اما قبل حالة محزنة، تأكل الفؤاد، إلى أي حد ومدى وصلت بنا، جوائح الظروف إلى حد السحق واليأس ورائحة الموت، فللموت رائحة ولون باهت وطعم مقيت!! هل وصل بنا الحال، أن يجرؤ مواطن بسيط، في مجتمع أقله أنه مؤمن وقدري وشديد التعلق بأهداب اليقين الصادق، أن يجرؤ فردٌ منه على الانتحار يأساً وقنوطاً وسأماً وكراهية للحياة، وهو يكتشف عجزه وقلة حيلته وهوانه الذي يلازمه.. مواطن مغلوب على أمره، يعتلي صهريج المياه بمستشفى أم درمان ينوي قتل نفسه المحرم عليه إزهاقها، بعد أن عجز ووقف بلا حول له ولا قوة، خالي الوفاض واليدين، أمام طفله المريض الذي رفضت إدارة المستشفى علاجه وإجراء عملية له، إن لم يدفع الأب مبلغ مائة جنيه!! هذا المبلغ الزهيد، تحول فجأة لثمن حياتين، حياة الطفل الذي يتوقف أمر إجراء العملية عليه، وحياة الأب الذي فُجع في المروءة.. مروءة المستشفى، فأراد أن يتردّى من قمة الصهريج منتحراً.. في واحدة من غرائب الأوضاع في السودان، الذي ظل الإيمان فيه يغلب على النفس الأمّاراة بالسوء.. { هذه الحادثة.. تفتح ألف مزلاج.. لنقاش عميق حول غياب التكافل وضمور التراحم الاجتماعي وفقدان مؤسسات الدولة وخاصة الطبية والعلاجية لأبسط فضائل العطف الإنساني، وجمود اللوائح والقوانين ومطبقيها في التعامل الرحموي مع الإنسان كإنسان، قبل وضع صحته وحياته على الكفة الأخرى من الميزان المادي الغليظ.. حياة مقابل ما يدفع من مال.. { برزت خلال السنوات العشرين الماضية، كامتداد للنظريات الاجتماعية والسياسية في الغرب، أفكار جديدة تنادي بإزاحة الوجه القبيح والكالح للتعامل المادي البشع، وظهرت مصطلحات جديدة تدعو لما سموه «أنسنة الرأسمالية».. بإضفاء مسحة من الرفق والتلطُّف الفطري الإنساني على نظم وقواعد وأساليب وبنية النظام الرأسمالي المهين على الدول الغربية والعالم جلِّه. وسبب هذه الدعوات، ازدياد الفقراء فقراً، وقصور كل نظم الدعم الاجتماعي والقوانين المنظمة للعمل وفرصه، من لجم الفقر واستغلال الإنسان لأخيه الإنسان، وسدّ حاجاته وتوفير الحد الأدنى له في الحياة.. وأنسنة الرأسمالية دعوة للنظر في كل ما من شأنه تقليل وطأة القدم الضاغطة على الإنسان وخاصة الفقر من عدم الحصول على حقوقه وألاّ تقمعه النظم واللوائح والقوانين وأخلاق السوق وطبائع دنيا المال والأعمال.. إذا كانت المجتمعات الرأسمالية، تحاول سدّ هذه الفجوات والثغرات فما بالنا نحن، نعجز عن تقديم أبسط أبسط حاجات الإنسان في العلاج الذي هو قدرٌ من الله نافذ، لا مهرب منه ولا منجاة، صحيح هناك مؤسسات وصناديق قامت لتقديم العون والمساعدة في العلاج مثل التأمين الصحي وغيره، لكن ، لابد أن تسمو قِيم التراحم والتكافل، لتكون أوسع وأشمل وأكبر من ما تجود به وتمنحه المعالجات الديوانية المتمثلة في الصناديق، والأهم من ذلك أن تكون هذه هي قيم المجتمع والعاملين في كل مرفق، يجب أن تتوافر لديهم معيارية لتقدير الحالات وفرز ما يستحق من الذي لا يستحق.. المستشفيات والمرافق الصحية، لابد أن يتم التعامل فيها بقدر وافر من الشعور الإنساني النبيل، دعك من المستشفيات الخاصة وعيادات الأطباء، التي تحولت لتجارة بشعة واستغلال لحاجة المرضى وظروفهم، فما إن تزور طبيباً تطلب العلاج، فقبل أن ينظر في حالتك ويكشف عليك، يحوِّلك للمعمل الذي هو شريك فيه طالباً كل الفحوصات ويطلب منك فحوصات وتشخيصات وصور أشعة مقطعية وحلزونية ورنين مغنطيسي ورسم قلب ومخ، وأشياء أخرى لا علاقة لها بالحالة التي تشتكي منها، فيجرِّدك الطبيب من كل ما في جيبك ثم يقول لك ببساطة وبراءة بأنك سليم ومعافى، ويكون هو قد قبض ثمن مقابلتك.. وضمن نصيبه في كل أنواع الفحص في المعامل والأشعة وغيرها. حادثة «محاولة الانتحار» في مستشفى أم درمان يجب أن تجعلنا كمجتمع ننتبه ونراجع ما علينا.. وإلا فإن تحوُّلاً في الاتجاه المعاكس سيضرب عصب أخلاقنا وفضائلنا.