نُشِرتْ هذه القصة للكاتب الراحل يحيى الطاهر عبد الله (1938-1981) للمرة الأولى على صفحات مجلتي الكاتب وجاليري 68، خلال عام 1968. تعود لإنتاجه المُبَكِّر. تطرح مشكلة معروفة ويُمنع الحديث عنها في المجتمع بصراحة: هي مرحلة بلوغ البنت في مجتمع قروي. يجتمع شيوخ القرية بين الحين والآخر للتشاور وأخذ قرار لما يُستجد في أحوال نسائها وأولادها وأمورأخرى تخصهم ، منها الحفاظ على الالتزام بعاداتهم وتقاليدهم العريقة. كتب جورج طرابيشي[2] حولها من وجه نظره: " فنظراً إلى أن علاقات الرجل بالمرأة في ظل الحضارة الأبوية، - التي هي حضارتنا - كانت منذ ألوف السنين ولا تزال، علاقات اضطهاد وسيطرة، فان سحب "لطبيعة" تندرج ضمن العلاقات بين الإنسان والعالم، يُقدم تبريرات ممتازة، لتحكيم مبدأ الاضطهاد، وسيطرةٍ في علاقات الإنسان بالعالم، أي علاقات الإنسان بالطبيعة، وعلاقات الإنسان بالإنسان، سواء بسواء." ولكي يتضح إلينا محتوى هذه القصة، استخرجنا البناء الداخلي لرموز التدرج الطبقي الهرمي القروي المقلوب (سواء في قرية ما، أو في بعض طبقات مجتمع المدينة، مع ملاحظة تغير المصطلحات ومستوى نظام العلاقات ) يُلاحظ في هذه القصة أنَّ الراويَّ هو المؤلف، كشاهد على الأحداث، ومُشارك فيها. يتكلم من منظور "الأنا المُنتمي الرافض لسلوك العائلة ". يتحدَّث عن معايشته فيها ومُندهشاً منها، كما لو أنَّه رأى حدثا غريبا عليه وعند أخته ووالديه، يشاهده لأول مرة في حياته ! ؟. تتألف هذه العائلة من ثلاثة أجيال، تعيش في بيت واحد. تتدرج دور سلطة الكبير الى الأصغر منه، ومن الرجل إلى المرأة، ومن الأخ إلى الأُخت، خلال تربية احترام أوامر العائلة والحفاظ على تقاليد القرية. يُعاقب كل مَن يخرج عن الحدود المرسومة لهذه العادات، بشكل مناسب، يقرره رجال العائلة الأكبر سِنَّاً. يشرح يحيى دور الابن فقط أي (الأخ) وأخته نوال، خلال تَطَبُّعهم بعادات قريتهم، بشكل هرمي، في مجتمع طبقي رجالي قروي، حيث يصف الراوي ردود أفعال أهله، وعلى رؤيته حركات، ترمز لبلوغ أخته نوال. يستغل الراوي دوره الممنوح له بحرية داخل الأسرة، ويُمارس جزءا من دوره المُخبر بوعي، تحت وصاية سلطة الجد والأب. ويسمح له أن تمتد سلطته على أُخته. اجتمعت أسرته في يوم شتاء لشرب الشاي كعادتها. تَضمُ الجد والأب والابن والأخت، التي تصغر أخاها بتسعة أشهر والعمَّة (لم يظهر لها دور). يتبوأ الجد منزلة سيطرة مسموعة، ويتمتع بسلطة احترام تقليدي تام، بلا نقاش يتعارض مع تقاليد المجتمع القروي. الجَدُّ يُعِدُ الشاي ويَصُبُّه في الفناجين لأفراد الأسرة الجالسين حوله. كانوا صامتين في حضرته: "لان جدي لم يتكلم". وصف الكاتب منذ بداية القصة إعداد الشاي حسب تقاليد العائلة. يشعر بطل القصة بأنَّ كل حركات جده في صَبِّ الشاي هي جزء من عادة تقاليد ثابتة، وأنَّ جَدَّه يراقبه خلال حركات العيون بينهما، فيساوره شعور بالضيق مُعبِّراً عن نفسه بقوله[3]: "كنت أعي أنه لا بد يرقبني - وقد مسح المكان بعينيه وحاصرني ولاحق بصري وأمسك بالشيء الذي سقطت عليه عيناي ليواجهني به ككل مرة أمام الجميع.. يصعد الدَّم وتنتفخ به عروقي وتكاد تنفجر .. ويلتهب وجهي ويظل ساخناً يتشقق كما يحدث لإناء الفخار داخل الفرن الحار..." . يبدو لبطل القصة وهو في عمر الشباب ، بعدما تطبَّع سلوكه على تقاليد عائلته في القرية ، وجود شعور بالغُربة عنها. يتطلع لبلوغ حياة حُرَّة بلا ضغوط. يُعَبِّرُ عن نفسه[4]:" تكون الكلمات في فمي كخيوط الصوف المغزول: مملوءةً بالوبر الجاف وقد تشابكت وصنعت أعداداً هائلة مِن العُقد .. أعرفُ أنَّهُ الخجل أمام الجميع، أحسُّ أنني بغير ملابس .. يصرخ باعتقاده القاطع بأنني أبول على نفسي أثناء نومي برغم أنني لم أعد طفلاً". الراوي صبي وأحدٌ من بين أربعة أبناء هذه الأسرة. لم يُذكر عمره، ربما يتراوح عمره بين الثانية عشرة والخامسة عشرة. تصغره أخته نوال بتسعة أشهر، وأخت أخرى"عواطف" تكبر أخوها الطفل الرضيع بتسعة أشهر ( ولم يرد لها دور سوى الاسم). يُظهر الراوي نفسه متأملا الحدث. يقدم رؤيته من مُتحدِّثٍ ذو مكانة عالية، وبنفس الوقت مشاركا في أحداث القصة خلال شرب الشاي الأحمر والأخضر حسب تقاليد القرية، ويتساءل من أبيه وجده بلغة أقرب لسلوك متوتر، ولكنه بنفس الوقت يبقى ملتزما بدور تطبعه التقليدي. ينظر لوالده خلال بضربه القاسي لأُخته، وأنه – يستلهم أخذه دور والده – في تعلم ضرب أخواته الأصغر منه، فعواطف تفهمتْ أنني قد أضربها، وبلا مبالاة فسكتت عما أرادت قوله. وأن لا تفضحه أمام أبيه والآخرين. لطَّفَ جو شرب الشاي محادثة بين الأب والابن لحين أن أمره أبوه بالذهاب إلى حظيرة الأبقار للبحث عن أخته نوال، لكي تأتي بالحليب فوجدها راقدة على ظهر جاموسة فوصفها بقوله [5]: " .. كانت نوال أختي والتي تكبرني بتسعة شهور كاملة - راقدة فوق ظهر جاموستنا .. وكانت نائمة بصدرها وقد حضنت عنق الجاموسة بكتا ذراعيها .. وكانت تمرجح ( تهز) ساقيها وتحك فخذيها ببطن الجاموسة الأسود السخين .. كنت أرى أصابع قدمها التي تواجهني كخمسة مسامير دُقَتْ أسفل بطن الجاموسة. صرختُ مُعلنا عن وجودي فقفزتْ نوال على الأرض مفزوعة ودلقت ماجور اللبن المملوء .. وجريتُ أنا لأنقلَ الخبر لأبي وجدي." فزعت نوال عندما سمعت صياح أخيها، أنَّه يبحث عنها، فرآها، فارتبكت حركاتها واصطدمت بإناء اللبن من جراء اضطراب سرعتها بالنزول عن الجاموسة، نفت أمام أباها ما ذكره أخوها، فضرب الأب الابن والبنت وسقط الابن على الأرض، فسال الدَّم من فمه. قال يصف حالته[6]: ".. كنتُ أشعر بطعم الطين في فمي وجانب وجهي نائم على السطح الترابي، الذي لم يَعُدْ جافاً .. وكان الدم يسيل من جانب فمي ولا يتوقف.. وكان ساخنا ما زال .. وكانتْ نوال أختي معلقة مِن عرقوبيها بحبل مشدود إلى وتد ثُبِّتَ بجدار الغرفة .. وكان أبي يصعدُ ويهبطُ بكل جسمه كثور مذبوح، .. كان يرفع يده ويهوي بعصاة لينة رفيعة ويضرب الجسم العاري .. والدَّم كان يشخب مِن الجسد العاري، ويغطي وجهي ولا يجعلني أرى.." استجابت نساء العائلة للسلطة الأبوية: صرختْ الأُم وبكتْ، وأشارت للأب بتزويج نوال. تمنى الراوي انتهاء المشكلة بزواج نوال وخروجها من الدار، لكي تعود حالة العائلة كالسابق. لقيت العناية الأبوية للابن - المدمى من الضرب – في النهاية عندما عجز عن النهوض. غَطَّتهُ أُمه، وطلب الأب منها أن تُسقيه ماءا بسكر. غادر الأب الدار ليصعد الجبل، كي يجمع لابنه الشاي الأخضر والليمون. تنتهي القصة بوصول الابن إلى مركز الحقيقة في عالم خيالي، ويبدو أنَّه فقد الوعي. قد يحصل للقارئ انطباعاً بوجود صراع عائلي خاص، وقابل للتكرار في كل وقت، والواقع غير ذلك فغالبا يتم تجاوزه، خلال سلوك تقليدي معروف بالحكمة والتسامح. في حين يتعلَّم الراوي صفة المُخبر على أخص حركة لأخته بلا وعي, ويمكن ملاحظة هذا السلوك الاخباري الساذج عند الكثير من النَّاس خلاىل أحاديثهم عن الآخرين بوعي او بلا وعي. يُلاحظ في جو القصة سماع الأوامر من الكبير إلى الأصغر، وقلة وجود أسئلة وأحاديث بين أفراد العائلة وتلقي الأخبار القصيرة. يُستدلُّ منها فرق معاملة الذكور والإناث في المجتمع القروي، وعدم وجود شرح من الوالدين للأبناء في فترة المراهقة وظهورعلاماتها الجسدية وتفاعلاتها النفسية خلال هذه الفترة الحرجة، لأنه موضوع ولا يُحبذ الحديث عنه صراحة. ومن يتجاوز هذه التقاليد بشكل ما، فعليه تحمل العقاب الاجتماعي. والكاتب يدافع هنا عن حق البنت في وجوب فهم متغيرات عالمها الداخلي واحاطتها برعاية خاصة، ولكن ما شرحه الكاتب هو العكس تماما. يُبيِّن الراوي إحساسه بأنَّهُ مظلوم، ولكن ليس كأخواته، فهما تحت ظُلم مزدوج: سلطة مباشرة من الأبوين والجَد، وسلطة غير مباشرة من الأخ. واقعيا يخضع الشباب لتقاليد القرية باستخدام القوة أي الضرب عند اللزوم وعدم التسامح في حالة إهانة الشرف وسيطرة الانفعال أحيانا بدل الحكمة والنِّقاش الهاديء في حل بعض المشاكل بسبب قلة التعليم في القرية آنذاك وعدم وجود توضيح لأمور مستجدة في حياة الأولاد من الأهل, فيضطر الطفل امتصاص معلوماته السلبية من خارج تقاليد البيت. وهذا ما نجده منتشرا في المجتمع بكل طبقاته وشرائحه.