من سوء حظ الجمهوريين أن البيئة الثقافية السودانية لم تكن صالحة لانتشار ونمو حركتهم. فالشعب المتدين يتعامل بوضوح مع مصادر العقيدة والشريعة، وهي مصادر محددة عنده، ولم تختلط كما عند الجمهوريين. ولم تنتشر في السودان الإنقسامات الفكرية الحادة في إطار الإسلام. فالكل يتبعون الدين الواضح المحدد على نهج إمام الإئمة سيدنا الإمام مالك إمام دار الهجرة، ومذهبه أقدم المذاهب الفقهية وأصحها. ولا أحد في السودان يجنح إلى تقسيم القرآن الكريم، إلى آيات فروع أو آيات أصول، كما يفعل الجمهوريون. كما لم يجد الشطح الإشراقي الفلسفي أرضا خصبة في البيئة الفكرية في السودان، لاسيما في العصر الحديث. وهذا ما عجز في استنتاجه البروفيسور بول ماجناريلا الذي كتب دراسة ترويجية عن الحركة الجمهورية، ذكر في خاتمتها أنه:" بالرغم من أن آراء الجمهوريين تعتبر غير تقليدية، إلا أن أكثر المعارضة التي تواجههم لم تنشأ لاختلافاتهم الثيولوجية عن سائر المسلمين، وإنما لأسباب سياسية واقتصادية . ذلك أن هذه الحركة الإسلامية (الجمهورية) الجديدة تمثل خطراً يهدد السلطات الإسلامية التي تجاوزها الزمن ". (انظر: The Republican Brothers: A Reformist Movement in the Sudan, (The Muslim World) January 1982, P.240) لكن مع ذلك لم تتمكن الحركة الجمهورية من النمو المتصل المتسارع. وقد ذكر البروفيسور بول ماجناريلا في مقاله آنف الذكر أن الدكتور عبد الله النعيم، أحد قادة الحزب الجمهوري، أخبره بأن للحزب بضعة مئات من الأعضاء، ونحو ألف من المؤيدين. وبقيت عضوية الحركة صغيرة بسبب عدم مناسبة المناخ الثقافي السوداني لنموها وترعرعها فيه. ولم تحظ الحركة الجمهورية بماخ مواتٍ كذاك اذي حُظيت به نظيرتها الحركة القاديانية في الهند وباكستان، حيث الانقسامات الدينية الحادة واختلاط الفكر الإسلامي أحياناً بالفكر الهندوسي، كما تم على يد (جورنا ناك) الذي مزج بين بعض الأفكار الإسلامية والهندوسية، ليؤسس بذلك ديانة ( السيخ). أو كما تم على يد جلال أكبر الذي جمع أفكاراً مختلفة من الهندوسية والزرادشتية والإسلام، ثم ادعى أنه ظل الله في الأرض. أو ما جرى أخيرا من ميرزا غلام الذي مزج بين أفكار من المسيحية والإسلام وأسس نحلة القاديانيين. وهكذا ظلت أفكار الجمهوريين بعيدة عن ذهن المسلم العادي في السودان. ومع حرارة الجمهوريين وإخلاصهم لدعوتهم، ونضالهم في سبيلها، إلا أن فكرة واحدة من أفكارهم مثل فكرة رفع الصلاة، كانت كفيلة بنسف الأفكار الأخرى للحزب، وتنفير الناس منها إن المثقفين لم يستسيغوا كثيرا ولا قليلاً مذهب الجمهوريين في نظرية المعرفة، الذي يتخطى العقل والحِسِّ، ويعتمد على الحَدْسِ والتلقي المباشر )كفاحا) عن الله عز وجل! كما لم يستسيغوا منطق الجمهوريين الجدلي، والذي من أبرز سماته إهمال اللغة، ورفض الإحتكام إليها، فالمعاني عندهم) تنزلات(، لا تسعها اللغة، وإنما يسعها الذوق وحسب! والقرآن في نظرهم، أكبر من أن تحتمله اللغة، أو تحتويه ألفاظها. ويستشهدون على ذلك بقول الله تعالى:" لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله " فكيف يتصدع الجبل، ولا تتصدع اللغة، إن حملت معاني القرآن الكريم؟! ولذلك يفسرون القرآن اعتماداً على الذوق الملهم، وقد مر بنا تفسيرهم لقول الله تعالى:" خلقكم من نفس واحدة "، واستنتاجهم أنها نفس الله تعالى، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا! وقد فسروا قول الله تعالى:" قل الله " بأن معناها: كن الله! وفسروا: قول الله تعالى:" والتين والزيتون وطور سنين "، بأن التين هو العقل، والزيتون هو القلب، وطور سنين هو النفس. وإلى آخر تلك االتفسيرات التي لم يقرهم عليها مجادلوهم من المثقفين الذين انصرفوا عن الحوار معهم لافتقاد المنهج الموحد في الحوار. ويعتقد البروفيسور شوقي بشير، الذي كتب أطروحته التي نال بها جائزة الدكتوراة في نقد حركة الجمهوريين، وقدم بذلك أقوى مادة علمية في نقدهم، أن انقطاع الحوار بين المثقفين والجمهوريين، أدى إلى عدم انكشاف أخطاء الجمهوريين. وربما كان قول البروفيسور صحيحاً، ولكن ربما كان كثير من المثقفين والمفكرين السودانيين، ولا سيما الإسلاميين منه، قد راهنوا على عدم استجابة البيئة السودانية لأفكار الجمهوريين، ولذلك لم يعملوا أقلامهم في الرد عليهم، كما فعل العلامة الدكتور محمد إقبال، والعلامة الإمام أبوالأعلى المودودي، والعلامة الإمام أبو الحسن الندوي في نقد حركة القاديانيين. العداوات التي أَضرت بهم ولقد صب الجمهوريون، عداواتهم على مختلف الجبهات الفكرية العاملة في وسط الشعب، ولم يصطفوا أحدا بالوداد، إلا من كان من أمر ودادهم للحكم اليساري في عهد جعفر محمد نميري. وقد أصدر الجمهوريون عدة كتيبات في نقد كل طائفة، أو حزب، أو مؤسسة إيدولوجية. وكذلك كرسوا كتيبات أخرى لنقد بعض الأفراد. لقد نشروا عدة إصدارات في نقد الصادق المهدي وجماهير الأنصار، من بينها كتاب (هذا هو الصادق المهدي) والذي صدر في سنة 1982م. وكتبوا في نقد الحزب الإتحادي الديمقراطي كتابهم (المؤامرة) الصادر في سنة 1980م. وفي نقد الأخوان المسلمين عدة كتب من بينها كتابهم (بداية نهاية الإخوان المسلمين) الصادر سنة 1979م. وفي نقد أنصار السنة كتابهم (أبو زيد الوهابي) الصادر في سنة 1980م. وفي نقد وزارة الشؤون الدينية كتابهم (بيننا وبين الشؤون الدينية وأساتذتها من أزهريين وسعوديين) في سنة 1976م. وفي نقد القضاة (صفوا دائرة الأحوال الشخصية)، الصادر في سنة 1976م،. وفي نقد العلماء (ليسوا علماء الإسلام وإنما علماء آخر الزمان) الصادر في سنة 1976م. وهذه مجرد نماذج، وإلا فإنهم كرسوا في نقد كل طائفة ما يزيد على الأربعة أو الخمسة كتيبات. وللتعرف على نماذج من نقدهم، والذي كثيراً ما يتحاوز النقد الموضوعي ليصل إلى حدود الإرهاب الأدبي، نتعرض إلى نموذج لهذا النقد. فقد أختصوا الأستاذ أحمد البيلي، وكان من كبار رجالات وزارة الشؤون الدينية ، بقدر وافر من نقدهم، وبدلا من أن يتصدوا للرد على نقده العام لهم في الندوات والمحاضرات، إذا بهم يحاكمونه إلى السلطات الأمنية لحكومة نميري، وذلك لموقف فكري خاص اعتنقه، ودافع عنه طيلة حياته رضي الله تعالى عنه وأرضاه. يقول كتاب (الميزان)، والذي ألفه طائفة من الجمهوريين:" ما رأي السيد مدير مصلحة الدراسات الدينية، فيما دعونا إليه من تطوير المال، وذلك بالانتقال من النص الفرعي إلى النص الأصل، من الزكاة ذات المقادير إلى زكاة البنى، وقد أظلنا عهد الإشتراكية؟! هذا ما نريد السيد مدير مصلحة الدراسات الدينية أن يبينه في غير مواربة. (انظر: الإخوان الجمهوريون، الميزان، الخرطوم، ص 48). إنهم يستظهرون إذن بالحكومة الدكتاتورية، ويحرضونها على الأستاذ الداعية أحمد البيلي، ليوافقهم على أفكارهم، وإنها لمواجهة، كما قالوا، وليست حوارا ولا نقاشا. فإما أن يوافقهم على أفكارهم، وإلا فهو من أعداء الحكومة والشعب، وليستعد للفصل من الوظيفة وقطع الرزق، وربما ما هو أنكى من ذلك بكثير. وأما النموذج الثاني، فيكشفه لنا الدكتور عون الشريف، وزير الشؤون الدينية الأسبق، وهو رجل لم يكن يتصدى لهم كثيرا، ولكنه يكشف في كتاب أصدرته الشؤون الدينية بعنوان (رسالة خاتمة لا رسالتان)، أنه كان يتعرض لتهديد الجمهوريين فيقول:" أنا شخصيا لا أميل إلى مصادرة الفكر، مهما بلغ اختلافي معه، ولكني في نفس الوقت أرفض أساليب الضغط، التي يسلكها تلاميذ الأستاذ محمود محمد طه، والتي وصلت أحيانا إلى درجة التهديد والتلويح، بأن بعض السلطات العليا في الدولة معهم، إن هذا أيضا مصادرة لحرية المخالفين لهم في الرأي ". (انظر: عون الشريف قاسم، الإسلام: رسالة خاتمة لا رسالتان، وزارة الشؤون الدينية، الخرطوم ، ص 73 - 74). ولم ينحصر هذا النقد والعداء في المحيط الداخلي للمؤسسات السودانية، والمفكرين السودانيين، وإنما تعداهم إلى المفكرين الإسلاميين الآخرين، فأصدروا كتابا كبيرا في نقد الدكتور مصطفى محمود، وكتيبا في نقد الشيخ محمد متولي الشعراوي. وكتيبات أخرى في نقد الأزهر ورابطة العالم الإسلامي. وبالعموم فإنه لم يكد ينج أحد من سيل العداء الجمهوري. وفي النهاية اتجهوا بالعداء إلى حليفهم الوحيد، وهو نظام الحكم في عهد النميري، وهو النظام ذاته الذي كانوا يستخدمونه لإرهاب خصومهم، كما أقر بذلك أحد وزراء نميري السابقين. هل كان نميري معجبا بفكر محمود محمد طه؟ ويبدو أن علاقتهم كانت جيدة بحكام مايو، كما لوحوا بذلك يهددون الخصوم، وآية ذلك أن رئيس النظام المايوي، جعفر محمد نميري، كان معجبا بفكر محمود محمد طه، في وقت من الأوقات. وقد كشف لنا عن هذا الأمر المفكر الثقة الأستاذ، شيخنا وإمامنا، محمد جلال كشك، رحمه الله، الذي كان صديقا مقربا إلى النميري منذ أوائل عهد النظام المايوي إلى نهايته. وقد ذكر الأستاذ كشك أن نميري أهداه نسخته الشخصية من كتاب (الرسالة الثانية من الإسلام)، وعليها تعليقات إيجابية كثيرة:" عندي نسخة أعطاها لي الرئيس نميري بعد أن قرأها، وقد أشر في كل صفحة من صفحاتها بعلامة صح. وفي صفحة 32 كتب بخط يده صح 100 على 100. وعندما أعطاني هذه النسخة كان واضحا أنه لا يريد اتخاذ أي إجراء ضد الرجل ". (انظر: محمد جلال كشك جهالات عصر التنوير، مكتبة التراث، القاهرة،1410ه، ص8). ولكن اهتدى نميري في أخريات أيامه، كما اهتدى آخرون إلى انخداعهم بأطروحات الفكر الجمهوري. وعندما صدق على الحكم الصادر بقتل محمود حدا، وصف الأمر بأنه كان أكبر انتصار لثورة مايو على الشيطان.