التعبير المقابل فى اللغة الآنجليزية لكلمة (غربة) هو Homesickness . كتب ومعاجم علم النفس العربية ترجمت هذا التعبير هكذا : (الحنين الى الوطن) ، وهى ترجمة حرفية بحته وترجمة مخلة وقاصرة – فى نظرى - لأنها لا تؤدى وتتفق مع المعنى المقصود الوارد فى كتب علم النفس الانجليزية . فالحنين الى الوطن ما هو الا عرض واحد من عدة أعراض لمرض (الغربة) ، لذا فاننى سوف اسنعمل كلمة (غربة) ومشتقاتها فى هذا البحث ، لأنه أدق واشمل وأعم ، من (الحنين الى الوطن) .
قاموس اوكسفورد الانجليزى. Oxford English Dictionary شرح تعبير Homesickness بقوله (هو الشعور الذى يحس به الانسان حينما يفارق وطنه ) . اما تعريفه عند علماء النفس فجاء على هذا النحو :
( هو الشعور بالضيق والقصور بسبب فراق أو توقع فراق لبيئة المنزل أو الوطن أو كل شىء ارتبط وتعلق به المرء ) . (1)
والملاحظ هنا أن تعريف الغربة فى علم النفس توسع بعض الشىء ، وذلك حتى يشمل ألأطفال . و(غربة) الأطفال تحدث عندما يفارقون أمهاتهم لأى سبب من الاسباب ( كالذهاب للمدرسة ، او الانتقال الى الداخلية أو حينما ينومون فى المستشفى ..الخ ) .
يأتى الاحساس بالغربة مصحوبا فى الغالب الأعم بمشاعر القلق anxiety والاكتئاب depression ، وهذه المشاعر تتدرج فى الشدة ، من البسيطة ، الى المتوسطة الى الشديدة . ومرض الغربة لا يصيب الا المغتربين – حسب التعريف الاصطلاحى – وتزداد شدته كلما كان المغترب مغتربا فى بلد نائى وبعيد ، تختلف ثقافته ، وعاداته ، وتقاليده . وكلما كان الاختلاف شديدا ، كانت الأعراض أشد ، وأفظع . لذلك نجد أن اكثر المغتربين تعاسة ، وألما وعذابا ، هم الذين القت بهم أقدارهم فى غيابة البلاد الاوربية ، الغربية منها أو الشرقية ، وأخف منهم عذابا ، أولئك الذين اتجهوا شرقا . وتخف الأعراض كلما قلت درجة الاختلاف الثقافى بين بلادهم الأصلية ، والبلاد التى اليها سافروا ، حتى تكون أخفها على الاطلاق فى البلاد العربية الاسلامية ، وذلك لقرب بعض الثقافات من بعضها الاخر . نفس الحال نجده عند التلاميذ الصغار ، حينما يحسون بالخوف ، والقلق ، واليأس فى أول يوم يلتحقون فيه بالمدرسة ، أو حينما يذهبون فى رحلات مع المدرسة ، أو ينتقلون الى السكن فى داخليات المدارس . هذا والغربة تصيب الصغار والكبار ، غير أن الصغار هم اكثر عرضة ، وأشدّ تأثرا من الكبار (2) ، كما تصيب الرجال والنساء ، غير أنا لا نعرف حتى الان ايهما اكثر عرضة أو اشد اصابة (1) ، والغربة لا تفرق بين عرق ، أو لون ، أو دين أو ثقافة . وتختلف شدتها من شخص الى اخر ، ومن أرض الى أرض ، حسب البعد أوالقرب – كما ذكرنا- ، وحسب الاختلاف الثقافى والحضارى بين البلدان . (1) والاحساس بالغربة قد يحدث اثرا سيئا جدا فى نفس الفرد ، خصوصا عند اصحاب الشخصيات النمطية الجافة ، والعاطفة الزائدة ، من محبى الروتين ، العاصين على التأقلم ، فاقدى المرونة والتكيف ، فهولاء يمكن أن يقودهم احساس الغربة الى مشكلات عاطفية اكبر ، واضطرابات نفسية أعقد ، وأمراض عقلية أخطر ، قد تصل بصاحبها الى درجة الموت أو الانتحار – كما سنبين لاحقا ان شاء الله - كل ذلك اذا لم ينتبه المغترب أو المغتربة الى نفسه أو نفسها ، وأسعفها بالأسعافات الضرورية ، وعالج الأمر قبل أن يستفحل ، واستعان عليها بما يخفف عنه من غلوائها ، وكسر حدتها . هذا وبالرغم من أن الغربة ، بأعراضها المؤلمة ، ترجع الى التاريخ البعيد ، منذ ابينا أدم ، كما أسلفت سابقا . وبالرغم من أن التاريخ لم يرو لنا مشاعر الغربة التى حدثت لأبوينا ، الا اننا يمكن ان نسنتجد عدة اشياء – سنأتى اليها لاحقا - . ومن ناحية اخرى ، فأول حادثة للغربة سجلها لنا التاريخ تعود الى الأوديسة . والأوديسة هي تلك الملحمة الشعرية الأغريقية القديمة والمشهورة والتى وضعها هوميروس في القرن الثامن قبل الميلاد . تبدأ قصة الأوديسة بعد نهاية ملحمة الإلياذة . وتروي قصة عودة أحد أبطال الإلياذة وهو أوليس ملك إيثاكا والذي من المعروف عنه أنه صاحب فكرة حصان طروادة . كما تروي الملحمة قصة بينلوب زوجة أوليس . تبدأ الملحمة بنهاية حصار طروادة وبدء عودة المحاربين إلى بيوتهم ، لكن بسبب غضب إله البحر بوصيدون على أوليس ، تمتلئ رحلته بالمشاكل التي يضعها في طريقه بوصيدون أو بسبب تهور بحارته . ويبقى في رحلته مدة عشر سنوات يواجه خلالها الكثير من المخاطر . وتروى لنا الملحمة أن أوليس تمرغ فى الأرض وصار يندب حظه ويبكى اسفا على فراق بلاده ، وشوقا الى زوجه وولده . ولم تصبح الغربة موضوع بحث فى علم النفس والطب النفسى الا مؤخرا جدا . وأول ما لفت الأنتباه لها كظاهرة ، هم الأطفال ، حينما وصف العلماء القلق الذى يعترى الأطفال حين فراق امهاتهم وهو ما أطلقوا عليه تعبير (قلق الانفصال عند الأطفال) . Separation Anxiety Child وكان الظن أن هذا القلق النفسى لا يصيب الا الأطفال قبل أن يتبين لاحقا أنه يمكن أن يصيب البالغين والكبار ايضا ، وأطلقوا على هذا النوع (قلق الانفصال عند البالغين) Adult Separation Anxiety . (3) ان الثابت عندنا الان ، كما تؤكده الدراسات ، ان الأعراض الرئيسية للغربة هى : 1- الحنين الى الوطن والأهل والمعارف وهو ما يطلق عليه فى علم النفس تعبير ( Nostalgia) 2- غم وفقدان وحزن ( Grief) 3- اكتئاب ( Depression) 4- شجن وحسرة ( Sadness) 5- وحدة وانزواء وانكماش (Withdrawal) 6- اضطراب التكيف مع العالم الجديد (of Adjustment disorder) 7- الخوف من الأماكن المفتوحة كالميادين وساحات الملاعب (Agoraphobia) 8- الخوف من الاحتجاز أو الخوف الصومعى Claustrophobia رحم الله شاعرنا صلاح أحمد ابراهيم فبشاعريته الفذة ، واحساسه الصادق ، ولسانه العربى الفصيح ، استطاع أن يكتب ابياتا من الشعر عبرت عن أحاسيسه ، وأحاسيس كل مغترب ، فجاءت قصيدته (الطير المهاجر) قصيدة فخمة ، بل فصلا كاملا فى كتاب علم النفس ، تتصف بالصحة والدقة ، وزاد عليها حلاوة التعبير ، وسهولة الكلمات ، وروعة الألفاظ . فكل ما ذكرته أعلاه اورده هو ، وكأنه عالم من علماء النفس ، وليس شاعرا ، اديبا واريبا ، رحمه الله بقدر ما ابدع ، وبقدر ما اطرب. ولنتأمل مرة اخرى قوله الرائع : غريب وحيد فى غربته حيران يكفكف دمعته حزنان يغالب لوعته ويتمنى ........ طال بيه الحنين فاض به الشجن واقف يردد من زمن بالله يا الطير المهاجر للوطن *********
ولنقارن قوله بما ذكرناه ، هل ترك شيئا مما قلناه ؟؟. (4) سوف نتناول فى المقال القادم ألأعراض الثمانية المذكورة أعلاه بتفصيل واسع ان شاء الله . وصلى الله على سيدنا محمد وعلى اله وسلم ، ومن الله التوفيق . ------------------------------------------------------------------------ 1- Fisher, S. (1989). Homesickness, cognition, and health. London: Erlbaum 2- Bergsma, J. (1963). Militair heimwee [Homesickness in the army]. Doctoral dissertation, Groningen University, Groningen, Netherlands. 3- The American Psychiatric Association (1994). Diagnostic and statistical manual of mental disorders (4th ed.). Washington, DC 4- كتاب (المعانى النفسية فى الأغانى السودانية ) لكاتب المقال