[email protected] لم تتوقع آمنة أحمد أدحو من إحدى قرى الصومال النائية أن القدر يخبئ لها مأساة إنسانية من العيار الثقيل تفقد على إثرها ثلاثا من فلذات كبدها واحدة تلو الأخرى خلال 72 ساعة ، قصة تراجيدية كان القحط و الجفاف بطلها الأوحد ، فقد أحكم العطش قبضته على مفاصل الحياة في قريتها ( جيد ررن ) في إقليم شبيللي الوسطى و المناطق الأخرى بصورة لم يسبق لها مثيل ، ونفق الزرع و الضرع وأصبح الناس على شفا الهاوية فأرادت أن تنجو بنفسها وصغيراتها الثلاث من الموت الذي أصبح قاب قوسين أو أدنى، وحملتهن وتحركت باتجاه المدينة التي تبعد عشرات الكيلو مترات عن قريتها سيرا على الأقدام علها تحظى بقطرة ماء ترد الروح إلى الأجساد الهزيلة وتعيد الأمل في البقاء على قيد الحياة ، وكلما أنهكها المسير آوت وصغيراتها إلى ظل لا بارد ولا يغني من لهب السموم التي تلفح الوجوه وتجفف ما بقي من رحيق الشفاه التي تيبست ، وما أن تجلس برهة حتى تلوح لها في الأفق بركة مياه صافية و نبع زلال فتنهض على الفور لتكمل المشوار علها تحظى وبناتها برشفة منه لا عطش بعدها أبدا ، وحين تصلها تجدها ( سراب بقيعة يحسبها الظمآن ماء ) .
واستمرت على هذه الحال ساعات طوال حتى خارت قوى صغيراتها وتمكن منهن التعب و الإرهاق وبدأن يسقطن واحدة تلو الأخرى كأوراق الأشجار الذابلة ، وحدث ما كانت تخشاه الأم المكلومة حيث توفيت البنت الأولى ووارت جثمانها الثرى بالقرب من الطريق الرئيسي الذي سلكته ، وتركت الثانية عند جماعة في قرية مجاورة للمنطقة التي توفيت فيها الأولى ، وحملت الثالثة على كتفها علها تنقذها من المصير الذي حاق بشقيقتها ، ولكن محاولاتها باءت بالفشل حيث توفيت هي الأخرى ووارتها الثرى في مكانها ، ولم يبق لها من حطام الدنيا إلا تلك التي تركتها مع أسرة على قارعة الطريق ، وعادت أدراجها إليها لتجدها هي أيضا قد فارقت الحياة . هذه واحدة من القصص الإنسانية المهمشة و المنسية في ظل التركيز الإعلامي الراهن على تطورات الأوضاع السياسية على الساحة العربية ، وهي من المآسي الإنسانية التي تسطرها تراجيديا القحط و الجفاف في الصومال يوميا بمداد الحزن و الأسى على شعب أقعدته الملمات و المحن وأنهك كاهله ثالوث الفقر و الجهل و المرض فضلا عن النزاعات و الحروب الداخلية . لا شك إن المياه تشكل عنصرا أساسيا للبقاء على هذه البسيطة ، وبدونها تصبح الحياة مستحيلة ، وصدق الله العظيم القائل ( وجعلنا من الماء كل شيء حي ) . وقد تفاقمت كارثة القحط و الجفاف في الصومال في السنوات الأخيرة ، وتعتبر الأسوأ خلال الأربعة عقود الماضية بسبب شح المياه بصورة لم يسبق لها مثيل ، حيث جفت برك المياه ونضبت عيون الآبار السطحية والارتوازية ، و ساهم مناخ الصومال الصحراوي في تعميق حدة الأزمة إلى جانب عوامل أخرى منها أن المعدل السنوي للأمطار يتراوح ما بين 10 إلى 20 بوصة ، في حين لا تزيد مساحة الأراضي الصالحة للزراعة عن 2 في المئة من مساحة البلاد الإجمالية ، هذا فضلا عن التعدي الجائر على ثروة الصومال الطبيعية و البيئية و الإضرار بالغابات الاستوائية وقطع الأشجار بغرض إنتاج الفحم النباتي ما أدى إلى موجات متعاقبة من الجفاف . تداعيات الكارثة الإنسانية في الصومال حدت بالمنظمات الإنسانية إلى تعزيز جهودها هناك للحد من وطأة المعاناة وتحسين الحياة ولكن تعثرت تحركاتها بسبب الأوضاع الأمنية وبالتالي صعوبة الوصول إلى المتضررين وتقديم المساعدات المطلوبة لهم ، إلا أن هيئة الهلال الأحمر الإماراتية كان لها رأي آخر ولم تستسلم للظروف الميدانية المحيطة بالمتأثرين وقررت الوصول إليهم في كل الأحوال و الظروف وإنقاذ حياتهم من خلال إمدادهم باحتياجاتهم من المياه ، وتلقت الهيئة العديد من النداءات الإنسانية من عدد من الجهات داخل الصومال تفيد بارتفاع عدد الوفيات بين الأطفال بسبب الجفاف الذي من المتوقع أن تستمر تداعياته حتى حلول موسم الأمطار القادم ، و تحركت الهيئة فور تلقيها أنباء تفاقم محنة العطش في الصومال ووجهت مكتبها في مقديشو بوضع خطة إسعافية عاجلة لتدارك الموقف وتوفير المياه التي تمثل شريان الحياة لآلاف الأسر و الأطفال الذين يواجهون شبح الموت عطشا . و بناء على ذلك نفذت الهيئة برنامجا إنسانيا لمحاربة العطش في شمال وجنوب الصومال وفرت من خلاله مياه الشرب الصالحة لسكان المناطق التي ضربها الجفاف ، وقامت الهيئة بتوفير المياه وجلبها من مناطق بعيدة عبر صهاريج كبيرة وتوزيعها على المتضررين من خلال مواقع رئيسية تم تحديدها في مناطق الكثافة السكانية العالية و الأشد تأثرا، ولأن ( في كل كبد رطب أجر ) لم تغفل الهيئة المواشي و الحيوانات مصدر الرزق الأساسي للسكان وخصصت لها نصيبا وافرا من المياه ، وتستمر جهود الهيئة في هذا الصدد حتى انجلاء كارثة القحط و الجفاف مع بداية فصل الخريف .
ومن نافلة القول أن هيئة الهلال الأحمر الإماراتية تولي برامج محاربة العطش في أفريقيا بصورة عامة و الصومال خاصة اهتماما كبيرا وتعمل على توفير مصادر المياه الصالحة للشرب في المناطق و الدول التي تشهد شحا شديدا في هذا الجانب الحيوي و الهام سواء من خلال حفر الآبار في المناطق الصحراوية أو إقامة السدود لتجميع مياه الأمطار و حفظها و استخدامها في أوقات القحط و الجفاف ، ويعتبر مشروع حفر الآبار من المشاريع الرائدة في الهلال الأحمر، و تمكنت الهيئة خلال السنوات القليلة الماضية من حفر 7 آلاف و 188 بئرا في 18 دولة بتكلفة بلغت 53 مليونا و 821 ألفا و 806 دراهم حوالي ( 15 مليون دولار )، منها 504 آبار في الصومال وحدها ، وذلك ضمن مشاريع الهيئة التنموية المنتشرة في المناطق و الساحات الهشة ، وتهتم الهيئة بهذا النوع من المشاريع الحيوية لتوفير مصادر المياه التي هي عصب الحياة ، ويجد المشروع تجاوبا كبيرا من المتبرعين و الخيرين في الإمارات باعتباره من فضائل الأعمال وصدقة جارية لصاحبه إلى يوم القيامة ، و تقوم الهيئة بتسويقه على المحسنين وتلتزم بتنفيذه في الدولة التي يحددها المتبرع بناء على طلبه ، وتتلقى الهيئة على مدار العام طلبات لحفر الآبار من مختلف الدول خاصة في أفريقيا و آسيا . هذه الجهود عززتها مبادرات كثيرة اضطلعت بها منظمات إماراتية أخرى في المجال الإنساني ما جعل الدولة تتبوأ المرتبة الأولى عالميا في نسبة المساعدات الخارجية بالمقارنة مع ناتجها القومي الإجمالي ( GNI ) ضمن الدول المانحة غير الأعضاء في لجنة المساعدات الإنمائية التابعة لمنظمة التعاون الاقتصادي و التنمية ( ( OECD كما احتلت الإمارات المرتبة 14 عالميا بين الدول المانحة الرئيسية لعام 2009 وذلك حسب إحصائيات المنظمة الدولية . لا شك إن تفاقم الكوارث الطبيعية و البيئية في السنوات الأخيرة أدى إلى خسائر كبيرة في الأرواح و الممتلكات و أشارت آخر التقارير إلى أن عام 2010 وحده شهد 950 كارثة طبيعية خلفت 295 ألف قتيل وتسببت في خسائر مادية بلغت قيمتها 130 مليار دولار ، وعطلت هذه الكوارث المدمرة مشاريع التنمية و البناء في العديد من الدول ، وتسببت في زيادة عملية النزوح من القرى و البلدات تجاه الحضر مما أدى إلى عملية ترييف واسعة للمدن وتكدس النازحون و المهمشون حولها ، وأحيطت العواصم بسياج واق من بيوت الصفيح و أصبحت بؤرة لتفشي الجريمة ومصدرا للانفلات الأمني ، وفي محور آخر مثلت هذه التداعيات تحديا آخر للحكومات و الجهات المختصة عجزت أمامه عن توفير خدمات الصحة و التعليم و الأساسيات الأخرى ما جعل القطاع الخاص يلج إلى هذه المجالات الحيوية ويفرض أسلوبه في إدارتها و توفيرها بأسعار باهظة الشيء الذي أثقل كاهل الشرائح الضعيفة و فاقم معاناتها .