السودان..وزير يرحب بمبادرة لحزب شهير    الهلال السوداني يلاحق مقلدي شعاره قانونيًا في مصر: تحذير رسمي للمصانع ونقاط البيع    تيك توك يحذف 16.5 مليون فيديو في 5 دول عربية خلال 3 أشهر    "ناسا" تخطط لبناء مفاعل نووي على سطح القمر    ريال مدريد الجديد.. من الغالاكتيكوس إلى أصغر قائمة في القرن ال 21    وفد المعابر يقف على مواعين النقل النهري والميناء الجاف والجمارك بكوستي    الناطق الرسمي باسم قوات الشرطة يكشف عن إحصائيات بلاغات المواطنين على منصة البلاغ الالكتروني والمدونة باقسام الشرطةالجنائية    وزيرا الداخلية والعدل: معالجة قضايا المنتظرين قيد التحرى والمنتظرين قيد المحاكمة    صقور الجديان في الشان مشوار صعب وأمل كبير    الشان لا ترحم الأخطاء    والي الخرطوم يدشن أعمال إعادة تأهيل مقار واجهزة الإدارة العامة للدفاع المدني    الإسبان يستعينون ب"الأقزام السبعة" للانتقام من يامال    تكية الفاشر تواصل تقديم خدماتها الإنسانية للنازحين بمراكز الايواء    مصالح الشعب السوداني.. يا لشقاء المصطلحات!    السودان.."الشبكة المتخصّصة" في قبضة السلطات    ريال مدريد لفينيسيوس: سنتخلى عنك مثل راموس.. والبرازيلي يرضخ    مقتل 68 مهاجرا أفريقيا وفقدان العشرات إثر غرق قارب    مسؤول سوداني يردّ على"شائعة" بشأن اتّفاقية سعودية    السودان..إحباط محاولة خطيرة والقبض على 3 متهمين    اللواء الركن (م(أسامة محمد أحمد عبد السلام يكتب: موته وحياته سواء فلا تنشغلوا (بالتوافه)    توّترات في إثيوبيا..ماذا يحدث؟    دبابيس ودالشريف    إعلان خارطة الموسم الرياضي في السودان    غنوا للصحافة… وانصتوا لندائها    توضيح من نادي المريخ    حرام شرعًا.. حملة ضد جبّادات الكهرباء في كسلا    شاهد بالفيديو.. بأزياء مثيرة وعلى أنغام "ولا يا ولا".. الفنانة عشة الجبل تظهر حافية القدمين في "كليب" جديد من شاطئ البحر وساخرون: (جواهر برو ماكس)    امرأة على رأس قيادة بنك الخرطوم..!!    وحدة الانقاذ البري بالدفاع المدني تنجح في إنتشال طفل حديث الولادة من داخل مرحاض في بالإسكان الثورة 75 بولاية الخرطوم    الخرطوم تحت رحمة السلاح.. فوضى أمنية تهدد حياة المدنيين    المصرف المركزي في الإمارات يلغي ترخيص "النهدي للصرافة"    "الحبيبة الافتراضية".. دراسة تكشف مخاطر اعتماد المراهقين على الذكاء الاصطناعي    أنقذ المئات.. تفاصيل "الوفاة البطولية" لضحية حفل محمد رمضان    لجنة أمن ولاية الخرطوم تقرر حصر وتصنيف المضبوطات تمهيداً لإعادتها لأصحابها    انتظام النوم أهم من عدد ساعاته.. دراسة تكشف المخاطر    خبر صادم في أمدرمان    اقتسام السلطة واحتساب الشعب    شاهد بالصورة والفيديو.. ماذا قالت السلطانة هدى عربي عن "الدولة"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان والممثل أحمد الجقر "يعوس" القراصة ويجهز "الملوحة" ببورتسودان وساخرون: (موهبة جديدة تضاف لقائمة مواهبك الغير موجودة)    شاهد بالفيديو.. منها صور زواجه وأخرى مع رئيس أركان الجيش.. العثور على إلبوم صور تذكارية لقائد الدعم السريع "حميدتي" داخل منزله بالخرطوم    إلى بُرمة المهدية ودقلو التيجانية وابراهيم الختمية    رحيل "رجل الظلّ" في الدراما المصرية... لطفي لبيب يودّع مسرح الحياة    زيادة راس المال الاسمي لبنك امدرمان الوطني الي 50 مليار جنيه سوداني    وفاة 18 مهاجرًا وفقدان 50 بعد غرق قارب شرق ليبيا    احتجاجات لمرضى الكٌلى ببورتسودان    السيسي لترامب: ضع كل جهدك لإنهاء حرب غزة    تقرير يسلّط الضوء على تفاصيل جديدة بشأن حظر واتساب في السودان    استعانت بصورة حسناء مغربية وأدعت أنها قبطية أمدرمانية.. "منيرة مجدي" قصة فتاة سودانية خدعت نشطاء بارزين وعدد كبير من الشباب ووجدت دعم غير مسبوق ونالت شهرة واسعة    مقتل شاب ب 4 رصاصات على يد فرد من الجيش بالدويم    دقة ضوابط استخراج أو تجديد رخصة القيادة مفخرة لكل سوداني    أفريقيا ومحلها في خارطة الأمن السيبراني العالمي    الشمالية ونهر النيل أوضاع إنسانية مقلقة.. جرائم وقطوعات كهرباء وطرد نازحين    السودان.. مجمّع الفقه الإسلامي ينعي"العلامة"    ترامب: "كوكاكولا" وافقت .. منذ اليوم سيصنعون مشروبهم حسب "وصفتي" !    بتوجيه من وزير الدفاع.. فريق طبي سعودي يجري عملية دقيقة لطفلة سودانية    نمط حياة يقلل من خطر الوفاة المبكرة بنسبة 40%    عَودة شريف    لماذا نستغفر 3 مرات بعد التسليم من الصلاة .. احرص عليه باستمرار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



خرافة الخصوصية السودانية في مشكل الاخلاق والفساد


[email protected]
يكثر الحديث في جلسات الأنس بين السودانيين حول ظواهر أو أمور يحسبها السودانيون من خصوصياتهم – مذمومة كانت أو محمودة – والواقع أن أكثرها ليس كذلك. فالحديث يكثر عن ارتفاع أسعار العقار أو تدني مستوى الأخلاق أو الكسل أو الكرم أو الشجاعة باعتبارها ظواهر أو حالات سودانية خاصة. كذلك الظن في أمور أعظم كاشكالات الهوية والتجانس القومي أو الفساد أو الخطل السياسي، وكل ذلك ليس صحيحاً باطلاقه.
من المهم أن يعلم السودانيون أن اشكالاتهم – الراهنة والقديمة – ليست بسبب كونهم سودانيين، وليست خاصة بالحالة السودانية. هذا بالطبع لا ينفي الخصوصية السودانية جملة ولكن يقلل من وزنها كوسيلة لتعظيم الذات أو جلدها على حد سواء. فالكثير من الظواهر التي تطرأ على المجتمعات والتي في بدايتها تثير القلق أو الاستبشار أحياناً تكون في الأصل ناتج لتحولات طبيعية تحدث للمجتمع كالتحول من القرية الى المدينة أو التحول من الزراعة والرعي الى الصناعة أو التحول من السوق المغلق الى المفتوح وهكذا. وهذه التحولات سبقتنا اليها – كسودانيين – شعوب وسبقنا إليها أخرى ويكون من السذاجة حصر علة التغيير في الجينات أو العنصر بينما تدافعات شتى تحدث في المجتمع تكون محصلتها هي التي تسوقه شرقاً أو غرباً، علواً أو انحداراً.
أود في هذا المقال أن أتناول موضوع خرافة الخصوصية السودانية في بعض اشكالات الراهن السوداني كالفساد والاخلاق، ولكن قبل الخوض في ذلك أود أن أعطي القارئ الكريم نماذج لما أعنيه بخرافة الخصوصية السودانية.
· قطع الاراضي والعقار في الخرطوم ليست أغلى من لندن. في الواقع هي ليست حتى أغلى من سوريا والأردن حيث أسعار بعض الشقق في أحياء عمان ودمشق الراقية تصل الى اثنين مليون دولار! أما لندن فمتوسط..أكرر..متوسط سعر العقار فيها يصل الى 650ألف دولار مايعادل 2مليار جنيه بينما مساحة العقار في الغالب تكون النصف. وحتى لا يستخف القارئ بالرقم، فأغلى عقار في العالم (شقة) بيعت في لندن بحوالي 160 مليون دولار!
· السودانيون ليسوا أكسل الشعوب (وليسوا بأنشطها!). لا أجد بين يدي دليل علمي على هذا القول ولكن أي معيار يستخدم لقياس كسل أي شعب لن يأتي بالسودانيين أولاً. فمثلاً،في احصاء طريف لمعرفة أكسل الشعوب المتقدمة (لم يشمل السودان) اعتمد الاحصاء على أربعة معايير هي: ممارسة الرياضة، استخدام الانترنت، الجلوس أمام التلفاز والحمية الغذائية، وبناءاً على هذه المعايير ومن بين أربعة وعشرين دولة متقدمة كان الشعب الامريكي هو أكسلها! وباستخدام نفس هذه المعايير فالسودانيون ليسوا أكثر استخداماً للانترنت ولاجلوساً أمام التلفاز ولااستهلاكاً للسعرات الحرارية من الامريكان وغيرهم كثير، كما أن ساعات العمل في السودان أطول منها في فرنسا والاجازات السنوية عندنا أقل منها في السويد، هذا مقارنة مع الدول المتقدمة، أما من يتندرون على السودانيين من الجيران..فسلوكهم في رمضان يغني عن الرد!
· على ذات النهج فالسودانيون لا يملكون حقاً حصرياً في بعض الصفات التي يفخرون بها كالكرم والشجاعة والشهامة فهذه في الاساس صفات انسانية توجد عند كل الشعوب بمقادير متفاوتة. فاليابانيون مثلاً – والذين هم في وداعة القطط عادة – تجد لديهم جسارة متناهية في ثقافة الساموراي، ولديهم نفس التوقير الشديد للكبار في العائلة ونفس الاهتمام بالأسرة الممتدة. والأمريكان يشبهون السودانيين جداً في فهمهم المغلوط والمضطرب للرجولة أو (الرجالة) كما نسميها.
· حتى الخصوصيات الشعبية ليست خاصة، فما يسمى بالزي الوطني – الجلابية البيضاء – ليست قديمة في السودان وهي وارد هندي في الغالب، والأقدم عند عرب السودان هو الثوب (ثوب رجالي أبيض يلتحف التحافاً!) والثوب النسائي السوداني موجود في الهند وموريتانيا. حتى بعض عادات الزواج التي نحسبها سودانية خالصة كبعض متعلقات ليلة الزفاف (تلك القطعة من القماش!) نجدها – لو يخمن القارئ الكريم – عند الصينيين!
هذه الشعوب التي تشابهنا في ما نحسبه من خصوصياتنا ليست حتى من قربنا موقعاً أو عنصراً والذي أوردته هنا هو مجرد ملاحظات لهذا التشابه، أما تحليله ومعرفة أسبابه فهذا ميدان لبحوث مطولة ليست مقصودة هنا. ما أحب أن أناقشه في هذا المقال بتفصيل أكثر قليلاً من السابق وفي اطار تفنيد خرافة الخصوصية السودانية هي مواضيع الاخلاق والفساد. والهدف من ذلك هو – بجانب التأمل والاعتبار – تصحيح المنهج في نقد الذات وبناؤه على أسس سليمة بدلاًعن اسلوب جلد الذات والتهويل الذي يورث القنوط والانهزام المعنوي كما يجعل محاولة تشخيص أدواء السودان معتمدة على مرآة مختلة الابعاد.
مسألة تغيُّر الأخلاق
من منا لم يشارك في نقاش حول ظاهرة الانحدار الاخلاقي السلوكي لدى الشباب، اللباس غير المحتشم والابتذال والمخدرات والعلاقات غير الشرعية؟ من منا لم يلاحظ تدني الامانة والذمة عند الناس أو قلة الشهامة والمروءة عن ما كان معهوداً من قبل؟ من لا يشتكي قلة التواصل الاجتماعي وكثرة المشاغل والاجتماعيات وقلة الزمن؟
من نافلة القول أن شعوباً كثيرة تعاني من هذه المشاكل الاخلاقية أكثر مما يعاني السودانيون ولكن هذه الشعوب لم تخلق باخلاق سيئة، وهذا الانحدار الاخلاقي – وهو أيضاً ليس بالحجم المتصور – ليس ظاهرة سودانية غير طبيعية. ولكي نبين ذلك دعونا نميز بين نوعين من الاخلاق: أخلاق القرية وأخلاق المدينة.
القرية عموماً صغيرة مساحة وتعداداً، أهلها في الغالب ذوي قربى ومصاهرة مع بعضهم البعض، معاشهم بسيط يغلب عليه الزراعة والتجارة وبعض المراعي، الاحتياجات فيها قليلة والوقت فيها كثير ومعظم الناس فيها أرباب لمعاشهم، أي ليسوا موظفي دولة الا القليل منهم. لذلك فأهل القرى عموماً عطوفين لرابطة القربى بينهم، كرماء لأن التكافل الاجتماعي يشكل أماناً للناس من الضياع في الفقر، وصولين لبعضهم لأن أوقاتهم ملك لهم وليست لرب عمل يراقب ساعات الدوام، شجعان لأن حياة القرى في الأزمنة السابقة كانت مأزومة بالصراع مع القبائل الاخرى على مختلف المطامع فكان لزاماً تنشئة الناس على الشجاعة والفروسية والقدرة على القتال. كذلك فإن رباط القرابة بين معظم أهل القرية يساعدهم على المحافظة على الأعراض فلا ينظر الشباب بعين السوء الى فتيات القرية ولا هنَ يسرفن تبرجاً بينما تملك كل القرية سلطة المحرم في الرقابة. كما يمنع رباط القربى التجار من الافحاش في البيع والمغالاة في الاسعار، فالتاجر جزء من منظومة التكافل الاجتماعي التي تحكم القرية.
كل هذا معلوم عن مجتمع القرية. الذي تجدر الاشارة اليه هو أن هذه الصفات هي صفات القرية عموماً وليس القرية السودانية خصوصاً. فالتكافل الاجتماعي موجود في قرى الصين واليابان شرقاً وبريطانيا وأمريكا غرباً. تبادل الأطعمة بين ربات البيوت، كثرة الزيارات والمشاركة في المناسبات، البيوت المفتوحة، والاسر الممتدة، كل هذه الصفات يشترك فيها أهل القرى بصفة عامة بغض النظر عن البلد (ولا أنفي وجود الخصوصيات).
كثير من هذه الصفات ينعكس في المدينة لانعكاس الظروف. فغالبية أهل المدن من الموظفين و المعايير في المدينة – مستوى المعاش والاسعار وغيرها – يضعها الاثرياء أو توضع بالنظر إليهم، يترتب على ذلك أن الفقراء ومتوسطي الدخل غالباً تتجاوز تطلعاتهم الواقع وتنشأ عن ذلك حالة اللهاث التي تسوق وراءها كل الآفات المعروفة: الجشع وقلة المروءة وضعف التكافل والتواصل الاجتماعي، كذلك فوجود عناصر غير متجانسة من مختلف الثقافات والعادات والاعراق يزيد من الغربة ويقلل من الاحساس برباط القربى والدم مما يجعل الغيرة على الأعراض أقل والحرص على أمن الناس وممتلكاتهم وسلامتهم كذلك أقل.
الأهل في المدينة تضعف المعرفة بينهم كما تضعف بين الجيران، بينما تزيد بين زملاء الدراسة والعمل وذلك نتيجة مباشرة لطبيعة الدوام الوظيفي الذي يستوعب سكان المدن. فلا تقوى الروابط بين الأهل والجيران لقلة الوقت ولا بين الزملاء لشدة التنافس، ويزداد انغلاق الانسان على الأهل المقربين ثم الأسرة والأبناء حتى تنتهي إلى الفردانية المطلقة، فيزهد الناس في تكوين الأسر لتعويقها لتقدم الفرد ونجاحه الشخصي. هذه مرحلة لم نصلها بعد ولكننا في الطريق.
القرية داخل السودان وخارجه متشابهة والمدينة كذلك هي المدينة سواءاً سودانية أو غير ذلك. والطريق الناقل للمجتمع من القرية الى المدينة يمر بذات المحطات، فلا السودانيون مخصوصون في مبتدأ أخلاقهم الحسنة ولا في انحدارها عند الانتقال من القروية الى المدنية ولا في منتهاها المحذور. ولا يحتجنَ أحد بأن انحدار الاخلاق منسوب الى الكفار وعلوها منسوب الى المسلمين، فكل الاديان تدعو الى مكارم الاخلاق (ولا أقول بصحة كل الاديان قطعاً). فالمشكلة مشكلة تدين وليست مشكلة دين. ما أعنيه هو أن التدين يعصم الناس من الانحدار الاخلاقي سواءاً كانوا في البدو أو الحضر أما اذا قل التدين عند الناس تبقى أخلاقهم رهينة أحوالهم المجتمعية تتقلب بتقلبها علواً وانحداراً فترفعها بعض القروية وتخسف بها بعض المدنية.
تأتي مصاحبة لحالة التمدن هذه، حالة التحول من مجتمع تكافلي الى مجتمع رأسمالي فرداني. وقد دخلت علينا في السودان مؤخراً بعض صفات الرأسمالية المفرطة وباتت تنهش في أخلاق المجتمع السوداني الغافل أو قليل الحيلة. ولنضرب لذلك مثلاً:
الطبيب الساعي الى ثروة سريعة تجده يرفع سعر المقابلة ويقلل من زمنها فلا تزيد عادة على عشرة دقائق. هذه (الكلفتة) ينتج عنها عادة تشخيص خاطئ ويكثر تردد المريض على الاطباء حتى يعجز مالياً. تنشأ شركات التأمين لحل الاشكال للمريض والطبيب معاً. شركات التأمين تعتمد – فرضاً – في كثير من معاملاتها على الاتصالات ولتخفيض التكلفة تلجأ لشركة الاتصالات التي تقدم أفضل عرض. شركات الاتصالات الساعية لكسب شركات التأمين تحتاج الى الاعلان عن عروضها بكثافة في الاعلام. الصحف والقنوات الساعية لكسب الاعلانات من شركات الاتصالات عليها أن تكون عالية التوزيع والمشاهدة. لزيادة المشاهدة في ظل المنافسة الحادة تلجأ القنوات التلفزيونية لمخاطبة الغرائز البشرية، فتوظف الجميلات وتبرجهن على الشاشة وتكثر من عرض الأغاني والتوافه من الأمور. الصحف ولزيادة التوزيع تلجأ الى أخبار الاثارة على حساب المهنية الرفيعة فتلجأ الى نشر الفضائح والجرائم الغريبة والنقد الجامح الذي يطال كل شيء من الحكومة حتي الدين. المواطن الذي ينظر الى الطبيب ومهندس الاتصالات والصحفي الذين يعيشون في دعة من العيش بينما هو يستصعب الاستشفاء ويتناقل الشكوى عبر الاتصالات و يقرأ ويشاهد يومياً أخباراً وبرامج شوهتها أدوات الأعلام تماماً سيظن أن المعيار في المجتمع هو هذا..مستوى معيشي مرتفع ومستوى أخلاقي منخفض فيبدأ التعامل على أساس هذا المعيار ليصبح التشوه المظنون واقعاً وتستمر دورة انحدار الاخلاق.
هذه الدورة دخلها المجتمع السوداني حديثاً ولا زال في مراحلها الاولى، أما المجتمعات الاخرى فيمكننا أن نرى فيها انتشار الصحف الصفراء والقنوات الخليعة والاعلام المبتذل والتفاهة التي صارت النكهة السائدة في كل شيء عندهم حتى السياسة. ففي بريطانيا مثلاً تتفوق صحيفة الصن التي تعرض صوراً لنساء عاريات على القارديان والتايمز كما تتفوق قنوات الاغاني و الرياضة على البي بي سي وإقليمياً تتفوق قناة الافلام MBC2 على الجزيرة ونحن على آثارهم مقتدون.
حين ننفي عن المجتمع السوداني أنه مخصوص بهذا الانحدار وأن هناك مجتمعات سبقتنا وصار حالها كما أسلفت، فالغاية هي الاعتبار بهم، وانتفاء الخصوصية ثمرته هي أننا نعلم كيف يبدأ الانحدار الاخلاقي والى أين يصير، ويبقى علينا أن نجد الوسيلة لتغيير المسار مبكراً.
مسألة الفساد
يمكن أن نوجه أنظارنا الآن تجاه أحد أركان الانحدار الاخلاقي في السودان والذي أيضاً يشكل عنصراً في بناء خرافة الخصوصية السودانية.
الكثيرون يشيرون الى تفشي الفساد في المجتمع السوداني مستندين على تصنيف منظمة الشفافية العالمية والتي وضعت السودان في ذيل قائمتها أو قريباً من ذلك. من الخطأ ابتداءاً الاعتماد على منظمة أجنبية في تقييم أخلاق المجتمع للفوارق الثقافية العديدة ومسألة الفساد لايمكن النظر إليها على أنها شأن اقتصادي أو سياسي بحت، وهذا سأعرض له بعد قليل، المهم هنا هو اختبار أهلية المصنف قبل أن يضيف الى خرافاتنا الانهزامية.
الشائعة تقول أن بيتر آيقن الالماني مؤسس منظمة الشفافية العالمية خرج أو أخرج من وظيفته كمدير لبرنامج البنك الدولي في شرق أفريقيا لاسباب تتعلق بشبهة فساد! العهدة في هذه التهمة غير المشهورة ولا المثبتة تعود الى استاذ قانون في جامعة كامبردج البريطانية، وربما يسندها بعض الشيء أن آيقن عمل ضمن مؤسسة فورد كمستشار لحكومة بوتسوانا وحكومة ناميبيا. ونعلم جميعاً شبهة الفساد التي تطال كل أوروبي يعمل مستشاراً لحكومة افريقية!
ولكن لنتجاهل مصداقية منظمة الشفافية العالمية الآن لنقر الحقيقة. لايخفى على أحد الآن أن الفساد بات مستشرياً بصورة مزعجة في المجتمع السوداني، وتقصي أسباب هذا الأمر تحتاج الى دراسات وبحوث علمية مطولة. ولكن ما أهدف اليه هنا هو الاشارة الى أن أية أسباب محتملة لاستشراء الفساد ستكون في الاساس أسباب كونية، بمعنى أنها ليست خاصة بالسودان وأن الفساد الذي أصاب المجتمع السوداني إنما أصابه لاستيفائه الشروط والظروف المجتمعية اللازمة لذلك وليس لصفات خاصة بالشخصية السودانية كقابلية فطرية للفساد تزيد عن الشعوب الاخرى.
لإبانة أكثر دعونا نعود الى نموذج دورة الانحدار الاخلاقي. الموظف في المجتمع المدني الرأسمالي تتجاوز تطلعاته – كما أسلفنا – في المسكن والمأكل والمشرب ومستوى التعليم والعلاج الذي يريده لاسرته، تتجاوز امكانات مرتبه والثابت أن كل شخص يطمح لدرجة أعلى في مستوى المعاش بنسبة ثابتة تقريباً. فالعامل يحب أن يعيش في مستوى الموظف والموظف يطمح لمستوى الموظف الأعلى وهذا ينظر الى رجل الاعمال ورجل الاعمال الى من هو أغنى منه وسقف التطلعات كسراب بقيعة والقناعة في هذا المجتمع في انحسار مستمر حتى لتكاد تختفي، والنتيجة الحتمية هي تفشي الفساد لاريب. فالمجتمعات حديثة التمدن والانفتاح لاتحسن عادة تحويل طاقة الطموح الى طاقة انتاج وتقنين الترقي في مستويات المعاش، فيلجأ أفراد المجتمع الى الطرق الأسهل والأسرع: استغلال الوظيفة والرشى والدوران حول القوانين.
والمتأمل يعلم أن الفساد بهذا الوصف داء يصيب كل من تعرض لاسبابه لا يفرق في ذلك بين سوداني أو عربي أو عجمي. فالفساد طال رأس الدولة في ايطاليا واسرائيل والبرلمان في بريطانيا وهو ينخر في عظام المجتمع الامريكي في مختلف مستوياته أما القطاع الخاص فلا يبرئه في أي مكان إلا غافل.
أين المجتمع السوداني من كل هذا؟ الخرافة تقول أن السودان يعيش حالة من الفساد لا نظير لها، وهو خطأ. الصحيح أن المجتمع السوداني يمر بمنحدر أخلاقي في طريق تحوله من القروية الى المدنية ومن الاقتصاد شبه المقفول الى الاقتصاد المفتوح والعولمة، وما الفساد الا أحد الخصائص اللازمة لهذا المنحدر الاخلاقي. هذا التصحيح لا أحسبه يعزينا بل ربما يرسم صورة أشد قتامة ولكنه يضع الامور في نصاب صحيح وينفي الخصوصية عن الحالة السودانية ما يعطينا الفرصة للاعتبار بالمجتمعات التي سبقتنا في المرور بهذا المنحدر وايجاد العظة من تجربتها.
بقي أن نشير الى أن الفساد هو أمر أخلاقي في الأساس وليس اقتصادي. بمعنى أن الفساد منشأه اخلاقي وآثاره الأسوأ أخلاقية، أما آثاره على الاقتصاد فهي محل جدال. فالعديد من الدراسات الاقتصادية أثبتت أن للفساد آثار ايجابية على اقتصادات الدول النامية وذلك عبر تسهيل الاجراءات وتسريع اتخاذ القرارات والقفز على بيروقراطية الدولة فيما يعرف بظاهرة "تزييت عجلة الاقتصاد" (العجيب أن كلمة "تزييت" هذه تستخدم في الدارجة السودانية للكناية عن الرشوة!) هذا قطعاً لا يدفع أحداً للقول بتشجيع الفساد أو غض الطرف عنه ولكن ما أردت الاشارة اليه هو أن التركيز يجب أن ينصب على الاسباب والآثار الأخلاقية للفساد اذا أردنا محاربته بنجاعة.
بعض المجتمعات سعت لمحاربة الفساد ب"الاجراءات": المحاسبة والشفافية وغيرها. ودولتنا تحت ضغط الرأي العام - المتهيج هذه الأيام - سارت على نفس الطريق فاتخذت "اجراءات" لمحاربة الفساد منها اقرار الذمة ومفوضية الفساد وغير ذلك مما هو مطلوب ولكنه غير كاف. فالصين التي تعاقب المفسدين بالموت لم تشف من الفساد حتى الآن، وما الذي أقسى من الموت؟ كما يقول صلاح أحمد ابراهيم.
إن كتابة وصفة علاجية شاملة لعلاج مشكلة الفساد قد تتجاوز قدرات هذا الكاتب..وهي قطعاً تتجاوز أهداف هذا المقال، ولكن ما يمكن الاشارة اليه هو أن أي وصفة لعلاج الفساد يجب أن تأتي في إطار علاج شامل لمشكلة الانحدار الاخلاقي العام الذي يمر به المجتمع السوداني بالشكل وللاسباب التي ذكرنا والتي تشكل جذور المشكلة. ومعلوم في هذا الاطار أن التدين هو الرافعة الاساسية لمستوى الاخلاق في المجتمعات البشرية عموماً فلا يكون العلاج الا بالدِّين ابتداءاً. وعشمي أن لايخفى على القارئ الكريم أن الإكتفاء بالقول إن التدين هو علاج مشكلة الاخلاق هنا ليس من باب التبسيط وإنما التزاماً بإطار المقال، ودون القارئ إحياء الغزالي وغيره مما لا يحصى.
أود ختاماً – وتلافياً لسوء فهم محتمل لمقاصد هذا المقال – أن أقرّ بعض النقاط:
· خرافة الخصوصية السودانية لا تعني انتفاء التميّز السوداني بالكليّة، وإنما تعني أن بعض ظواهر المجتمع السوداني والمظنونة خطئاً أنها ناتج الحالة السودانية ليست كذلك، ولكن تبقى له خصوصياته غير المنكورة.
· ليست كل أخلاق المدينة سيئة ولا كل أخلاق القرية فاضلة. فالمدينة تعلم النظام وتكسب لين الطباع، بينما القرية أحياناً فوضوية والبداوة تورث القسوة.
· الفساد المذكور هنا ليس بمعناه المطلق وانما بمعناه الذي اصطلح عليه الناس مؤخراً وهو اساءة استخدام النفوذ أو المال العام أو غير ذلك من التعريفات. ومناقشة موضوع الفساد هنا لم تكن واسعة في بحث الاسباب وايجاد الحلول وانما في إطار نفي الخصوصية السودانية.
حريٌّ بنا كمجتمع سوداني، ولكي نرفع همتنا وثقتنا بأنفسنا وبقدرتنا على النهوض والتقدم على الأمم، أن نمارس نقد الذات على أسس موضوعية، وهذا يعني أن نقلل في جلسات الأنس من العبارات شاكلة " السودانيين بطبعهم حاسدين"، " السودانيين كسولين"، " السودانيين ما عندهم صبر"، " السودانيين يحبون القطيعة" (أنا لم أر شعوباً تكثر الغيبة كالاوروبيين والامريكان!) وغير ذلك من العبارات التي تتجاوز النقد النافع الى الانكسار الضار. ذات الأمر ينطبق معكوساً على التفاخر والتباهي الذي ينفخ في الجسد السوداني هواءاً ساخناً بدلاً عن طاقة وحركة. أما الخصوصية السودانية فيمكن أن نكسبها بصنع قصة نجاح غير مسبوق لتسمى " المعجزة السودانية"!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.