[email protected] لقد تحدثنا كثيراً عن مؤسسية الدولة ، والانهيار القانوني الذي يستشري في نظامها تجاه حقوق المواطنة ، وأنا بالتأكيد لست ممن يقفون (مع أو ضد) ، بل أميل إلى الحق والعدل بمفهومه "الكانتي" ، وبالتالي فإن أي محاولة لتصنيف طرحي ستبوء بالفشل ، ففكرة التصنيف التي تمنهجها العقلية الأمنية السطحية استولدت كل هذا الانهيار السياسي والاقتصادي والأخلاقي ، فالتأسيس الأمني جرَّف الأرضية القانونية للمنظومة الاجتماعية التي كان من المفترض أن تكون مشتركة ومتشاركة .وحفَّز دوافع (مبررة) لحمل السلاح لكل من يملك القدرة والعزيمة على ذلك. لقد تحدث رئيس الجمهورية عن رفضه لمنح نيابة الرئاسة على أساس جهوي أو قبلي ، وهذا تصريح طيب ، لكنه في نفس الوقت منتقد من جانبين ؛ الجانب الأول : أنه أدى إلى كشف عدم تناسق منظومة الحكم ، حين تتعارض التصريحات في وقت حساس وخطير كهذا الوقت . وإذا كان بإمكاننا أن نتجاوز هذا الجانب الذي أصبح اعتيادياً وطبيعياً جداً فإننا لا نستطيع ان نتجاوز الجانب الثاني - كنقد لهذا التصريح - فهو الأهم ، ذلك أن التصريح جاء متأخراً ، بل ومتأخراً جداً . فلقد نادى أغلب الوطنيين ، ودعوا ، ورفعوا أصواتهم ، منذ وقت طويل إلى دولة القانون والمؤسسات ونبذ فكرة تبني العقلية الأمنية لإدارة الدولة ، إلا أن دعواتهم ذهبت جفاء ، وأصبغ على الصيغة النظامية للحكم سياج أمني شديد التكلس على الأطراف السيادية للدولة ، شديد البأس والرعونة في النطاق الذي ينفرد به ، بل انه وبغوغائية شديدة أخذ يتبنى دعماً أمنياً داخل القطاع الاقتصادي ، مؤثراً في تشويه ما تبقى من قانون السوق وحرية التنافس التجاري .وهكذا تشتت جهود الحكومة في مفاهيم بائسة مثل التمكين الاقتصادي ، والتمكين الأمني (بمعناه الضيق) ، وبكل هذا وبالإضافة إلى الأرضية القانونية الهشة للدولة ، تجلى مفهوم قانون القوة على مبدأ قوة القانون ، ولتركيز هذا التشوه ، بدأت عمليات التصنيف العرقي والجهوي ، تتخذ محدداً هاماً لهذه الكنتونات التي بدأت في عملية تكوين لوبي بذات النمط للسيطرة على كافة المقدرات ، وفي القلب خوف شديد من اليوم الأسود . رسخت نيفاشا هذا المفهوم أكثر ، وازداد الترسيخ بأبوجا والدوحة وبأديس أبابا وما سيأتي لاحقاً ، وهكذا فإن مفهوم قانون القوة اكتسب جرأته وانتصاره على مبدأ قوة القانون . فلماذا يكون عبد العزيز الحلو استثناءاً ؟ بل لماذا لا تنحوا كافة الكنتونات القبلية والجهوية والعرقية نحو مفهوم قانون القوة إذا كان ذلك هو النمط الذي طرحته منظومة الحكم لإدارة الدولة بعقلية أمنية لها (هي ذاتها) تكتلات ذات طابع قبلي وجهوي ، دعنا نفكك هذه الكنتونة بقليل من الشجاعة وكثير من الخجل ؛ سنجدها لا تعدو عن تمثيل قبلي صرف على المستوى النافذ بقوة والمشارك في اتخاذ القرار ، بدءً من رئاسة جهاز الأمن الوطني وضباطه القياديين ، مروراً بجهاز الشرطة ، وانعطافاً على الجيش ، وانتهاءً بالمليشيات النظامية الشبيهة كالدفاع الشعبي والدبابين والأمن الوطني وغيرها . فكيف نستطيع أن نتحدث بعد هذا عن أن الحلو متمرد ؟ وما هي المعايير والعناصر والأركان والشروط التي يقوم عليها وصف التمرد؟ إننا لا ننتظر الإجابة ، فالقضية ليست خاضعة –في الواقع – لمعايير فنية عادلة ومنطقية بقدر ما هي خاضعة لمعيار المصلحة ، وهذه الأخيرة متذبذبة وغير مستقرة لذلك يمكننا أن نعود في فلاش باك flashback إلى الماضي القريب جداً حين وصل خليل إبراهيم إلى الخرطوم ، وخرج السيد رئيس الجمهورية ببذته العسكرية مؤكداً بأنه سيتفاوض مع جميع الحركات المسلحة بدارفور ماعدا خليل إبراهيم ، إلا أن الأسابيع التالية مباشرة شهدت انعطافاً مغايراً تماماً . وهذا وإن حسبه الناس أمراً غريباً ، لكنني لا أراه كذلك . ولذلك فإن التفاوض مع عبد العزيز الحلو لن يكون غريباً إذا ما حدث ، وإن لم يحدث فلا يعني ذلك أن الحكومة تتمسك بمواقفها واتجاهاتها وإنما يعني بأن عبد العزيز لازال غير اقدر على تهديد المصالح بشكل قوي . ويكاد التاريخ يعيد نفسه ، بل تكاد عقارب الساعة تتراجع إلى الوراء كلما حاولت القفز إلى الأمام ، فالوقائع تتجدد بشكل كوميدي ، ووالله الذي نفسي بيده ما عهدت أدمغة لا تستذكر تجاربها دروساً بل تجتر اللعبة بذات قواعدها لتكدس الأخطاء ، خطئاً تلو آخر دون أن ترعوي أو كما قال المتنبئ: وَمن البَليّةِ عَذْلُ مَن لا يَرْعَوي .. عَن جَهِلِهِ وَخِطابُ مَن لا يَفهَمُ أما الشارع ، الذي هو خارج كل هذه الكنتونات فيقف في حالة توهان ، توهان ما بين الدين والفساد ، وتوهان ما بين المواطنة والغبن ، وتوهان ما بين الثورة والتمرد ، وتوهان ما بين النظام والفوضى ، وغير ذلك ، غير أن الأمر لا يعدو سوى مسألة وقت ، فلن يستمر طويلاً حيث ستلعب مصالح الأفراد دورها في تحديد الخيار لكل فرد ، وإذا كانت الأغلبية هي (قمح الطواحين) ، فسوف تنفجر لتقرر تغليبها لخيار على آخر ، ستنفجر في كل مكان ، في كل ولاية ، وفي كل محلية ، في كل مدينة وكل قرية ، وستزداد الكنتونات يوماً بعد يوم في الشرق والغرب والشمال الأقصى والوسط والوسط الجنوبي ، كلٌ بحسب إرادته وعزيمته . خاصة بعد تفكيك الأحزاب التقليدية التي كانت تحد إلى حدٍ كبير من حالة الانجذاب إلى المؤسسات الطبيعية . إننا كعقلاء ، وكوطنيين ، وكليبراليين ، وكمؤمنين بالحق والخير والعدل ، وكمتطلعين إلى دولة القانون والمؤسسات ، تحقيقاً لرفاهية الشعب ، وكمثقفين ، وكمطحونين ، وكشرفاء ... سنظل ندعو إلى إعادة البناء reconstruction للوطن الأم على أسس جديدة وسنظل ندعو رئيس الجمهورية إلى اتخاذ قرارات شجاعة وهو يستصحب قوله تعالى : (يا أيها الذين امنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وان تلووا أو تعرضوا فان الله كان بما تعملون خبيرا) (النساء 135) .صدق الله العظيم . والله من وراء القصد وإلى الله ترجع الأمور.