لجان مقاومة النهود : مليشيا الدعم السريع استباحت المدينة وارتكبت جرائم قتل بدم بارد بحق مواطنين    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    جامعة ابن سينا تصدم الطلاب.. جامعات السوق الأسود والسمسرة    من رئاسة المحلية.. الناطق الرسمي باسم قوات الدعم السريع يعلن تحرير النهود (فيديو)    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    بحضور عقار.. رئيس مجلس السيادة يعتمد نتيجة امتحانات الشهادة السودانية للدفعة المؤجلة للعام 2023م    إعلان نتيجة الشهادة السودانية الدفعة المؤجلة 2023 بنسبة نجاح عامة 69%    والد لامين يامال: لم تشاهدوا 10% من قدراته    احتجز معتقلين في حاويات.. تقرير أممي يدين "انتهاكات مروعة" للجيش السوداني    هجوم المليشيا علي النهود هدفه نهب وسرقة خيرات هذه المنطقة الغنية    عبد العاطي يؤكد على دعم مصر الكامل لأمن واستقرار ووحدة السودان وسلامة أراضيه    منتخب الشباب يختتم تحضيراته وبعثته تغادر فجرا الى عسلاية    اشراقة بطلاً لكاس السوبر بالقضارف    المريخ يواصل تحضيراته للقاء انتر نواكشوط    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    ترامب: بوتين تخلى عن حلمه ويريد السلام    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    ارتفاع التضخم في السودان    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مراحل تطور مشروع السودان الجديد 1 - في العصر الإستعماري (1900- 1956م)
نشر في سودانيزاونلاين يوم 30 - 04 - 2011


[email protected]
مراحل تطور مشروع السودان الجديد
1 - في العصر الإستعماري (1900- 1956م)
نرجع نشأة المشروع الحداثى العلماني، ضمن الحركة السياسية السودانية، إلى تأثير الفترة الإستعمارية التي عرفت في تاريخ السودان الحديث بالحكم الثنائي، والتي امتدت على مدى ثمانية وخمسين عاما، (1956.1898)، كما نرجعها للتطور الطبيعي للفكر السياسي الذي ينمو من خلال الاحتكاك والاطلاع على تجارب الآخرين. ويرى الباحث في تاريخ السودان الحديث ب.م. هولت بأن الإرتباط بالأفكار الغربية العلمانية العلمانية (لم يحدث للسودانيين إلا بعد تأسيس الحكم الثنائي) [1]
ويبدو ان الأمر لم يترك لآليات الحراك الإجتماعي السياسي لبلورة الإتجاه الحداثى العلماني في الساحة السودانية. فقد عمل عدد من صانعي السياسة من الإداريين البريطانيين في السودان، مدعومين بوزارة المستعمرات، وليس الخارجية البريطانية، عملوا على تأسيس هذا التيار أو على الأقل تشجيع طرحه كأحد الخيارات لمستقبل السودان. وكان هؤلاء يرون ان السودان خلافا لمستمرات أخرى، يمكن ان يتبع خطى سيلان والهند في تأسيس نظام حكم لبرالي علماني. بل ان بعض البريطانيين قد عمل من أجل ذلك صراحة.
يقول K.D.D Henderson في كتابه:
(The Making of The Modern Sudan)
(Newbold faith in the Western democratic institutions as the best alternative instrument has been questioned by many in the Sudan, British and the Sudanese, alike, who look doubtfully at the precedents of Egypt, Syria, and Persia, but there is a quality in the Sudanese which gives reasons that they may follow in the foot steps of Ceylon, India and Pakistan (members of the Commonwealth), rather than in those of not stable states of Middle East)[2]
(ان إيمان نيوبولد بمؤسسات الديمقراطية الغربية كأفضل وسيلة بديلة، قد نوقش من قبل العديدين في السودان بريطانيين وسودانيين على السواء، وجميعهم لينظرون بكثير من الشك إلى التجارب السابقة في مصر وسوريا وبلاد الفرس. لكن هنالك ميزة في الشعب السوداني تعطي أسبابا ترجح أنهم قد يتبعون خطى سيلان والهند وباكستان (الأعضاء في الكمونوليث) أكثر من أتباعهم خطى تلك الدول غير المستقرة في الشرق الأوسط)[3]
وحيث ان الحركة السياسية السودانية قد إنقسمت في بداية تكوينها حول محورين كبيرين هما المشروع الإستقلالي ذو التوجه الديني والمشروع الإتحادي ذو التوجه العروبي، فانه لم يكن أمام الإدارة البريطانية في السودان، والتي لديها من الأسباب ما يجعلها ترفض كلا المشروعين، لم يكن أمامها سوى تشجيع أو حتى فرض المشروع الحداثى العلماني إذ اقتضى الأمر. فهي لم تكلف نفسها مشقة فتح السودان، لتسليمه لابن المهدى أو لملك مصر. وإنما فتحته ليرتبط بها سياسيا وإقتصاديا، عبر النظام الديموقراطي وعبر الكومونويلث.
وكان طبيعيا أن تتجه الإدارة البريطانية إلى المتعلمين المتخرجين من مدارسها الحديثة لتأسيس تيار سياسي ثالث ينادي بإستقلال السودان بعيدا عن مصر وبعيدا عن ابن المهدي. غير أن التاريخ يثبت لنا أن المتعلمين قد خذلوا التوجه السياسي البريطاني في السودان مرتين. مرة حين اختاروا التوزع بين التيارين الكبيرين، الإتحادي العروبي والإستقلالي الديني كما يتضح من حركة (مؤتمر الخريجين). ومرة ثانية بانخراطهم وقيادتهم للثورة ضد الوجود الإنجليزي في وادي النيل تجاوبا مع الثورة الوطنية المصرية ما بين عامي 1919و1924.
هكذا بدأت السلطات الإستعمارية البريطانية في البحث عن بديل للمتعلمين ليقوم بعبء الدعوة للتيار الحداثي العلماني الديموقراطي الديموقراطي ضمن الحركة السياسية السودانية. ومما له أهمية خاصة جدا في فهم الحركة السياسية السودانية في الوقت الراهن، أن نعي بوضوح أن الفئة الإجتماعية السياسية الثانية التي وقع عليها إختيار السلطات الإستعمارية لتقوم بعبء الدعوة للتيار الحداثي العلماني الديموقراطي الديموقراطي ضمن الحركة السياسية السودانية، هي فئة ساكني (الهامش الجغرافي) والأطراف (الهامش الجغرافي). فمن المعروف تاريخيا أن الإدارة الإستعمارية حين يئست من فئة الخريجين، قد تحولت إلى زعماء القبائل في الشمال والشرق والغرب والجنوب، ودفعتهم دفعا إلى تكوين (الحزب الجمهوري الإشتراكي) لينادي بإستقلال السودان بعيدا عن مصر وابن المهدي.
ولم يكن هذا الإختيار أمرا عشوائيا، فقد كانت الإدارة الإستعمارية تعتقد أن مصلحة الخريجين (المتعلمين)، كفئة إجتماعية تشكل نواة لبرجوازية صغيرة، قادرة علي إدارة البلاد، كانت تعتقد أن مصلحة هذه الفئة ترتبط بالحداثة والديموقراطية والعلمانية وإضعاف النفوذ الطائفي. ولما عميت هذه الفئة عن مصلحتها، بحثت الإدارة الإستعمارية عن الفئة الثانية التي ترتبط مصالحها بالحداثة والديموقراطية والعلمانية وتتناقض أهدافها مع أهداف التيار الإتحادي العروبي والتيار الإستقلالي الديني، فلم تجد سوي أهل (الهامش الجغرافي).
ولم يكن أهل (الهامش الجغرافي) في ذلك الزمن بأحسن حال من المتعامين. فهم أيضا قد فات عليهم فهم مغزى محاولة الإدارة الإستعمارية خلق تيار ثالث منهم. وقد أثبت هذا الفشل الإستعماري المتكرر، أن النفوذ الطائفي في السودان من التجذر والعمق بحيث إستطاع أن يهزم أماني الإمبراطورية البريطانية حول مستقبل السودان. إلا أن المحاولة نفسها تظل ذات مغذي خطير. فهذه التجربة تؤكد إرتباط مصالح أهل (الهامش الجغرافي) والهوامش بالعلمانية، بناءا علي أن غالبية أهل (الهامش الجغرافي) لا يدخلون ضمن التصنيف العرقي – الثقافي العروبي أو التصنيف الديني الإسلامي. وقد تجلت هذه الحقيقة ساطعة قبل الإستقلال بالنسبة للجنوبيين، وبعد الإستقلال بالنسبة لأهل جبال النوبة وشرق السودان وغربه، فبدءوا في تكوين أحزابهم وروابطهم وإتحاداتهم السياسية بعيدا عن التيارين الكبيرين، الإتحادي العروبي والإستقلالي الديني.
ومع كل هذا الفشل الذي لازم محاولات النهوض بالمشروع الحداثي العلماني الديموقراطي الديموقراطي وسط الحركة السياسية السودانية، إلا أن هذا المشروع قد إنتصر في نهاية المطاف ولم ينل السودان إستقلاله أول عام 1956 إلا تحت رايته. غير أن انتصار الإتجاه الحداثي العلماني الديموقراطي الديموقراطي عشية الإستقلال، لم يجيء نتيجة لقوة التيار الحداثي العلماني الديموقراطي الديموقراطي وسط الحركة السياسية السودانية. وإنما جاء نتيجة لتطورات ضخمة ومتغيرات خطيرة، قادت لإنتصار هذا الإتجاه السياسي الذي أخذ السودان إستقلاله تحت رايته. فقد جرت مياه كثيرة تحت الجسر فيما يخص العلاقات الإتحادية - المصرية، عشية إستقلال السودان. حيث بدأ الإتحاديون يتملصون علنا من الدعوة للإتحاد مع مصر وبدأت الصحف المصرية الرسمية تهاجم الزعيم الإتحادي إسماعيل الأزهري. وكما أوضحنا سابقا فإن الإتحاديين لم يستسيغوا أو يهضموا مطلقا الخطاب السياسي الجديد لمصر الناصرية بسبب تجذر حركتهم في عمق الطبقة الوسطي التجارية في المدن السودانية، والتي قامت في ظلها الصلات القوية بين القيادة الإتحادية والساسة المصريين قبل قيام الثورة في يوليو عام 1952. فإذ تذكرنا بان العلاقات المصرية الإتحادية كانت في ظل العهد العلماني في مصر والذي أفرزته الثورة البرجوازية التجارية في مصر، فإننا يمكن أن نتفهم بسهولة أن عناصر الطرد بالنسبة للإتحاديين بعيدا عن مصر الناصرية كانت أقوي من عناصر الجذب عشية إستقلال السودان.
وهذا التطور يعني بالضرورة تقاربا إتحاديا - بريطانيا، خاصة إذا تذكرنا بان غالبية المتعلمين (أعضاء مؤتمر الخريجين) كانوا إتحاديين. لهذا يمكن أن نري بسهولة بأن بريطانيا قد وجدت ضالتها في هذا التباعد الإتحادي – المصري. فقد كانت بريطانيا في الأصل تراهن علي المتعلمين من السودانيين، والذين درسوا في المدارس التي أنشأتها الإدارة الإستعمارية في السودان. وكانت بريطانيا تأمل في ان ينهض هؤلاء بالدعوة لنظام الحكم العلماني المرتبط ببريطانيا عبر الكومونويلث. وبعد أحداث ثورة 1924، فقدت بريطانيا الأمل في هؤلاء المتعلمين.
غير أن متغيرات الأحداث قد أعادت الأمل مرة أخرى للإدارة الإستعمارية البريطانية، في دور ليبرالي علماني يلعبه هؤلاء المتعلمون لتحقيق سياستها الرامية إلى (قيام سودان، حسن الحكم، مستقل عن مصر، وفي علاقات ودية مع بريطانيا، وخاضع للنفوذ البريطاني)[4]
وخلال العامين 1953.1952، يبدو أن البريطانيين قد اقتنعوا بان إسماعيل الأزهري والإتحاديين هم الأقدر والأكثر أمانا على تنفيذ تلك السياسة البريطانية مقارنة مع عبد الرحمن المهدى و(حزب الأمة). فقد ورد في المذكرة التي نعتبرها اخطر وثيقة توضح بجلاء إتجاهات السياسة البريطانية والسودان على أعتاب الإستقلال .. ورد فيها ما يلي: (ومن المفترض أنه لا يهم حكومة صاحبة الجلالة البريطانية سواء جاء إستقلال السودان على أيدي الحزب الوطني الإتحادي أو حزب الأمة. وقد ظللنا نؤيد هذا الحزب الأخير لأنه يمثل القوة الرئيسية للسودانيين الذين يعلنون تحيزهم للإستقلال. وهنالك في حقيقة الأمر عدد من الحجج المؤيدة للرأي القائل باحتمال أن يكون الإستقلال عن طريق الوطني الإتحادي اشد خدمة لأهداف الحكومة البريطانية في السودان عن احتمال الإستقلال عن طريق حزب الأمة)[5]
أوضح أن التحليل للفعآليات السياسية السودانية عشية الإستقلال قد هداهم إلى أن الإتحاديين لا يستطيعون إلا أن يكونوا لبراليين بعد ان فقدوا حرصهم على العلاقة الخاصة مع مصر التي منبعها الخوف من هيمنة المشروع المهدوى الديني. فمن ناحية تحولت مصر إلى الإشتراكية، ومن الناحية الأخرى، هزيم (حزب الأمة) في إنتخابات عام 1953. وقد وردت هذه النتيجة حرفيا ضمن مزكرة الحاكم العام الضافية التي نقتطف منها هنا: (16 - بالنسبة للنقطة (أ) أعلاه هنالك دلائل، كما سبق وأوضحنا، بان عقل الحزب الوطني الإتحادي، وخاصة الختمية، يتجه نحو فكرة الإستقلال، وانهم لم يعودوا يلعبون اللعبة المصرية بحرص كما كانوا يفعلون من قبل)[6]
هذا الإتجاه السياسي البريطاني مضافا إليه نفور الإتحاديين من سياسات مصر الراديكالية الجديدة، كل ذلك قد خلق تداخلا وخلطا في هذه المرحلة من تطور الحركة السياسية السودانية بين المشروع الإتحادي العروبي والمشروع الحداثى العلماني. ومن هنا جاءت هزيمة المشروع الديني المهدوى في أول إنتخابات تجرى في السودان أواخر عام 1953. فقد واجه الأخير منفردا قوي المشروع الإتحادي العروبي المدعوم من مصر، زائدا قوي المشروع الحداثي العلماني الديموقراطي الديموقراطي المدعوم من بريطانيا، وكان لا مناص من الهزيمة.
توضح هذه الملابسات السياسية عشية الإستقلال بان التيار الحداثي العلماني الديموقراطي الديموقراطي قد اكتسب قوة هائلة ممثلة في الإتحاديين دون أي مجهود يذكر من عناصره أو من الإدارة الإستعمارية البريطانية التي تدعمه. وهذا يعني بأن إتفاقية السودان لعام 1953 بين مصر وبريطانيا، قد سقطت وتجاوزتها الأحداث، خاصة في شقها الذي ينص علي إستفتاء الشعب السوداني بين الإستقلال التام أو الدخول في علاقة سياسية مع مصر. فلم يعد أحد يريد هذه العلاقة السياسية مع مصر. حتى الختمية لم يميلوا إلى مصر إلا بعد أن مالت أمريكا إلى (حزب الأمة) بعد الإستقلال بسنوات..
وأخطر هذه التطورات كانت هي سهولة نيل السودان إستقلاله، فبريطانيا السعيدة بهزيمة التيار الديني، والسعيدة أكثر بانفصام علاقة الإتحاديين مع مصر، كانت علي إستعداد للإسراع بإكمال إجراءات الإستقلال وإعلان جمهورية السودان المستقلة ذات الحكم الديمقراطي ألتعددي والتغاضي عن شرط الإستفتاء.
ومن هنا يتضح بأنه لا صحة مطلقا للقول بان إستقلال السودان قد تحقق بالمناورات والتكتيكات والمقالب السياسية. فقط، لم يكلف أحد نفسه تحليل ما حدث لمعرفة حقيقة ما حدث. والنتيجة الهامة التي نحرج بها هنا، فيما يلي موضوعنا، هي أن انتصار التيار الحداثي العلماني الديموقراطي الديموقراطي قد جاء ظرفيا وأن نظام الحكم الديمقراطي قد ظل يعاني من هذه الظرفية طوال تاريخ الحركة السياسية السودانية. فقد أصبح قدر هذا النظام أن يكون محطة وسطي يستريح فيها المتحاربون ساعة ريثما يواصلون القتال. ولعل السبب الرئيسي وراء ذلكم الضعف الذي ظل يعتري نظام الحكم الديمقراطي، هو أنه لم يتحقق عبر إرادة ومجهود أصحاب المصلحة الحقيقية في قيامه من أهل (الهامش الجغرافي) والهوامش أو المثقفين العلمانيين في المدن. وإنما تحقق بشروط ظرفية وكناتج جانبي.
2 - في العصر الإستقلالي (1980.1956)
في بداية الأمر وبعد توقيع إتفاقية الحكم الذاتي أو ما عرف بإتفاقية السودان بين بريطانيا ومصر عام 1953، واثر الزخم السياسي الذي فجره الصاغ صلاح سالم في السودان، تيقن الإداريون الإستعماريون البريطانيون بان السودان سوف يتحد مع مصر. وكان هذا من جميع الأوجه هزيمة للخط السياسي الذي عمل من اجله هؤلاء الإداريون. فقد كانت هنالك ثلاثة مشاريع سياسية حول مستقبل السودان كما أوضحنا، هي المشروع الإستقلالي الديني المهدوى بقيادة السيد عبدالرحمن المهدى، الذي يرى أنه الوحيد الذي يطرح بديلا وطنيا للحكم الثنائي وهو المهدية الثانية. وكان هنالك المشروع الإتحادي العروبي المرتبط بمصر والذي ظل ألاقوى سياسيا منذ نشوء الحركة السياسية الوطنية. وكان هنالك المشروع البريطاني الحداثى العلماني الذي لم يحظ بتيار سياسي متماسك يقف وراءه.
وكان الصراع على أشده بين مصر وبريطانيا، حيث كانت كل دولة تحاول أن تنصر المشروع السياسي الذي تسانده. وظل السيد عبد الرحمن المهدى والإستقلاليون ندا لدولتي الحم الثنائي. ولما اجتمع الصاغ صلاح سالم بجميع الأحزاب السودانية واتفق معها على الموقف الذي سوف تتخذه مصر أثنا المفاوضات مع بريطانيا حول مستقبل السودان، ثم تلي ذلك فوز الإتحاديين الساحق في إنتخابات الحكم الذاتي، فإن الإداريين البريطانيين قد تيقنوا من الهزيمة. وقد ورد التعبير عن هذا اليقين بجلاء في الرسالة التي بعث بها السير جيمس روبرتسون السكرتير الإداري لحكومة السودان في الثالث عشر من فبراير عام 1953 إلى وكيل حكومة السودان في لندن مستر سى . سى. ديفز. جاء في تلك الرسالة (إني اشعر باني هزمت، وهزمت معي السودانيين باستثناء السيدين ]على الميرغنى وعبدالرحمن المهدى[)[7]. وترجمة هذا الشعور البائس إلى لغة هذا التحليل توضح بان هذا الإداري البريطاني يقول بأن المشروع الحداثى العلماني اليموقراطي قد هزم أمام المشروع الإتحادي العروبي والمشروع الإستقلالي الديني. كيف لا وهذا الإداري يرى بأم عينه بأن من كان يعتمد عليهم لإنهاض المشروع الحداثى العلماني قد توزعوا بين المشروعين الآخرين.
لكن ما فشل هذا الإداري الإستعماري في قراءته قراء صحيحة، هو ان الدعوة الإتحادية قد دخلت في مفارقة تاريخية بسبب ذلك التناقض الجوهري الذي نشا بين حزبها المعتمد على البرجوازية التجارية في السودان من جهة وبين الطرح السياسي الراديكالي لمصر الناصرية من الجهة الأخرى. وهذا ما أدركه الإداريون البريطانيون بعد إستقرار حكومة الإتحاديين في السلطة بعد انتخابات الحكم الذاتي.
وهكذا فإن النتيجة النهائية للأوضاع السياسية في السودان كانت هي انتصار المشروع الحداثى العلماني الديموقراطي بدون عمل ناجح من قبل الإداريين الإستعماريين وبلا تنظيم سياسي معلوم يقف خلفه. فقد هرب الإتحاديون من راديكالية مصر الناصرية، وهزم المشروع الإستقلالي الديني في الإنتخابات، وتحدد مصير السودان كجمهورية ديمقراطية تعددية علمانية.
3 - في عصر التحولات الكبرى ( 1980 – 2005 )
شهدت نهاية السبعينات من القرن العشرين تحولات كبرى علي صعيد العالم العربي كله. فقد أذنت هذه الحقبة بإنهيار المشروع القومي الإشتراكي العروبي. وبدأ أنور السادات في مصر خطوات المصالحة والتطبيع مع أعداء القومية العربية، إسرائيل وأمريكا. وانفرط عقد جامعة الدول العربية وتوزعت مكاتبها ما بين تونس وبغداد.
هذه هي الحقبة التي إستطاع فيها الدكتاتور نميري تكريس السلطة كلها في يده. فبعد أن تخلص من الوصأية الشيوعية في بداية السبعينات، ول


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.