حينما كنت صبياً يافعاً ، كنت أسارع إلى مغادرة منزل العائلة في اللحظة التي يبدأ فيها أخواي الكبيران بممارسة لعبة الشطرنج لأنني كنت على يقين من أنهما سيقضيان اليوم كله في تلك اللعبة الصامتة غير المفهومة ولن ينتبها إلى أي شيء يحدث حولهما أو يتحركا من مكانيهما حتى لو اندلع أكبر حريق في المنزل، وعلى الرغم من ادعائهما المتكرر أمامي بأن لعبة الشطرنج الهندية الأصل ، والتي تقوم أساساُ على فكرة حرب عسكرية بين خصمين لدودين ، هي لعبة الأذكياء إذ أنها تتطلب قدراً كبيراً من الدهاء والصبر والمناورة إلا أنني كنت أفضل أن أصنف في زمرة الأغبياء على أن أجلس صامتا كالصنم وأقضي الساعات الطويلة في التحريك الممعن في البطء لهذا البيدق أو ذاك أو هذه الطابية أو تلك ولم أكن أري أي نوع من الانتصار المقنع حينما يصيح أحد الصنمين في نهاية المباراة الطويلة الرتيبة "كش ملك"! ومع أنني كنت آنذاك من كبار المعجبين بالأبطال العالميين المشهورين ، حتى لو كانوا أبطالاً في قضم ساندويتشات الهامبرقر، إلا أنني لم أكن معجباً أبداً ببطليّ الشطرنج الروسيين كاربوف وكاسباروف وكنت أتعجب من تناقل أخبارهما في الاذاعات العالمية وأقول في سري بحنق: يبدو أن هذا العالم العجيب يعج بالكثير من مجانين الشطرنج! ولعل المتأمل لذلك الرسم الكاريكاتيري الفرعوني الشهير الكائن بمتحف القاهرة والذي يصور مباراة شطرنج تجري بين أسد ونعجة ، سوف يدرك المغزى السوداوي للعبة الشطرنج السياسي الذي يقول دون استخدام أي كلمات إن المباراة بين الحاكم والمحكوم في تلك العصور الغابرة كانت تفتقد الندية وأن المحكوم مهزوم ومأكول حتى قبل أن تبدأ مباراة الشطرنج السياسي القاتل ، أما المتأمل للرسومات الكاريكاتيرية الحديثة ، فيجد أنها تقول بدون تعليق إن مباريات الشطرنج السياسي بين المحكومين والحكام الاستبداديين تنتهي عادةً بهزيمة الحكام وفرارهم أو رحيلهم، حدث هذا في مباراة شطرنج مصر التي استمرت ثمانية عشر يوماً ومباراة شطرنج تونس التي استمرت تسعة وعشرين يوماً! ومع أن آلاف السوريين قد هربوا من سوريا إلى مخيمات تركيا حتى لا تحترق أعصابهم من مشاهدة مباراة الشطرنج العسكري والتي استمرت أشهراً طويلة بين فريق الشبيحة وفريق المندسين وهو اللقب الرسمي الذي يُطلق على ثوار سوريا ، ومع أن آلاف الليبيين قد هربوا من ليبيا إلى مخيمات تونس حتى لا تتلف أعصابهم من مشاهدة لعبة الشطرنج العسكري بين فريق كتائب القذافي وفريق الجرذان وهو اللقب الرسمي الذي يُطلق على ثوار ليبيا ، فإن تلك الصورة التي تناقلتها شاشات التلفزة العالمية للعقيد معمر القذافي وهو يلعب مباراة شطرنج مع ماجينوف رئيس الاتحاد الدولي للعبة الشطرنج هي من أغرب الصور الشطرنجية على الإطلاق لأن القذافي أراد أن يقول عبرها للثوار الليبيين ولحلف الناتو وللمجتمع الدولي بأسره ، قاتلوا ، اقصفوا دمروا فأنا لا أعبأ بكم ولا اكترث لتحركاتكم ولا أبالي بتصريحاتكم ولا اهتم بالنيران المندلعة حولي بدليل أنني ألعب الشطرنج بهدوء وبمزاج وسط ألسنة النيران الملتهبة، وعلى الرغم من أنه من المستحيل معرفة الدافع الغامض الذي حدا بالضيف الشطرنجي الروسي لتكبد المشاق والمجازفة بحياته لكي يخوض مباراة شطرنجية مع القذافي الذي لم تعرف له من قبل أي ميول شطرنجية ورغم أنه من المستحيل معرفة من هو الذي صاح في نهاية المباراة "كش ملك" فإن الشيء الوحيد المؤكد هو أن لعبة الشطرنج بين الأسد والنعجة في ليبيا وسوريا لن تنتهي أبداً لصالح الأسد الشطرنجي العجوز أو الأسد الشطرنجي الشاب وأن الشعبيين الليبي والسوري سيصيحان في نهاية المطاف "كش ملك"! فيصل علي سليمان الدابي/المحامي