منسق الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية مارتن غريفيث: المدنيون في الفاشر يكافحون بالفعل من أجل البقاء على قيد الحياة    بايدن يؤكد استعداده لمناظرة ترامب    الأهلي يهزم مازيمبي بثلاثية نظيفة ويصعد لنهائي الأبطال    الأهلي يعود من الموت ليسحق مازيمبي ويصعد لنهائي الأبطال    أرنج عين الحسود أم التهور اللا محسوب؟؟؟    الصناعة.. قَدَر الخليج ومستقبله    وصول طائرة للقوات المسلّحة القطرية إلى مطار بورتسودان    شاهد بالفيديو.. ناشط سوداني يهاجم الفنانة عشة الجبل ويثبت غيرتها من زميلتها الفنانة مروة الدولية: (عرس الدولية حارقك وقاطع قلبك والغيرة دي ما حلوة)    السودان..تحذير خطير للأمم المتحدة    شاهد بالفيديو.. ناشط سوداني يهاجم الفنانة عشة الجبل ويثبت غيرتها من زميلتها الفنانة مروة الدولية: (عرس الدولية حارقك وقاطع قلبك والغيرة دي ما حلوة)    شاهد بالفيديو.. حكم كرة قدم سعودي يدندن مع إبنته بأغنية للفنان السوداني جمال فرفور    شاهد بالصور.. رصد عربة حكومية سودانية قامت بنهبها قوات الدعم السريع معروضة للبيع في دولة النيجر والجمهور يسخر: (على الأقل كان تفكوا اللوحات)    هل فشل مشروع السوباط..!؟    مخاوف من قتال دموي.. الفاشر في قلب الحرب السودانية    سوق العبيد الرقمية!    صلاح في مرمى الانتقادات بعد تراجع حظوظ ليفربول بالتتويج    أمس حبيت راسك!    راشد عبد الرحيم: وسقطت ورقة التوت    وزير سابق: 3 أهداف وراء الحرب في السودان    الصين تفرض حياة تقشف على الموظفين العموميين    (المريخاب تقتلهم الشللية والتنافر والتتطاحن!!؟؟    وكالة الفضاء الأوروبية تنشر صورا مذهلة ل "عناكب المريخ" – شاهد    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    "منطقة حرة ورخصة ذهبية" في رأس الحكمة.. في صالح الإمارات أم مصر؟    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    إيفرتون يصعق ليفربول بثنائية    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    إقصاء الزعيم!    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



خالد الحاج عبد المحمود يكتب حول دعوة د. عبد الله أحمد النعيم 2.الذاتية المفرطة
نشر في سودانيزاونلاين يوم 14 - 09 - 2011


بسم الله الرحمن الرحيم
(مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ، وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا).. صدق الله العظيم..
الدكتور عبد الله أحمد النعيم، من الأكاديميين المشهود لهم بالكفاءة، منذ أن كان أستاذاً شاباً للقانون، بجامعة الخرطوم.. وقد كان محلَّ تقدير بين زملائه وطلابه، وجميعهم يشهدون بكفاءته العلمية وجدّه الأكاديمي.. وقد تدرّج في مجال التأهيل الأكاديمي حتى أصبح بروفيسراً في واحدة من الجامعات الأمريكية العريقة.. كما اشتهر أنه من الناشطين البارزين في مجال حقوق الانسان.
وكان د. عبدالله، قد انضم لجماعة الأخوان الجمهوريين، تلاميذ الأستاذ محمود محمد طه، منذ نهاية ستينيات القرن الماضي، وظل يعمل في إطار الجماعة، حتى تم التنفيذ على الأستاذ محمود عام 1985م، وبعدها هاجر الى الولايات المتحدة، وهناك عُرف عنه، النشاط الواسع، منذ ذلك التاريخ، وإلى اليوم.. فقد ظل يحاضر في أقطار ومدن الغرب، وفي آسيا، وأفريقيا، خصوصاً شرق آسيا.. وأعد بعض الأوراق، وأصدر بعض الكتب.. ومن أهم كتبه: (نحو تطوير التشريع الإسلامي) الذي صدرت ترجمته العربية عام 1994م، ثم صدر له حديثاً كتاب (الإسلام وعلمانية الدولة) باللغة الإنجليزية، وقد تمت ترجمته إلى اللغة العربية عام 2010م.. وبعد إصداره كتاب (نحو تطوير التشريع الإسلامي)، وفي وقت لا أعلمُه بالتحديد، بدأ نشاطُه، كلُّه، يدور حول المحتوى الذي ظهر مؤخراً في الكتاب الثاني.. حتى وصل الأمر إلى أن يتمركز كلّ نشاطه الواسع، الذي أشرنا إليه، حول المحتوى الذي ظهر في كتابه الأخير (الإسلام وعلمانية الدولة).
تبنى د. عبدالله ما اعتبره دعوة خاصة به، سماها، (رسالة)، وقد صرح بذلك في مؤتمر بالإسكندرية.. كما ذكر في كتابه (الإسلام وعلمانية الدولة)، الطبعة الإنجليزية، أن هذا الكتاب يمثل تتويجا لمجهود حياته، والكلمة الأخيرة، في أمور ظل يداولها فيما بينه وبين نفسه، منذ أواخر ستينات القرن الماضي، حيث قال: (هذا الكتاب تتويج لمجهود حياتي، وهو الكلمة النهائية التي أود أن أقولها حول مسائل ظللت مهموماً ومشغولاً بها منذ أن كنتُ طالباً في جامعة الخرطوم بالسودان، أواخر ستينات القرن الماضي)!!.
بالنسبة لي، ولكل الإخوان الجمهوريين، كنا نعتقد أن د. عبدالله، طوال هذا التاريخ، وفي كل نشاطه، يعمل في نشر الفكرة الجمهورية، الى أن بدأ بعضنا يدرك مؤخراً أنه، طوال هذا التاريخ، ظل ينشر دعوته الخاصة، تحت غطاء أنه تلميذ للأستاذ محمود محمد طه (في جميع أحواله، وفي كل ما يدعو إليه في أمور الحياة العامة)!! وقد أدهشتني الجرأة المبالغ فيها، في هذا القول إذ أنني بعدما اطلعت على دعوته، وجدتُ أنها نقضٌ صريحٌ لدعوة الأستاذ محمود، وللدين بصورة عامة، ودعوة صريحة للعلمانية.. وقد بدأتُ أكتب، في موقع الأخوان الجمهوريين _الصالون_ منذ عام 2009م، في بيان مفارقات طرح عبدالله وخطورته.
وكنتُ، ولا أزال، أهدفُ من كتابتي هذه الى نصيحة د. عبدالله، وبيان خطورة أفكاره المناقضة للدين، كما كنتُ أرمي إلى لفت نظره، ولفت نظر الناس، إلى ضرورة الفصل الواضح بين دعوته ودعوة الأستاذ محمود، كخطوة أولى في محاولة تصحيح، ما يمكن تصحيحه، من أوجه التشويه الخطير الذي ألحقه بالفكرة.. وهذا هو عين ما أرمي إليه، من كتابتي الآن.
كتبتُ لعبدالله، أستفسره عن بعض الأمور، في منهجه، وقد رد على استفساراتي.. وبعد ذلك، لم يدخل في الحوار إلا مرةً واحدة، وقد دخل ليقول إن بعض ما كتبتُه أنا، حول طرحه، ليس هو ما يقصده؟! ثم انصرف تماماً من الحوار، بعد ذلك!! وقد حاولتُ كثيراً، بالشدة وباللين، أن أجعله يدخل إلى ساحة الحوار، ليبين موقفه، ويدافع عن دعوته، خصوصاً أنه يصرِّح في إلحاح، وفي كل منتدى، أنه داعية حوار، وتفاوض، وأنْ لا سبيل، غير سبيل الحوار، يمكن أن يعتمد للتوفيق والتوسط بين الناس!! ولكنه لم يُخْلص لمنهجه هذا الذي يدّعيه، وانصرف تماماً عن الحوار.. وأنا، هنا، أجدّد له الدعوة للحوار، خصوصاً أن كتابتي، عن رسالته، قد خرجت من المجال الخاص، إلى المجال العام، الآن.. وأنا أعلمُ، كما أسلفتُ، أن دعوته هي من الهشاشة، والبعد البعيد عن الطرح الموضوعي، بحيث لا يستطيع الدفاع عنها.. لكن الأمر الطبيعي، أن تكون رؤيته، هو، مختلفة عن رؤيتي هذه، على الأقل.
كما أنه قد سبق أن التزم بالرد على من يعترض عليه، أو تغيير الجزئية التي لا يستطيع المنافحة عنها في طرحه، فهو يقول في هذا الصدد: (التحدي الذي يواجهني أن أكون مقنعاً.. أي اعتراض يوجّه إليّ، عليّ أن أرد عليه، أو أغيّر الجزئية التي لا أستطيع الدفاع عنها، أو تقديم الدليل عليها، من طرحي).. مقابلة (ايموري ان ذي ويرلد)..
في الحلقة السابقة تحدثنا عن منهجه، الذي أسماه المنطق المدني.. ونحن هنا سنبدأ في تناول هذا المنهج، كما هو مطبق عند صاحبه.. فصاحبُ المنهج، بالضرورة، هو أنسب من يمثله، ويطبّقه.
هذا الذي يسمّيه عبدالله منهج تفكير ويستبعد منه الدين والفلسفة، ما هو إلا ذاتية مفرطة، بل مبالغٌ في افراطها، بصورة تبعث على الحيرة، وتستعصي على التفسير.. يقول د. عبدالله: (لا يمكن لأي مؤسسة بشرية أن تحقّق الحياد والمساواة وحقوق المستضعفين، وهذا هو خطأ جوهري في زعم الدولة الدينية.. هنالك من يدّعي أن الدولة الدينية خالية من الفساد والغرض والهوى، وأنا (عبدالله أحمد النعيم) أقولُ من يزعم هذا إما مضللٌ لنفسه، أو مخادعٌ للناس، لا يمكن أن يتم ذلك لبشر، وأنا أصرُّ على الاحتفاظ بالطبيعة البشرية للدولة).. هذا النص كافٍ جداً لتقييم صاحبه، وتقييم كل ما يصدر عنه.. ولكننا، هنا، لسنا بصدد، مناقشة النص، وإنما نحنُ بصدد الحديث عن الذاتية، التي يقوم عليها منهجه.. فعبارة (أنا عبدالله أحمد النعيم أقول)، هي منهج عبدالله الفكري الحقيقي، إذا أمكن أن نصف الذاتية بأنّها (فكرٌ)!! وهذا ما سنبيّنه بصورة واضحة ووافية.. فهذه العبارة ليست مسألة عرضية، وإنما هي تعبّر عن الأساس الذي يقوم عليه طرحه.. فهو في النص المذكور لم يورد أي دليل موضوعي، لتعزيز وتدعيم قوله اليائس، هذا، بل هو حتى لم يناقش أياً من القضايا المذكورة، ليبيّن لماذا هي غير ممكنة التحقيق.. وهذا ليس استثناء، في نهج د. عبدالله، وإنما هو القاعدة.. وحتى لا يكون الأمر، مجرد تجني، سنورد الأدلة الواضحة والوافية، ومن وجوه عديدة، على ذاتيته، وعليه هو أن يفنّدها.. وهذه الذاتية تظهر في صور عديدة، منها:
1. تحديد المفاهيم، والتعريفات، بصورة ذاتية، لا علاقة لها بطبيعة الموضوع.
2. المفارقات الصارخة الوضوح.
3. تحديد قضايا، ومسلمات، لا وجود لها في الواقع الموضوعي، والبناء عليها بصورة أساسية.
4. تخطئة بعض القضايا، والمفاهيم، عندما تأتي من الآخرين، واستخدامه هو لذات القضايا، والمفاهيم، على اعتبار أنها صحيحة.
5. التعامل مع واقع من صنعه هو، وإطلاق التعميمات ارتكازاً إلى هذا الواقع الافتراضي، والاجابة على الأسئلة بصورة لا تمت بصلة للسؤال.
6. التناقض الحاد، الذي يشمل القضايا الأساسية في طرحه، والمراوغة، إلى الحد الذي يجمع فيه بين المسألة الواحدة، ونقيضها تماماً، في آن واحد.. وهذا من أكبر، وأوضح أوجه الذاتية، عنده.
التعريفات وتحديد المفاهيم:
أولاً، نحب أن نوضح، بصورة مبسطة، ما نعنيه بكلمة (الذاتيّة).. فكلمة (ذاتي) تستخدم كمقابل لكلمة (موضوعي).. ذلك أنّ الفكر، أيّ فكر، مرتبط بالذات الخاصة بالفرد المفكر.. هذا في جميع الحالات.. وتجيء الموضوعية للفكر، عندما يكون هناك موجّه، ومرجع، خارجي موضوعي يمكن الاحتكام إليه، بصورة عامة، ومقنعة لغير المغرضين، لتبيين مدى صحة، وتماسك هذا الفكر.. أما الفكر الذاتي، فهو ذلك النوع من الفكر الذي تكون المرجعية فيه ذاتُ صاحب الفكر.. فهو لا يقوم على القيمة الموضوعية، في التفريق بين الحق والباطل _الصحيح والخطأ_ وإنما يقوم على اعتبارات النفس، والميول والاتجاهات الخاصة بالشخص، دون تقديم دليل موضوعي على الصحة أو الصدق.. فالحقيقة بطبيعتها موضوعية، ومحايدة، ويمكن لكل الناس أن يشتركوا في رؤيتها، أو الوصول إليها، أو الحوار حولها.. لكن التفكير الذاتي، يجعل البشر عبارة عن جزر منعزلة، بعضها عن بعض، يصعب التواصل فيما بينها.
فالفكر الموضوعي، يقوم، ابتداء، على أن العقل أمر مشترك بين جميع البشر.. واللغة هي وسيلة التواصل الفكري.. ويمكن للبشر رؤية الأشياء الحسية والمعنوية، بما فيها الأفكار، كما هي عليه في الواقع، رؤية مشتركة يمكن، إنْ لم تتطابق، أن تكون قريباً من قريب.. وهذا ما يجعل الحوار بين البشر ممكناً، بل هو ما يجري بالفعل.. لكن في إطار النظرة الذاتية، على النحو الذي يتبناه د. عبدالله، تنتفي إمكانية الحوار الموضوعي.. وعلى ضوء هذا التعريف البسيط، ندخل على الذاتية في طرح د. النعيم.
من أوجب الواجبات في الحوار البشري، وفي منهاج البحث العلمي، تحديد المفاهيم، بأكبر قدر من الدقة.. وإذا غاب هذا التحديد، تنتفي علمية البحث، ويستحيل الحوار الموضوعي، خصوصاً عندما يتعلق الموضوع بالأمور الأساسية.. فالإنسان لا يمكن أن يتحدث عن الإنسان، أو عن الإسلام، مثلا، دون أن يضع لهما تعريفات محددة.. ولكن طرح د. عبد الله إما أنه يقوم على مفاهيم وتعريفات ذاتية، بعيدة كل البعد عن الموضوعية، أو أنه ينفي مجرد إمكانية الوصول الى تعريف!!
ونحن هنا سنورد بعض الأمثلة، للمواضيع الهامة.. فعبدالله يزعم أن طرحه الخاص بعلمانية الدولة، يقوم على الإسلام، ويستبعد الدولة الإسلامية.. فما هو الاسلام عنده؟ وماهي الدولة الاسلامية التي يستبعدها؟
يقول عبدالله، في الرد على سؤال عن التوافق بين الإسلام وحقوق الإنسان: (أعتقد أن صياغة السؤال بهذه الطريقة باطلة من حيث المفهوم، نظراً لأن السؤال يفترض أن هنالك شيء قابل للتعريف، ومتماسك اسمه "الإسلام"، يمكن مقارنته بتعريف ثابت وراسخ لحقوق "الإنسان"...).. ويقول: (أصر وأؤكد أنه لا أحد _مسلم أو غير مسلم_ يمكنه أن يعرّف بصورة محددة، وشاملة، الإسلام).. ويقول: (بعبارة أخرى كل من يحاول تقديم (فرضية التوافق) إنما هو يدّعي أنه يعْرف، بصورة محددة وشاملة، ماهية الاسلام)!!
موقع: http://www.abc.net.au/religion/articles/2010/07/06/2945813.htm بتاريخ 6 يوليو 2010م..
إذن، عند د. عبدالله، الإسلام، ليس شيئاً متماسكاً قابلاً للتعريف!! ومع ذلك يعتبر نفسه مسلماً، وداعيةً إسلامياً، ولا يرى أي تناقض في أن يكون مسلماً، وصاحب طرح إسلامي، وفي نفس الوقت ليس له تعريف للإسلام، بل هو يرى أن تعريف الإسلام، بصورة شاملة، مستحيل!!
ونحن لسنا في حاجة لإيراد تعريف الإسلام، إذ هو أمر يلحق بالبداهة، فكل تلميذ، في مرحلة الأساس، يعرف الحديث الذي يرويه عمر بن الخطاب، والذي يعرّف فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: الإسلام، والإيمان، والإحسان.. وكل قاريء للفكرة الجمهورية، يستطيع أن يعرف التعريف الشامل للإسلام، في مستوى الاسلام العام، ومستوى الاسلام الخاص، حسبما يطرحه الأستاذ محمود.
ومن النص، يبدو أن عبدالله، يرى أن هنالك تعريف محدد لحقوق الإنسان، ولكن هذا مجرد تناقض، فهو، في مكان آخر، يقول: (القاعدة العالمية والعامة فيما يخص الإنسان هي أنه ليس هناك وجود لإنسان عالمي (كوكبي) وما دام أنه ليس هناك وجود لإنسان عالمي (كوكبي) فإننا نواجَه بمشكلة عندما نحاول إيجاد تعريف مفهومي لحقوق الإنسان العالمي).. فعنده كما لا يوجد تعريف شامل للإسلام، لا يوجد أيضاً تعريف محدد لحقوق الإنسان، لأنه لا يوجد إنسان عالمي، وهو يقصد هنا إنسان عالمي، من حيث التعريف وليس من حيث التحقيق، فهو أساساً يرفض مفهوم الإنسان، ككائن متطور على البشر.. ويصر على البشرية، كما يقول!!
في الواقع الفكرة الجمهورية قدمت تعريفاً شاملاً ومفصلاً للإنسان، خصوصاً في مقدمة الطبعة الرابعة لكتاب (رسالة الصلاة)، ولكن من الواضح أنه يرفض هذا التعريف بصورة مبدئية، انطلاقاً من نظرته الذاتية، دون ذكر أي أسباب لرفضه.
تعريف الدولة الدينية:
طرح عبدالله يقوم بصورة أساسية على الدعوة لعلمانية الدولة، وتخطئة الدولة الإسلامية، من منطلق مفهومي.. فهو يقول مثلاً: (فقولي ببطلان مفهوم الدولة الدينية يعني أن هذه الفكرة لا تستقيم عقلاً ولا ديناً، لأنها تنسب التدين للدولة، وهي مؤسسة سياسية بالأساس، ولا تملك أن تعتقد في أي دين أو تمارس شعائره).. كتاب الإسلام وعلمانية الدولة ص 19.. وهو قد ظلّ يكرّر هذا القول، لزمن طويل، وبصيغ متنوعة، ويبني عليه بصورة أساسية رفضه للدولة الدينية أو الإسلامية.. فالدولة الإسلامية، عنده، لم تحدث في التاريخ، وهي غير موجودة في الحاضر، ولا يمكن أن تحدث في المستقبل، فالأمر كله في نظره خطأ في المفهوم.. وهو يعتبر ملاحظته هذه ملاحظة ذكية، وكافية للقضاء على مفهوم الدولة الإسلامية!!
هل القول بدولة دينية يعني بالضرورة أن الدولة تقدر على النية والاعتقاد وممارسة الشعائر الدينية؟! هل هذا، لغة أو اصطلاحاً، هو معنى الدولة الدينية؟! في الواقع، هذا خطأ في مفهوم د. عبدالله للدولة الدينية، وهو قولٌ لم يقلْ به أحدٌ غيره.. فمن الناحية اللغوية، عبارة دينية هي نسب، وليست صفة.. فالأصل في النسب أن تُلحق بالمنسوب إليه، ياء مشددة مكسور ما قبلها (دِينِيّة) والتاء للتأنيث.. فدولة دينية تعني دولة منسوبة للدين، وليست متديّنة في نفسها.. إلا أن عبدالله يفهم من كلمة (دينية) أنها (متدينة) تقدر على النية والقصد وأداء الشعائر، وهذا خطأه هو، ولم يقل به غيره، سوى د. جون قرنق (كنكتة)، ود. جعفر محمد على بخيت في (مناكفاته) لجماعة الاسلام السياسي، ولم يُعرف عن أيّ منهما أنه يقول به، كمبدأ.. ولكن د. عبدالله، وحتى بعد أن أبنّا له وجه الخطأ في قوله هذا، لا يزال مصراً عليه، ويكرره!! بل، حتى لو قيل (دولة مسلمة) لا يتوقع أن يفهم أحد أنها متديّنة، فالكل يعلم أن الدولة (شخص اعتباري)، تُنسب لها الأفعال بصورة مجازية.. ثم، ومن ناحية اصطلاحية بحتة، هل مفهوم الدولة الدينية، يعني أنها الدولة القادرة على التدين؟! قطعاً لا!! فكل الذين تحدثوا عن الدولة في التراث البشري، على مدى التاريخ، وإلى اليوم، تحدثوا عن الدولة الدينية.. ومصطلح دولة ثيوقراطية مصطلح معروف في هذا الصدد، ويمكن أن نجده في جميع الموسوعات والمعاجم والمصادر ذات الاختصاص.. وقد طلبتُ من عبدالله أن يذكر لي نموذجاً واحداً لمن عرّفوا الدولة الدينية بأنها الدولة القادرة على التدين، بالمعنى الذي يتحدث به هو، ولكنه لم يرد حتى الآن.. وأنا الآن أجدّد الطلب.
الأمر الطبيعي، في المنطق السليم، أن يورد عبدالله تعريف الدولة الدينية، عند من تحدثوا عنها، ويفنّده، لا أن ينسب لهم تعريفه الخاص والخاطيء، لغةً واصطلاحاً، ثم يحاكمهم عليه، رغم أنهم لا يقولون به.. وقد تعرض عبدالله، للمودودي وسيد قطب، فكان يمكن أن يورد تعريفهما للدولة الدينية _وهو تعريف معروف ومشهور_ ويدحضه بالحجة.. ولكن هذا هو المنطق المدني، وما يقوم عليه من ذاتية مفرطة!! فلو أجمع كل العالم على شيء، وهو يرى خلافه، وبصورة خاطئة، من الناحية الموضوعية، هو عند نفسه، هو وحده الصحيح، وجميع العالم خطأ، لأن المرجعية هي للذات (أنا أقول)!! خلاص، انتهى الأمر!!
مفاهيم أخرى:
نورد هنا، بعض التعريفات الأخرى بغرض توكيد الذاتية المفرطة، والتدليل على أنها أساس ومنطلق طرح عبدالله.. يقول عبدالله، مثلاً، عن تعريف الجهاد بالسيف في الإسلام: (لمصطلح الجهاد معانٍ كثيرة، كما أن هنالك عدة متطلبات لصحة ممارسته.. وأنا هنا استخدمه لأعني به: الاستخدام للقوة من جانب واحد من قبل المسلمين لتحقيق أهداف سياسية خارج الإطار المؤسسي للشرعية الدولية، وخارج حكم القانون بصورة عامة)!!
الجهاد مصطلح إسلامي، تاريخي، تم تعريفه بواسطة المعصوم، منذ القرن السابع الميلادي.. وليس للجهاد، كما عرّفه المعصوم، معانٍ كثيرة، وإنما هما معنيان فقط: الجهاد بالسيف، والجهاد الأكبر، ولا توجد أي علاقة لتعريف عبد الله بأي منهما.. فتعريف عبدالله تعريف ذاتي: (أنا هنا استخدمه)!! من أعطاك الحق في هذا الاستخدام، طالما أن هنالك تعريف محدد للمصطلح؟! كما أنه، وفي الوقت الذي مورس فيه الجهاد، لم يكن هنالك شيء اسمه (المؤسسة الدولية).. فهو يحاكم التاريخ بمعيار الحاضر المخالف تماماً لمعاييره!!
تعريف عبدالله هذا للجهاد، ليس تعريفاً، وإنما هو حكمٌ على الجهاد، موضوعٌ في صورة تعريف.. وهو حكم قاضٍ متحيز، أصدر قراره بالإدانة، دون الالتفات للوقائع الفعلية، ودون سماع للدفاع، وكل ذلك، لأنه، عند نفسه، هو السلطة النهائية.. وقد يتبادر للقاريء أن المقصود من هذا التعريف، التقرب للغرب، وهذا أمر وارد، ولكن أهم منه، وأقرب لطبيعة صاحب التعريف، هو الذاتية.. فهو في كثير من الحالات يقرر في القضايا الهامة، والخطيرة، تقريرات فوقية دون أي محاولة للبرهنة، وإنما يتعامل كسلطة، وليس كمفكر مطالب بالأدلة.
المجتمع:
ما يقوله عبدالله، عن الدولة، يقوله عن المجتمع ككيان مجرد، اسمعه يقول: (وأحب أن أؤكد هنا أن العقيدة دائماً فردية، ولا يمكن أن تكون جماعية، لأنّ الجماعة أو المجتمع ليس هو كيان قادر على الاعتقاد في حد ذاته، فالمجتمع المسلم أو المسيحي مثلاً هو جماعة من الأفراد المسلمين وليس كيان بصورة مستقلة، فحتى إذا وقع إجماع الجماعة على أن دولتهم دينية فهو رأي يقوم على عقيدة كل منهم منفرداً، وليست مستقلة عن ذلك. فحتى القول بأن صفة (الدينية) ممكن أن تقع على العنصر البشري (الحكومة) فإنما هي صفة قائمة على العقيدة الفردية لكل شخص، وليس على وهم العقيدة الجماعية، أو بصورة موضوعية عن عقيدة كل فرد يعتقد أن الحكومة دينية، هذا جانب من قولي باستحالة الدولة الدينية).
هذه صورة أخرى من صور الافتراضات التي لا وجود لها في الواقع.. فعندما يقال مجتمع مسلم، لا أحد يفهم أن المجتمع، ككيان مجرد، هو مسلم أو يقدر على التدين.. فالكل يفهم أن المجتمع المسلم هو الذي يكون جميع أفراده مسلمين.. وهذه حقيقة موضوعية، على خلاف ما يزعم عبد الله، لأنها تقوم على الواقع الفعلي، وليس على رؤية خاصة بذات فردية معينة، ولا وجود لها في الواقع..
أعتقد أن عبدالله، في مجال الذات والموضوع، قد وقع في ربكة، شلت تفكيره، وأفقدته القدرة على التمييز.. ولذاتيته المفرطة أصبح يطلق صفة ذاتي بصورة عشوائية لا سند لها من الواقع، بل الواقع يدحضها بصورة لا لبس فيها، إلا عنده هو.. ونحن سنرى ذلك، من أقواله.
دولة المدينة:
إن مجرد تقرير عبدالله، أنه لا توجد دولة دينية، لا في الماضي، ولا الحاضر، ولا المستقبل، يعني بالضرورة أن دولة المدينة على عهد النبي، صلى الله عليه وسلم، ليس دولة دينية.. ولكنه، لم يقف عند ما هو مفهوم بالضرورة، وإنما وكده بقوله: (دولة المدينة هي دولة سياسية، وليست دينية.. هي معادلة سياسية بين قطاعات وقوى سياسية واجتماعية في واقع معين.. دولة أبوبكر الصديق ليست دينية).. ندوة أجراس الحرية 28 ديسمبر 2008م..
وهكذا!! في سبيل التعصب الأعمى، لرأيه الذاتي، وقع في مهالك دينية خطيرة.. فهو جعل من نفسه سلطة تقيّم دين نبيه، ويحكم على جميع عمل المعصوم العام، في دولة المدينة، بأنه ليس ديناً!! وهو يعلم تماماً، بحكم وجوده في المجتمع الجمهوري لفترة طويلة، أن سوء الأدب مع المعصوم، ولو برفع الصوت فوق صوته، يحبط العمل، وهذا ما يؤكده قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ، وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ، أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ).. ويقول تعالى: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ، وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)..
والقول بأن عملاً من أعمال النبي، صلى الله عليه وسلم، ليس ديناً، ليس خطراً فقط، من جانب سوء الأدب مع النبي، وإنما هو أيضاً ينطوي على إنكار، وتكذيب، للقرآن، الذي يقول عن النبي، عليه السلام: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ(3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ(4)).. فليس أعمال النبي صلى الله عليه وسلم وحدها كلها دين، وإنما كذلك أقواله، فالحديث النبوي معناه موحىً من عند الله، واللفظ من عند النبي.
القرآن:
نحن هنا لسنا بصدد مناقشة موقف عبدالله من القرآن، وإنما نحن بصدد التطرق لمنطلقاته الذاتية، التي تطال كل شيء، فهو يقرر في أخطر الأمور، دون أي سند موضوعي.. ومن أخطر تقريراته هذه، قوله عن القرآن الكريم، الذي جاء فيه:
Islam is provided for human (hudan li-nnas), and therefore, no religious text is “purely” Allah's revelation. The text is not present in a vacant space; there is always an extracting process between the divine and the profane.
منتدى الاسلام الليبرالي JIL
(الإسلام أنزل للناس (هدى للناس)، إذن لا يوجد نص ديني موحى من الله، بصورة صرفة.. النص لا يوجد في فراغ.. هنالك دائماً عملية تصفية بين المقدس وغير المقدس).
عبارة (إذن لا يوجد نص ديني موحى من الله بصورة صرفة) تجعل لله شريك حتى في كلامه!! والدليل الذي يسوقه عبدالله في تقرير هذا الأمر الخطير، دليل لا يجوز على أي إنسان، مهما كان حظه من الفكر، وهو قوله: (الاسلام أنزل للناس "هدى للناس").. فهل كونه أنزل هدى للناس يجعل الناس مشاركين في إنزاله؟! هل يمكن أن يكون هذا تفكير مستقيم؟! إن الجرأة التي يقرر بها عبدالله هذه الأمور الخطيرة، أمر مخيف!!
حاولتُ، مراجعته في هذا الأمر، حرصاً على دينه، ولكن لم أشعر بأي اهتمام، من جانبه!!
وهنالك مواقف كثيرة، خطيرة، عن القرآن والسنة نحن لسنا في حاجة لمتابعتها هنا، ولكن ما يكمّل الصورة، بالنسبة للموقف من القرآن، بالإضافة الى النص السابق، طعنه في قدسية القرآن، فهو يقول في هذا الصدد: (ليس هناك نص مقدس، نحن نتكلم عن القدسية، وعن القرآن منزل، ولكن عندما يدخل القرآن العقل والتجربة البشرية ما عاد نص مقدس).. ندوة الخاتم عدلان 27 ديسمبر 2008م ..
ونحن لم نعرف القرآن إلا عبر العقل.. فالوحي نزل عن طريق سيدنا جبريل، إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.. فالقرآن بين دفتي المصحف جاء من عقل سيدنا محمد.. وهو عندما يدخل عقولنا جميعاً، هو هو القرآن.. وحتى عند جبريل، القرآن دخل عقل جبريل.. فحكم عبدالله هذا، حكم عام بعدم قدسية القرآن.. وهو حكم شديد البطلان، شديد التهافت.. فالقرآن أساساً إنما جاء لنعمل به، وهو في الصدور أكمل منه في السطور، لأنه أصبح حياة.. ومقدس تعني: مطهر ومبارك.. وجبريل هو روح القدس، وهنالك العديد من النصوص القرآنية التي تشير الى تقديس الأمكنة، خلّ عنك الإنسان.
لماذا يريد عبد الله أن يرفع القدسية عن القرآن؟ الواضح أنه يريد ذلك حتى يتحدث عن القرآن حسب هواه.. وقوله هذا الذي نقلناه عنه في النص الأول، واردٌ في موقع إندونيسي عمله نقد القرآن، ونقد النبي صلى الله عليه وسلم!! وهذه هي اتجاهات الإسلام الليبرالي، حسب اسم الموقع، الذي يشارك فيه عبدالله، ثم هو يدّعي، مع ذلك، أنه تلميذ للأستاذ في كل أحواله، وأقواله العامة، حتى يتسنى له تشويه فكر الأستاذ، هذا التشويه الخطير، ونحن لنا إلى ذلك، عودة.
مثل هذه التقريرات الذاتية الخطيرة عديدة، عند عبدالله، ولا ضرورة لمتابعتها بالتفصيل.. لكن يمكن التطرق لبعضها، بصورة موجزة.. ففي تقرير له عن الشريعة، يقول: (فإن الطبيعة الأصيلة للشريعة هي كونها ناتجاً للتأويلات البشرية للقرآن وسنة النبي صلى الله عليه وسلم).. الإسلام وعلمانية الدولة ص 61.. وبالطبع هذا خطأ وتحريف شنيع، فالشريعة، لا علاقة لها بالتأويلات البشرية، وإنما هي تقوم على التوجيهات الربّانية الواردة في القرآن والسنة، وهي تأخذ بالظاهر دون تأويل، أو تدخل من المسلمين، فهم يأخذونها كما وردتهم عن المعصوم.. فإذا أمر الله تعالى بالصلاة، وبين النبي كيفيتها، فليس لأحد من المسلمين التدخل في هذا الأمر.. فهو إما أن يأخذه كما هو، أو يتركه.. وهذا ينطبق على جميع مجالات الشريعة.. صيام رمضان بالكيفية التي وردت عن المعصوم، دون أي تأويل، وكذلك الحج والزكاة، والجهاد والشورى والحدود..الخ..
ود. عبدالله، تمشياً مع تقريراته السلطوية الفوقية، يقرّر أن الآيات المحكمة لم يحددها القرآن ولا حددها النبي الكريم، فهو يقول: (صحيح أن الآية 7 من سورة آل عمران تقول أن من القرآن آيات محكمات هن أم الكتاب، لكن القرآن لا يحدّد ما هي هذه الآيات المحكمات، كما أنّ النبي، عليه الصلاة والسلام، لم يحددها في السنة.. فأي الآيات هي محكمة وأيها من المتشابهات هي مسألة في مجال الفهم والاختلاف بين المسلمين.. وكذلك الأمر في تفسير جميع النصوص من القرآن والسنة النبوية المطهرة التي يعتقد المسلم أنها قطعية أوصريحة وواضحة).. المعروف بداهة أنه لا يوجد اختلاف بين المسلمين حول الآيات المحكمات، فهي الآيات التي عليها قامت الأحكام، وهي بحسب اللغة، لا تكاد تحتمل إلا وجهاً واحداً..
وتمشياً، مع مذهبه هذا الغريب في المغالطة يقول عن الحدود:
(بما أن كل فهم للدين هو بشري، فإن كل فهم للحدود هو ليس إلهياً، وإنما هو فهم بشري).. مقابلة بيرنارديني..
الحدود، وكل الشريعة، هي حكم إلهي، وليس مجرد فهم بشري، ولا تخضع للتقدير البشري، فالبشر إما أن يأخذوها كما وردت عن المعصوم، أو يتركوها.
أود هنا أن أورد نموذجاً واحداً للمغالطات التاريخية، عند عبدالله.. هنالك حدث شهير جداً، في تاريخ صدر الاسلام في فترة حروب الردة، هو قتل خالد بن الوليد لمالك بن نويرة.. وقد أورد عبدالله هذا الحدث على طريقة تقريراته السلطوية الفوقية، دون أي سند تاريخي، ليدين سيدنا أبابكر.. وقد بدأ الحديث بصورة يظهر فيها بمظهر الورع، فهو يقول: (كمسلم فإنني أتهيب مهمة السرد التحليلي لتلك الفترات الأولى في التاريخ الإسلامي لإجلالي الكبير لصحابة النبي عليه الصلاة والسلام).. ثم يقول: (كيف لي أن أجرؤ على الحكم فيما إذا كان أبوبكر الصديق، أكبر الصحابة مقاماً عند أهل السنة، مصيباً أو مخطئاً).. الإسلام وعلمانية الدولة ص 88.. أنت جرؤت على النبي نفسه، وعلى القرآن، وتريد أن تظهر بمظهر الورع في الحديث عن سيدنا أبي بكر؟! على كلٍّ أنت جرؤت عليه بالباطل، هنا، وبتزييفٍ للتاريخ!!
يقول عبدالله: (الحادثة التي أثارت الكثير من الجدل في ذلك الوقت كان أمر أبي بكر لخالد بن الوليد بقتل مالك بن نويرة)!!.. الإسلام وعلمانية الدولة ص 92.. هذه الحادثة التي تذكرها لم تحدث أساساً، حتى تثير جدلاً أو لا تثير، وأنت لم تورد عليها أي دليل.. فما حدث، وفق الروايات التاريخية المختلفة، هو أن خالد قتل مالك، دون علم سيدنا أبي بكر، ولم يعلم الخليفة بالقتل، إلا بعد أن حدث.. فقولك: (أمرُ أبي بكر لخالد بقتل مالك) هو افتراءٌ من عندك، والغرض فيه واضحٌ ومفضوح، فأنت تقول: (ما أريد الخلوص إليه هنا هو أنه من المعقول لنا أن نميّز بين دوافع أبي بكر وبين قراراته السياسية، ومواقفه كصاحب منصب الخليفة).. الإسلام وعلمانية الدولة ص 94!!
دوافع سيدنا أبي بكر، كخليفة، هي دوافعه الدينية، كما هو الحال في جميع أعماله، ولا مجال لجعل هذه الدوافع سياسية، وليست دينية، كما تزعم أنت، وتلوي في ذلك عنق الدين، وعنق المنطق، وعنق التاريخ.
لأن المادة كثيرة جداً، ولا يمكن متابعتها كلها، نكتفي، هنا، بهذه النماذج وندخل الى مجال آخر من مجالات التفكير الذاتي عند عبدالله أحمد النعيم.
اللامعقول في الإجابات على الأسئلة:
من أوجه الذاتية في طرح عبدالله، الإجابات على بعض الأسئلة، إجابات لا علاقة لها بالسؤال، لا من قريب ولا من بعيد.. ونحن سنورد هنا أمثلة محددة.. من أهم هذه الأسئلة، سؤال عن الوحي، فهو يأخذ أهميته من موقف عبدالله من القرآن، الذي أشرنا الى بعض وجوهه.. ففي المقابلة أجرتها ايدت كريستا ونشرت بموقع قنطرة الإلكتروني، وجّه إليه السؤال المباشر التالي:
س: هل تؤمنون بالوحي؟
(ج: أحمد النعيم: هناك على الدوام كائن بشري، هو الذي يقول لنا ما يقوله الله. السلطة تختبيء وراء ذلك.. إنها مسألة تتعلق بالعلاقات البشرية.. إننا عندما نتحدث عن المسلمين كأفراد نكون بصدد موضوع في إطار اجتماعي. وهم أناس يعملون فينجحون أو يفشلون. إن حقوق الإنسان والعلمانية من الأهمية بمكان بالنسبة لي لأنها تتيح لي فرصة النقد).. الصالون
السؤال، كما نرى، واضحٌ وبسيطٌ ومباشر: هل تؤمنون بالوحي؟ الإجابة: نعم، أؤمن.. أو: لا، لا أؤمن.. ماهو دخل العلاقات البشرية، وحقوق الإنسان، والعلمانية بالسؤال؟!
مثال ثاني: سئل د. عبدالله السؤال التالي:
Do Islamic values need to play a greater role in influencing public policy in the Muslim World than, say, Christian values do in the U.S. on issues such as abortion and gay rights?
وقد جاءت إجابة د. عبدالله مطولة، بالصورة التي لا نحتاج معها الى نقلها هنا، ولكن المهم أنه لم يرد فيها أي شيء عن الإجهاض وزواج المثليين، موضوع السؤال!! ومن أراد أن يطلع على الإجابة نحيله إلى: المقابلة التي أجرتها "ايموري ان ذي ورلد" مع د.عبد الله، وهي منشورة على الشبكة.
إدانة أشياء عند الآخرين وفي نفس الوقت يفعلها هو:
هذه الظاهرة، هي أيضاً من أوضح الأدلة على الذاتية المفرطة، عند د. عبدالله.. فما يعتبره خطأ عند الآخرين، يكون صحيحاً عنده هو.. لأن معايير الصحة والخطأ، هي (أنا أقول) وسنورد في هذا الصدد مثالين.
يقول د. عبدالله عن الترابي: (يلازمه عيبان.. الأول: أنه لا يستشهد بأية آية قرآنية واحدة، أو بحديث نبوي واحد، أو حتى بقول لفقيه إسلامي مرموق، من أجل تعزيز أي من تأكيداته الجريئة، بحيث أن معظم هذه الآراء غير صحيح البتة، أو هو على الأقل موضع خلاف بين كبار العلماء، فإن إغفال سوق الأدلة لتعزيزها يذهب بمصداقية رأيه كله).. كتاب (نحو تطوير التشريع الإسلامي) ص 71.. وعبدالله، كما أوردنا الشواهد، يقول آراء أكثر جرأة من أقوال الترابي، ثم هو لا يورد عليها أي دليل، لا من العقل، ولا من النص.. ولكنه لما كان عند نفسه، هو مصدر صحة أقواله، بحيث أن أي قول يقوله هو صحيح طالما قاله هو، فإنه لا يرى أن قوله عن الترابي: (إغفال سوق الأدلة لتعزيزها يذهب بمصداقية رأيه كله) ينطبق عليه، هو بالذات، من باب أولى.. وعبدالله، بالرغم من أنه يدين الترابي، لعدم استخدامه للنصوص من القرآن والسنة، إلا أنه يمارس نفس الشيء، عن مبدأ، ويقرّ ذلك كتابةً.. فقد سألتُه عن سر عدم استخدامه للنصوص فجاء رده كما يلي:
(السبب الثاني، والأهم عندي، لعدم استخدام النصوص في هذا الكتاب هو أن خطابي هو من باب (المنطق االمدني) الذي يسعى لإقناع عامة المخاطبين من غير الاعتماد على المرجعية الدينية العقائدية بين المسلمين، أو غيرهم من أصحاب الأديان، أو المذاهب الفلسفية)!!
ولكنك عملياً تتحدث عن القرآن، وعن السنة، وعن الإسلام بصورة عامة، وتزعم أساساً أن منطلقك هو منطلقٌ اسلامي!!
المثال الثاني، هو الأهم والأخطر.. يقرر د. عبدالله، بطريقته السلطوية الفوقية، دون إيراد أي دليل، هذا التقرير الخطير الذي يقول فيه: (في الحقيقة ما في فهم ديني موضوعي، كل فهم ديني فردي.. ما في رأي ديني موضوعي.. أي رأي ديني ذاتي)!! هذا هو رأي د. عبدالله المبدئي، عن الدين والفكر الديني.. وهو رأي كاف جداً، ولا يحتاج الى مزيد، في الحكم على عدم صلاحية الدين لإصلاح حال البشر، عند د. عبدالله.. ثم، هو لا يورد أي دليل موضوعي على هذا الرأي الخطير.. فهو كما أبعد الدين، في منهجه (المنطق المدني) عن مجال الحوار، هو هنا يبعده عن الحياة كلها.
ما يهمنا هنا هو أن عبدالله عندما يقرر تقريره هذا الخطير ينسى أنه يشمل طرحه!! فهو يزعم أن طرحه كله منطلقٌ من منطلق ديني.. فهو بتقريره هذا يحكم على طرحه بأنه ذاتي، وغير موضوعي.. يقول عبدالله عن دعوته: (أدعو للعلمانية، والتعددية، وحقوق الإنسان، من وجهة نظر إسلامية)..
وفي مكان آخر، يقرر عبدالله أن (المرجعية الدينية يختلف فيها الناس بالضرورة).. وفي نفس الوقت يقول إن مرجعيته دينية، ولكنه يعمل، بجدٍّ واجتهاد، على أن يكون هنالك إجماع حولها، وهو ما يناقض تقريره هذا، عن اختلاف الناس (بالضرورة) في المرجعية الدينية!!
هذه الحلقة طالت، ولم نتعرض فيها سوى إلى نماذج قليلة فقط، ومناقشة موضوع الذاتية المفرطة في طرح عبدالله ستستمر، ولكننا نحب أن نختم، هنا، بقضية نعتقد أنها قوية الدلالة على الذاتية المفرطة.. فقد رأينا عبدالله يقول عن دولة النبي، صلى الله عليه وسلم _دولة المدينة_ أنها (سياسية وليست دينية).. وهو، في نفس الوقت يقول عن الدولة المدنية: (جدليتي تحديداً هي أنه ليس هنالك شيء غير إسلامي، فيما يتعلق بالدولة المدنية، كإطار ضروري لمفاوضة الدور، الطبيعي والشرعي، للإسلام في الحياة العامة)!! أي عقل هذا الذي يقبل هذا، اللامعقول!! سبحانك اللّهم، ما أعظم مكرك؟! ولكنّهم لا يشعرون!!
خالد الحاج عبد المحمود


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.