لمن القطر يفوتك وتشتري القطر بقروشك)    شاهد بالصور.. الفنانة مروة الدولية تكتسح "الترند" بلقطات رومانسية مع زوجها الضابط الشاب وساخرون: (دي اسمها لمن القطر يفوتك وتشتري القطر بقروشك)    شاهد بالصورة.. زواج الفنانة الشهيرة مروة الدولية من ضابط شاب يقيم بالقاهرة يشعل مواقع التواصل السودانية    القوة المشتركة لحركات الكفاح المسلح: بدأت قواتكم المشتركة الباسلة لحركات الكفاح المسلح بجانب القوات المسلحة معركة حاسمة لتحرير مصفاة الجيلي    مصطفى بكري يكشف مفاجآت التعديل الوزاري الجديد 2024.. هؤلاء مرشحون للرحيل!    شاهد مجندات بالحركات المسلحة الداعمة للجيش في الخطوط الأمامية للدفاع عن مدينة الفاشر    إجتماع مهم للإتحاد السوداني مع الكاف بخصوص إيقاف الرخص الإفريقية للمدربين السودانيين    وكيل الحكم الاتحادى يشيد بتجربةمحلية بحرى في خدمة المواطنين    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    ضياء الدين بلال يكتب: نحن نزرع الشوك        غوتيريش: الشرق الأوسط على شفير الانزلاق إلى نزاع إقليمي شامل    أنشيلوتي: ريال مدريد لا يموت أبدا.. وهذا ما قاله لي جوارديولا    غوارديولا يعلّق بعد الإقصاء أمام ريال مدريد    محاصرة مليوني هاتف في السوق السوداء وخلق 5 آلاف منصب عمل    نوير يبصم على إنجاز أوروبي غير مسبوق    بايرن ميونخ يطيح بآرسنال من الأبطال    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    مباحث المستهلك تضبط 110 الف كرتونة شاي مخالفة للمواصفات    قرار عاجل من النيابة بشأن حريق مول تجاري بأسوان    الرئيس الإيراني: القوات المسلحة جاهزة ومستعدة لأي خطوة للدفاع عن حماية أمن البلاد    خلال ساعات.. الشرطة المغربية توقع بسارقي مجوهرات    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التمسح بالشريعة.. لن ينفع النظام هذه المرة ! شمس الدين ضوالبيت
نشر في سودانيزاونلاين يوم 02 - 02 - 2013

في خطبته الشهيرة في مدينة القضارف, قبل أيام معدودة من تصويت السودانيين الجنوبيين بما يقارب الإجماع على الانفصال في يناير 2011, وضع البشير النقاط على الحروف, حول مصدر الشرعية الذي ينوي نظامه اللجوء إليه, في مرحلة ما بعد الانفصال. فقد قال في تلك الخطبة: إنه إذا اختار الجنوب الانفصال, فلن يكون هناك مجال للحديث مجدداً عن أي تنوع عرقي أو ثقافي أو ديني للسودان, بل ستكون الشريعة هي مصدر التشريع, واللغة العربية هي اللغة الرسمية للدولة.
ومن المعلوم أن كل نظام حاكم لا بد له من شرعية ما يستند إليها ويستمد منها سلطاته ومبررات بقائه في الحكم. فالحكومات في الأنظمة الديمقراطية تستمد مشروعيتها من رضا الناس عنها, ومن السند الجماهيري الذي تحصل عليه عبر الانتخابات. وتبني الحكومات الدكتاتورية شرعياتها على ترسانة من الدعاوى, سواء كانت هذه الدعاوى عرقية أو طبقية أو ايديولوجية, أو فزاعة تخيف بها. بالنسبة للأنظمة الدكتاتورية فليس بالضروة أن تكون هذه الشرعية هي شرعية في أعين الشعب, وإنما تأتي الحاجة الملحة إليها لضمان تماسك وفعالية أجهزة القمع, وإعطاء المبررات لأفعالها, وإقناع المنتمين إلى هذه الأجهزة بالدفاع عن النظام حتى لو اقتضى ذلك التضحية بأرواحهم.
وفي السودان استندت الحكومات التي جاءت بعد انتفاضتي اكتوبر 1964 وابريل 1985 على الشرعية الثورية لمدة عام في كل منهما, ثم على الشرعية الانتخابية بعد ذلك. أما الحكومات العسكرية فقد تقلبت بين شرعيات مختلفة. فبدأ نظام نميري, على سبيل المثال, اشتراكياً يسارياً متحالفاً مع المعسكر الشرقي حينها, وانتهى بتطبيق ما قال إنه الشريعة الإسلامية, وترحيل الفلاشا, حليفاً للولايات المتحدة واسرائيل .
وقد بدأت الحركة الإسلامية السودانية مسارها في الحكم بالشرعية الثورية عندما استولت على السلطة في يونيو 1989, وأخفت هويتها العائدة للجبهة الإسلامية القومية (التنظيم السياسي للأخوان المسلمين) على مدى عام ونصف, أرسلت خلاله بقيادات الجبهة الإسلامية – تمويها - إلى السجون, وتبرأت من الانتماء إليها, لأن الشعب السوداني لم يكن ليقبل بحكم الجبهة الإسلامية القومية, بعد تجربة تحالف الإخوان المسلمين مع نظام نميري, وارتباطهم بأسوأ ممارساته, ودفعه لتطبيق شائه ومنفر للشريعة الإسلامية, فيما عُرف وقتها بقوانين سبتمبر 1983.
وقد إدعى القادة العسكريون للانقلاب, وكانوا في الحقيقة ضباطاً من الأخوان المسلمين, أنهم يتحدثون بإسم القوات المسلحة, وأن "الشرف الوطني للقوات المسلحة هو الذي دفعهم لإتخاذ موقف أيجابي من اجل إنقاذ الوطن من حكم الأحزاب الذي قاد إلى الفوضى والفساد واليأس, وافشل التجربة الديمقراطية, وأضاع الوحدة الوطنية بإثارة النعرات العنصرية والقبلية, حتى حمل أبناء الوطن الواحد السلاح ضد إخوانهم في دارفور وجنوب كردفان, علاوة على ما يجرى في الجنوب من مأساة وطنية وإنسانية.." (البيان رقم 1).
واستغلت الحركة الإسلامية السودانية ذلك العام ونصف العام للسيطرة على مفاصل السلطة, فيما عُرف ب"لتمكين", ويُعرف اليوم ب"أخونة الدولة". فتم خلال الأربعة أعوام الأولى للنظام إحالة حوالي مائة ألف موظف من قيادات الخدمة المدنية والأجهزة النظامية إلى الاستيداع (الصالح العام), وحلت محلهم عناصر من حركة الأخوان المسلمين أو المتعاطفين معهم, أو ممن تسهل السيطرة عليهم. ثم أعلن النظام في الأول من يناير 1991 تطبيق الشريعة الإسلامية, لتصبح, على مدى الأعوام السبعة التالية, المصدر الأول لشرعية النظام, والمحرك الفعال لجموع كثيرة من السودانيين, صدقوا شعاراته المرفوعة عن أن "كل شئ هولله.. لا للسلطة ولا للجاه".
في ظل شرعية الشريعة, أكمل النظام عملية التمكين, وذلك ب"سلفنة" مؤسسات الدولة والمجتمع, وإعطائها أهداف ومهام وأشكال مأخوذة عن تصورات الفكر السلفي التقليدي, وإحكام سيطرة الحركة الإسلامية عليها. وشملت هذه العملية مؤسسات التعليم العام والعالي, والقوانين, والإعلام, والخدمة المدنية, والقضاء, والمصارف والمؤسسات الاقتصادية الأخرى. كذلك أسس النظام ما عُرف ب"المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي", وهو التنظيم الذي ضم المجموعات السلفية المتطرفة من أنحاء العالم, ومن بينهم أسامة بن لادن ومجموعته, لإدارة علاقاته الخارجية.
في ظل شرعية الشريعة أيضاً, عدل النظام العقيدة القتالية للقوات المسلحة السودانية لتصبح ‘الدفاع عن العقيدة‘, برغم أن الجيش السوداني كان يضم أعداداً كبيرة من غير المسلمين, وأسس النظام مليشيات دينية موازية للقوات المسلحة السودانية, هي قوات الدفاع الشعبي, وفتح المعسكرات للتدريب العسكري للجهاد, وأعلن الحرب الجهادية في مواجهة التمرد الأهلي في جنوب السودان, وأرسل عشرات المتحركات العسكرية, المكونة من مجاهدين إسلاميين لقتال التمرد في الجنوب, ممن كان هدفهم نشر الإسلام أو الدفاع عنه, في منطقة تدين غالبيتها بأديان أفريقية محلية. وكان هذا التصعيد الديني الإسلامي في مواجهة المطالب السياسية للجنوب هو الذي دفع حركة المقاومة الرئيسية في الجنوب للمطالبة بحق تقرير المصير.
غير أن عمليات القمع الواسعة للحريات السياسية والمدنية, وانتشار "بيوت الأشباح" التي أسستها أجهزة النظام الأمنية, لاحتجاز واستجواب المعارضين السياسيين والنقابيين, ومارست فيها التعذيب الممنهج والمسنود بفتاوى دينية, إضافة إلى فشل السياسات الاقتصادية, والتدهور المريع في قطاع الخدمات, وانهيار قيمة العملة الوطنية, وإنهاك المواطنين والقطاعات الإنتاجية بالضرائب والرسوم لتمويل الحرب الجهادية في الجنوب- كشفت هذه معاً عن الطبيعة الأداتية السلطوية للشريعة لدى النظام, وفرضت عليه عزلة داخلية وخارجية أصبحت تهدد بقاءه. لكن بنهاية تلك السنوات السبع كان النظام قد تمكن بمساعدة الصين الجائعة للموارد الأفريقية من استخراج وتصدير البترول السوداني.
منذ ذلك اليوم, ومع مغادرة أول شحنة نفط سوداني لميناء بشائر على البحر الأحمر, وعلى مدى السنوات السبع التالية, صار استخراج وتصدير البترول السوداني هو المصدر الاول لشرعية النظام. وأصبحت صور أنابيب النقل, وصهاريج المصافي, وسفن الشحن, وزيارات البشير ووزرائه لمواقع الإنتاج, هي التي تتصدر نشرات الأخبار التلفزيونية, وتسود صفحات الصحف, وتملأ خطب الحاكمين في اللقاءات العامة.
كذلك وفر استخراج وتصدير البترول موارد كبيرة للنظام للصرف على أجهزته الأمنية, ولشراء السلاح لحربه في الجنوب, ولشراء الذمم بهدف تكسير الأحزاب وتقسيمها والقضاء على مقاومتها. وفوق ذلك وفرت الموارد النفطية موارداً ينهبها سدنة سياسات التمكين, الذين سيطروا على كل مفاصل الدولة, وقطاع الأعمال, فأثروا ثراءاً فاحشاً, وفسدوا وإفسدوا بصورة لم يشهد السودان لها مثيلاً من قبل.
خلال هذه السنوات السبع التالية ظلت الشريعة هي خط الشرعية الثاني, تُستنفر وتُستنهض من أجل الحرب التي ظلت دائرة في الجنوب, برغم أن قادة الإنقلاب قالوا, في أيامهم الأولى, إنهم سيقضون عليها في ستة أشهر, وفي مواجهة العزلة الخارجية التي جلبتها على النظام مغامراته الصبيانية, بدءاً بتأييد احتلال العراق للكويت 1991, مروراً بمحاولة اغتيال حسني مبارك في اديس ابابا 1995, وحتى تحالفه المعلن مع الإرهاب العالمي ممثلاً في اسامة بن لادن وكارلوس الفنزويلي.
غير أن القمع الذي ظل النظام يمارسه, وسوء السياسات, والفساد الذي تفشى أهدر الموارد التي توفرت من الثروات النفطية. فلم تذهب هذه الموارد إلى القطاعات الزراعية والإنتاجية الهائلة التي تذخر بها البلاد, بل ذهبت للصرف البذخي في القطاعات السيادية والأمنية. وذلك بينما تصاعدت الحروب الأهلية, بفعل السياسات الآحادية التي ظلت تهدف لصب جميع مكونات المجتمع السوداني المتنوع في قالب عربي إسلامي. فتمددت الحروب إلى شرق السودان, واشتعلت الحرب في دارفور. وصارت تكاليف الحروب الأهلية المستعرة تستهلك كل عائدات النفط, بينما وصلت عزلة النظام بسبب الانشقاق الكبير الذي حدث في أوساطه, وانغلاقه, وأخطائه السياسية, وفساد منسوبيه مدى أصبح يهدد بالإطاحة به.
وكانت تلك هي الأسباب التي دفعت النظام إلى الدخول في مفاوضات جادة مع الحركة الشعبية لتحرير السودان, أكبر الفصائل المسلحة التي كانت تحاربه آنذاك, وتوصل معها لإتفاق للترتيبات الأمنية ووقف العدائيات في سبتمبر 2003, كجزء من إتفاقية السلام الشامل, التي دخلت حيز التفيذ في يناير 2005. وشملت الإتفاقية ترتيبات واسعة لإعادة هيكلة الدولة السودانية من خلال انتقالات ديمقراطية على المستويات السياسية والاجتماعية الاقتصادية واللامركزية, ووثيقة متقدمة للحقوق والحريات الأساسية. كما تضمنت أيضاً إتفاقاً بإجراء استفتاء يعطي الحق للسودانيين الجنوبيين في الانفصال, وتكوين دولتهم المستقلة.
وترتب على إتفاقية السلام الشامل, التي شاركت في التوقيع عليها كضامن قوى دولية واقليمية على رأسها الولايات المتحدة الامريكية, أن حصل النظام في السنوات السبع التالية, ما بين سبتمبر 2003, حين تم التوقيع على إتفاق الترتيبات الأمنية, وحتى ديسمبر 2010, حين ألقى البشير خطبته تلك التي أشرنا إليها في مدينة القضارف – حصل على شرعية دولية قائمة على الاعتراف بدوره في التوصل لإتفاق سلام, أوقف الحرب التي دارت لما يقارب ربع قرن في جنوب السودان.
خلال هذه السنوات السبع, وعلى الرغم من تراجع الشريعة لتصبح الخط الثالث للشرعية بالنسبة للنظام, تالية للشرعية الدولية وشرعية البترول, إلا أنها ظلت المصدر الرئيسي للتشريع والحكم في شمال السودان, وشعاراً يُرفع في وجوه الخصوم السياسيين, أو لحشد التابعين عند اللزوم, ومعوقاً لتنفيذ روح إتفاقية السلام الشامل, وبخاصة الجوانب المتعلقة بحقوق الإنسان, والقبول بهوية تعددية, وهي الجوانب التي كان يعول عليها للحفاظ على وحدة السودان.
ولم يستفد النظام من سنوات الفترة الانتقالية لإتفاقية السلام الشامل, والشرعية الدولية التي جاءت معها, لينتهج سياسات تكسبه شرعية جماهيرية محلية, بل قام بأكبر عملية تزوير شهدها تاريخ السودان, لانتخابات تعددية. فحصل المؤتمر الوطني الحاكم, الذي لم تحصل سابقته 'الجبهة الإسلامية القومية‘ إلا على حوالي 7% من أصوات الناخبين في انتخابات عام 1986, حصل على 99% من مقاعد المجلس الوطني الحالي في انتخابات 2010. وقد كافأ المجتمع الدولي النظام على قبوله بإجراء الاستفتاء, بأن أغمض عينيه عن هذا التزوير.
ولكن بانفصال الجنوب رسمياً في يوليو 2011, ذهبت الشرعية التي أسبغها المجتمع الدولي على النظام. وذهبت معها شرعية البترول, لأن أكثر من 75% من الكميات المستخرجة تقع داخل حدود دولة جنوب السودان. كما ذهب معها ما تبقى من إدعاءات الوطنية والحفاظ على وحدة التراب من نوع التي حوتها البيانات الأولى للنظام.
وأصبحت الآلة القمعية للنظام, من دون غطاء 'شرعي‘ يضمن تماسك وفعالية أجهزتها, ويعطي المبررات لأفعالها, ويقنع المنتمين إليها بالدفاع عن النظام حتى لو اقتضى ذلك التضحية بأرواحهم. وكانت تلك هي اللحظة التي وجد فيها النظام أنه لا مناص له من العودة للتمسح بالشريعة, ودفعها للواجهة مرة أخرى. وذلك في مواجهة أزمة اقتصادية خانقة خلفها توقف عائدات النفط, وتفجر حروب أهلية جديدة في جنوب كردفان والنيل الأزرق, إلى جانب الحرب الدائرة في دارفور مما تتطلب دعم مقاتلين جدد, وذلك بالإضافة إلى الاستياء والتذمر الشعبي الواسع من سياسات النظام التي حملها الشعب وزر انفصال الجنوب.
وكانت خطبة البشير في القضارف هي الإعلان عن هذه العودة, وتبعتها بقية قيادات النظام وأجهزته ومؤسساته الرسمية والأهلية. فاحتفت الدولة وأجهزة الإعلام الرسمية إحتفاءاً واسعاً بأن نسبة المسلمين في السودان ارتفعت إلى 97% بانفصال الجنوب. وتم تفعيل قوانين لم تُفعل من قبل, فصدرت لأول مرة أحكام تحت مادتي الردة, والرجم من القانون الجنائي لعام 1991, (لم ينفذ الرجم, بينما نُفذت الاستتابة في حكم الردة). وأتصلت لقاءات الحاكمين يتقدمهم البشير بأئمة المساجد واصفين المصاعب التي تمر بها البلاد بأنها تهدف "لإجبار السودان على التنازل عن دينه وثوابته".
على المستوى الأهلي تشكلت, في فبراير 2012, 'جبهة الدستور الإسلامي‘ , التي تضم المنظمات الأهلية التابعة للنظام, مثل هيئة علماء السودان, والرابطة الشرعية, وأصدرت مسودة لدستور إسلامي يتعامل مع السودان بوصفه "دار إسلام", تسري عليه أحكامها. وفصلت الجبهة مسودة الدستور وفقاً لهذه الأحكام, ثم نظمت بعد ذلك حملة منسقة تدعو البشير لاعتماد المسودة دستوراً للسودان. كذلك انتظمت حملة يقودها أئمة المساجد تبرر الغلاء وارتفاع الأسعار الذي أعقب انفصال الجنوب, وأنه يجب ألا يصرف أحداً عن الشريعة, مذكرة بأن الرسول صلى الله عليه وسلم 'كان يعصر بطنه بالحجر من الجوع, دفاعاً عن الشريعة‘.وتكثف هذا الإلتجاء إلى الشريعة بعد اشتعال الحرب في جنوب كردفان, ثم في النيل الأزرق, في 2011.
وقد ازدادت وتيرة التمسح بالشريعة, على وجه الخصوص, بعد الإتفاق على "ميثاق الفجر الجديد" بين القوى السياسية المدنية الرئيسية المعارضة للنظام في الوسط والقوى السياسية الرئيسية الحاملة للسلاح في 'الجبهة الثورية‘,في الخامس من يناير من هذا العام. وهو الوثيقة التي وقع عليها أكبر تجمع للقوى السياسية في تاريخ السودان, وتشتمل على أسس وترتيبات الحكم للفترة الانتقالية التي تعقب أسقاط نظام البشير, ومن بينها الفصل بين الدين والدولة, ومنع استغلال الدين في العمل السياسي.
فجاء أول رد فعل للحكومة على الميثاق, من معسكر المليشيا الدينية التي خاض بها النظام حربه الجهادية في جنوب السودان, وذلك على لسان المساعد الأول للبشير, والحاكم الفعلي للبلد, الذي قال إن "الصفوف تباينت الآن ما بين صف عباد الله وأتباع رسوله, وصف العلمانيين الذين لا يقرون لله سبحانه وتعالى بشريعة ولا بتوجيه ولا بكتاب منزل".
واختار البشير تجمعاً كبيراً للطرق الصوفية, ليتوعد الموقعين على الميثاق بأنهم "سيجدون الحسم والحساب", ثم ليعلن في مسابقة لحفظة القرآن, اسبغ عليه منظموها لقب "خادم القرآن الكريم", أنه "لا مجال للخروج من الأزمات التي تعاني منها الأمم إلا بالعودة للكتاب", وأن "الدولة ستمضي بالشريعة رغم أنف أنصار الفجر [الذي أسماه] الكاذب". وجاء بعده نائب رئيس الجمهورية - في افتتاح معهد للقرآن الكريم - ليهدد بحظر نشاط الأحزاب الموقعة وليعلن أن "السودان بلد إسلامي مية في المية, و[الما عاجبو يشوف ليهو بلد تانية]".
وكما هو معتاد في مثل هذه الأحداث, لم يتخلف والي ولاية الخرطوم والقيادي الكبير في الحزب الحاكم. إذ جمع أئمة المساجد بالعاصمة الخرطوم, ليحدد لهم الخطوط العريضة لخطبهم في صلوات الجمع التالية, قائلاً إن "وثيقة ما يسمى ب(الفجر الجديد) التي وقعت عليها أحزاب سودانية معارضة و (الجبهة الثورية) المتمردة ، تهدف إلى طمس هوية الشعب السوداني وفرض الفجور والمجاهرة بالمعصية التي ترفضها فطرة الإنسان السوي". وبالطبع فقد صاحبت ردود الفعل الحكومية حملة إعلامية ضارية من وسائل الإعلام الرسمية والصحافة السودانية- التي تسيطر عليها جميعاً الأجهزة الأمنية- تهاجم الموقعين على الميثاق, وتدعو لنصرة الشريعة, ومحاربة 'الكفرة‘, معيدة إلى الذاكرة حملات التعبئة الشهيرة إبان الحرب الجهادية في التسعينات من القرن الماضي.
لكن منذ تلك الحرب الجهادية التي انتهت بانفصال الجنوب, كانت قد جرت مياه كثيرة تحت جسر الشريعة. فالحديث عن العودة للشريعة بعد ربع قرن من الزمان ظلت تحكم فيه الحركة الإسلامية السودانية باسم الشريعة, بعد أن أعلنت عن تطبيق أحكامها في الأول من يناير 1991, - هذا الحديث عن العودة للشريعة بدا شاذاً وغريباً. ولم يقلل من غرابته قول البعض بأنه "تطبيق كامل للشريعة" هذه المرة.
ذلك أن النظام طبق, في السنوات الأربع وعشرين التي قضاها في الحكم, كل أحكام الشريعة المعروفة, بما فيها جميع أحكام العقوبات الحدية (متضمنة الردة), واحكام المعاملات بما في ذلك المعاملات المصرفية والبيوع, وأحكام الأحوال الشخصية بما في ذلك تحديد سن الزواج للبنات بعشر سنوات, وحرم بالقانون كافة محرمات الشريعة, وفرض كل الفرائض ما استطاع إلى ذلك سبيلاً, بما في ذلك الصوم, بإقفال كل المطاعم في رمضان, والتوسع في شعيرة الزكاة لكي تصبح ,واجبة على كل ما يطلق عليه مال إذا بلغ النصاب‘.
كذلك أحيا النظام الجهاد, وأعلن الحرب الأهلية التي كانت تدور في الجنوب حرباً جهادية, وبعث بعشرات الآلاف من المجاهدين إلى مسارحها. بل إن هناك تقارير تقول بظهور ممارسات شبيهة بالرق, في مناطق العمليات العسكرية, قبلت الحكومة أن تطلق عليها "الاختطاف", وكونت لها آلية رسمية لمعالجتها. كذلك لم تعط الحكومة تصريحاً لبناء حتى كنيسة واحدة منذ قدمت إلى السلطة, ولم تعين إمرأة واحدة كقاضية, لأن تاريخ الإسلام لم يعرف مثل هذا التعيين, في قولها. في الحقيقة لم يترك النظام حكماً من أحكام الشريعة لم يطبقه, إلا "الجزية", التي لم يجرؤ على فرضها على غير المسلمين.
من جانب آخر, لم تعد الحركة الإسلامية ذاتها موحدة خلف النظام كما كانت في التسعينات. فقد خرج عنها مؤسسها وباني مجدها الدكتور حسن الترابي وأسس, حزب المؤتمر الشعبي, أحد أكثر الأحزاب معارضة للنظام. وأسس خارجون عن الحركة الإسلامية حركة مسلحة تقاتل النظام الآن في دارفور, هي حركة العدل والمساواة. وبدأت تنهال على قيادة الحكم والحزب, منذ عام 2010, سيل من المذكرات الاحتجاجية من داخل صفوف الحزب والحكم, بل ومن عتاة المدافعين عن النظام في سنوات التسعينات.
وقد بدأت هذه المذكرات الاحتجاجية بمذكرة رفعها إلى البشير, في عام 2010, 700 من ضباط القوات المسلحة, طالبوه فيها بالالتفات إلى الوضع الاقتصادي المتردي للبلاد, والفصل بين الحزب الحاكم والدولة, وبين أجهزة ومؤسسات الدولة والعمل السياسي. كما دعوا إلى توافق وطني وسياسي, وإلى حل شامل للأزمة السودانية بدلاً عن الحلول الجزئية - للحيلولة دون تفكك أجزاء أخرى من السودان.
وفي أواخر 2011,جاءت المذكرة المعروفة بمذكرة "الألف أخ", وجميعهم من القيادات الملتزمة للحركة الإسلامية, واتهم هؤلاء النظام بالتعامل الخاطئ مع النزاع في دارفور, وتزكية النعرات الجهوية والقبلية, واتهموا قادة النظام بالتهاون مع الفساد, وأن بعضهم "سقط في امتحان السلطة والمال وأصبحوا من المفتونين بهما". ودعوا لفك الارتباط بين الدولة والحزب الحاكم, وإقامة قضاء مستقل, وتحييد مؤسسات الدولة, وعدم اقحامها في الصراع السياسي.
كذلك صدرت مذكرة احتجاجية من المجاهدين, الذين قضى بعضهم سنوات يحاربون قوات الحركة الشعبية في الجنوب دفاعاً عن النظام, تطالب بإصلاحات في الحكم ومحاربة الفساد المستشري. ولم يلبي دعوة الجهاد, التي أطلقها النظام بعد اندلاع الحرب في جنوب كردفان والنيل الأزرق في 2011, إلا بضع مئات من المدعوين, بالمقارنة مع الآلاف الذين كانوا يتدافعون لتلبية مثل هذه الدعوة, في التسعينات. وانتهى التنظيم الذي كونه المجاهدون ليجمع شملهم منبوذاً ومطارداً من النظام, وأجهزته الأمنية.
أيضاً رفع نواب للحزب الحاكم في البرلمان مذكرة تطالب بإصلاحات في الحكم. كما قدمت القيادات الفكرية للحركة الإسلامية والمثقفين وأساتذة الجامعات من الإسلاميين مذكرة تدعو إلى "تغيير النظام, وقيام نظام ديمقراطي يكفل حقوق المواطنة للجميع, ويفصل الحركة الإسلامية عن الحكومة". وجاء في تلك المذكرة أن "اعتبار النظام أميناً على المشروع الإسلامي, أو داعماً له هو ضرب من خداع النفس, والتهرب من مواجهة الواقع".
وقد تصاعدت حدة الاحتجاجات على فساد الحكم وسوء السياسات, من داخل قواعد النظام, واتخذت أبعاداً خطيرة في النصف الثاني من عام 2012. فبدأ شباب الحزب يهاجمون البشير بجرأة متناهية في لقاءاته معهم, مشيرين إلى فساد أسرته. ثم كون هؤلاء تنظيماً أسموه 'المؤتمر الوطني ..الإصلاح', أصدر كتباً وبيانات راتبة, تكشف فساد الحكم وتدعو لتغييره. ثم كشف النظام, في منتصف نوفمبر 2012, عن محاولة انقلابية قال إنها ثالث محاولة في ظرف ستة أشهر, واعتقل على إثرها عشرات العسكريين. ثم أحال النظام بداية هذا العام 43 ضابطاً عظيماً إلى المعاش. وقد أتضح أن من قادوا المحاولة, ومن أحيلوا إلى المعاش هم من الصف الإسلامي الأول في القوات المسلحة, من الذين "حاربوا سنوت طويلة لتأمين السلطة التي ينعم بها أصحاب الكراسي وأسرهم", كما جاء في بيان أصدره مدافعون عنهم.
لذلك فإن النظام عندما يعود مضطراً يريد رفع رايات الشريعة بحثاً عن شرعيتها التي وفرت له غطاءاً واسعاً وطاقات هائلة في التسعينات, فإنه يفعل ذلك هذه المرة, من دون الذين جاءوا به إلى الحكم, ورفعوا معه راياتها حينذاك. بل يعتمد, بدلاً عن القاعدة العريضة من الإخوان المسلمين ذوي التعليم المدني أو العلماني الرفيع, الذين توصلوا إلى أن مساندة إدعاءات النظام بالشريعة, هي (ضرب من خداع النفس, والتهرب من مواجهة الواقع)- يعتمد بدلاً عنهم على المتشددين من الإسلاميين المتحالفين مع الوهابيين, من خريجي المدارس والمعاهد الدينية السودانية والخليجية, القريبين من تظيمات القاعدة وفروعها الإرهابية الأخرى.
كذلك عندما يعود النظام إلى التمسح بالشريعة فإنه يعود إليها بعد ربع قرن, فشلت أثناءه سياساته المستندة إليها. فانفصل جنوب السودان, وأشتعلت ثلاث حروب أهلية إضافية, واستشرى الفساد, وانهار الاقتصاد السوداني, وأصبحت قيمة العملة الوطنية تساوي 1/600 من قيمتها عام 1989, وترك السودانيون بلادهم بمئات الآلاف مهاجرين إلى أي مكان يقبلهم, بما في ذلك اسرائيل.
وهذا يعني أيضاً أن النظام عندما يعود إلى الشريعة هذه المرة, فإنه يعود إلى قوانين سبتمبر الفجة لعام 1983, عندما بتر نميري أيادي أكثر من مئتين من البسطاء والفقراء خلال عام واحد, في مقابل أقل من خمس حالات في ظل النظام الحالي (مع الإقرار بفظاعة العقوبات الجسدية أياً كان عددها). فالشريحة الضيقة المكونة من تحالف المتشددين والوهابيين التي أصبح النظام يعتمد عليها الآن- بعد أن كانت مجرد فزاعة يخيف بها الغرب- والتي يعمل بشتى الطرق على إرضائها, ومن ذلك إقفال المركز الثقافية ومنظمات المجتمع المدني التي تعمل في مجالات الديمقراطية وحقوق الإنسان والمرأة, التي ترى هذه الجماعة أنها مخالفة للشريعة التي تنادي بها - هذه الشريحة, فضلاً عن أنها صغيرة جداً, لا تملك أفقاً يقيل عثرة النظام, إضافة إلى أنها شريحة متفلتة, غير مأمونة العواقب كما أثبت تاريخها. لذلك فإنها تضر بالنظام وتفاقم من عزلته داخلياً ودولياً بأكثر مما تفيده, وستكون مجرد وبال عليه وعلى السودان من بعده.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.