[email protected] إذا أردت أن ترى عبث التحالفات السياسية في الواقع السوداني، فانظر – يا هداك الله – إلى الحزبين: الشيوعي والشعبي. وفي واقع الأمر لست متيقناً ما إذا كان توصيف (حزب) ينطبق عليهما بدقة وفق المنهج والمعايير التي اصطلح عليها في العلوم السياسية. والحقيقة ليسا وحدهما، فما من تنظيم سياسي في الساحة السودانية يمكن أن يقال عنه أنه جدير بهذا التوصيف بحذفاره. فإن كان ما يُسمى بالأحزاب التقليدية قمينة بهذه المفارقة، نظراً لطبيعتها الطائفية التي تتضاد مع المصطلح، فما بال الحزبين اللذين يدعيان الحداثة، بغض النظر عن الآيدولوجية الماضوية للثاني وجمود الأول الراهن في (الضل الوقف ما زاد) - بحسب تعبير المبدع الراحل عمر الطيب الدوش. وعليه فإن حالهما صار أشبه بحال كسيح وأعمى، كان بينهما ما صنع الحداد ويعيشان في قرية طاف عليها وباء فهجرها أهلها ركضاً باحثين عن ملاذ آمن. لم يجد العدوان اللدودان ثمة مناصٍ من تحالف فرضته الكارثة، فتواصيا على أن يمتطي الكسيح ظهر الأعمى ويفرا مع الهاربين. فعلا ذلك ولكن عادا سيرتهما الأولى دون أن يفلح العطار إصلاح ما أفسده الدهر، ولكن قل لي بربك - يا عزيزي القارىء - هل عرفت الكسيح من الأعمى؟ أعلم أنك لن تخطيء الإجابة، فوفقاً لمعطيات الوضع الراهن، إي منهما يمكن أن يكون هذا أو ذاك. لكن بصورة عامة فإن المفارقة التي لن تجد لها تفسيراً في واقعنا المريض، هي أن النشاط الحزبي يتطلب الديمقراطية منهجاً وتطبيقاً، ونحن نروم الديمقراطية نفسها من قوى سياسية تفتقرها. والمفارقة التي لن تجد لها تفسيراً هي أن الكيان الحزبي يفرض على عضويته الأطُر التنظيمية المتعارف عليها، ونحن نرزخ تحت نير أحزاب لا تملك في أضابيرها مجرد لوح محفوظ يضم أسماء منسوبيها. والمفارقة التي لن تجد لها تفسيراً هي أن العمل الحزبي قوامه العطاء ونحن نعيش في كنف أحزاب أصبحت وسيلة للثراء والرفاهية الشخصية، لدرجة صارت فيها ظاهرة الخروج والعودة دون حسيب أو رقيب أمراً عادياً. أما وإن شئت الحديث عن عدد عضويتها أو قاعدتها فسترهق من أمرك عُسراً! تقصياً للفرضية الأخيرة، كنت قد جلست إلى الدكتور حسن الترابي منتصف رمضان قبل الماضي وثالثنا الأستاذ كمال عمر، في هذا اللقاء الذي امّتد لنحو ثلاث ساعات، كانت شهية الترابي خلالها مفتوحة للكلام بحيوية يحسدها عليه من بلغ من العمر عتياً. لم يترك الترابي باباً إلا وطرقه، طاف بي وحلّق في سماوات طباقاً، بعضها سألته عنها وأخرى لم أتبرع بالسؤال عنها. وهنا فليسمح لي القارىء بانعطافة صغيرة عن موضوعنا (واقع الأمر وبالرغم من تقادم السنين لم أدرك تماماً أن ما سُمي بالمفاصلة بين القصر والمنشية مفاصلة حقيقية، إلا عندما تفرّست وجه الترابي وهو يتحدث عن حكام اليوم حواريو الأمس، وكان وقتها يضغط على أضراسه، وكذا إبهامه وسبابته كمن يهرس في شيء ما هرساً)! بيد أنني اتّخذت من ذلك منطلقاً لمعرفة حجم الحزب الذي يرأسه، وذلك بسؤاله عن الكيفية التي يريد بها إسقاط بنيه وإزاحتهم عن سدة السلطة. قلت له متعمداً استفزازاه، ولكن أين الجماهير التي تستند عليها، وأنت ترأس حزباً بقاعدة متواضعة إن لم تكن معدومة؟ فقال بثقة مفرطة تتبعها تلك الابتسامة الساخرة.. نعم لدينا، وهم يعلمون ماذا أعني عندما أتحدث عن الانتفاضة، وهم يعلمون أنني أشاركهم الجلوس في أي مقعد في هذه الدولة، وهو يعلمون إنني القادر على إزالتهم من السلطة. واقع الأمر في تلك اللحظة ومض في ذهني منظر مفارق عند دخولي داره، إذ رأيت شخصين فقط يجلسان في فنائها، وهي ذات الدار التي كانت تعج بالبشر في زمان مضى، حتى يصعب أن يجد المرء فيها موطأ قدم! طبقاً لذلك يصعب تصديق الترابي في كل ما يقول، لأنه كثيراً ما نقض غزله بيده، وكثيراً ما جبَّ قوله بنفسه. وفي تقديري أن حديثه عن قاعدة شعبية هو محض تنطع سياسي لا غير، وأظنه يضع عينه على قاعدة حوارييه نفسها، وربما اعتقد وهماً أنها يمكن أن تعود إلى حياضه مرة أخرى. وبالرغم من أن هذا الافتراض يعد ممكناً بالمنظور الانتهازي الذي درجت عليه هذه الفئة من الإسلامويين، وبما أن الصراع هو صراع سلطوي في المقام الأول، ونظراً لأن من بيدهم السلطة هم حواريوه القدامى، هنا يمكنني القول بإطمئنان شديد.. إن الترابي هو من سيعود إلى حضنهم، غضّ البصر عن كل مظاهر الفجور في الخصومة التي ورد ذكرها. بل نقول للمستغربين حينها لن يجد الشيخ حرجاً في استباط مخرج فقهي مستنداً على قياس القرآن والسنة.. فهذا مما لا يعوزه! عليه يمكن القول أيضاً طبقاً لمعطيات الواقع، إن الترابي يريد امتطاء ظهر القوى السياسية التي تحالف معها في إطار (قوى الإجماع الوطني) لتحقيق مآربه الخاصة، متمثلةً في استعادة فردوس السلطة المفقود. وإذا ما أسلمنا جدلاً بألا غضاضة في تحالف بينه والقوى التقليدية، أي الحزبين الطائفيين أو (السياميين) نظراً لما بينهما من قواسم أيدولوجية مشتركة، وتبعاً لطبيعة القوى اليمينية في ضعفها حيال السلطة، باعتبارها وسيلة لتحقيق أحلام ذاتية أكثر من كونها وسيلة لتلبية تطلعات جماهيرية مشروعة. لكن الذي لا يستقيم له عقلاً، أن يكون الحزب الشيوعي مُغيّباً عن الوعي وهو أحد رواده، فبغض النظر عن الإختلاف الفكري المعروف، فقد كان يفترض أن يكون الأكثر إدراكاً بطبيعة المؤتمر الشعبي بصورة عامة، والترابي بصورة خاصة، لا سيّما، وقد لُدغ من جحره مرتين! إن الإجابة الواقعية على هذا السؤال، تقودنا إلى حالة التكلس والجمود التي يعيشها الحزب الشيوعي، والتي يمكن اختصارها في كلمة واحدة وهي (العجز) فقد أصبح الحزب الشيوعي عاجزاً عن الفعل للدرجة التي باتت تستدعي الشفقة. و(الشفقة) في العمل السياسي أو حتى في العلاقات الإنسانية تعد أعلى مراتب التقريع، ذلك لأنها تسلب المُخاطَب سواء كان فرداً أو تنظيماً أهم خاصية حيوية يفترض أن يتمتع بها، وهي الإحساس بالكينونة! لقد بنى الحزب الشيوعي السوداني تاريخاً مجيداً في النضال الوطني للدرجة التي كان فيها ينافس نفسه. بل قدّم نفسه بنفسه كحزب مجرد من الانتهازية السياسية. وتحلّق حوله قوم تجردوا من أي طموحات شخصية حد الزهد، نذروا أنفسهم من أجل الدفاع عن الحريات ونشر الوعي ومنافحة الديكتاتوريات، ولم يتوانوا في تقديم ذواتهم قرباناً لما آمنوا به. الذي حدث يا صاحبي، أن هذا الرصيد الضخم أصبح وبالاً على الحزب نفسه، فكلما دارت دوائر المقارنات وفقهها، انسلخ الماضي عن الحاضر نظرياً لأن البون شاسع، أما عملياً فقد حضر الناس مناسبات وأحداث كثيرة ليروا الحزب الذي كان يتصدر محافل النضال الوطني وقد خلا مقعده بين الحاضرين. في تقديري، ذلك مما لم يدركه البعض حينما قال أمينه العام الأستاذ الراحل محمد إبراهيم نقد: حضرنا ولم نجدكم! لن يستطيع الحزب الشيوعي السوداني إنجاز العملية التاريخية في استرداد الديمقراطية وهو بهذا الضعف البائن، لن يستطيع إسقاط الديكتاتورية التي تهدد وجوده - قبل أن تهدد كافة شرائح المجتمع السوداني – وهو بهذا الحال (المائل) بل أستطيع أن ألحق العار بالحزب العتيد في تنكره لشعارات رفعها في معركة المصير الوطني وقال (لنا الصدر دون العالمين أو القبر). كان الحزب يقدم الشهداء تلو الشهداء دون منٍ أو أذى، كان يفتح صدره بلا خوف أو وجل، كان يطرح الوعي لمن يريد، كما قال الأستاذ الراحل عبد الخالق محجوب، كان ينظر لآخرته كأنه يموت غداً ولدنياه كأنه يعيش أبداً. لكن الحزب بات يقدم خطوة ويؤخر أخرى كلما دعا داعي النضال الوطني، تقوقع وسط الجماهير حتى أعياها البحث عنه، كان الحزب مبادراً فأصبح تابعاً، تضاءل حتى أصبح صحيفة إلكترونية، وبأضغف الإيمان لا يتورع في أن يقدم الشكوى تلو الشكوى متأملاً من الجلاد أن ينصفه في حظرها، ومن عجبٍ فإن كوادره القيادية وجدت في الصحف مأوى، فأصبحت ترفد نضالها بمقالات راتبة مثلنا، نحن الذين لا قاعدة لهم سوى قرائهم، وهم قد هجروا الشوارع والمصانع والحقول! لذلك عندما حدثت انتفاضة يونيو ويوليو وما بعدهما غاب عنها الحزب الطليعي وكان من الطبيعي أن يغيب. فالضعف في بنيته لم يكن وليد اليوم أو نتيجة الظروف الراهنة، فهي حالة نفسية قبل أن تكون مادية، دخل فيها الحزب بعد تراجيديا ما سمّاه ب (أسبوع الآلام) وأصبح بعدئذٍ يعيش فوبيا الفناء. اختفي أمينه العام للمرة الأولى لمدة أربعة عشر عاماً متواصلة فاختفى الحزب معه، ولم يظهر إلا بعد أن أصبح الطاغوت قاب قوسين أو أدنى من السقوط. اختفى الأمين العام للمرة الثانية لنحو أحد عشر عاماً فاختفى الحزب أيضاً. وفي العام الماضي، ترك الأستاذ نقد الدنيا بقضها وقضيضها واختفى اختفاءه الأبدي، ولم يخرج الحزب للعلن! لقد حدث كل ذلك ولم تجد عضويته من يقول لها ما إذا كان الاختفاء الأول أو الثاني عملاً صائباً أو طائشاً. بمثلما لم يجد عموم السودانيين من يقول لهم لماذا لم يخرج الحزب التليد للعلن بعد أن طويت سرادق العزاء! ليس التقاعس وحده، ففي الحديث عن التحالفات السياسية التي هي صُلب هذا المقال. كانت للحزب تجربة كبيرة في إطار التجمع الوطني الديمقراطي في الخارج، وظل متمسكاً بها تمسك (ضهبان وجد طريقه بعد لأيٍ) ولأن الحزب كان في حالة ضعفه التي ذكرنا، فوجد في (عباءة السيدين) ما يدرأ عنه شبهة العجز. فغضَّ الطرف عن أخطاء استراتيجية بدعوى وحدة العمل المعارض، هي ذات الأخطاء التي أدت إلى قبر التجربة وهي حيّة. يومذاك ركضت الأحزاب التي تجاوز الحزب عن سوءاتها نحو الخرطوم وتركته قائماً يصلي صلاة الكسوف. فلم يجد الأعضاء من يقول لهم أصاب الحزب وأخطأ المراقبون أو العكس! هنيهةً خطا التابع بخطى المتبوع، فدخل الحزب برلمان السلطة الديكتاتورية بتوهم مناهضتها ديمقراطياً، ولم يجد أنيساً أو جليساً يقول له إنك بفعلتك الحمقاء تكرس لسلطة غاشمة، فالمجلس الوطني واحد من مؤسسات الخزي والعار، بل لم يجد من يذكره أنه سيشارك في صنع مسرحية ظلّ ينافحها دهراً. وبعد أن قضت عضويته وطراً في المجلس المزعوم لفظتهم السلطة الغاشمة كما يلفظ الجائع النواة. ومع ذلك مضى الحزب في ذات المسرحية بمنطوق لم تحِق به الندامة، فقرر أن يخوض ما عُرف ب (انتخابات الخج)! وما بين هذا وذاك لم يجد المراقبون من يقول لهم لماذا فعل ما فعل ولم يفعل ما كان ينبغي عليه أن يفعل! فاستمر الحزب بعدئذ يصنع العجز ويلعقه، بل استمرأ التكلس والجمود والحالة التحنيطية التي أطبقت على خناقه، ثم راهناً جاءت وثيقة (الفجر الجديد) فإذا بالحزب الذي كانت استقامته في لسانه، يتلجلج في الحديث حتى وضع مصداقية قيادي بحجم الأستاذ صديق يوسف في محك الاختبار! إن التحالف السياسي المزعوم بين القوى السياسية، بالرغم من أنه الوسيلة المثلى لمواجهة ديكتاتورية باطشة كالتي ناءت بكلكلها علينا، لكنه في الواقع أصبح شعار حق أريد به باطل. الذي نعلمه أن التحالف يفترض توازن الإرادة الوطنية قبل تساوي أوزان القوى السياسية، أي لا فضل لحزب على آخر إلا بالتصميم على تحقيق الأهداف الوطنية النبيلة، وفي طليعتها اقتلاع هذا النظام وفكره الظلامي من جذوره. وهو افتراض نجزم دون أدنى شك أنه غير متوفر في أجندة القوى التي تدعي التحالف في إطار (تحالف قوى الإجماع الوطني) من أجل هذا لا ينبغي السؤال عن غياب هذه القوى عن سوح الانتفاضات التي اندلعت ولم تصل لنهايتها المنطقية كما ذكرنا، بقدر ما السؤال عن إرادتها الوطنية في تحقيق الهدف المنشود! عليه لماذا الإصرار على تحالف يخفي العاجزون فيه عجزهم في طياته. فلينفض سامره وليقدم كل حزب إسهامه الوطني في كيفية إسقاط هذا النظام عملياً، وعندما تتمايز الصفوف سيعرف الناس بعدئذٍ العاجز من القادر، وسيأتي التحالف السياسي المرجو مبرأ من أي انتهازية سياسية! بالعودة لنقطة الانطلاق نقول طالما أن الحزبين، الشيوعي والشعبي على طرفي نقيض، فإن أي تحالف سياسي بينهما أو حتى هما في بطنه، هو في واقع الأمر مجرد (رفقة معدية) في حده الأدنى، حتى وإن تطهر الثاني من رجس ملتصق به وتبرأ الأول من ضعف وعجز حاق به. أما في حده الأعلى فذلك مما يقال عنه – يا سيداتي وسادتي - محض استهبال سياسي وإن كره المكابرون! اخرجوا من جحوركم يرحمكم الله، لمواصلة رسالتكم السامية أو أعلنوا فينا عجزكم، فالتاريخ لا يرحم! آخر الكلام: لابد من الديمقراطية وإن طال السفر!! * لن يفوت على فطنة القارىء الاقتباس في العنوان، وقد تركناه بعلاته دون تصريف لغوي.