E-MAIL:[email protected] في صحيفة ألوان الصادرة في الخرطوم صباح الثلاثاء الموافق 5/7/2011 ورد خبر منسوب الي محمد عبدالله ود أبوك وهو قيادي مسيري شاب مشارك في مفاوضات أديس بخصوص منطقة أبيي مفاد الخبر ان سلفا كير قد أرسل مبعوث رفيع المستوى إلي وفد المسيرية يعرض عليهم منصب نائب رئيس حكومة الجنوب إذا هم قبلوا بضم ابيي إلي الجنوب . وفورا عادت بي الذكريات إلي عشرين سنة ونيف خلت قبيل وقوع إنقلاب الثلاثين من يونيو في 1989 وقد كنا حينها شباب في مقتبل العمر وفي المرحلة الجامعية يهمنا أمر المستقبل والقادمات من الأيام وكانت الحرب حينها مستعرة في جنوب الوطن وكنا نعلم يقينا أنه لاتنمية ولا إعمار يمكن ان يطال الجنوب ولا الشمال في ظل أتونها الملتهب وكان أبرز خصوم الجدل السياسي المشرأب بعنقه نحو مستقبل مشرق لبلادنا هم الإسلاميون الذين يعلون من شأن مشروعهم الأيدولوجي القائم على فكرة الدولة الإسلامية وكانوا يرون أن هذا المشروع هو مهمة رسالية تتضاءل دونها الغايات ويرخص من أجلها كل غال ونفيس وكنا نقول لهم أن مشروع الدولة الإسلامية لامكان له في السودان البلد متعدد الهوية والثقافات فنحن فينا العرب وغيرهم والمسلمين وغيرهم فنحن عرب وأفارقة ومسلمين ومسيحين ولا دينين والمولى عز وجل في محكم تنزيله يقول (يا أيها الذين آمنوا إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائلا لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) والتقوى هي مخافة الله وإحترام مشيئتة في خلق الناس بهذا المقدار من التنوع والإختلاف والإعلاء من شأن الكرامة البشرية.وهو القائل جلا وعلا(أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مسلمين ) ويقول في أية أخرى (إنك لا تهدي من أحببت ولكنّا الله يهدي من يشاء)ويقول (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) وكل هذه الآيات تدل على رحابة الدين الإسلامي وسعة مواعينه السياسية والإجتماعية وقدرته على إستيعاب الناس على إختلاف مشاربهم وتوجهاتهم في دولة مدنية لاتدعي العصمة وتحتكم إلي إرادة البشر القابلة للنقد والتصويب عبر آليات يتفقون على رشادها ويحترمونها بمقدار ما تحققه لهم من التوافق والإنسجام بحل نزاعاتهم على أسس من العدل والحق والخير والجمال مما ينسجم مع روح الدين وعظمة رسالته. وكنا نقول لهم أنكم إذا واصلتم أصراركم على إقامة هذه الدولة وتنكبتم لتلك الغاية كل السبل المشروعة وغيرها بما فيها الإنقلاب فأنكم تضعون أنفسكم والبلاد والعباد في مأزق لامخرج منه ، لأنه في حال قيام هذه الدولة المزعومة فأنه من حق الجنوب أن يقرر مصيره بالأنفصال عن الشمال ، لأنه في ظل قيم الحداثة القائمة علي إحترام التنوع وتقديس حقوق الإنسان لا يمكن لأي فرد أن يقبل بالعيش في ظل دولة تحكمها قيم تقليدية تعود للقرون الوسطى ويسيطر عليها هوس فقهي يجعل من المواطنة درجات فالكل يعلم أن الدولة الآن مدنية تقوم على العدالة والحريات والحقوق والواجبات ولا تفرق بين الناس على أساس من الدين أو الجنس أو العرق أو أي معايير أخرى لا يقبلها العقل ولا الفطرة السليمة وكما نصت على ذلك دون لبس أوغموض الآية الكريمة المذكورة آنفًا وكانوا يرون أن إرادة الله أن تكون الدولة بالكيفية التي يرونها مهما كلف الأمر وكنا نعود لنقول لهم إذن من واجبنا في هذا الصراع أن نقف مع المظلوم إذا تمكنتم من السلطة وكانوا يقولون فلتفعلوا فسنحاربكم جميعا وكنا نقول وإذا إستحالت الحرب وتوافق الناس على إيقافها بفصل الجنوب ، وكانوا يردون فليذهب الجنوب وتبقى الشريعة ودولة الإسلام ، ونحن أهل التماس الذين تتراوح حياتنا بين الشمال والجنوب ماذا نفعل ؟ كان ردهم أن إفعلوا ماتشاؤون ! وكان ردنا كمسيرية من أكثر أهل التماس تضررًا من فصل الجنوب أننا نشاء ما تشاء أبقارنا من المراعي والمياه وهي جنوباً إلي أن يقضي المولى بأمر تحديث حياتنا وإبدالها بإستقرارٍ دائم شمالاً كان أو جنوباً. ولكن يبقى السؤال المأزق هل المصلحة أهم من الإنتماء العرقي والثقافي بالنسبة لنا ؟ من ناحية نحن نؤمن بأننا عرب مسلمين وإن كان ذلك قابلاً للنقاش :- ففي العالم واقعياً لا يوجد نقاء عرقي ولكننا نقع على مسافة من العنصر العربي كافية لتجعلنا أقرب للزنج إن لم يكن أغلبنا زنوجا خلص فالعرب سلالياً ينتمون إلي القوقاز وهم يتميزون بالبشرة التي تترواح بين السمرة في حوض البحر المتوسط والشرق الأوسط والبياض الناصع في أقصى الشمال والشعر المموج والأنف المستقيم والقامة المتوسطة وأننا نؤمن بأن أسلافنا الذكور كانوا كذلك ولكنا اليوم تمازجنا مع القبائل الزنجية كالنيلين والفراتيت والنوبة بشكل يصعب معه على الآخرين التمييز بيننا فنحن في الواقع عرقياً زنوج لا غير . أما من الناحية الإثنية فنحن مسلمين نتكلم اللغة العربية لا شك في ذلك ولكن هنالك العديد من عناصر التثاقف التي أكتسبناها من ثقافات أهل البلاد التي مررنا بها والتي أنتهى أمرنا بالإقامة فيها فالثقافة كما هو معلوم هي الإطار النظري والممارسات العملية التي يعيش بها وعليها الفرد والجماعة والتي تيسر الحياة وتجعلها ممكنة وتعطيها معانيها وقيمها ولهذا كان من أبرز سماتها التغير لتواكب متغيرات الحياة وتحافظ على إستمرارية الجماعة التي تعيش عليها ومن هنا كان تحول أسلافنا من تربية الإبل في البيئات الجافة وشبه الجافة إلي تربية الأبقار عندما أنتقلوا في ترحالهم إلي بيئة السافنا المطيرة ويعتقد أن هذا التحول حدث بفعل إحتكاكهم مع الأمبرورو من قبائل الفولاني الرحالة ونتشابه معهم في الريش والملابس صاخبة الألوان وكثيرة الزينة التي تلبس عند أداء لعبتي المردوم والنقارة والتي بالأصل تعتبر من الموروث الثقافي الأفريقي وهنالك العديد من السمات الثقافية الأفريقية الأصيلة ضمن منظومة الثقافة المحلية لقبائل المسيرية يمكن أن تكون مثار بحث خصب وإهتمام وفير من قبل دارسي الأنثربولوجي . ويبقى السؤال هل المصلحة أهم من الإنتماء ؟ وتبقى الإجابة مفتوحة ومرنة وتحتاج إلي بحث وتوافق حولها كما أستبان لنا من خلال المناقشة السابقة ويمكن أن نسهم فيها على النحو الآتي :- -إذا توافرت المصلحة والإنتماء في جهة واحدة فالأمرمحسوم ولا يحتاج إلي جدل فهذه هي الوجهة وهي المستقر. - وإذا ذهب كل منهما في إتجاه كما هو الحال الآن فالمصلحة هي الأجدر بأن تتبع وذلك على ضوء أننا لم نجن من الإنتماء إلي إخوتنا في الشمال في ظل دولتهم المركزية القابضة والتي فشلت كل محاولات إرخاء قبضتها على الهوامش ، لم نجن من ذلك الإنتماء إلا المعاناة والضياع والظلم في أوضح معانيه فمقدار ما قدمنا من موارد طبيعية وبشرية لايتناسب مع مقدار ما حصلنا عليه من تنمية وخدمات وحتى عدالة ومدافعة عن حقوقنا وأرضنا ومصالحنا في الإنتماء إلي الشمال خلال إتفاق نيفاشا. ومع ذلك فإن الإنتماء للجنوب له محاذيره الضخمة التي يجب الوقوف عندها كثيرا. -ففي هذه الحالة يجب أن نكون مستعدين لأن نصبح أقلية أثنية في دولة ضعيفة وناشئة حديثاً وتتنازعها المصالح الخارجية والقوى القبلية التقليدية وتجابه تحديات التنمية المختلفة في واقع يسوده الفقر والجهل والتخلف مع العلم بأن حقوق الأقليات تجد حتى الدول المدنية الناجحة والمتقدمة تجد عنتًا كبيرا في الإلتزام بها فما بالك في دولة بهذه المواصفات التي ذكرنا لا زالت في حاجة إلي زمن كي تبني نفسها ومؤساستها علي المحاسبية والشفافية وحكم القانون وإحترام الحقوق والحريات للفرد والأقليات . -الأمر الآخر أن الماضي المشترك مع أغلبية الدولة الجديدة يزخر بالمرارات ويعتقدون بأننا أبرز من ساهم في التصدى لهم في الحرب الأهلية بعد الإستقلال بفترتيها الأولى والثانية (نيفاشا وأديس ابابا ) وأبرز من مارس ضدهم كل صنوف الهيمنة والإستغلال إلي حد الإسترقاق والسبي لدرجة غيرت نسيجنا العرقي ،هذه الخلفية ستظل حاضرة في تعامل الدولة الجنوبية معنا كما ظلت حاضرة في إتفاق نيفاشا وأدت إلي إخراج برتكول أبيي بصورته التي أستهدفت المسيرية وسعت للإقتصاص منهم لصالح دينكا نوك وأيضا إلي عجز الحركة الشعبية في الفترة الإنتقالية عن إختراق حاجز المرارات والضغائن الموروث بين نوك والمسيرية على الرغم من أن البروتكول نص صراحة على ذلك . -وهنالك عقبة كبرى تعترض سبيل الموضوع برمته وتتعلق بمن هم المسيرية المعنين بالعرض المقدم من القيادة الجنوبية هل هم كل المسيرية الذين يعيشون في النطاق الممتد من أبونفسية جنوبًا إلي مومو شمالاً ومن دميك عند سفوح تلال النوبة شرقاً إلي التبون عند الحدود الإدارية لكردفان مع دارفور غرباً أم هم المسيرية الذين يعيشون في أبيي وفقا لتعريف وتحديد لاهاي ؟ ولنفترض جدلا أن المقصود مسيرية أبيي وفقا للاهاي فهل نقبل بأن تجزأ القبيلة وفقا لمشيئة صناع الحدث بين الدول ! وإذا كان الخيار الأول فهل يقبل المؤتمر ودولة شمال السودان بذهاب ما تبقى من مستودعات النفط جنوبا؟ -إذن أي محاولة للإنتماء إلي الجنوب لا تضع في حسبانها هذه المحاذير فستكون بمثابة وضع للأغلال في اليدين وحكم بالإدانة على النفس ويجب أن يكون الإنتماء مشروط بمايلي :- 1- إتفاق تتعهد بموجبه دولة الجنوب بإحترام وضمان الحقوق الثقافية والإجتماعية والإقتصادية والسياسية لإقلية المسيرية بدولة جنوب السودان. 2-حكم ذاتي لمنطقة أبيي يقوم مناصفة بين نوك والمسيرية. 3- قسمة عادلة لموارد المنطقة تخصص فيها أنصبة واضحة للمركز وسكان المنطقة يوجه نصيبهم فيها لصالح مشروعات التنمية والإعمار والدمج الإجتماعي . 4- تعمل سلطة الدولة الجديدة على تخصيص موارد وإنشاء آلية للمصالحة والسلم الإجتماعي والتعايش السلمي المشترك. 5- تخصيص نسبة تتناسب مع الحجم السكاني للمسيرية في سلطة المركز على كافة مستوياتها. 6- ترتيبات أمنية يعهد فيها أمر إقامة الأمن لقوة دولية محايدة بأمر الأممالمتحدة في المنطقة إلي حين حدوث التوافق والإندماج بين المكونات الإجتماعية والسكانية لمنطقة أبيي. 7- أن يضمن المجتمع الدولي لبقية سكان منطقة المسيرية الحق في تقربر مصيرهم بالإلتحاق بأخوانهم مسيرية أبيي في دولة الجنوب أو البقاء ضمن دولة الشمال . 8-أن يتدخل المجتمع الدولي والدول ذات المصلحة في الشهادة علي الإتفاق وضامنة لتنفيذه. وأخيراً ينبغي أن نلاحظ أن النقاش السابق مبني على فرضية صحة وجدية الحركة الشعبية في التقدم بالمقترح القاضي بضم المسيرية إلي الجنوب. وينبغي أن تكون لأن المسيرية هم العقبة الكبرى أمام ضم أبيي للجنوب .وهذا بدوره يعتبر من القضايا المركزية العالقة والتي على ضوئها يتحدد مسار العلاقة بين الشمال والجنوب سلاماً وحسن جوار وتبادل للمنافع أم حربًا وإقتتال وتصدير كل طرف مشاكله للآخر. عمر عبدالرحمن عبدالله البشاري 17/7/2011 E-MAIL:[email protected]