محمد وقيع الله كتب صاحب (الانتباهة) قبل برهة مقالا بعنوان (التعليم في بلاد العجائب) تأسف فيه على رفض بعض أذكياء الطلاب السودانيين الالتحاق بالمساقات الأدبية، التي تُعرف في الجامعات بمساقات العلوم الإنسانية والاجتماعية. وأسِف لأن الطلاب المنخرطين في هذه الدراسات لا يسجلون نجاحات كبيرة. واستدل على ذلك بنسبة الناجحين من حَمَلَة بكالوريوس الإعلام في امتحانات السجل الصحفي لتنظيم مهنة الصحافة التي لم تزد في هذا العام عن تسع وثلاثين بالمائة. وجاء بتعليق لأمين عام اتحاد الصحافيين على النتيجة الضعيفة يقول إنها في العام الحالي أفضل منها في الأعوام السابقة! ونبَّه صاحب (الانتباهة) شباب الصحفيين إلى أن بكلاريوس الصحافة والإعلام الذي تمنحه الجامعات السودانية لم يعد مبرئا للذمة المهنية ولا مؤهلا لولوج سوق العمل الإعلامي. وهذا قول صواب وأكثر ما يكون صوابا في حق طلاب الإعلام. لأن أداءهم يكشفهم كل يوم. وما لم يتزود الإعلامي بمزيد من المعلومات والتبصُّرات كل يوم جديد فإنه يعجز عن أداء مهمته في إرشاد الخلق. وتنحسر بضاعته التي تزود بها قديما كلما أنفق منها ولا يبقى له إلا التكرار أو مضغ الألفاظ الجوفاء. وهذا ما ينبغي أن ينبَّه له طلاب الإعلام منذ البدء. فكثير منهم لا يفعلون أكثر من أن يستذكروا الملخصات المقتضبة الجافة التي اختزلوها من المحاضرات، ولا يطلعون على شييء جدي آخر من عالم الفكر والأدب. وقلما ترى واحدا منهم معتكفا في مكتبة، أو حاملا كتابا، أو مجلة، أو صحيفة، أو يغشى ندوة تطرق شأنا اجتماعيا. ومع ذلك يظنون أن بإمكانهم أن يصبحوا صحفيين مرموقين، بينا رؤوسهم مقفرة من المعلومات العامة، ولا اقتدار لهم في علم الاجتماع، ولا الاقتصاد، ولا السياسة، ولا مناهج التفكير والتحليل. فكيف يصبح هؤلاء بعد تخرجهم صحفيين ينيرون الرأي العام ويهدونه سواء السبيل؟! وأقسم أني لو كنت مسؤولا في الجامعات لما سمحت لطالب ليس له استعداد ثقافي وأدبي مرموق أن يلتحق بكليات وأقسام الصحافة والإعلام، فتعليم هؤلاء مقررات دراسية في الصحافة والإعلام لا يفيدهم ولا يجعل منهم صحفيين. وأظن أن أنجح الإعلاميين في السودان وغيره هم ممن لم يتخرجوا في هذه الأقسام الأكاديمية الضامرة. وقد استشهد صاحب (الانتباهة) على دعواه بخبر آخر، مفاده أن أربعا من أرباب الدراسات العلمية الهندسية والطبية فازوا في مسابقة عالمية في آداب اللغة العربية، جرت خارج البلاد ولم يحالف الحظ فيها طالبا من طلاب الآداب. ووعظ صاحب (الانتباهة) الناس فقال إنكم لا تزالون:" مفتونين بالطب والهندسة بالرغم من أنهما انحدرا كثيرا في سلَّم الوجاهة الاجتماعية والمادية بعد أن بلغ المتبطِّلون من خريجي الطب والهندسة الآلاف وبعد أن أصبح خريجو الكليتين أقل أجرا من بعض المهن العمالية". ثم لجأ إلى التحليل فقال:" لو أجرينا إحصائيَّة علميَّة لربما وجدنا أن أعلى (500) طالب مُقبِلين على الدراسة الجامعية ممَّن أحرزوا أكثر من (93%) في امتحان الشهادة السودانيَّة، وبالطبع ستجد أنّهم جميعا أوشكوا أن (يقفلوا) اللغة العربية، أقول لربما وجدنا أن أكثر من (95%) منهم يُقبلون في إحدى الكليتين الطب والهندسة بتخصصاتها المختلفة. وسنجد أن من قُبلوا في كليَّة الآداب وغيرها من الكليات النظريَّة تتراوح درجاتُهم بين ال (50%) وال (70%) بما يعني أن درجات طالب الطب في اللغة العربية أعلى بكثير من درجات طالب الآداب والكليَّات الأخرى النظريَّة". وهذا استناج جيد بل هو القاعدة العامة التي تحكم الموضوع. ولكن المسألة ليست فقط في إحراز الدرجات العالية في مادة اللغة العربية، فقد يحرزها من لا يتذوق آدابها وفنونها. وقد يحل أشد معضلات النحو صعوبة من لا يجيد الكتابة والخطابة، فمشكلات النحو عند هؤلاء ضرب من المسائل الرياضية المنطقية ليس إلا. ولكن مهما يكن فإن إحراز الدرجات العالية في اختبارات اللغة العربية فضيلة تفرق بين من يتساوون في فساد الذوق الأدبي وانحداره. ومن الناحية المناظرة قد ينشغل طلاب المساقات الإنسانية والاجتماعية عن دراسة اللغة بتحصيل علوم أخرى مثل القانون والاقتصاد والسياسة وعلم النفس وهم يتعاطون دراسة هذه الفروع في الغالب بلغة أكاديمية بائسة يابسة مثل اللغة التي تدرس بها العلوم الطبيعية. وقد يبتذل بعض أساتذتهم عملية التدريس باستخدام لغة مريضة قريبة إلى لغة العامة الدارجة أو هي عينها. وللأسف فإن بعض من يعهد إليهم بتدريس الأدب العربي (حتى الكلاسيكي منه!) يقومون بتدريسه بمثل تلك اللغة المتخشبة. وهي لغة انتشرت في محيط الأدب العربي الحديث مع تفشي أمراض الحداثة فيه. والغريب أن من يدرسون الآداب الإفرنجية مثل الأدب الانجليزي لا يدرِّسونها إلا بأساليب أدبية بليغة راقية أما من يقومون بتدريس الأدب العربي فلا يحرصون على تدريسه بلغة أدبية ندية. فلماذا يدرس الأدب العربي بلغة سقيمة بينما يدرس الأدب الإنجليزي حتى في بلادنا بلغة قويمة؟ هذا استهزاء ولا وعبث بلغة الضاد واستهانة بقدرها العلي وأدبها العذب الطلي. وبعد هذا كيف يمكن أن ينهض من يدرسون اللغة العربية بهذه الكيفية وكيف يأملون الفوز في أي مسابقة عالمية؟!