* (توقفت عن الكتابة، لأنني لم أستطيع ترجمة مداركي الشخصية إلى المادة الغامضة، جوهر الأدب المعقد، أو لأنني لم أعد أجد شيئا ً أكتب عنه، ولعشرين سبباً آخر..) - ريتشارد فورد – أمريكي يكتب عن أحزمة الفقر. .. أتعرض منذ بدأت الكتابة في موقع سودانيز اون لاين لنقد متواصل من أصدقائي المقربين بعضهم يتهمني بالكتابة السهلة بأكثر مما هو متوقع من أستاذ جامعي، وآخرون يرون أن بعضا ً مما أكتبه أكاديمي وعسير على الفهم قليلا ً، وغالبا ً ما أتجنب مناقشة هذه التهم المتناقضة لقناعتي أن معنى أي نص لا يتشكل بذاته قط، وأنه لابد من عمل القارئ في المادة النصية لينتج معنى. وقناعتي تستند إلى إيماني بأن البشر جميعاً حينما يعمدون إلى تفسير العالم من حولهم يعتمدون على مرجعياتهم الدينية والأخلاقية والاجتماعية والثقافية الخاصة، وليس على منطق ثابت أو معايير محددة خاصة في مجال الأدب والسياسة، وذلك لأن هذين المجالين ساحة رحبة للتعدد والاختلاف والتشكيك والمساءلة والتقييم لكل الفرضيات الموروثة كما أنها عملية معرفية إيديولوجية اتصالية في موقف تاريخي محدد، وهي عملية يجب فيها على المبدع أو الكاتب أن يتنازل عن عرشه باعتباره صانعاً للمعنى، وأن يتقبل دوراً أكثر تواضعاً وهو دور المرسل الذي لا تضمن له قصدية الرسالة، وحسن صياغتها وبثها أن تفهم من المتلقي دون تحوير أو تغيير، لأن مادة تشكليه الفني ليست نقية من المعنى والإيديولوجية، كما أن صياغته لها محملة بالشيفرات التي يعمد المتلقي إلى تفكيكها لإنشاء معنى عبر ملء الفراغات وتحليل وتفسير الإيحاءات. وتحليل وتفسير المتلقي لعمل إبداعي ما، ليس بالضرورة أن يتطابق مع غاية صانعه، لأن أهدافهما ليست واحدة ولأننا كثيراً ما ننسى أن المتلقي غالباً ما يهدف من متابعة عمل إبداعي إلي الترفيه أولاً، وأن اكتساب المعرفة يأتي عرضاً وليس قصداً، خاصة في عصرنا الراهن الذي أصبحت فيه وسائل الإعلام المصدر الأهم لمعرفة العالم، وهو مصدر متهم بأنه يسلع الخبرة والتجربة الإنسانية ويقدمها للمتلقين بديلاً عن الحياة الواقعية بل أكثر من ذلك باعتبارهما حياة واقعية يجب تصديقها! وهذا في ظني ما يجعل من عملية التلقي فعلاً خلاقاً لأنها تسير في دروب ملتوية من الدلالات يصادفها المتلقي أحياناً ويتوهمها أحياناً أخرى، وهو إذ يفعل ذلك يخترع ويجاوز ذاته، مثلما يجاوز النص الذي يتلقاه إلى معنى قد لا يتطابق مطلقاً مع نيات صانعه، وهو ما يعني تعدد الرؤى حول عمل ما بتعدد متلقيه، وهو أمراً أعدّه غنى وثراء لأي عمل كتابي أو إبداعي أو فكري، ودليل نجاح وليس فشلا ً وذلك لأن المعايشة في العمل الإبداعي بين الصانع والمتلقي دائما ً ما تبدأ من المشترك بينهما، وهذا ما يعني أن العلاقة بينهما هي تجربة إنسانية لكن شخصية وهي من التجارب القليلة في حياتنا المعقدة المسموح فيها بالتفسيرات المختلفة، والقراءات غير الموضوعية وتعددية الرؤى وقبول الحتمية المرجعية للبشر كل البشر وخاصة أصدقائي.