بسم الله الرحمن الرحيم ..... عندما تكون العودة للسودان كابوسا قاتل لبعض الناس .... المثل الشعبي يقول ( مافي زول مرتاح في الدنيا دي ) جمعتني به صدفة وكنا زملاء الجامعة خارج السودان وكل كان له طموحات وآمال يريد تحقيقها وكانت رغم ظروفنا الطلابية كانت من أجمل سنوات العمر التي عشناها ونحن نتجول بالقليل من المال في بلاد الله الواسعة ونعيش كالعصافير تتقافز بين الأقصان ونحن في حلم جميل لمستقبل يغير حياة كل واحد منا ورغم أن تلك السنوات كانت خالية من كل منقصات المسئوليات حتي إشعار آخر لكن كانت رائعة ورائعة بكل تفاصيلها ومن الأشياء التي علقت في ذاكرتي كثيرا هو أن تلك البلاد كانت تنتهج نظاما إشتراكيا أي بمعني أنه كان خليط من تلك الأفكار وكانت تعج أسواقها بالسلع الرخيصة من بعض الدول وكان هنالك أنواع من اللحوم المجمدة الرخيصة ، كان حجم الفخذ للحم المجمد كبيرا ولو اردت أن تقطعه وعندما تصل السكين بوسط الفخذ تتجمد كاملا ولا تستطيع حراكها وكأنه ورك فيل وكنا نشتري تلك اللحوم ونحن سبقنا أهلنا في السودان بسنوات بعيدة عن حكاية ( قدر ظروفك ) وهي كانت علي حسب ظروفنا والشئ الآخر في تلك اللحوم عندما تقوم بطبخها ممكن أن تستهلك منك كل الغاز وتجدها لا زالت نيئة ولو رميتها علي البلاط تتقافز مثل كرة التنس ، لقد شبعنا من هذه اللحوم وعندما تخرجنا وفتح الله علينا وعندما أتذكر ذلك اللحم وعندما أشاهده في الثلاجات أستفرغ مباشرة ومن يومها أكره الشاورما وأكل اللحوم في المطاعم لأنها من جنس ذلك اللحم . بعد التخرج كانت لكل منا وجهة هو حاول بكل السبل وسافر إلي دول الغرب ومزق جوازه ليحصل علي مكان في أية دولة من دول الغرب بعد أن وصل إلي سويسرا وبعد فترة تم توطينه في إحدي الدول الغربية وحصل علي جنسية تلك الدولة ، أما أنا فكانت وجهتي الطريق السهل وواصلت الهجرة في دول الخليج وظل التواصل بيننا في زياراته للحج والعمرة وهو يحمل جواز ذلك البلد والذي كان يحس بحمله لهذا الجواز بالكبرياء كيف لا وهو يستطيع أن يتجول بهذا الجواز نصف العالم أو كله إن أمكن بدون تأشيرات أو مساءلآت وكنا نجلس كثيرا وحينها كنت أحس بالفرق ولكن كنت مؤمنا بما قسمه الله لي ، وتمر السنين ويسرقنا العمر وتزوجنا ورزقنا والحمدلله بالبنيين والبنات وهو كذلك ، ولكن في زيارته الأخيرة شعرت به مثقلا ومهموما ويسرح كثيرا وتغيرت نظرات التفاؤل والأمل إلي خوف كبير ملأ قلبه من تربية الأولاد ويقول في البداية كنت أعيش لنفسي واليوم أعيش لغيري ، قلت له الحال زي بعضو اليوم الفضائيات والأنترنت تنقل لنا كل الغث إلي داخل بيوتنا وما تعانيه أنت هو مشكلة عامة في كل الكرة الأرضية وما تكرهه أنت لأبنائك يجده كل طفل في أي موقع في أي بلد إسلامي والخوف أصبح واحدا سواء كنت في الغرب أم كنا نحن في الشرق فالهم واحد والمصاب واحد ، ولكن يقول قوانين تلك البلاد تجعل سلطة الأب منعدمة علي أولاده لأن القانون يضع شروط وحماية كبيرة للطفل في مقاضاة والديه في ظروف نحن كنا نراها عادية في طفولتنا وهنالك إختلاط في المدارس يقلل من السلطة علي الطفل . الآن في دول الخليج مجموعات كبيرة من الأسر التي تفككت بفعل ظروف وفاة أحد الوالدين أو بظروف المرض والبطالة في بلاد اليوم فيها محسوب بالقرش ولا سمح الله إن خسرت يوم في تلك البلاد يخصم من رصيدك في الإيجار والكهرباء والأكل والشرب وتلك الأسر إنقطعت عن السودان لسنين طويلة وكانت تري أن العودة للسودان هو الإنتحار بعينه وتحول هذا الخوف للأبناء وقد تشاهد كثير من الشباب بملابس غريبة وتصرفات غريبة وأن حصل موقف يستدعي مساءلة الشرطة تجده سوداني من مواليد تلك البلاد ، لقد تابعت حالة أسرة لأكثر من خمسة وعشرون عاما رفض فيها الأب أن يعيد أسرته للسودان بعد أن تم توقيفه من العمل ويومها أتذكر أنه عيرني لأنني غير متزوج ولا أفهم معنا للأبوة لذلك تطالبني أن أعيد أسرتي للسودان حقيقة يومها كنت أكثر مسئولية منه لأنني كنت أعيل كل أسرتي وكنت أعمل كالمكينة بدون كلل ولا ملل في سبيل تغيير واقعي للأفضل ، وتمر السنوات سنة بعد سنة وتتدهور حياة تلك الأسرة وتكبر المشاكل مثل كرة الثلج وتفقد شرعية الإقامة منذ أكثر من عشرين عاما وتفقد البنات الدراسة والاولاد كذلك ويتربون وسط الحواري بدون تعليم أو حتي معيشة طيبة وتمرض الأم وكانت سيدة صابرة وتحملت مع زوجها كل هذا العناء والتعب ووصل بها المرض إلي أن أصبحت مثل الهيكل العظمي يرحمها الله ويسكنها فسيح جناته لقد اوفت إلي زوجها حتي وصلت إلي ربها اللهم أجعلها شهيدة وتقبلها قبولا حسنا ، ولا أعرف ماذا حل بالأسرة الآن بعد قرارات التصحيح التي طالت أغلب دول الخليج ، السبب أن كثير من الآباء والأمهات زرعن في عقول أبنائهن الخوف والرعب من السودان ولم يحاولوا ربط أبنائهم بالوطن والنتيجة جيل مهزوم وضائع يحتاج من ينتشله وعندما يصبح الخوف من العودة للسودان إنتحارا تكون النتيجة هذا الخيار المتاح .