وزير الخارجية المكلف يتسلم اوراق اعتماد سفير اوكرانيا لدى السودان    فيديو.. مشاهد ملتقطة "بطائرة درون" توضح آثار الدمار والخراب بمنطقة أم درمان القديمة    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تقارير: القوات المتمردة تتأهب لهجوم في السودان    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. "دعامي" يظهر في أحضان حسناء عربية ويطالبها بالدعاء بأن ينصر الله "الجاهزية" على "الجيش" وساخرون: (دي بتكمل قروشك يا مسكين)    شاهد بالصورة والفيديو.. إعلامية مصرية حسناء تشارك في حفل سوداني بالقاهرة وتردد مع الفنانة إيلاف عبد العزيز أغنيتها الترند "مقادير" بصوت عذب وجميل    د. مزمل أبو القاسم يكتب: جنجويد جبناء.. خالي كلاش وكدمول!    محمد وداعة يكتب: الامارات .. الشينة منكورة    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    الخارجية الروسية: تدريبات الناتو في فنلندا عمل استفزازي    مصر تنفي وجود تفاهمات مع إسرائيل حول اجتياح رفح    السوداني في واشنطن.. خطوة للتنمية ومواجهة المخاطر!    "تيك توك": إما قطع العلاقات مع بكين أو الحظر    عن ظاهرة الترامبية    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    مدير شرطة شمال دارفور يتفقد مصابي وجرحى العمليات    منتخبنا يواصل تحضيراته بقوة..تحدي مثير بين اللاعبين واكرم يكسب الرهان    حدد يوم الثامن من مايو المقبل آخر موعد…الإتحاد السوداني لكرة القدم يخاطب الإتحادات المحلية وأندية الممتاز لتحديد المشاركة في البطولة المختلطة للفئات السنية    المدير الإداري للمنتخب الأولمبي في إفادات مهمة… عبد الله جحا: معسكر جدة يمضي بصورة طيبة    سفير السودان بليبيا يقدم شرح حول تطورات الأوضاع بعد الحرب    تواصل تدريب صقور الجديان باشراف ابياه    مدير شرطة محلية مروي يتفقد العمل بادارات المحلية    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    «الفضول» يُسقط «متعاطين» في فخ المخدرات عبر «رسائل مجهولة»    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على ناشفيل    لجنة المنتخبات الوطنية تختار البرتغالي جواو موتا لتولي الإدارة الفنية للقطاعات السنية – صورة    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محجوب التجاني


سودانياتٌ قبلَ قرار ٍبقابل ِالأوْطاَن
"كان هتافنا... قلب الشارع"
من أناشيد الموسيقار محمد الأمين
محجوب التجاني
سودانياتٌ قبلَ قرار ٍبقابل ِالأوْطاَن
"كان هتافنا... قلب الشارع"
من أناشيد الموسيقار محمد الأمين
محجوب التجاني
السبت 16 أبريل 2011
أصول وطنية
كسلا: 1975 - مدينة التاكا المخضرة، وملتقي قبابها الروحية، أقامت مصلحة المياه والتنمية الريفية مؤتمرا جادا بمعاونة عدد من المصالح المعنية لدراسة حاجات السكان لمآء الشرب النقي، والتركيز علي البدو بصفةٍ خاصةٍ في كسلا، فضاءهم اللاحق بدنقناب العطشي، حلايب السمراء، والعطبرا الزهراء؛ الساحق في بُطانة الكُبري. توافر نفرٌ طيبٌ من المهندسين وخبرآء التربة وعلماء الزراعة والري والأطباء والباحثين الإجتماعيين علي جلسات المؤتمر الشيقة بالدراسات والبحوث. ودام المؤتمر جلساتٍ من الحوار الهادف لجمهوره المشتعل وطنية و ِجدّا.
دار في المؤتمر سجالٌ حيٌ بصدق الحقائق المعاشة صباحا ومساءا، نأي خلاله المؤتمرون بأبحاثهم ومطالبهم عن عشق ساسةٍ أيامها للدعاية. سادت المواجهة علي المواربة؛ والعلم لحرص إدارة المؤتمر علي إعداد أوراقه وعناصره المُشاركة بالرأي الحر، وضمان التعقيب الصريح من العاملين في المجال. وقدمت الإدارة ممثلي الجمهور المستهدف من البدو الساعين لتوفير المياه وحسن إستغلالها للناس والحيوان لعرض حاجاتهم بأنفسهم ولغاتهم الخاصة، وليشرحوا لأهل البندر ذوي المهنة والإختصاص ما يرونه من حلول ومقترحات.
خلص مؤتمر التنمية الريفية في كسلا (1975) إلي حث الدولة علي تحرير المجتمع السوداني من التمايز الإجتماعي والتخلف الإقتصادي والإنحياز الثقافي. ورأي في مداولاته وتوصياته توجيه الدولة والمجتمع لبرامج التنمية الإجتماعية إقتصاديا وثقافيا بالتخطيط العلمي لزيادة الإنتاج ، وتوفير العمل الكريم للمواطنين، وحماية المجتمع والسكان من مخاطر تكلس البيئة وانهيارها بالتصحر والجفاف والعطش والمجاعة.
وعقب إنتفاضة مارس/أبريل المجيدة، قدم المؤتمر الإقتصادي (1986) حزماً لا تجاري من المقترحات المدروسة. شارك فيها علماء السودان وخبرائهم الوطنيين بتوصياتٍ تنمويةٍ شاملة لإصلاح البلاد ماليا وإقتصاديا، بهدف إنتشالها من فشل الإدارة وجنون الحرب وفنون أكل قوت الشعب من مصارف الطفيليين وساستهم المنبوذين.
هؤلاء عادوا كقوم عادٍ "الّذينَ طَغًوا في البِلادِ فأكْثَرُوا فِيهَا الفَسَاد"، بعد ثلاث سنوات وحسب و"صنقروا" إحدي وعشرين عاما أبدعوا خلالها بالحكم الإستبدادي تخريبا شاملا لكل برامج الإصلاح، التي توصل لها المؤتمر الإقتصادي الوطني الرشيد، في أجواء أبريل الحرية والنهوض الديمقراطي، تتويجاً علمياً لخبرات النقابيين العماليين والمهنيين السودانيين، واستجماعا رصينا لما اتفقت عليه كلمة الأهالي والخبراء آنفا – بما في ذلك مؤتمرات الدولة ووكالاتها الحكومية في مضمار العلم والعلوم والتنمية الصناعية والزراعية - عهوداً مختلفة.
دور النقابات البارز
أفلح مؤتمركسلا في إنجاز أعماله بالتخطيط العلمي أهدافا محدودة وأجندة مضبوطة بالإعداد الجمعي والإسهام الفردي الألمعي من ممثلي البدو، خبراء التنمية الريفية، والنقابيين المشاركين الذين تنصرف فقرات من هذا الأسبوعي لمكونهم الرائع في المؤتمر.
قبيل المؤتمر وبعده، قدم الأطباء الديمقراطيون آدم بقادي وكمير وجعفر محمد صالح نطاسي الأمراض العصبية الذي شرع لتوه في تأسيس الصحة النفسية والعصبية في المديرية مداخلاتٍ قيمة، بُنيت علي هموم نقابة الأطباء أيامها بصحة المواطن وعنائها بتطوير الأحوال الصحية بمشاركة الجماهير وتشجيع برامج الصحة الوقائية لدعم الصحة الإكلينيكية في العيادة والصيدلية، وتوفير التأمين الصحي والأمن الصناعي للعاملين في مختلف المواقع. وفي هذه المجموعة الوطنية الديمقراطية المخلصة لقضايا الشعب، كان للطبيبين عثمان ملاسي وموسي أوهاج لمساتٍ إنسانيةٍ مؤثرة في علاج المساكين والعناية بهم "لِوَجِهِ الله. لاّ نُريدُ مِنكُم جَزاءَا وَلَا شُكُورَا".
أما مساعد المحافظ للشؤون الصحية شيخ الأطباء جرتلي، فقد كان بإنسانيته الراقية نموذجا فاضلا لتعاطف الأطباء مع الأهالي: رأيته في لقاء آخر في بورتسودان عام 1971 – أياما قبيل حركة يوليو التصحيحية – يعلن للجنة الأمن في مكتب معتمد جبال البحر الأحمر "كيف انهمرت دموع ممثل الصليب الأحمر [الذي كان في صحبة جرتلي الإنسان] لتفقد الأحوال الصحية للمواطنين في دنقناب، وهو يري أجسادهم الناحلة، وقد نزع الجوع والعطش عنها ماء الحياة نزعا".
في جلسات المساء، تقدم القائد النقابي عمر بخيت رئيس عنبر مستشفي كسلا إلي المنصة بخطي سريعة ليلقي عددا من الملاحظات الثاقبة حول مطالب الجماهير في العتامير الناشفة، وحاجة المزارعين بقطعانهم ومزارعهم لآبار الشرب: "الماء. الماء. الماء. لا حياة ولا تنمية بدون الماء. أوقفوا الصرف الفارغ علي المراسم والإحتفالات. أصرفوا مال الحكومة علي صحة الشعب وعلي تعليم أبنائه". كلمة حق جهر بها القائد النقابي بأعلي صوتٍ، وعيناه مصوبتان علي قادة التنظيم السياسي للدولة، وأعضاء الموتمر المحيطين به يحاصرونه بالوعي من كل جانب. ثم ختم حديثه ناصحا: "لا حياة بدون ماء، ولا بقاء بلا خدمات." وقد إستقبل المؤتمرون نقد النقابي الصحيح بالإشادة والحماس. وصفقوا له طويلا. إنقطعت عنا أخبار هؤلاء القادة الأفذاذ. ولمن توفي منهم، نسألك ربنا الرحمة والرضوان.

قيادات ديمقراطية
سجن بورتسودان العمومي: 24 يوليو 1971 – تقاطر معتقلون من مجمل النقابات وحزب اليسار جماعات وأفرادا، يحيط بهم عسكر يلبسون السلاح لإجراء سلطة القبض. ينتعلونه إخافة ًللشعب أو ضربا. وبين المعتقلين شباب يافع. لا تخطئ عينٌ وخّط الشيب علي رأسهم، ُلجينا حببا. الشيخ فيهم صبي قوي العظم بالغ العزم، صبيا ليس هرما. يكاد لا يقوي علي السير؛ لكنه صلب القضية كصومعة الثغر – أم دفوفة علي الأحمر، كصنوه علي ضفة النيل في عهد رخائها الأقدم، بلاد النوبة الفضلي بهيكلها الشاهق. كلا البنآءان عابقٌ بالحضارة، يموجان بالحَب رخاءا ودفقا.
تفرسنا وجوه القادمين. لم نرَ فيها جزعا ولا ندما؛ فقد كان كل واحدٍ منهم صومعة سامقة: مصدرعلمٍ ٍرافع أو بيت فكر ٍنافع. فصِّلوا بالأقسام بحسب أوامر القبض. بعضهم محكوم ومعظمهم متهمون، أبرياء ما لم تثبت إدانتهم. أدينوا بسلطة القبض خرقا لقانونه. وكان بينهم ونار الجلاد ما بين زناد القتل وإصبع القاتل. لم ترمش لهم عين. فهؤلاء يا صاحبي قادة نقابيون، دبلومات امتيازهم ممنوحة لهم بمرتبة الشرف الدرجة الأولي كما تفعل جامعات العالم من مدرسة الحركة الجماهيرية العريضة، وأعظم دروسها التضحية بأغلي الغوالي: النفس والمال والوقت والجهد لإتقان فن الدفاع عن حقوق الشعب، والتصدي بالجسارة كلها والبسالة لأفندية الحكم وتجار السلطة، سارقي القوت، زبانية الحرية.
شهدنا في صبرهم سمو أخلاقهم وحسن أدبهم مع شعبهم - بعض ما خبروه بعمر خدمتهم نقاباتهم في شارع السودان الأصيل بالصبروالإكرام، ٍوالإيثار في الكرب. أضحي كل واحد منهم مدرسة كاملة البنآء، متعددة الأنهر، متمددة، تسع فيض الثقافات والاعراق في مودةٍ لا تجد لها مثيلا إلا في بيوت سودانيتهم التي منها انطلقوا مع العامة لإدارة سياستهم قبيلا قبيلا. حمل جمعنا اليوم ذكراهم، تظل سماوات أرضنا الطاهرة، تجدد للأجيال حق الوطن عليهم وأمل إنسانه فيهم. رأيناهم، يحمل كل فردٍ منهم في يدٍ قلما، وفي الأخري مشعلا. رايناهم يسقون غرس النضال كما حلقت بالجمع رؤياهم:"بصافيةٍ، لا كالسُلاف، ولا بالورد رَيانا"، في كّلم أمير الشعرآء شوقي السامق.
عّبدالعزير فوزي
خصنا النقابي المهندس عبد الرحيم الطيب بكلماتٍ من القلب دوّن بها قطفة ًدانية من حبه العميق للقائد النقابي عبدالعزيز فوزي رئيس السلك الكتابي بمصلحة السكة الحديد في مدينة الحديد والنار، عطبرة النقابات ومعقل تطبيق الحريات المدنية وعلي رأسها حق الإضراب. قال المهندس يرثي رفيقه السياسي النقابي العليم: "كان زعيما بحق؛ برا بشعبه؛ مثالا للقيادة؛ محبوبا من الكل".
كان عبدالعزيز فوزي – رحمه الله - قائدا حكيما لا صنو له في إدارة أنشطة النقابات العمالية والمهنية العطبراوية العديدة ورتق صداماتها الصارمة مع الساسة والإداريين، دفاعا عن حقوق النقابيين، وانتصارا لهم من موقعه الثمين في إدارة المصلحة. إجتمعت علي قدراته القيادية كلمة القوي السياسية والنقابية علي اختلاف برامجها؛ فاكتسب احترام الجميع؛ وحظي بتوقيرهم؛ وأصبح مرجعا إجتماعيا لا غني عنه لحل نزاعات التنسيق، ونزع فتيل التراشق ومخططات الكيد والتضليل من أفندية السلطة وإداراتها البيروقراطية، وحزب الدولة وأجهزة أمنها كلما استقطب صراع واستحكم حول القوانين النقابية وجدولة الورديات وميزانية الأجور والمكافات وبند المخصصات.
علة علات الخدمة العامة في السودان في الماضي والحاضر، أن أكثر من ¾ المخصص الكلي للفصل الأول من الميزانية السنوية (أجور ومرتبات) تذهب إلي جيوب الدرجات العليا بالهيكل الوظيفي (المجموعات)، ويتقطر باقي الأرباع المأكولة علي قاعدة العمال والموظفين الواسعة في الرتب الأدني، يتبخر منها قدر عائدا لأرباع "السباع" بالخصم والضرائب المباشرة، ويختفي الباقي القليل قبل قبضه في الديون و"جرورة" الكنتين.
مع فقراء العمال وصغار المزارعين وبدو العتامير، كان فكر فوزي يلتهب بالوطنية والإلتزام بمصالح الجماهير. ظل بناء حركتهم السياسية والنقابية المستقلة، وتوقير مطالبهم، وتدريب قياداتهم، وتكريم أشخاصهم، غاية جهده ونهج حياته لنيل رضائهم إلي أن لاقي ربه "راضيا مرضيا" بإذنه. وهذا يا صاحبي أغني معاني الوطنية والنضال من أجل الديمقراطية. ولسوف نعود في أسبوعيات قادمة لقيادات نقابية جليلةٍ أخري، ربما لم تسمع عنها بعد أجيال شبابنا المناضلة الحاضرة.
مرجعية دستور التجمع
نري صراحة أن ما تبنته القوي النقابية الديمقراطية في مؤتمرات العمل الجماهيري الجاد لدراسة مطالب الشعب والخلوص بأفضل توصيات عملية لتحقيقها، هيأت المجال السليم لما تواتر عبر السنين من نضال للقوي السياسية والعسكرية الوطنية لإصدار ميثاق وطني متقدم الطرح، مستجمعا لأفضل ما يصوغه السودانيون من دستور لحكم بلادهم بأنفسهم. فماذا يفعل الحاسد مع الرازق، وكل السودانيين وطنيين ديمقراطيين بالفطرة والطبيعة، عدا الإنقلابيين الإسلاميين بسجلهم الوطني خالي الوفاض من قيم الوطنية والديمقراطية؟
دليل الحديث عن زعامات الحركة النقابية العمالية والمهنية السودانية يقود بالضرورة إلي تثبيت تلك الحقيقة الباهرة. فلنذكر المزيد من مواد دستور السودان الوطني الديمقراطي - فقراتٍ تاريخية من مساهمات الأحزاب الليبرالية والتقدمية في إزكاء قيم النضال في سبيل إقامة الدولة الديمقراطية والعمل الجاد علي إزالة الفقر، وإعلاء شعار الإصلاح بتبني قضايا الحركة الجماهيرية لتطوير الحياة العامة.
تكاتفت هذه القوي الوطنية الديمقراطية في مواجهة الديكتاتورية والسلطة الإستبدادية منذ أيام الإدارة البريطانية الإستعمارية، ثار المزارعون في مشروع الجزيرة ضد عسف الإدارة قبل أن يؤسس المشروع بعد ذلك بسنوات. وواصلت الحركة الجماهيرية رسالتها طوال الأنظمة والعهود المتوالية ما بعد الإستقلال، ليس طلبا لوظائف أو رغبة في ثروة. ولنري بقليل من التفصيل شيئا من مرجعية دستور التجمع الوطني تمثلا بأفكار النقابيين – علي نحو ما يبينه مؤتمر التنمية الريفية قبل 36 عاما من اليوم.
حرية التنظيم أساس الوطنية
ورد في الدستور المتقدم الذي أعده التجمع الوطني الديمقراطي في المادة 19: "تعمل الدولة علي تحقيق العدالة الإجتماعية، وتحرير المجتمع من المظالم الإجتماعية والإقتصادية والثقافية، وتوجيه النهضة الإقتصادية والإجتماعية والثقافية وفق خطط علمية تكفل زيادة مطردة في الإنتاج، وتحقيق الإكتفاء الذاتي، وإتاحة العيش الكريم للمواطنين". وفي المادة 57 "لكل مواطن حق أساسي في التحرر من الجوع، وعلي الدولة أن تعمل علي حماية المجتمع من المجاعات والكوارث".
يكفل دستور التجمع في المادة 65 "(1) للمواطنين حق وحرية التنظيم وفقا للتدابير القانونية السليمة ويشمل ذلك أ) حق تكوين الأحزاب السياسية علي ألا يقوم أي منها علي اساس ديني أو عرقي. ب) حق تكوين النقابات والإتحادات والجمعيات ومنظمات المجتمع المدني. (2) يحظر علي أعضاء الهيئة القضائية وضباط وضباط صف وأفراد القوات المسلحة وقوات الشرطة أو أي قوات نظامية أخري تكوين الأحزاب أوالجمعيات التي تمارس نشاطا سياسيا، أو الإنتماء لأي منها، أو المشاركة فيها علي أي وجه".
لتمكين الدولة الديمقراطية من تطبيق هذه الموجهات الرئيسة، نص الدستور المقترح في المادة 52 (1) علي أن "الرجال والنساء متساوون في جميع الحقوق والواجبات" ضمن عدد من المواد المؤكدة "لإزالة كافة اشكال التمييز ضد المرأة"، والمادة 53 في "حق الأطفال في الحياة والنماء والحماية والرعاية الصحية"، والمادة 55 في تحريم "الإبادة الجماعية والتطهير العرقي والقتل خارج نطاق القضاء"، والمادة 56 القاطعة بأن "التعذيب جريمة يعاقب عليها القانون ولا تسقط بالتقادم".
خصخصت سلطة الإنقلابيين الإسلاميين الدستور الإنتقالي في أشد المواد وطنية. واحتالت كمثال علي هذه المواد الحقوقية القاطعة بحذف النص الخاص "بإزالة كافة اشكال التمييز ضد المرأة" الوارد في المادة 52 من دستور التجمع الإنتقالي، لأن الإسلاميين لا يقرون الإتفاقية الدولية لحقوق المرأة بكافة بنودها. بالتالي، تنصلوا في وثيقة الحقوق من إلتزام الدولة بكل المواثيق والإتفاقات والعهود الدولية بتحجيمها "بالمُصّدق عليه من حكومة السودان" (المادة 27)!
بهذا وغيره من الحِيّل، أزالوا من الدستور ضمناً ما لا يخول لهم تعذيب المرأة أوجلدها أصلاً، تهربا مريعا من تعاليم الإسلام الرحيم، القاضية في القرآن العظيم بتفضيل وصايا الرب بالعفو والمرحمة، والعمل بحديث سيد الخلق "أوُصيكُم بالنسّاء خيْرا"، إذ هن الأمهات؛ وفيهن الزوجات، ومن أرحامهن الأحباء البنين والأحفاد.
التحرر من شؤون الغير
جُبل أهل السودان علي احترام حرمة ديارهم، والتورع عن التحشر في شؤون الآخرين. وقفت قوي التجمع الوطني الديمقراطي وقفة قوية في أمر هذه العلاقة. وتمثلت وقفتهم في إصرارهم علي تعزيز أواصر الصداقة الحقة مع الجيرة ومع المجتمعات البعيدة، وتطويرعلاقات الأخوة مع العائلة والعشيرة.
جاء في المادة 18 من دستور التجمع الإنتقالي: "تنتهج الدولة سياسة خارجية إيجابية تعبر عن وتخدم المصالح الوطنية للسودان الجديد، وتقوم علي حسن الجوار وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخري، وتحقيق المصالح المتبادلة والتعاون، واحترام تطبيق المواثيق والإتفاقيات الإقليمية والدولية، والعمل علي دعم السلم والأمن الدوليين، وتوثيق العلاقات العادلة والمشرفة بين الأمم".
تحسن حكومة السودان صُنعا من الناحية الإنسانية بإرسال أطباء سودانيين لإعانة إخوتنا الليبيين في المدن التي أحيل أهلها لاجئين يعانون أشد حاجة للعون – تماما، كما هو متوقع بالكامل من خسائر جسيمة في أتون الحرب الأهلية. والسؤال: ألّا تصرف نفس الحكومة قسطا من إكتراثها بالشؤون الصحية، لتجلس ندا بند مع أطباء السودان وتقيم العدالة في حقهم وحق شؤون شعبنا الصحية؟!
صّرخنا منذ اندلاع الصراع السياسي السلمي بين متظاهرين مدنيين وسلطات الجماهيرية في وجه مجلس الأمن الدولي وقوات الناتو والجامعة العربية وبدو الخليج وليبيا بتجنب مزالق الحرب الأهلية التي تحطمت بها مقدرات ليبيا الحضارية في المدن والقري والساحل، التي أنجزتها في 40 عاما، في أقل من شهر، ولا تزال عرضة لأطنان من الخراب والدمار، ما لم تقرر أطراف الصراع المسلح تغليب السلم علي القتال، وأخذ قابل الأوطان بالحوار الوطني الحكيم بين أبناء الوطن الواحد، وكف الأجانب عن تسيير مصالح البلاد.
لا نري داعيا لطرح المزيد... معظم ما نري إلي الآن في العربية والجزيرة تحيزا عجبا.
وغداً يومٌ جديد...
أصول وطنية
كسلا: 1975 - مدينة التاكا المخضرة، وملتقي قبابها الروحية، أقامت مصلحة المياه والتنمية الريفية مؤتمرا جادا بمعاونة عدد من المصالح المعنية لدراسة حاجات السكان لمآء الشرب النقي، والتركيز علي البدو بصفةٍ خاصةٍ في كسلا، فضاءهم اللاحق بدنقناب العطشي، حلايب السمراء، والعطبرا الزهراء؛ الساحق في بُطانة الكُبري. توافر نفرٌ طيبٌ من المهندسين وخبرآء التربة وعلماء الزراعة والري والأطباء والباحثين الإجتماعيين علي جلسات المؤتمر الشيقة بالدراسات والبحوث. ودام المؤتمر جلساتٍ من الحوار الهادف لجمهوره المشتعل وطنية و ِجدّا.
دار في المؤتمر سجالٌ حيٌ بصدق الحقائق المعاشة صباحا ومساءا، نأي خلاله المؤتمرون بأبحاثهم ومطالبهم عن عشق ساسةٍ أيامها للدعاية. سادت المواجهة علي المواربة؛ والعلم لحرص إدارة المؤتمر علي إعداد أوراقه وعناصره المُشاركة بالرأي الحر، وضمان التعقيب الصريح من العاملين في المجال. وقدمت الإدارة ممثلي الجمهور المستهدف من البدو الساعين لتوفير المياه وحسن إستغلالها للناس والحيوان لعرض حاجاتهم بأنفسهم ولغاتهم الخاصة، وليشرحوا لأهل البندر ذوي المهنة والإختصاص ما يرونه من حلول ومقترحات.
خلص مؤتمر التنمية الريفية في كسلا (1975) إلي حث الدولة علي تحرير المجتمع السوداني من التمايز الإجتماعي والتخلف الإقتصادي والإنحياز الثقافي. ورأي في مداولاته وتوصياته توجيه الدولة والمجتمع لبرامج التنمية الإجتماعية إقتصاديا وثقافيا بالتخطيط العلمي لزيادة الإنتاج ، وتوفير العمل الكريم للمواطنين، وحماية المجتمع والسكان من مخاطر تكلس البيئة وانهيارها بالتصحر والجفاف والعطش والمجاعة.
وعقب إنتفاضة مارس/أبريل المجيدة، قدم المؤتمر الإقتصادي (1986) حزماً لا تجاري من المقترحات المدروسة. شارك فيها علماء السودان وخبرائهم الوطنيين بتوصياتٍ تنمويةٍ شاملة لإصلاح البلاد ماليا وإقتصاديا، بهدف إنتشالها من فشل الإدارة وجنون الحرب وفنون أكل قوت الشعب من مصارف الطفيليين وساستهم المنبوذين.
هؤلاء عادوا كقوم عادٍ "الّذينَ طَغًوا في البِلادِ فأكْثَرُوا فِيهَا الفَسَاد"، بعد ثلاث سنوات وحسب و"صنقروا" إحدي وعشرين عاما أبدعوا خلالها بالحكم الإستبدادي تخريبا شاملا لكل برامج الإصلاح، التي توصل لها المؤتمر الإقتصادي الوطني الرشيد، في أجواء أبريل الحرية والنهوض الديمقراطي، تتويجاً علمياً لخبرات النقابيين العماليين والمهنيين السودانيين، واستجماعا رصينا لما اتفقت عليه كلمة الأهالي والخبراء آنفا – بما في ذلك مؤتمرات الدولة ووكالاتها الحكومية في مضمار العلم والعلوم والتنمية الصناعية والزراعية - عهوداً مختلفة.
دور النقابات البارز
أفلح مؤتمركسلا في إنجاز أعماله بالتخطيط العلمي أهدافا محدودة وأجندة مضبوطة بالإعداد الجمعي والإسهام الفردي الألمعي من ممثلي البدو، خبراء التنمية الريفية، والنقابيين المشاركين الذين تنصرف فقرات من هذا الأسبوعي لمكونهم الرائع في المؤتمر.
قبيل المؤتمر وبعده، قدم الأطباء الديمقراطيون آدم بقادي وكمير وجعفر محمد صالح نطاسي الأمراض العصبية الذي شرع لتوه في تأسيس الصحة النفسية والعصبية في المديرية مداخلاتٍ قيمة، بُنيت علي هموم نقابة الأطباء أيامها بصحة المواطن وعنائها بتطوير الأحوال الصحية بمشاركة الجماهير وتشجيع برامج الصحة الوقائية لدعم الصحة الإكلينيكية في العيادة والصيدلية، وتوفير التأمين الصحي والأمن الصناعي للعاملين في مختلف المواقع. وفي هذه المجموعة الوطنية الديمقراطية المخلصة لقضايا الشعب، كان للطبيبين عثمان ملاسي وموسي أوهاج لمساتٍ إنسانيةٍ مؤثرة في علاج المساكين والعناية بهم "لِوَجِهِ الله. لاّ نُريدُ مِنكُم جَزاءَا وَلَا شُكُورَا".
أما مساعد المحافظ للشؤون الصحية شيخ الأطباء جرتلي، فقد كان بإنسانيته الراقية نموذجا فاضلا لتعاطف الأطباء مع الأهالي: رأيته في لقاء آخر في بورتسودان عام 1971 – أياما قبيل حركة يوليو التصحيحية – يعلن للجنة الأمن في مكتب معتمد جبال البحر الأحمر "كيف انهمرت دموع ممثل الصليب الأحمر [الذي كان في صحبة جرتلي الإنسان] لتفقد الأحوال الصحية للمواطنين في دنقناب، وهو يري أجسادهم الناحلة، وقد نزع الجوع والعطش عنها ماء الحياة نزعا".
في جلسات المساء، تقدم القائد النقابي عمر بخيت رئيس عنبر مستشفي كسلا إلي المنصة بخطي سريعة ليلقي عددا من الملاحظات الثاقبة حول مطالب الجماهير في العتامير الناشفة، وحاجة المزارعين بقطعانهم ومزارعهم لآبار الشرب: "الماء. الماء. الماء. لا حياة ولا تنمية بدون الماء. أوقفوا الصرف الفارغ علي المراسم والإحتفالات. أصرفوا مال الحكومة علي صحة الشعب وعلي تعليم أبنائه". كلمة حق جهر بها القائد النقابي بأعلي صوتٍ، وعيناه مصوبتان علي قادة التنظيم السياسي للدولة، وأعضاء الموتمر المحيطين به يحاصرونه بالوعي من كل جانب. ثم ختم حديثه ناصحا: "لا حياة بدون ماء، ولا بقاء بلا خدمات." وقد إستقبل المؤتمرون نقد النقابي الصحيح بالإشادة والحماس. وصفقوا له طويلا. إنقطعت عنا أخبار هؤلاء القادة الأفذاذ. ولمن توفي منهم، نسألك ربنا الرحمة والرضوان.
قيادات ديمقراطية
سجن بورتسودان العمومي: 24 يوليو 1971 – تقاطر معتقلون من مجمل النقابات وحزب اليسار جماعات وأفرادا، يحيط بهم عسكر يلبسون السلاح لإجراء سلطة القبض. ينتعلونه إخافة ًللشعب أو ضربا. وبين المعتقلين شباب يافع. لا تخطئ عينٌ وخّط الشيب علي رأسهم، ُلجينا حببا. الشيخ فيهم صبي قوي العظم بالغ العزم، صبيا ليس هرما. يكاد لا يقوي علي السير؛ لكنه صلب القضية كصومعة الثغر – أم دفوفة علي الأحمر، كصنوه علي ضفة النيل في عهد رخائها الأقدم، بلاد النوبة الفضلي بهيكلها الشاهق. كلا البنآءان عابقٌ بالحضارة، يموجان بالحَب رخاءا ودفقا.
تفرسنا وجوه القادمين. لم نرَ فيها جزعا ولا ندما؛ فقد كان كل واحدٍ منهم صومعة سامقة: مصدرعلمٍ ٍرافع أو بيت فكر ٍنافع. فصِّلوا بالأقسام بحسب أوامر القبض. بعضهم محكوم ومعظمهم متهمون، أبرياء ما لم تثبت إدانتهم. أدينوا بسلطة القبض خرقا لقانونه. وكان بينهم ونار الجلاد ما بين زناد القتل وإصبع القاتل. لم ترمش لهم عين. فهؤلاء يا صاحبي قادة نقابيون، دبلومات امتيازهم ممنوحة لهم بمرتبة الشرف الدرجة الأولي كما تفعل جامعات العالم من مدرسة الحركة الجماهيرية العريضة، وأعظم دروسها التضحية بأغلي الغوالي: النفس والمال والوقت والجهد لإتقان فن الدفاع عن حقوق الشعب، والتصدي بالجسارة كلها والبسالة لأفندية الحكم وتجار السلطة، سارقي القوت، زبانية الحرية.
شهدنا في صبرهم سمو أخلاقهم وحسن أدبهم مع شعبهم - بعض ما خبروه بعمر خدمتهم نقاباتهم في شارع السودان الأصيل بالصبروالإكرام، ٍوالإيثار في الكرب. أضحي كل واحد منهم مدرسة كاملة البنآء، متعددة الأنهر، متمددة، تسع فيض الثقافات والاعراق في مودةٍ لا تجد لها مثيلا إلا في بيوت سودانيتهم التي منها انطلقوا مع العامة لإدارة سياستهم قبيلا قبيلا. حمل جمعنا اليوم ذكراهم، تظل سماوات أرضنا الطاهرة، تجدد للأجيال حق الوطن عليهم وأمل إنسانه فيهم. رأيناهم، يحمل كل فردٍ منهم في يدٍ قلما، وفي الأخري مشعلا. رايناهم يسقون غرس النضال كما حلقت بالجمع رؤياهم:"بصافيةٍ، لا كالسُلاف، ولا بالورد رَيانا"، في كّلم أمير الشعرآء شوقي السامق.
عّبدالعزير فوزي
خصنا النقابي المهندس عبد الرحيم الطيب بكلماتٍ من القلب دوّن بها قطفة ًدانية من حبه العميق للقائد النقابي عبدالعزيز فوزي رئيس السلك الكتابي بمصلحة السكة الحديد في مدينة الحديد والنار، عطبرة النقابات ومعقل تطبيق الحريات المدنية وعلي رأسها حق الإضراب. قال المهندس يرثي رفيقه السياسي النقابي العليم: "كان زعيما بحق؛ برا بشعبه؛ مثالا للقيادة؛ محبوبا من الكل".
كان عبدالعزيز فوزي – رحمه الله - قائدا حكيما لا صنو له في إدارة أنشطة النقابات العمالية والمهنية العطبراوية العديدة ورتق صداماتها الصارمة مع الساسة والإداريين، دفاعا عن حقوق النقابيين، وانتصارا لهم من موقعه الثمين في إدارة المصلحة. إجتمعت علي قدراته القيادية كلمة القوي السياسية والنقابية علي اختلاف برامجها؛ فاكتسب احترام الجميع؛ وحظي بتوقيرهم؛ وأصبح مرجعا إجتماعيا لا غني عنه لحل نزاعات التنسيق، ونزع فتيل التراشق ومخططات الكيد والتضليل من أفندية السلطة وإداراتها البيروقراطية، وحزب الدولة وأجهزة أمنها كلما استقطب صراع واستحكم حول القوانين النقابية وجدولة الورديات وميزانية الأجور والمكافات وبند المخصصات.
علة علات الخدمة العامة في السودان في الماضي والحاضر، أن أكثر من ¾ المخصص الكلي للفصل الأول من الميزانية السنوية (أجور ومرتبات) تذهب إلي جيوب الدرجات العليا بالهيكل الوظيفي (المجموعات)، ويتقطر باقي الأرباع المأكولة علي قاعدة العمال والموظفين الواسعة في الرتب الأدني، يتبخر منها قدر عائدا لأرباع "السباع" بالخصم والضرائب المباشرة، ويختفي الباقي القليل قبل قبضه في الديون و"جرورة" الكنتين.
مع فقراء العمال وصغار المزارعين وبدو العتامير، كان فكر فوزي يلتهب بالوطنية والإلتزام بمصالح الجماهير. ظل بناء حركتهم السياسية والنقابية المستقلة، وتوقير مطالبهم، وتدريب قياداتهم، وتكريم أشخاصهم، غاية جهده ونهج حياته لنيل رضائهم إلي أن لاقي ربه "راضيا مرضيا" بإذنه. وهذا يا صاحبي أغني معاني الوطنية والنضال من أجل الديمقراطية. ولسوف نعود في أسبوعيات قادمة لقيادات نقابية جليلةٍ أخري، ربما لم تسمع عنها بعد أجيال شبابنا المناضلة الحاضرة.
مرجعية دستور التجمع
نري صراحة أن ما تبنته القوي النقابية الديمقراطية في مؤتمرات العمل الجماهيري الجاد لدراسة مطالب الشعب والخلوص بأفضل توصيات عملية لتحقيقها، هيأت المجال السليم لما تواتر عبر السنين من نضال للقوي السياسية والعسكرية الوطنية لإصدار ميثاق وطني متقدم الطرح، مستجمعا لأفضل ما يصوغه السودانيون من دستور لحكم بلادهم بأنفسهم. فماذا يفعل الحاسد مع الرازق، وكل السودانيين وطنيين ديمقراطيين بالفطرة والطبيعة، عدا الإنقلابيين الإسلاميين بسجلهم الوطني خالي الوفاض من قيم الوطنية والديمقراطية؟
دليل الحديث عن زعامات الحركة النقابية العمالية والمهنية السودانية يقود بالضرورة إلي تثبيت تلك الحقيقة الباهرة. فلنذكر المزيد من مواد دستور السودان الوطني الديمقراطي - فقراتٍ تاريخية من مساهمات الأحزاب الليبرالية والتقدمية في إزكاء قيم النضال في سبيل إقامة الدولة الديمقراطية والعمل الجاد علي إزالة الفقر، وإعلاء شعار الإصلاح بتبني قضايا الحركة الجماهيرية لتطوير الحياة العامة.
تكاتفت هذه القوي الوطنية الديمقراطية في مواجهة الديكتاتورية والسلطة الإستبدادية منذ أيام الإدارة البريطانية الإستعمارية، ثار المزارعون في مشروع الجزيرة ضد عسف الإدارة قبل أن يؤسس المشروع بعد ذلك بسنوات. وواصلت الحركة الجماهيرية رسالتها طوال الأنظمة والعهود المتوالية ما بعد الإستقلال، ليس طلبا لوظائف أو رغبة في ثروة. ولنري بقليل من التفصيل شيئا من مرجعية دستور التجمع الوطني تمثلا بأفكار النقابيين – علي نحو ما يبينه مؤتمر التنمية الريفية قبل 36 عاما من اليوم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.