هل فشل مشروع السوباط..!؟    بلومبيرغ: قطر تستضيف اجتماعا لبحث إنهاء الحرب بين روسيا وأوكرانيا    سوق العبيد الرقمية!    مخاوف من قتال دموي.. الفاشر في قلب الحرب السودانية    صلاح في مرمى الانتقادات بعد تراجع حظوظ ليفربول بالتتويج    أمس حبيت راسك!    راشد عبد الرحيم: وسقطت ورقة التوت    وزير سابق: 3 أهداف وراء الحرب في السودان    علماء يكشفون سبب فيضانات الإمارات وسلطنة عمان    الصين تفرض حياة تقشف على الموظفين العموميين    (المريخاب تقتلهم الشللية والتنافر والتتطاحن!!؟؟    معتصم اقرع: لو لم يوجد كيزان لاخترعوهم    وكالة الفضاء الأوروبية تنشر صورا مذهلة ل "عناكب المريخ" – شاهد    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    "منطقة حرة ورخصة ذهبية" في رأس الحكمة.. في صالح الإمارات أم مصر؟    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    مصادر: البرهان قد يزور مصر قريباً    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    برشلونة: تشافي سيواصل تدريب الفريق بعد تراجعه عن قرار الرحيل    إيفرتون يصعق ليفربول بثنائية    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    إقصاء الزعيم!    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الحلم الذي لم يكتمل مع الزعيم؟!    السودان..رصد 3″ طائرات درون" في مروي    كواسي إبياه سيعيد لكرتنا السودانيةهيبتها المفقودة،،    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. "دعامي" يظهر في أحضان حسناء عربية ويطالبها بالدعاء بأن ينصر الله "الجاهزية" على "الجيش" وساخرون: (دي بتكمل قروشك يا مسكين)    شاهد بالصورة والفيديو.. إعلامية مصرية حسناء تشارك في حفل سوداني بالقاهرة وتردد مع الفنانة إيلاف عبد العزيز أغنيتها الترند "مقادير" بصوت عذب وجميل    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حول دعوة د. عبد الله أحمد النعيم 6. الموقف المبدئي من الإسلام


بسم الله الرحمن الرحيم

(مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ، وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا).. صدق الله العظيم..



يتحدث د. عبدالله أحمد النعيم عن أنه منطلقٌ في فكرته من منظور إسلامي.. وهو يبشر بمستقبل جوهري للشريعة الإسلامية، فيقول مثلاً: (إن للشريعة الإسلامية مستقبل جوهري في المجتمعات الإسلامية).. ونحن، هنا، بصدد تحديد موقفه المبدئي من الإسلام، من أقواله، حتى نرى هل منطلقه، فعلاً، إسلاميٌّ أم لا؟

العقيدة والتوحيد:

الإسلام، كلّه، يقوم على عقيدة التوحيد، فهي جوهر الدين، وأساسه.. فما هو موقف عبدالله من العقيدة، ومن التوحيد؟! إن موقفه هذا يظهر أول ما يظهر، من منهجه الذي أسماه (المنطق المدني).. فالمفترض في هذا المنهج أن يحكم ويوجه أفكاره، في كل دعوته.. وهذا المنهج يستبعد بصورة أساسية، ومبدئية، الدين والعقيدة، معاً.. فهو يقول مثلاً: (بالمنطق المدني أعني إذن وجوب ارتكاز التشريع أو السياسة العامة على المنطق المشاع، الذي يمكن لكل مواطن أن يقبله أو يرفضه، أو يقدم البديل من المقترحات، من خلال الحوار العام دون الاعتماد على دينه أو مزاعم تقواه.. المنطق المدني، لا المعتقدات أو الدوافع الشخصية، هو أساس التشريع والسياسات العامة)..علمانية الدولة ص 35.. ويقول: (المطلوب هو الدعوة الى المنطق والتفكير المدني، وتشجيعهما، مع إضعاف نزعة الارتكاز على المعتقدات الدينية الشخصية، والانطلاق منها لممارسة العمل السياسي والقانوني)..علمانية ص 35.. ويقول: (المنطق المدني هو الخطاب الذي يعتمد على مرجعية المواطنة وليس المرجعية الدينية العقائدية التي يختلف حولها الناس بالضرورة، وكلمة مدني هي ترجمة للكلمةCivic باللغة الإنجليزية، فالدلالة هي المفهوم المقصود وليس المصطلح، فكل ما يؤكد السعي لمرجعية مختلفة بين عامة المواطنين، وليس المرجعية الدينية بين أصحاب العقيدة الواحدة، يؤدي الغرض من كلمة (مدني) في السياق.

المنطق المدني هو منهح الحوار، في الأمور العامة، وليس أي محتوى محدد من أي منظور فلسفي، ديني أو مفهومي معين. والغرض من وراء هذا المنهج هو مقدرة كل منا على إقناع الآخرين بالحجج، ووسائل الخطاب التي لا تعتمد على العقيدة دائماً، حتى لدى من يتجاوزون العقيدة من خلال الاعتماد عليها). من رد د. عبدالله على أسئلة كنتُ قد وجهتها إليه.

يُلاحظ أن هنالك الكثير من العبارات، التي يستعملها د. عبدالله، بغرض التمويه.. فمن حيث المبدأ، لا يوجد حوار يقوم على العقيدة فقط، ولكن كل حوار لصاحبه مرجعية تقوم على العقيدة، حتى ولو لم يذكرها.. فالماركسي، مثلاً، في حواره يستند إلى خلفيته الأساسية، وهي العقيدة في المادية، الجدلية، والتطور المادي للتاريخ، ولكنه قد لا يذكر أي شيء عن هذه العقيدة التي ينطلق منها، أثناء الحوار، ومع ذلك هي تشكل جوهر تفكيره.. وكذلك الحال، بالنسبة للمسلم، فهو دائماً، ينطلق من عقيدة التوحيد، حتى عندما لا يذكرها.. ولا يوجد، ولا يمكن أن يوجد، إنسان، ليست له خلفية عقائدية، بهذا المعنى.. ولكن الحوار دائماً، يقوم على الحجج والإقناع، حتى عندما يتحاور الناس حول عقيدة ما.. فالحوار ليس بالضرورة أن يكون بين أصحاب العقيدة الواحدة، أو الدين الواحد.. فأصحاب الأديان المختلفة يتحاورون، وكل منهم يحاول إقناع الآخرين، بدينه، على أسس عقلية، لا تقوم على العقيدة فقط.. وهذا ما ظل يجري منذ أن كان الحوار بين البشر.. ولكن عبدالله، يريد أن يبعد الدين والعقيدة الدينية، من الحوار، وهذا أوضح ما يكون من عبارته التي يقول فيها (ووسائل الخطاب التي لا تعتمد على العقيدة دائماً، حتى لدى من يتجاوزون العقيدة من خلال الاعتماد عليها).. (مَنْ يتجاوزون العقيدة من خلال الاعتماد عليها)، المقصود بهم، حسب التفكير الديني، من يصلون الى اليقين، واليقين يعني يقين العلم بالله، فحتى هؤلاء، يستبعدهم المنطق المدني من الحوار، ويفضّل عليهم عامة الناس!!

عملياً، وقد سبق أن بينا، لا يوجد فكر، لا يقوم على العقيدة، بما في ذلك العلم المادي التجريبي.. فالعلماء، في هذا العلم، يصلون الى علمهم من خلال العقيدة، وهي مصادرات العلم، والفرضيات.. ولكن عبدالله يقصد بالذات الدين، والعقيدة الدينية، فهما ما يرمي إلى استبعادهما.. وقد بينا هذا بياناً وافياً.

ولا يمكن أن يكون هنالك دين دون العقيدة الصحيحة.. فالإسلام، كله، يقوم على الإيمان، كما هو وارد في الحديث الذي يرويه عمر بن الخطاب، في تعريف الإيمان، وجاء فيه: (الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والقدر خيره وشره، واليوم الآخر..).. فلا يمكن للإنسان أن يكون مسلماً دون هذا الإيمان.. فالحديث الذي يرويه، سيدنا عمر هذا، عرف فيه النبي الكريم الإسلام.. ولكن عبدالله، له رأي في هذا التعريف، فهو يقول: (أنا أؤكد أنه لا أحد _مسلم أو غير مسلم_ يمكن أن يعرِّف بصورة محددة وشاملة الاسلام)!!

والأمر المحير هو، كيف تزعم أنك تنطلق من منطلق إسلامي، وأنت ترى أن مجرد التعريف الشامل والمحدد للإسلام غير ممكن؟! من المستحيل أن يدين الإنسان، بدين لا يعرفه بصورة واضحة.. وعبارة عبدالله، تعني، أنه لا يعتبر تعريف النبي صلى الله عليه وسلم، في الحديث المذكور تعريفاً محدداً، وشاملاً.

ما نريد أن نؤكده هنا، هو أن الدين، كله، يقوم بصورة حاسمة على الإيمان (العقيدة).. يقول تعالى: (ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله، وهو في الآخرة من الخاسرين)..المائدة (5)..

هذا الموقف، ضد العقيدة، عند عبدالله، يأتي منه كل الخلل في دعوته.. كما تأتي منه المفارقة الأساسية للإسلام.. وهو يصل إلى الحد الذي يجعل فيه منطقه المدني، الميزان الذي يزن به الدين!! فهو يشترط، لأي تشريع إسلامي، حتى يُقنّن، أن يُعرض على ميزان المنطق المدني!! وهل بعد ذلك، سيصبح تشريعاً إسلامياً؟! لا.. وإنما يصبح تشريعاً مدنياً!!

هو في الواقع، يستبعد الدين، والعقيدة، لأنه يرى أن الفهم الديني فهم ذاتي، غير موضوعي، فهو يقول: (في الحقيقة ما في فهم ديني موضوعي.. كل فهم ديني فردي.. يعني ما في رأي ديني موضوعي.. أي رأي ديني ذاتي)..أجراس الحرية 27 ديسمبر 2008م.. هذا رأي مبدئي في الدين، شامل ونهائي، يستبعد الدين من مجال الحوار البشري، على زعم أن الفهم الديني ذاتي وغير موضوعي.. ولكن المحير أنه، وفي نفس الوقت، يقول إنّ منطلقه إسلامي!!

إذن، عبدالله يستبعد الدين بصورة نهائية، من مجال الحوار البشري، لأنه يرى أن الفهم الديني فهم ذاتي غير موضوعي.. أكثر من ذلك، هو له رأي مبدئي، ونهائي، ضد المنطق الديني، فهو يقول: (هذا، وتتطلب طبيعة ودور قانون الدولة، في الدولة الحديثة، تداخل عدد كبير من المشاركين والعوامل المعقدة، التي من غير الممكن احتواؤها بمنطق إسلامي عقيدي)..علمانية الدولة ص 456.. هذا إبعاد نهائي، وحاسم، للإسلام، من أن يكون له أي دور في حل مشكلات الإنسانية المعاصرة.. وهو إبعاد يقوم على رأي مبدئي بأن المنطق الديني عاجز عن حل المشكلات المعقدة.. فالعلم الديني _العلم بالله_ مستبعد لأنه يقوم على العقيدة.. والمنطق الديني مستبعد لأنه عاجز عن حل المشكلات، المعقدة، فماذا بقي، إذن؟!

عبدالله، كداعية للمنطق المدني، لا يستخدم النصوص من القرآن والسنة، كما يقول.. وطرحه، لا علاقة له بالتوحيد، كمنهج تفكير وأسلوب حياة.. ولذلك، الفاعل الحقيقي _الله_ مغيبٌ، في طرحه، وخصوصاً في كتابه (الإسلام وعلمانية الدولة).. فأنت لا تجد أي رائحة للدين، في كل صفحاته.. ولكنه في بعض الأحيان يورد عبارات توحيدية، سرعان ما يناقضها.. فالمبدأ الأولي والأساسي، في التوحيد، أن الله تعالى هو الفاعل الحقيقي في الوجود، وأفعالنا نحن والأسباب الطبيعية، محاط بها من قبل الفاعل الحقيقي، فهي لا تفعل إلا إذا أذن لها هو أن تفعل.. وعن هذين المستويين يُعبّر، بمصطلح الحقيقة والشريعة.. فالله تعالى هو الفاعل في الحقيقة، والفاعل المباشر هو الفاعل في الشريعة، وكتوضيح لهذا المفهوم، نورد قوله تعالى: (وما رميتَ، إذ رميتَ، ولكن الله رمى).. وهو يعني، ما رميت في الحقيقة، إذ رميت في الشريعة _في الظاهر_ ولكن الله رمى في الحالين.. ففعل النبي الكريم، في الرمي، ما كان ليقوم إلا إذا أذن الله له بذلك.. وفي السلوك الديني، على المسلم أن ينظر للفاعلين _الله والإنسان_ في آنٍ معاً، مع مراعاة أن فعل الإنسان، ما كان ليتم إذا لم يتأذن الله به.. وهذا هو الموضوع الأساسي في الإسلام، فكراً وسلوكاً، وهو معنى (لا إله إلا الله)، كلمة التوحيد.

الفاعل الحقيقي، في كل طرح عبدالله، مغيّبٌ تماماً، وهذه، هي المشكلة الأساسية، والمفارقة الكبرى للفكر الديني، والسلوك الديني في هذا الطرح.. ود. عبدالله واعٍ بذلك، ولذلك يحاول _خارج كتابه الأساسي_ في بعض الأحيان أن يورد هذه الحقيقة العرفانية، التي تقول بوحدة الفاعل في الوجود، ولكنه لا يلبث أن يناقضها!! فمثلاً يقول: (أنا كمسلم، بعتقد أنه ربنا سبحانه وتعالى هو الفاعل الأول والأخير لكلّ شيء، دي في قناعتي الشخصية الدينية).. ولكنه لما كان يرى أن هذه القناعة، مخالفة للواقع، يقول مباشرةً: (لكن في معطيات الأشياء العامة البتحصل، ما في شيء إلا البعملوه الناس).. وهو لا يشير أية اشارة إلى أن فعل الناس هذا، هو من فعل الله، أو أنه فعل في الظاهر، وفعل الله محيط به.. بل هو في الواقع يريد أن يقول إن علينا أن لا نركن إلى أن الله هو الفاعل في الحقيقة.. وما يؤكد هذا بصورة لا لبس فيها قوله: (إذا جاء المسيح الآن، لن يحل مشكلتي إذا لم أحلها بنفسي).. صحيفة أجراس الحرية 18/1/2009م، لقاء أجرته رشا عوض.. وما يقوله د. عبدالله هذا، هو بالضبط عكس التوحيد.. فالتوحيد يقول: إذا لم يتأذن الله، بحل مشكلته، فهو لن يستطيع أن يحلها من تلقاء نفسه، دون إذن الله.. وهو، هنا، يقول إن إذن الله _المتمثل في المسيح_ لن يحل مشكلته ما لم يحلها هو بنفسه، وبذلك يجعل الشريعة مهيمنة على الحقيقة.. هو يجعل فعل الخلق، مهيمناً على فعل الخالق!! بل هذا ما يقوم عليه طرحه عموماً..

من الواضح أن عبدالله، في طرحه، مستغنٍ عن الله، وليس له حاجة إليه، فهو يستطيع أن يحل مشاكله دون الحاجة لعون الله، حتى لو كان هذا العون في مستوى المسيح.. وبهذا القول فهو يجعل مجيء المسيح، وعدم مجيئه، سيّان.. وهكذا الحال، بالنسبة لجميع الرسل.. وفي نص آخر، يقول: (السودان، الخرطة النحن بنعرفه دي ما ها حقيقة موضوعية، ولا نزلت من السماء، ولا مقدسة.. في ظروف سياسية محددة شكلت السودان البنعرفه حالياً..).. ثم يذهب ليحدد دور الاستعمار التركي والبريطاني في تحديد حدود السودان.. بالطبع لا أحد ينكر، أن حدود السودان، شريعةً، نتجت عن فعل بشري.. ولكنه هنا يعني أن الفعل البشري، ليس محاطاً به من قبل الإرادة الإلهية!!

والمطلوب، في التوحيد، رؤية الفاعلين معاً، ولكنه هو يبعد الفاعل الحقيقي لحساب الفاعل المباشر.. ولذلك يقول عن خارطة السودان (ولا نزلت من السماء) يعني لم تأت من الله!! والتوحيد يقول إنها: نزلت من السماء، بواسطة فعل المستعمر.. فالمستعمر لم يكن ليستعمر السودان، مغالبةً لإمر الله، وإنما استعمره بأمر الله.. فالاستعمار، نفسه، ككل شيء يحدث في الوجود، هو في الحقيقة، من فعل الله.. هذه هي القضية الأساسية، وللأسف، ليس لعبدالله قناعة بها.. بل الأخطر من ذلك، أن رؤيته لها معكوسة.. وهذا خلل جوهري في جميع ما يصدر عنه.. فهو يبعد في طرحه، الفاعل الحقيقي، ويعتمد بصورة كلية، على الإرادة البشرية، وعلى الفكر البشري المجرد.. وجميع الأخطاء والمفارقات، الأخرى، هي نتيجة لهذه المفارقة الأساسية..

وعبدالله ليس مستغنياً عن الله، فحسب، بل الأخطر من ذلك، هو يُخْضِع أمر الله، لموازين عقله هو.. وهذا يفسر الذاتية المفرطة، في جميع ما يصدر عنه.. فمن يبعد الله، طبيعي أن يبعد من هم دونه.. وهذا الإبعاد، أوضح ما يكون في موقفه من المعصوم، صلى الله عليه وسلم، والجرأة في تقييمه.. فمن يقول إن المسيح نفسه لو جاء لن يحل مشكلته إلا إذا حلها هو بنفسه، ليس ببعيد عليه أن يقيم دين المعصوم، ويحكم على جميع أعماله، كقائد لدولة المدينة، بأنها سياسة، وليست دين!!

على أنّ موقف عبدالله، المبدئي، والنهائي من الاسلام، يمثله أحسن تمثيل، موقفه من التوحيد _موقفه من الله_ وموقفه من المعصوم.. وما يعبر عن هذين الموقفين، هو ما أوردناه أعلاه.. وكل المواقف، السلبية الأخرى، تتبع لهذا الموقف الأساسي.. والخطر، كل الخطر، على دين عبدالله، يأتي من هذه الجرأة الغريبة.. لا يمكن أن يتصور الإنسان، أن فرداً مسلماً يعطي نفسه الحق، في تقييم دين نبيه، ويحكم على جميع أعماله العامة، كرأس للدولة، بأنها ليست دين!! هذا أمر مخيف!! ماذا عسى يكون هذا الشخص عند نفسه؟!

الإسلام دين وليس دولة:

عبدالله يزعم أن الاسلام دين وليس دولة.. وهو يزعم، كما رأينا، أنه أساساً لا توجد دولة دينية، والأمر كله مجرد خطأ في المفهوم.. كما يزعم، أنه لا يمكن تقنين الشريعة، في أي مستوى من مستوياتها.. وعلى هاتين الحجتين يبني رفضه للدولة الإسلامية، ويؤكد أن الدين فقط، علاقة بين الإنسان وربه.

وما يلخص موقفه هذا، إجابته على هذا السؤال الذي وجه إليه:

السؤال: هل معنى هذا أن الدين عندكم ليس إلا تقاليد أخلاقية وثقافية؟

أحمد النعيم: (نعم شيء من هذا القبيل)!!..موقع قنطرة الإلكتروني..

السؤال: إذن الدين لديك هو تقاليد أخلاقية ثقافية؟

أحمد النعيم: (نعم، بهذا المعنى.....) الصالون..

ومع ذلك، هو يبشر المسلمين بمستقبل باهر للشريعة، فيقول مثلاً: (إن للشريعة الإسلامية مستقبل جوهري في المجتمعات الإسلامية).. وقبل أن تكتمل فرحة المسلمين ببشارته، يضيف هو: (لكن ليس بمعنى تطبيق أحكامها كشريعة دينية من خلال القانون والسياسة العامة للدولة)!!

المسلمون ليسوا في حاجة لبشارتك هذه.. وهم ليسوا أغبياء إلى هذا الحد.. فعملياً لا أحد منعهم من ممارسة شعائر دينهم، حتى تتفضل أنت عليهم بهذا الحق!!

ما هو دور الشريعة، حسب فهم عبدالله؟إ اسمعه يقول: (للشريعة إذن دور مهم في مستقبل المجتمعات الإسلامية، لدورها التأسيسي في تطبيع الأطفال اجتماعياً، وإضفاء الطابع الديني على العلاقات الاجتماعية، كما أن الشريعة هي من أهم المقومات عند المسلمين في صياغة وتطوير تلك القيم الأصيلة في المجتمع، التي تترجم الى تشريعات وسياسات عامة، عبر العمليات السياسية الديمقراطية. ولكن لا يمكن أن يكون للشريعة، بصفتها الدينية دور كنظام معياري، تفرضه الدولة وتشرعه، كقانون عام وسياسة عامة)..علمانية الدولة ص 22..

فهو، إذن، يتفضل، بالسماح للمسلمين بأن يكون للإسلام دور في السياسة، لكن دون أن يكون لهذا الدور حق الوصول للسلطة، وإقامة نظام حكم إسلامي.. وهذا مستوى من التطرف العلماني، لم يصل إليه أهل العلمانية الأساسيون!! فهؤلاء يسمحون للأحزاب المسيحية، بأن يكون لها دور في السياسة، وقد وصل في ألمانيا الحزب المسيحي الديمقراطي إلى سدة الحكم، وحكم أكثر من ستة عشر عاماً!! ثم الغريب، أيضا، أن عبدالله، بالرغم من زعمه أنه لا يفصل بين الدين والسياسة، إلا أنه يرى أن هنالك اختلافاً أساسياً، بين جوهر طبيعة الدين وطبيعة السياسة، مما يؤدي عملياً الى استبعاد الدين من السياسة.. وكما يقول المثل السوداني: التركي ولا المتورك!!

القرآن:

القرآن هو كلام الله المنزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، بواسطة الملك جبريل.. لا خلاف بين المسلمين حول هذا الأمر.. فالقرآن موحى كله، لفظه، ومعناه، وليس للنبي فيه شيء غير تبليغه.. ولأن القرآن هو كلام الله، هو مقدس.. وتقديس القرآن واجب على كل مسلم، ولا يمكن الدخول الى حضرة القرآن دون تقديسه.. فمن لا يقدسه، يطرد من هذه الحضرة، لأن التقديس هو بداية الأدب مع الله، والأدب هو جوهر الدين، يقول المعصوم: (أدبني ربي، فأحسن تأديبي، ثم قال: خذ العفو وأمر بالعرف، وأعرض عن الجاهلين).. فهو لم يرسل، إلا بعد أن تم تأديبه في مدرسة النبوة.. وهو، بعد أن أرسل، صلى الله عليه وسلم، جُعل الأدب معه هو الشرط الضروري للدخول في حضرة الدين، كلها، فمن لا يسْلم له، لا يسْلم لله، يقول تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون، حتى يحكِّموك فيما شجر بينهم، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت، ويسلِّموا تسليماً).. وقد جُعل النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم.. وسوء الأدب معه حتى في أدنى المستويات، مثل رفع الصوت، فوق صوته، والجهر له بالقول، يحبط العمل!! ولذلك لا مجال للدخول في الدين، دون تقديس وتوقير النبي، والأدب معه.

أسوق هذا القول، كمدخل لتناول موقف عبد الله من القرآن، ومن المعصوم.. فعبدالله أحمد النعيم، على العكس مما ذكرناه أعلاه، داعٍ لعدم التقديس بصورة عامة، ولعدم تقديس النص القرآني بصورة خاصة، ويمارس في أقواله، سوء الأدب مع النبي، بصورة فظة!!

يقول عبدالله: (أنا في سبيل رفع القداسة عن أي فكر أو عمل بشري، وخصوصاً عندما يدعي أصحابه قداسة الدين باسم الدولة الإسلامية)..صحيفة أجراس الحرية، لقاء أجرته لبنى عبدالله 2008م.. ويقول: (ليس هناك نص مقدس، نحن نتكلم عن القدسية، وعن القرآن منزل، ولكن عندما يدخل القرآن العقل والتجربة البشرية ما عاد نص مقدس)..ندوة أجراس الحرية بمركز الخاتم عدلان 2008م.. ويقول: (من يقول بقداسة النصوص لا يملك مقدرة بمعنى النص إلا من خلال تجربته غير المقدسة والقاصرة)..المرجع أعلاه..

كلمة مقدس، حسب المعاجم اللغوية، تعني: خاص بشعائر دينية، أو مطهر.. قداسة، تعني طهارة.. وقدسية، تعني حرمة.. وقدسه، تعني طهره وبركه.. وقديس تعني: مؤمن يتوفى طاهراً وفاضلاً.. وروح القدس هو جبريل.. وقدوس من الأسماء الحسنى.. فالأرض يمكن أن تكون مقدسة، بتجلي المقدس _الله_ عليها.. يقول تعالى: (يا قوم أدخلوا الأرض المقدسة، التي كتب الله لكم، ولا ترتدوا على أدباركم، فتنقلبوا خاسرين).. ويقول: (إنِّي أنا ربك.. فاخلع نعليك، إنك بالوادي المقدس طوى).. فمن لا يقدس القرآن، لا يقدس صاحبه، ومبلّغه، وكلاهما مقدس.

حجة عبدالله، في عدم تقديس القرآن، هي: (عندما يدخل القرآن العقل البشري، والتجربة البشرية ما عاد نص مقدس).. لماذا ما عاد مقدس؟! لأن التجربة البشرية غير مقدسة وقاصرة!! وهذا قولٌ خال من المنطق، ويخالف البداهة.. فالنص القرآني، في العقل البشري هو نفس النص القرآني في المصحف.. حفظُه في العقل، لا يغير من طبيعته.. كان يمكن أن يقول إن الفهم البشري غير مقدس، ولكنه يقصد النص نفسه.. والنص عندما يعاش، في التجربة البشرية، ويتم التخلق به، هو أكمل منه في القرطاس، يقول تعالى: (بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم).. وهذا أمر بديهي، لأن العلم والحياة أكمل من المادة غير الحية، وأقرب الى الله.. ويقول تعالى، عن المعصوم: (وإنك لعلى خلق عظيم)، وهذا تمجيد للقرآن كآيات نفوس.. فهذا الخلق العظيم، هو خلق القرآن، فرسول الله، صلى الله عليه وسلم، كما عبرت السيدة عائشة عنه، كانت أخلاقه القرآن.. فعبدالله، كثير الحديث عن الواسطة البشرية، وهي عنده تفسد الأشياء، بما فيها القرآن!! والواسطة البشرية، هنا، هي أساساً، سيدنا محمد، صلى الله عليه وسلم.. والقرآن كله، تم تبليغه إلينا، بعد أن دخل عقل المعصوم.. فقول عبدالله، بأن القرآن، عندما يدخل العقل البشري لم يعد مقدساً، المقصود به المعصوم، في المكان الأول، لأنّ عقله هو أول عقل بشري دخله القرآن، ومنه خرج إلى بقية عباد الله.. والمعصوم نفسه، عند المؤمن سليم العقيدة، مقدس، ومطلوب أن يكون مقدساً، في أعلى مستويات التقديس، وقد أشرنا الى ضرورة الأدب معه..

فدعوة عبدالله، لعدم تقديس القرآن، انحرافٌ عن جادة الدين، وفسادٌ في العقيدة كبير، لا يأتي منه إلا الشر..

لقد اطلعت على مشاركة لعبدالله في موقع اسمه (منتدى الاسلام الليبرالي JIL).. ووقتها، لم أكن أعرف ما صار إليه أمره مؤخراً، فدهشت كثيرا لمشاركته في منبر كهذا..

هذا المنتدى عبارة عن منبر لجماعة تدعو لعدم تقديس المعصوم، وعدم تقديس القرآن، ونقدهما.. نقد القرآن كنص.. ونقد المعصوم كبشر يخطيء.. يقول المدعو أوليل أبشر _عبدالله_: (أنا أنظر للنبي كشخصية تاريخية، يجب أن يكون محل دراسة نقدية، لكيلا يصبح فقط شخصية أسطورية مقدسة نتجاهل جوانبه البشرية، وربما نقاط ضعفه)!!.. ويقول عن القرآن: (عمر يمكن أن يسمى (مؤلف مشارك)، تولى أيضاً خلق القرآن، حيث أن هنالك العديد من الآيات التي أيدت رأي عمر ونقدت رأي النبي.. أنا أود أن أذهب الى أبعد من ذلك، لأقول إن كافة الأصحاب، وكل مجتمع المدينة، كانوا بصورة غير مباشرة مؤلفين مشاركين، في القرآن)!!

عبدالله، وهذه الجماعة، يعملون عملاً واحداً في سبيل رفع القداسة عن القرآن وعن النبي، عليه السلام.. وعبدالله لا يخفي أنه بسبيل رفع القداسة عن كل فكر بشري.. فكلهم يريد رفع القداسة، لينقد القرآن، ونبي القرآن، بمثل هذا الرأي الفطير.. ومشاركة عبدالله، التي اطلعت عليها، هي من نفس أقوال أوليل هذا.. ومن الأفضل أن نورد النص كما هو بالانجليزي ثم نترجمه، فهو يقول:

“Islam is provided for human(hudan li nnas), and therefore, no religious text is (purely) Allah's revelation. The text is not present in a vacant space; there is always an extracting process between the divine and the profane”

من ندوة أقامها د. عبدالله بأندونسيا وأوردها (منتدى الاسلام الليبرالي)JIL

يهمنا الجزء الأول من النص، فهو يقول: (الاسلام أنزل للناس (هدى للناس) إذن لايوجد نص ديني موحى من الله بصورة صرفة)!! وبقية النص تقول: (النص لا يوجد في فراغ، هنالك دائماً عملية تصفية بين المقدس وغير المقدس)!!

لقد أصبتُ بصدمة شديدة، عندما قرأت قول عبدالله، هذا، لأول مرة.. ما كنتُ أتصور، أن يصل الى هذا الدرك!! وعلى الرغم من أنني كنت دائماً استشعر خطورة المكر الالهي، إلا أنني لم أشعر به، كما شعرت به بعد قراءة هذا النص!!

هذا منتهى فساد العقيدة!! فإذا كان لله شريك في كلامه، عن ذلك تعالى الله علواً كبيراً، فهذا يعني أن هنالك شريك له في كل شيء، فما كلامه، بين دفتي المصحف، إلا صورة لفظية، لكلامه الخلقي _في الأكوان.. وهذا يلقي الضوء على موقف عبدالله من التوحيد، خصوصاً موقفه المتكرر، بصور مختلفة، الذي يستبعد فيه الفاعل الحقيقي _الله_ ويبني على فعل الفاعل المباشر _الإنسان_ وحده، وقد أوردنا له قوله، الذي يقول فيه إن المسيج إذا جاء لا يحل مشكلته، إذا لم يحلها هو بنفسه.. وفي قول آخر يقول إن خريطة السودان لم تنزل من السماء وإنما صنعها الاستعمار.. فكأن الاستعمار صنعها مغالبة لله، وليس بأمره!!

وبالطبع الخلل في المنطق واضح.. فكون القرآن أنزل للناس، لا يمكن أن تعني بأي وجه من الوجوه أن الناس شاركوا في إنزاله.. كما أنه، كون القرآن نزل مؤيداً لرأي سيدنا عمر، ومخالفاً لرأي النبي، لا يجعل عمر، بأي حال من الأحوال، مشاركاً في الإنزال.. ثم إن رأي عمر منذ البداية هو مظهر لوحدة الفاعل، ولم يأت به من عنده، دون إرادة الله.. بل المنطق السليم يقول، إذا كان النبي يمكن أن يكون مشاركاً في القرآن، لجعله مطابقاً لرأيه هو بدل رأي عمر.. هذا ليس فكر، وإنما هو هوى نفوس!!

فعبدالله، وأصحابه، يريدون رفع القداسة عن القرآن، وعن المعصوم، ليقولوا ما يحلُو لهم، حسب هواهم، دون وازع من ضمير، ولا رقابة من المجتمع، وهذا ما لن يكون، فالعبث بالدين له ثمنه.. وقانون المعاوضة قانون صارم: (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً، يره* ومن يعمل مثقال ذرة شراً، يره).. يره الآن، وفي التو.. وهذا واضح وضوح الشمس، ولا يغيب إلا عمّن أعمت الغفلة بصيرته!!

يقول الأستاذ محمود: (والخوض في أصل الدين سير في الوادي المقدس، تُخلع فيه النعلان، وتُواصل التلبية، ويُستشعر عنده الخشوع.. فإذا دخله الذين لا يرجون له وقارا فانتظر بوائق الشرور وجوائح الفتن).. وقد دخله عبدالله، بجرأة، أبعد من جرأة من قيلت في حقه هذه العبارات، بكثير جداً.

يقول عبدالله: (القرآن أنزل باللغة العربية، وهي لغة بشرية تطورت تاريخياً.. وهنالك أجزاء معيارية عديدة في القرآن، تخاطب مواقف في مكة والمدينة ذات طابع محدد خاص بالوقت الذي بلغ فيه النبي هذه الأجزاء من القرآن.. أكثر من ذلك فإن السنة خاطبت احتياجات نشأت في سياقات بعينها، أياً كانت الاحتمالات الأوسع لإمكانية تطبيق السنة في أزمنة لاحقة، وأمكنة مختلفة. وبعبارة أخرى، فإن الواسطة البشرية كانت جزءاً لا يتجزأ في وحي وتبيين وتطبيق الاسلام منذ بدئه في القرن السابع.. وعلى كل حال، فإن القرآن والسنة لا يمكن فهمهما إلا في سياق تطبيقهما من قبل البشر في زمان بعينه وفي سياقات محددة).. هذا النص يجعل القرآن مجرد كتاب تاريخي، نزل في زمن معين، وفي رقعة معينة، وبلغة معينة _العربية_ وهي لغة بشرية!!

هل المطلوب أن ينزل بلغة ملائكية؟! القرآن نزل للبشر، ولابد أن ينزل بلغة يفهمونها، ويخاطب عقولهم، وحاجاتهم الفعلية.. يقول المعصوم: (نحن، معاشر الأنبياء، أمرنا أن نخاطب الناس على قدر عقولهم).. ويقول تعالى: (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها).. ولكن ليس للوساطة البشرية، أي دور في وحي القرآن.. كون القرآن أنزل على سيدنا محمد، صلى الله عليه وسلم، لا يجعله شريكاً في الوحي، كما يزعم عبدالله وجماعته، وهذه بداهة.. إذا أرسل الملك خطاباً، إلى أحد مواطنيه، لا يكون المرسل إليه، شريكاً في الإرسال، ولله المثل الأعلى.. المغالطة في البديهيات أمر غير مقبول.. وكون القرآن خاطب القرن السابع، واحتياجاته، لا يعني بأي حال من الأحوال، أنه رهين بإنسان القرن السابع وحاجاته.. بل على العكس من ذلك، هو خطاب للإنسان في السرمد!! يقول تعالى: (حم* والكتاب المبين* إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون* وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم).. فالقرآن هو كلام الله.. والكلام هو صفة قائمة بالذات، وإلى ذلك الاشارة بكلمة (لدينا) من الآية.. ومن الذات نزل المنازل المختلفة، حتى صُب في قوالب اللغة العربية، بالصورة التي تجعله يخاطب الناس على قدر عقولهم.. فالقرآن تنزلات!! والقرآن ليس هو اللغة العربية.. يقول الأستاذ محمود: (يظن كثير من كبار العلماء أن القرآن هو اللغة العربية، وذلك خطأ شنيع.. وهو خطأ جعلهم يلتمسون معاني القرآن في اللغة العربية، فانحجبوا بالكلمات، وهم يظنون أنهم على شيء).. ويقول: (اللغة إنما تأخذ مدلولاتها من المعاني التي يعطيها التوحيد على من جودوا التوحيد).. ويقول أيضا: (القرآن العربي الذي هو بين دفتي المصحف الآن هو كلام الله تعالى.. ولكن يجب أن يكون واضحاً أن هذا القرآن ليس له معنى واحداً، هو ما تعطيه اللغة العربية، وإنما معانيه لا تحصى ولا تستنفد)..

في الحديث النبوي الذي يرويه علي ابن أبي طالب: (ألا إنها ستكون فتنة!! فقلت: ما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: كتاب الله!! فيه نبأ من كان قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل.. من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله.. وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو السراط المستقيم.. هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه.. هو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا: إنا سمعنا قرآناً عجباً، يهدي الى الرشد.. من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي الى سراط مستقيم..).. هذا الحديث فيه كل الرد على مزاعم عبدالله عن القرآن، وعن الحُكْم.

أنظر الى هذه العبارات، من نصه المنقول أعلاه: (وبعبارة أخرى، فإن الواسطة البشرية كانت جزءاً لا يتجزأ في وحي وتبيين وتطبيق الإسلام منذ بدئه)!! (جزء لا يتجزأ) .. هي نفس عبارة أوليل الذي تحدث فيها عن مشاركة البشر في القرآن!! الواسطة البشرية ليست جزءاً، بمعنى المشاركة، لا في الوحي، ولا في التبيين ولا في التطبيق.. الواسطة البشرية، حسب التوحيد، لا وجود لها في الحقيقة.. هي غير موجودة مع الله، وإنما هي موجودة به.. وهي لا تفعل أي شيء، من تلقاء نفسها، إذ لا حول لها ولا قوة، إلا بالله.. هي لا تفعل إلا بالله.. الله تعالى، هو الفاعل الوحيد في الوجود، وما فعل الفاعلين الآخرين، إلا في الشريعة، في الظاهر فقط..

ما تسميه، أنت الواسطة البشرية، وكل ما يصدر عنها، هي مظهر للارادة الالهية المتفردة، وهي في كل شيء، ليس لها من الأمر شيء!! إن هذا التخليط الشنيع سببه غياب التوحيد، وإخضاع الدين لعقل المعاش.. هذا الذي تقوله أنت وأصحابك، شرك غليظ.. وقولك: (وعلى كل حال، فإن القرآن والسنة لا يمكن فهمهما إلا في سياق تطبيقهما من قبل البشر في زمان بعينه وفي سياقات محددة).. هذا مجرد تقرير ذاتي، أملاه الهوى والغرض.. وما عليه حقيقة الأمر أن فهم القرآن ليس مرتبطاً بالزمان والمكان، وإنما هو مرتبطٌ بالعلاقة بالله، عن طريق تحقيق التوحيد، وهي علاقة في قمتها _في الشهود الذاتي_ تتجاوز الزمان والمكان تماماً.. ودون هذه القمة، للعارفين، مواقعهم في تجاوز الزمان، والمكان، فمنهم (من يرى صدور الحياة وورودها، ويرى ما بين ذلك).. ولكنّ العلمانيين يصعب عليهم إدراك ذلك!!

كل ما يقوله عبدالله، هو عمل في نقد القرآن، من منطلق (الإسلام الليبرالي).. والقرآن، لا يعطي معانيه لمن لا يؤمنون به، ويقدّسونه، يقول تعالى: (وجعلنا في قلوبهم أكنة أن يفقهوه، وفي آذانهم وقراً).

عبدالله، وصحبه، عندما يتحدثون عن الواسطة البشرية، هم يريدون أن يلحقوا قصور البشر، بالقرآن، وهذا الغرض فيه واضحٌ ومفضوح.. فالقرآن، عندما يخاطب قصور البشر، إنما ليخرجهم من هذا القصور.. ففي قوله تعالى: (إنا جعلناه قرآناً عربياً، لعلكم تعقلون)، واضحٌ أن العلة من إنزال القرآن هي أن نعقل _نفكّر التفكير المستقيم.. ولكن عبدالله، يعكس الصورة، فيجعل القرآن عندما يدخل العقل البشري هو الذي يتأثر، ويصبح غير مقدس.. وهذا لأنه جعل الطبيعة البشرية فاسدة في أصلها، وأبعد الفاعلية الإلهية!!

القرآن، يدخل عقول المؤمنين به، العاملين على التخلق بأخلاق القرآن، عن طريق التقوى، فيُكسب، هذه العقول، الفرقان.. يقول تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله، يجعل لكم فرقاناً..).. يعني نوراً في عقولكم تميزون به بين قيم الأشياء.. فالقرآن وسيلة لترويض العقول وتأديبها، حتى تسمو على نفسها، بصورة دائمة.. يقول الأستاذ محمود عن فكر العقل المؤدب والمربى، هذه التربية، أنه أكسير الحياة!! يقول: (قديماً هام الناس بسر الحياة الأعظم.. هاموا بسر القدرة، وبسر الخلود.. فجدّ الفلاسفة وراء ما أسموه بحجر الفلاسفة، وبحث الكيماويون عما أسموه إكسير الحياة.. وحلم القصاصون بخاتم المنى، وبالفانوس السحري.. ولم يظفر أي من هؤلاء بشئ مما كانوا يبتغون.

قل لهؤلاء جميعاً، ولغير هؤلاء، من سائر الناس، إن سر الحياة الأعظم _إن إكسير الحياة_ هو الفكر.. الفكر الحر.. الفكر القوي، الدقيق، الذي يملك القدرة على أن يفلق الشعرة، ويملك القدرة على أن يميز بين فلقتيها.. وهذا الفكر إنما هو ثمرة العقل المسدد، المروض، المؤدب بأدب الحق، وأدب الحقيقة.. وإنما، من أجل رياضة العقول على أدب الحق، وأدب الحقيقة، حتى تقوى على دقة التفكير، جاء الإسلام، وأنزل القرآن، وشُرعت الشريعة.. فأنت، إذا سئلت عن الإسلام، فقل لهم: إنه منهاج حياة، وفقه تُراض العقول لتقوى على دقة التفكير.. والله، تبارك وتعالى، يقول في ذلك: (وأنزلنا إليك الذكر، لتبين للناس ما نُزّل إليهم، ولعلّهم يتفكرون).. قوله، تعالى: (وأنزلنا إليك الذكر) يعني القرآن، المحتوي على الحقيقة، كلها، وعلى الشريعة، كلها.. الحقيقة التي هي أعلى من مستواك، والحقيقة التي في مستواك، والحقيقة التي في مستوى أمتك.. وعلى الشريعة التي هي في مستواك، والشريعة التي في مستوى أمتك.. قوله، تعالى: (لتبين للناس ما نزل إليهم) يعني لتفصل لهم الشريعة التي يحتاجون، وطرفاً من الحقيقة التي يطيقونها، مما يزيد في فهمهم، واحترامهم للشريعة.. قوله، تعالى: (و) من قوله تعالى (ولعلهم يتفكرون) يعني مرهم أن يعملوا بالشريعة، بعقول مفتوحة، وقلوب حاضرة.. قوله تعالى (لعلهم يتفكرون) هو المعلول، وراء كل العلل، والمطلوب، وراء كل المطالب، والمقصود، وراء كل المقاصد.. يتفكرون في ماذا؟! في السموات والأرض؟ لا!! ليس فحسب!! فإنما هذا تفكير مقصود لغيره.. مقصود بالحوالة!! وأما التفكير المقصود بالأصالة فهو تفكيرهم في أنفسهم.. قال تعالى: (وفي الأرض آيات للموقنين * وفي أنفسكم!! أفلا تبصرون؟)..).

ثم يذهب النص ليفصل في رياضة العقول، ومستويات التقوى، وما تؤدي إليه من مستويات فرقان: (والتقوى (شجرة) والفرقان (ثمرة)، وبقدر ما تدق التقوى يدق الفرقان، ويقوى)..

واضحٌ جداً، أنه ليس لعبدالله، نصيبٌ من هذا الفرقان.. وهو ليس له نصيبٌ فيه، لأنه ينكر الأساس، الذي يقوم عليه، ويعمل على هدمه، ليخضعه (للمنطق المدني)، أي عقله هو!!

هذه العقول المروضة، والمؤدبة بأدب القرآن، في نظر عبدالله، لا تستحق، مجرد أن تشترك في الحوار، لأنها تقوم على الدين، والدين، حتى في مستوى اليقين، والمعرفة، هو مبني على العقيدة!!

ما عرضناه أعلاه هو موقف الأستاذ محمود، من القرآن، عندما يدخل العقول والتجربة البشرية.. أما موقف _تلميذه بزعمه_ فهو على النقيض منه تماماً.. إذ عنده العقول، والتجربة البشرية، تبعد القرآن من طبيعته الإلهية، وتذهب قداسته، وتجعله مجرد أمر بشري، وليس إسلامياً مقدساً.. فهو يقول: (أياً كان شكل الدولة الذي يأخذ به المسلمون، من أجل خدمة تلك الأغراض الحيوية، فسيكون علمانياً (أي مادياً بشرياً) وليس إسلامياً مقدساً..).. فعنده كل ما هو بشري، هو علماني، وليس إسلامي، مهما كان قيامه على مباديء وقيم الدين.. فالدولة الإسلامية، منذ عهد سيدنا أبوبكر هي دولة علمانية، مدنية، عند عبدالله.. والسبيل الوحيد، حسب زعمه، لإسلامية الدولة، هي أن تكون علمانية، وليست إسلامية!! اسمعه يقول: (جدليتي تحديداً هي أنه ليس هنالك شيء (غير إسلامي) فيما يتعلق بمفهوم الدولة المدنية كإطار ضروري لمفاوضة الدور الطبيعي والشرعي للإسلام في الحياة العامة)..الاسلام وعلمانية الدولة ص 436.. بل أكثر من ذلك، الدولة المدنية، عنده، هي السبيل الوحيد لإمكانية العيش وفق الشريعة!! اسمعه يقول: (أنا كمسلم بحاجة للدولة المدنية من أجل أن أعيش وفقاً لتعاليم الشريعة، كالتزام شخصي، وهي الطريقة الوحيدة الصالحة والشرعية لأن أكون مسلماً بحق).. (الوحيدة الصالحة)!! (الشرعية)!! هل شرعية هذه مأخوذة من الشريعة _شرع الله_ التي تركها، أم من شرعية المواطنة؟! على كل حال، من المؤكد أنها لا تعني شريعة الإسلام.. فالشرط الضروري، عنده، لممارسة شريعة الإسلام، هو ترك شريعة الإسلام، كقانون عام، والأخذ بالعلمانية!! والله، مشكلتنا مشكلة، مع المتّورك!!

فعند عبدالله، ما تفرضه الدولة لا يمكن أن يكون شريعة إسلامية، حتى ولو تم عليه إجماع المسلمين، إذ يقول: (وكل ما يدركه المسلمون اليوم من تصورات للشريعة، حتى تلك التي ينعقد حولها إجماعهم ما هي إلا نتاج لآراء بشرية، عن معنى القرآن والسنة)!! ص 51 ( الاسلام وعلمانية الدولة) هل يمكن أن يعيش المسلمون القرآن دون أن يفهموه؟! وإذا كان كل ما يفهمه البشر، هو رأي بشري، وكل ما يدخل العقل، والتجربة البشرية، يصبح غير مقدس، وبالتالي غير ديني، إذن ما هو الديني؟! بهذا المعنى، حتى العبادات ليست دين، لأنها تقوم على فهم بشري لنصوص القرآن والسنة، خصوصاً أن الشريعة، عند عبدالله، هي فهم بشري!!

حسب مباديء عبدالله هذه لا يمكن أن يكون هنالك دين على الاطلاق، لأنه من المستحيل أن تقوم نصوص الدين في حياة الناس، دون دخولها العقل البشري، والتجربة البشرية، وهذا _حسب زعمه_ ما يجعلها غير دينية.

النبي الكريم:

ليس أسوأ من موقف عبدالله، من االتوحيد، ومن القرآن، إلا موقفه من النبي الكريم، وهو موقف لايقوم على رفع القداسة فقط، وإنما يقوم على إلحاق أسوأ النعوت به، دون ورع، ولا تهذيب، حتى في مستوى الإنسان العلماني العادي.. فهو كما رأينا يجعل من نفسه حكماً، يحكم في دين النبي!! وهو يحكم أحكاماً تخرج جميع عمل المعصوم، العام، كرأس للدولة الدينية من الدين، وتلحقه بالسياسة فقط، فعنده (دولة المدينة هي دولة سياسية، وليست دينية، هي معادلة سياسية واجتماعية....) أجراس الحرية 28 ديسمبر2008!!

من حيث المبدأ: هل يملك مسلم، الموازين التي يزن بها دين نبيه؟! هذا أمر خطير.. وهو لم يقف عند مجرد التقييم والوزن، وإنما حكم بأن نشاط المعصوم كرأس لدولة المدينة هو سياسة وليس دين!! وبالطبع، حكم على الدولة في عهد أبي بكر وما بعده بنفس الحكم.. علماً بأن أبي بكر لم ينشيء دولة، وإنما دولته كانت هي نفس دولة الرسول.. فمن يكون هذا الشخص عند نفسه، وهو يقيم دين الرسول؟! إن من يقيم أي شخص هو، بالضرورة، أكبر منه.

والحديث عن الواسطة البشرية، عند عبدالله، هو في المكان الأول حديث عن المعصوم.. فهو الواسطة بيننا وبين الله.. والقرآن، إنما بُلِّغ لنا بعد أن دخل عقله هو أولاً.. وهذا، عند عبدالله، ما يجعله غير مقدس!! مع إن من له ذرة من إيمان يعلم أن النبي مقدس، وقد أمرنا، تبارك وتعالى، بتقديسه، في معنى ما أمرنا بالصلاة عليه، في قوله تعالى: (إن الله وملائكته يصلّون على النبي، يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً).. كيف يكون من يصلي عليه الله، وملائكته غير مقدس؟! النبي، حسب القرآن، أولى بنا منا!!: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم)!! وقد نهينا أن نرفع أصواتنا فوق صوته، فهذا صنيع من سوء الأدب، يحبط العمل، فكيف الحال بمن يحكم، بعدم الدين، في مجال واسع من مجالات حياته؟!

أسوأ تطاول على النبي الكريم، وإساءة له، من أقوال عبدالله، التي بلغتني، قوله المتعلق بعدة المتوفى عنها زوجها.. فالعدة، في الطلاق، وفي حق المتوفى عنها زوجها، أمرٌ معروف في الشريعة، يدركه كل مسلم، ومسلمة، مهما كان مستواهما من الثقافة والتعليم.. لأنه قامت عليه الممارسة طوال التاريخ الإسلامي وإلى اليوم، وهي ممارسة واسعة، لأن أمر وفاة الأزواج أمر واسع.. والعدة تقوم على القرآن والسنة، بصورة لا لبس فيها، ومعلومة لكل مسلم، يعرف أمر دينه.. يقول تعالى: (والذين يُتَوفّون منكم ويذرون أزواجاً، يتربّصْنَ بأنفسِهنّ أربعةَ أشهرٍ وعشراً).. وفي السنة، جاء أمر العدة في الحديث الذي ترويه الفُريعة بنت مالك بإسناده، ويقول فيه المعصوم لها، بعد أن قتل زوجها: (أمكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله.. قالت: فاعتددت أربعة أشهر وعشراً..) رواه أبو داؤود والنسائي والترمذي.. وكان سيدنا عمر يذود المتوفى عنها زوجها، من البيداء، يمنعهن الحج..

والعدة متفق عليها بين أصحاب المذاهب الأربعة، ولا خلاف، بينهم، إلا حول جواز خروج المعتدة، للضرورة، أم لا.

والحديث النبوي الشريف، :" لا يحل لإمرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج، أربعة أشهر وعشراً"، يدرس لتلاميذ المدارس في المرحلة الأولية، والمتوسطة سابقاً، ومن المستحيل أن يكون الدكتور، لم يسمع به!!

وقد أخذ السودانيون، من عبارة النبي للفريعة (أمكثي في بيتك) التسمية المحلية التي أعطوها للعدة، فقد سموها (الحبس).

وقد وجد، عبدالله، في (العدة)، مناسبة للهجوم القاسي على المعصوم، تحت غطاء مهاجمة العدة _الحبس.. اسمع هذا القول: (الحبس منتهى التخلف والقسوة، وهو تصرف قمعي، ومتخلف، وما عنده سند أخلاقي ولا سياسي، ولا حتى ديني.. هل هي ثقافة سودانية؟؟ هل عنده أساس من الشريعة؟؟ دا عمل ما فيه أي إيجابية.. ونحن اعتدنا انه نقعد كدا لمّن تحصل حاجة زي دي.. ولمّن تحصل ما عندنا وضوح الرؤية، ولا عندنا الشجاعة عشان نقول الموضوع دا غلط.. أنا دا رأيي كدا.. وأنا موقفي كدا.. دا عمل قمعي ومتخلف.. البحصل للمرأة السودانية دا هو في الحقيقة جريمة.. أن تُحبس من غير جريمة.. دا غير المهانة والمذلة والحرمان..)..من ندوة عامة أقامها د. عبدالله في أمريكا، ونشرت بالصالون..

هو يقرر (ما عنده سند أخلاقي ولا سياسي ولا حتى ديني)!! ولقد أوردنا السند من الحديث والسنة، وهو سند، يكاد يعرفه كل مسلم، متعلم أو جاهل، وما أخال عبدالله يجهله، ولكنه يتجاهله، حتى يقول السباب القبيح الذي قاله.. إن كلمات السباب القاسية التي ذكرها تطال القرآن والمعصوم، وفقهاء المسلمين، وعامتهم.. وهي تطال، بصورة خاصة، الأستاذ محمود.. فهؤلاء جميعاً، في نظر عبدالله، وحسب عباراته في (منتهى التخلف والقسوة).. بل ويقومون بتصرف قمعي، ومتخلف، وما عنده سند أخلاقي ولا سياسي، ولا حتى ديني.. وهو عمل قمعي ومتخلف وجريمة، مهانة وحرمان...الخ ما أطلقه من أوصاف!!

أقول إنها تطال، بخاصة، الأستاذ محمود، لأن هذا القول ورد بمناسبة (عدة) واحدة من الأخوات الجمهوريات توفي عنها زوجها.. ومعروف عند عموم الجمهوريين، موقف الأستاذ محمود الملتزم بالعدة.. والمفروض أن عبدالله يعرفه، وقد ذكر له.. ولكن من يسيء للقرآن والمعصوم، لا يتورع عن الإساءة لغيرهما!!

ولكنك، يا دكتور، تعلم تماماً، أن أمنا عائشة _ والدتك _ رحمها الله، قد اعتدت _ حبست، فهل منعتها من ممارسة هذا العمل الذي تصفه بكل هذه الأوصاف!؟ فإذا لم تفعل _ وأنت لم تفعل _ فلماذا تريد أن تمنع غيرها، من ممارسة طقوس دينهن؟! هل هذا صدق؟!

مرةً أخرى.. ماذا يكون هذا الرجل، عند نفسه، وهو يسيء كل هذه الإساءة للمعصوم، ولجميع المسلمين، وللأستاذ محمود، الذي يفترض _حسب زعمه_ أنه تلميذه!!

من أين أتيت بالسند الديني والأخلاقي الذي لا يمتلكه جميع هؤلاء؟! أين هي الأخلاق، في عملك هذا؟! ولماذا لم تسعفك أخلاقك هذه، ولو بكلمة واحدة، وأنت تُسْأل عن زواج المثليين؟! ليس من المستبعد أن يكون زواج المثليين، عندك، دين!! طالما أنك تقول: (جدليتي تحديداً هي أنه ليس هنالك شيء (غير إسلامي) فيما يتعلق بمفهوم الدولة المدنية).. وطالما أن هنالك عدد من الدول الغربية التي تقوم على مفهوم الدولة المدنية، قد أقرت فعلاً، زواج المثليين، وأنت تقرر أن الدول التي تقوم على هذا المفهوم، ليس فيها شيء غير إسلامي، يصبح، بالضرورة، أن الذي أقرته هذه الدول إسلامي، عندك!! هل هذا هو السبب في أنك رفضت أن تجيب، عن السؤال الخاص بزواج المثليين؟! لا أتصور أنك تستطيع أن تذهب إلى هذا المدى، ولكن منطقك يعطيه، بالضرورة.

يقول عبدالله: (التناقض الجوهري في مفهوم الدولة الدينية هو أنه زعم بالحكم الإلهي المقدس بواسطة البشر، وهم مجبولون على الخطأ والهوى والاختلاف فيما بينهم مع إصرار كل منهم على أن الحق معه هو، والباطل بالضرورة واقع على كل من يخالفه).. هذا التناقض في ذهنك أنت، وهو مجرد افتعال منك.. فالدولة الإسلامية تقوم على حكم البشر، والقانون فيها قانون وضعي، بمعنى أنه يتم وضعه وفق الفكر البشري، والإرادة البشرية، كل ما هنالك أن الفكر البشري والإرادة البشرية هنا، لا يقومان على الهوى، وإنما على توجيهات الدين، وقيم الدين، وكل ذلك يتم بالطرق الديمقراطية، ووفق ضوابط دستورية محددة.. والطبيعة البشرية ليست كما تصف أنت، تقوم على الخطأ والهوى، فهذا فهم سقيم ومغرض، ولا دليل عليه، لا من الواقع، ولا من الدين.. الفهم الصحيح والواضح، هو أن الطبيعة البشرية، تقوم على الخطأ والصواب، وهي تتعلم من الخطأ، لتسير إلى الصواب، لا كما تزعم أنت تقوم على الخطأ والهوى فقط.. ولو كان الأمر كذلك، لما تطور البشر.. وهذه الطبيعة الخطاءة، هي سبب كمال البشر على جميع الخلق، بمن فيهم الملائكة، لأنها تفتح الباب أمام تطور البشر، من خلال التجربة في الخطأ والصواب، بصورة لا يحدها حد.. وقد قال المعصوم: (إن لم تخطئوا وتستغفروا، فسيأتِ الله بقوم يخطئون ويستغفرون، فيغفر لهم)، فالخطأ ليس ضربة لازب على البشر، كما تصوره أنت.. البشر ليسوا أبالسة، يعصون، ولا يطيعون، ولا هم ملائكة، يطيعون بدون معصية، وهذه الجبلة التي تخطيء، وتتعلم من خطئها هي أسّ كمال النشأة البشرية، وبها استحق الإنسان، أن يكون خليفة الله، وأسجد له الملائكة.

الدين كله قائم على تصحيح الخطأ عند البشر، بتسديد الفكر، وتربية النفس، في منهج متكامل، دائم.. والعلمانية، ليس لها منهج مقابل المنهج الإسلامي، هذا، في توجيه السلوك.. فإذا كان الإنسان في طبيعته الأصيلة، هو كما تصف، فمن أين تأتي فضيلة الدولة العلمانية، وإنسان الدولة العلمانية، على الدولة الإسلامية، وإنسان الدولة الإسلامية.. قولك، هذا، شديد التهافت، ولا قيمة له، بل لا علاقة له بالواقع، وإنما هو مجرد مماحكة، ومرواغة، غرضها الأساسي هو رفض الدين.

على كلٍّ، هذا تصورك الشخصي للطبيعة البشرية، ويجب أن يوضع عند عتبتك!! أما تصور الإسلام فيقوم على أن الطبيعة البشرية، في أصلها خيرة، وكاملة، ويعبر عنها قوله تعالى: (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم).. وهذه هي الفطرة الإنسانية، وهي لا تتغير، وإن غطاها الرّين إلى حين.. فالطبيعة البشرية، لا يمكن أن تعرف من النظر للإنسان في مرحلة تاريخية معينة، وإنما تعرف بالرجوع للأصل، وهذا الرجوع لا مجال له إلا الدين.. فالعقل وحده لا يستطيع أن يعرفه.. ثم إن فهمك للطبيعة البشرية هذا، يقوم على الهوى، بصورة أساسية، وأنت لا تستطيع الفكاك من ذلك، نظراً لأن التخلص من الهوى عندك مستحيل!!

إن تقرير عبدالله، عن الطبيعة البشرية، هو من أبشع التقريرات الذاتية في طرحه، فهو يحكم على الإنسان بالقصور بصورة نهائية.. ونحن قد سبق أن أوردنا قوله في هذا الصدد، في مجال التدليل على أن طرحه، يقوم على مجرد التقرير الذاتي، دون أي حجة أو منطق، وفي أهم وأخطر القضايا.. فالحجة الأساسية، عنده، هي (أنا عبدالله أحمد النعيم أقول).. ونحن هنا نعيد إيراد النص لمناقشته!!

يقول عبدالله: (لا يمكن لأي مؤسسة بشرية أن تحقق الحياد والمساواة وحقوق المستضعفين، وهذا هو خطأ جوهري في زعم الدولة الدينية.. هنالك من يدعي أن الدولة الدينية خالية من الفساد والغرض والهوى، وأنا (عبدالله أحمد النعيم) أقول من يزعم هذا إما مضلل لنفسه أو مخادع للناس، لا يمكن أن يتم ذلك لبشر، وأنا أصر على الاحتفاظ بالطبيعة البشرية للدولة)!!

كل تاريخ البشرية، هو حركة في التطور في سبيل: الحياد والمساواة وحقوق المستضعفين.. وكل صاحب دعوة إنسانية _دينية أو مادية، تقوم على الالحاد_ يدعو لنصرة المستضعفين، ونيل حقوقهم.. فماركس مثلاً، دعوته، من أجل نيل المستضعفين حقوقهم.. وكل حركة القانون والتطور في مجاله، هي عمل في محاولة نصرة المستضعفين.. والدين عامة، والإسلام خاصة، إنما جاء، لتحقيق مكارم الأخلاق، ومن بينها، التخلص من الفساد والغرض والهوى، وهذا بالنسبة لدعوة الأستاذ محمود هو الجانب السلبي، إذ يقوم على كف الأذى.. أما الجانب الإيجابي فهو توصيل الخير للناس.. والخلاص من الهوى والفساد في السلوك الديني، أمر قريب جداً، ويقوم على مجرد الإيمان، يقول المعصوم: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به)، في حين أن الفكرة الجمهورية تدعو، وتفتح الباب، للتسامي إلى مستوى اليقين.. كل هذا الذي تقوله، يتعلق (بالأنانية السفلى)، فإذا كانت الأنانية السفلى، عند الإنسان، لا مجال لتخطيها، فهذا يعني أنه مفروض على الإنسان أن يكون في مستوى حياة الحيوان _الحياة الدنيا_ سرمداً.. وهذا ما تقول به أنت فعلاً، عندما تصر على البشرية.. فإصرارك هذا يعني أن لا مجال لتخطي مرحلة البشرية الخطاءة _حسب زعمك_ إلى مستوى الإنسانية!!

فما هي السلطة، التي تملكها، لتقرر هذا التقرير الجازم؟! أنت تقول إن منطلقك إسلامي، فهل أنت تقرر لله، أم أنت تقبل ما يقرره الله؟!

واضح أن الخيار الأول بالنسبة لك هو الصحيح!! الله تعالى، وعد بنصرة المستضعفين، بصورة لا لبس فيها، يقول تعالى: (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض، ونجعلهم أئمة، ونجعلهم الوارثين).. ما هو وضع عباراتك (إما مضلل لنفسه، أو مخادع للناس) فيما يتعلق بهذه الآية؟!.. وأنت تزعم أنك (تلميذ للأستاذ محمود في جميع أحوالك، وفي جميع أقوالك العامة)!! لابد أنك تعلم، بحكم هذه التلمذة، إهداء الأستاذ محمود، الوارد في كتاب (تطويرشريعة الأحوال الشخصية) والذي يقول فيه:

إلى أكبر من استضعف في الأرض،

ولا يزال..

إلى النساء ..

ثم إلى سواد الرجال،

وإلى الأطفال ..

بشراكم اليوم!! فإن موعود الله قد أظلكم.

"ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض، ونجعلهم أئمة، ونجعلهم الوارثين"..

أين تضع عباراتك (مضلل لنفسه أو مخادع للناس)، بالنسبة لقول الأستاذ هذا.. واضح أنك في قولك هذا إنما تقصد الأستاذ محمود تحديداً، لأن كل العبارات التي تستنكرها، وتزعم أنها غير ممكنة، هي تنطبق على الأستاذ محمود، بالذات، ومن غير الممكن أن تجهل أنت ذلك!!

ثم أين الغيرة على المرأة، التي افتعلتها وانت تتحدث عن (العدة)؟! إن من يحكم بعدم إمكانية نيل المستضعفين لحقوقهم، لا يمكن أن يكون حريصاً على حقوق المرأة، فهي (أكبر من استضعف في الأرض، ولا يزال).

ثم ما هي قيمة طرحك هذا، وأنت تقرر، فيه، بصورة نهائية، عدم إمكانية نصرة المستضعفين، وعدم إمكانية التخلص من الهوى والفساد، وعدم إمكانية تحقيق المساواة؟!

ثم مرة اخرى: من أنت عند نفسك، عندما تقرر أمراً يناقض، بصورة حادة، تقرير الله تعالى الصريح فيه!!

إنك تهدم كل شيء جميل وإيجابي، في سبيل تصورات سلبية، كلها ظلمانية!!

فإذا كان الحياد مستحيلاً، بهذه الصورة، فلماذا تحدثنا عن حياد الدولة تجاه الدين، وأنت تعلم أنه مستحيل؟! أليس هذا هو التضليل؟!.

الشريعة والأخلاق:

يُلاحظ أن عبدالله يدعو للشريعة، مخالفاً بذلك دعوة الأستاذ محمود للسنة، وهو أمر مقصود.. وهو يبشر بمستقبل جوهري للشريعة، إذ يقول: (إن للشريعة مستقبل جوهري في المجتمعات الإسلامية).. فالدولة العلمانية _كما رأينا_ هي الشرط الضروري لهذا المستقبل الجوهري.. وهذا المستقبل الجوهري لا يقوم على تطبيق أحكام الشريعة، في نظام الدولة، فهو يقول: (إنني أدعو في هذا الكتاب الى عدم تطبيق أحكام الشريعة من قبل الدولة باعتبارها شريعة دينية، مع التسليم باستمرارية تأثير الشريعة على السياسة ودورها في تأسيس قيم المجتمع وتنشئة الأطفال....)..علمانية الدولة ص 6.. التسليم الذي يتحدث عنه عبدالله، كما هو الحال في الأمر الواقع، يعني أن عبدالله ليس له عمل إيجابي يقدمه.. والشريعة، حسب الأمر الواقع، قد نصلت من حياة الناس.. بل الدين كله نصل من حياة الناس ولا يمكن أن يقوم إلا إذا بُعث من جديد.. وعبدالله، سوى في مثل هذه العبارات الوصفية، لا يتحدث إطلاقاً عن الشريعة أو السنة، في المجال الفردي.. وليس له أي تصور خاص به، فيما يتعلق بطبيعة توجيهات الشريعة أو الدين، للسلوك الفردي.. هو لا يتكلم عن المنهاج الفردي، ولا عن التربية، ولا عن كيفية قيام العلاقة بين الفرد وربه.. بل حديثه عن الشريعة مجرد عبارات وصفية.. ولذلك عملياً، هو أبعد الإسلام عن مجال الدولة، وعن مجال السلوك الفردي.. وهذا يقودنا الى الحديث عن الأخلاق.

الكثير من المفكرين في العالم، يعتبرون أزمة الحضارة البشرية المعاصرة، هي أزمة أخلاق في المكان الأول.. ومستوى الأخلاق المنشود يحدده الواقع الحضاري نفسه.. فتوحّد الكوكب الأرضي، يقتضي أن تعيش البشرية فيه، وفق قيم الجوار، بحكم أن الناس، على مستوى الكوكب الأرضي كله، غدت مصالحهم مترابطة، عملياً، وأصبح بينهم من وسائل الاتصال ما جعلهم جيراناً فعلاً، وبالتالي، يستحيل أن تستقيم حياتهم إلا إذا انبنت على ما يناسب قيم الجوار.. وهذا يقتضي أن يعيشوا في سلام مع بعضهم البعض.. وقد وكّد الحاجة الملحة للسلام التطور الرهيب الذي تم في مجال السلاح، بالصورة التي جعلت _لا قدر الله_ إذا نشبت حرب، في مستوى السلاح الموجود، وهذا أمر دائماً محتمل، فإن النتيجة هي فناء الحياة.. ولذلك أصبح السلام ضرورة حياة أو موت.. والسلام يقتضي أن تسود بين البشر، على مستوى الكوكب الأرضي كله، قيم السلام.. وقد أصدرت الأمم المتحدة، في هذا الصدد، كتاب (جيران في عالم واحد)، تدعو لهذه القيم.. هذا هو مستوى الأخلاق الذي يفرضه الواقع، وهو يمثل التحدي الأساسي أمام البشر اليوم.. وقد انعقدت، عدة مؤتمرات عالمية، بخصوص أزمة الأخلاق العالمية.. وكون الأزمة عالمية، يقتضي أن تكون الاستجابة في هذا المستوى، برد الأخلاق الى أصل واحد، يلتقي فيه جميع البشر.

أما طرح عبدالله، فلا علاقة له بهذا التصور، لا من قريب ولا من بعيد.. بل هو لا علاقة له بأي مشكلة من مشاكل البشرية، الفعلية، ولذلك هو، بصورة مبدئية، خارج الموضوع.. فجوهر المشكلة كلها، عنده، هو عدم فصل الدين عن الدولة.. وهو، من ثم، يدعو إلى حياد الدولة تجاه الدين، بالإضافة إلى الدستورية وحقوق الإنسان.. وكل هذا القضايا، طرحه يشوهها، بصورة تجعل من المستحيل تصور إمكانية تحقيق أي إنجاز في مجالها.

أولاً: مشكلة فصل الدين عن الدولة، مشكلة لا وجود لها، إطلاقاً.. وذلك، لسبب بسيط هو أن الدين غير موجود اليوم، لا عند المسلمين، ولا عند غيرهم.. فالدين السائد هو العلمانية، وهي ما توجه حياة الناس، وقيمُها هي القيم السائدة.. وبحسب عبدالله، فإنه، أساساً، لا توجد دولة دينية، ولايمكن أن توجد.. ودولة النبي الكريم، في المدينة، سياسة وليست دين، ودولة أبو بكر، والذين أتوا بعده إلى اليوم، دولة علمانية، ولا يمكن، حسب رأيه، أن يكون الأمر خلاف ذلك.. فمن أين تأتي قضية فصل الدين عن الدولة، حسب الواقع، وحسب التصور الأساسي لعبدالله؟ إنها ليست سوى قضية افتراضية، لا وجود لها، وقراءة عبدالله للواقع، في هذا الصدد، شديدة الخطأ.. ثم هو يقرر، بصورة حاسمة، أن الحياد عند البشر أمر مستحيل!! فلا معنى بعد هذا أن يحدثنا عن حياد الدولة تجاه الدين، وهو يحكم باستحالته.. إلا إذا أراد أن يناقض نفسه، ويقول لنا إن دولته المدنية _ككيان_ يمكن أن تكون محايدة، وهو ما نفاه، ابتداء، بحكم منطقه، حين قال إن الدولة، ككيان، يستحيل أن تكون متدينة!!

عبدالله، في طرحه، يتجاهل موضوع الأخلاق تجاهلاً، شبه تام.. وعملياً، وفق تصوره، للطبيعة البشرية، لا مجال للإخلاق.. فالبشر عنده مجبولون على الهوى والفساد، والاختلاف والصراع، وعدم نصرة المستضعفين، الى آخر هذه القيم السلبية، التي يصر عليها، ويرى أن من يقول بخلافها مضلل لنفسه ومخادع للناس.. وطالما أن هذه الصفات هي في أصل الجبلة البشرية، وهي سنة الله، فلا مجال للانتقال منها، وهو يصر على البشرية، الخطّاءة.. وفق هذا التصور لا أمل في إحداث أي عمل إيجابي في مجال الأخلاق.. وهو يرى أن مجال الأخلاق هو الدين، وقد رأينا، تشويهه للدين في جميع مجالاته.. وعلى كل، هو في طرحه، لم يبين كيف يحقق الدين الأخلاق، ولا يستطيع بيان ذلك، طالما أنه يرى أن الطبيعة البشرية لا تتغير، ولا يمكن تجاوز سلبياتها.

وعبدالله يزعم أن الدولة العلمانية توحد بين الناس، رغم كل كلامه، عن استحالة هذه الوحدة.. وهذه الوحدة، عنده، تكون في مجال السياسة، وعلى حساب الأخلاق بالتحديد، اسمعه يقول: (بعبارة أخرى الدولة العلمانية قادرة على توحيد المجتمعات المتباينة عقائدياً، عملياً، في مجتمع سياسي واحد، لأن متطلباتها الأخلاقية، قليلة، ومحدودة، لذلك هي أقل عرضة لأن تكون مصدر اختلاف رئيسي بين المواطنين)..الصحافة 13 مايو 2008.. إن هذا قول يشبه عبدالله وطرحه!! ومعنى هذا القول، أن الأخلاق الرفيعة تؤدي إلى الاختلاف بين الناس، وهذا منطق معكوس، فأصل الأخلاق هو حسن المعاملة بين البشر، بالصورة التي تمكن من تجاوز كل الخلافات.. وفضيلة الدولة العلمانية، عند عبدالله، هي أن مطالبها الأخلاقية، قليلة ومحدودة!! وهذه ينبغي أن تكون قمة الرذيلة، لأي تفكير مستقيم!!

ثم هل قلة المطالب الأخلاقية، ومحدوديتها مدعاة للاتفاق، أم أساس للاختلاف والصراع؟! وهل كرامة الإنسان تتحقق بالسياسة، على حساب الأخلاق؟!.. وعبدالله يزعم أنه داعية ديني، فماذا يكون الدين إذا لم يكن حسن الخلق؟!

إن ربط عبدالله، الأخلاق بحقوق الإنسان، بكلام إنشائي، لا قيمة له، فهو يقول: (يمكن لمفهوم حقوق الإنسان أن يكون أداة قوية لحماية كرامة الانسان والترويج لرفاهية الأفراد في كل مكان، لقوته السياسية والأخلاقية العظيمة المستمدة من النفوذ الأخلاقي لهذه الحقوق بحكم الإجماع العالمي عليها. حقيقة أن هذه الحقوق توفر المثل الأعلى المشترك الذي ينبغي أن تبلغه كافة الشعوب وكافة الأمم).. علمانية الدولة ص 158..

ليس لمفهوم حقوق الإنسان قوة سياسية ولا قوة أخلاقية.. بل على العكس من ذلك تماماً هو يحتاج للقوة السياسية، والأخلاقية، وقبل ذلك يحتاج الى الإطار الذي يوحد الناس حوله.. وأكثر الدول دعوة لحقوق الانسان، هي أكثرها مفارقة لها، وذلك لأن السياسة تقوم على المصالح، وليس القيم.. بل الدفاع عن حقوق الإنسان، نفسه، يستغل للقيام بأعمال ضد حقوق الإنسان.. فحقوق الإنسان، كما هي في الميثاق العالمي، هي ليست دافعاً لأي شيء إيجابي، ولا يمكن أن تكون كذلك، ما لم تقم على أساس مشترك بين البشر.. وحقوق الإنسان، هي ليست فقط ما في الميثاق، وإنما هنالك حقوق أخرى، يختلف فيها الناس اختلافاً حاداً.. فمثلاً زواج المثليين، عند العديد من الغربيين، هو من حقوق الإنسان، وقد وافقت عليه الكنيسة، ومارسته، وهو عند المسلمين يمثل جريمة كبرى.. وقد تمت مناقشة الموضوع في كتاب (الإسلام ديمقراطي اشتراكي).. حقوق الإنسان اليوم، هي مجرد شعار.. وهو شعار يغلب عليه الجانب السياسي، أكثر من الجانب الأخلاقي.

وعبدالله متناقض أشد التناقض، فيما يتعلق بحقوق الانسان، وهذا ما سنتعرض له.

المهم، أن موقف عبدالله، من الأخلاق هو موقف سلبي تماماً، وهو في النهاية ضد الأخلاق، لأنه يصر على الطبيعة البشرية الفاسدة، حسب تصوره، ويصر على الواقع العلماني، وهو واقع يشكو من أزمة الأخلاق ولا يملك لها حلاً.

وحتى الوحدة السياسية، التي يزعمها عبدالله، للعلمانية، هي غير موجودة، بل عكسها هو الموجود، رغم سيادة العلمانية لوقت طويل.

نخلص الى أن موقف عبدالله من الدين، هو موقف سلبي تماماً، بل هو موقف هدام.. فتصوره لجميع قضايا الدين الأساسية، يقوم على خلل أساسي، وتشويه خطير، وهذه القضايا تشمل: التوحيد، والموقف من الألوهية، والقرآن، والنبي الكريم، والسنة، والشريعة، والدولة الدينية، والسلوك الديني ومنهاجه، والأخلاق والتربية.. وهذا ما عرضناه أعلاه.. فإذا قال عبدالله، رغم كل ذلك، أن منطلقه منطلق إسلامي، فقوله هذا إنْ هو إلا محض استخفاف بالعقول، وأولها عقله هو.

خالد الحاج عبدالمحمود

رفاعة في يوم 2/ اكتوبر/2011م


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.