ماتوا. الأكباد ناشفة، والرئات غرابيل. ماتوا بالجملة، في المجاري، وفي الأزقة.. بالقرب من مكبات الاوساخ. لم يحفل بهم المارة. فقط الشرطة، جمعت جثثهم الهزيلة، البالية، وحرر طبيب لامبال المحضر: هذه الوفيات بالميثانول! في الشوارع.. تحت الشمس، والزمهرير، عاشوا.. أكلوا من الفضلات في القمامة.. وفي الشوارع ماتوا.. وبين الموت والحياة، لم تحفل بهم الشوارع، ولا البنيات العالية، ولا البيوت، ولا الفلل الرئاسية، ولا أى مَن كان.. ولو لم يموتوا، ماكان لأي من هو كائن، أو يكون، أن يحفل بحياتهم! الخبر، من خرطوم المشروع الحضاري: موت أكثر من ستين من أطفال الشوارع، باستنشاق الميثانول (السبيرتو)، وها الرقم يمكن أن يزيد كثيرا! في ليلة الخبر، تعشى الرئيس البشير، وتجشأ.. أغمض عينيه، ونام. لم يهجم عليه أى كابوس، وماكان هو- وهو يستمع للخبر- قد زرف دمعة، ولا رفع سماعة الهاتف، ولا تكلم من موبايل، ولا فكر- مجرد تفكير أن يمشي في جنازات الأطفال الجماعية،أو حتى- يترحم عليهم ولو في سره،.. وهم.. هم من بعض رعيته، الذين سيسأله الديان عنهم، يوم الدين! وزيرة الشؤون الاجتماعية، في ليلة الموت بالسبيرتو، عشّت أطفالها بما لذ وطاب، ولم تنس أن تسقيهم الحليب..إطمأنت عليهم في الأسرة الوثيرة، أغمضت عينيها: لا دمعة، ولا كابوس، ولا.. ولا في دماغها مجرد تفكير، في مشروع لانتشال أطفال الشوارع، من العيش في الشوارع، والموت في الشوارع! أىّ لامبالاة هذي.. وأىّ..أى موت للضمير؟ لو الذي حدث لأطفال الشوارع، في أي دولة تحترم نفسها، وتحترم إنسانها، لكانت القيامة قد قامت: لكان رئيسها الذي يموت أطفال شعبه بالسبيرتو، قد توكل على الله، واشتغل... .. ولو كانت وزيرة الشؤون الاجتماعية، تملك ذرة وآحدة من المسؤولية، لكانت قد (طبقت) شنطة يدها، وهرولت مستقيلة.. ولكانت قد أنستها الفاجعة، في تلك الليلة الليلاء، أن تسقي أطفالها الحليب! أطفال الشوارع، في السودان، هم أطفال شم السبيرتو. مع كل شمة ينشف جزءا من الكبد، تنثقب الرئة، يطيش جزءا من الدماغ. هذا مايقول به الأطباء، وهذا مالا يبالي به الرئيس، ولا تبالي به الوزيرة، ولا يبالي به الإمام، ولا المأموم، ولا جملة أولئك الذين يصطفون وراءهما، في اليوم الواحد خمس مرات، ولا الشعراء، ولا الغاوون، ولا الفنانون، ولا المثقفاتية، ولا الذين في عمر أطفال السبيرتو، من ذوي الإربة في النساء، ولا النساء، ولا.. ولا، ولا! أطفال الشوارع، يعيشون منسيين، ويموتون منسيين. هم بين الحياة والموت، ضحايا: هم ضحايا الفرار من الموت بالطلقة، والكلاشنكوف، والدانة،والإنتينوف، في مناطق الحروب. هم ضحايا الفرار من الريف إلى المدينة الهرة، بسبب غياب التنمية الأفقية، هم ضحايا الفجوة في التعليم. ضحايا الصحة، ضحايا إنعدام الرعاية الإجتماعية، ضحايا المدينة التي لا تحفل بالمشردين، ضحايا المسؤول الذي لا يدرك أنه لو نفقت بقرة، لكان المسؤول، فانظروا... أنظروا- ياصحابي- ما أكثر قتلة أطفال الشوارع.. ما أكثرهم، وما أبشع موتهم، قي كل مرة، فيها يموتون! قال الطبيب اللامبالي: إنه الميثانول.. قال! ولو كان هذا الطبيب مبال، ولو كان يعلم غير ظاهر مايعلم، لكان إذن، قد اشتغل بالبدايات، لا النهايات.. ولكان قد برأ الميثانول المسكين، من الجريمة!