تميّز جنوب السودان قبل استقلاله، ومقارنة بشماله، بخصوصية ذات أوجه عديدة، منها؛ تباين ألسنة ساكنيه، الذين ينحدرون من قبائل شتى، الود بينها مفقود تماماً، ومنها؛ تخلفه عن ركب الحضارة، الذي عمّ شمالي السودان بشكل نسبي. وهو بذلك، صار في زمن مضى، من حيث لا يدري، أداة للشر استخدمتها الإدارة البريطانية بالسودان ضد أهالي البلاد ذوي الثقافة العربية. وكيف ذلك؟ انتهج الاستعمار بواسطة الكنيسة، إحدى مؤسساته، منهجاً سيئاً للتبشير بالدين المسيحي ملأ به قلوب قاطني الجنوب كراهية لأهل الشمال الناطقين بلسان عربي مبين. ثم تطورت تلك البغضاء، فصارت حرباً مستمرة أذكى نارها في زماننا المعاصر آخرون في أوروبا وأذناب لهم في أفريقيا، أبرزهم "يوري موسفني" و"معمر القذافي"، عليهم لعنة التاريخ. ثم أدى واقع الأمر في ذلك الجزء الجنوبي إلى ميلاد دولة ذات سيادة خاصة به. وهي دولة، لا تزال يافعة، لم تشب عن الطوق بعد. وتحتاج، بالطبع، إلى معاونة جيرانها لتنهض بنفسها مما هي فيه من عجز ومسغبة، حتى يكون بوسعها مواكبة الحد الأدنى من التقدم. لذلك يتحتم عليها التعامل مع جارتها جمهورية السودان بسلام، بل ملاطفتها، لتبادلها محبةً بمحبة وحسنةً بمثلها، ولكنها بدلاً من ذلك، هرعت إلى منابع الشر تكيل منه لجارتها هذه. فمن ذلك أنها، من وراء ستار، تتلقى دعماً من إسرائيل تدعم به المتمردين في بعض مناطق جنوبي كردفان والنيل الأزرق، وتختلق أكاذيب لأربابها في أوربا وأمريكا تجعلها في موضع المظلوم لئلا تلام على تقصيرها في واجبها تجاه رعاياها المساكين. وهي بذلك تمارس الشر القديم على جارتها التي أعطتها حريتها وسبقت غيرها إلى الاعتراف بها. وبينما الأمور كذلك، اتخذ هذا الشر شكلاً غريباً حين أعلن "سيلفا كير" عن قراره اختيار القدس بدلاً من تل أبيب مقراً لسفارة دولته هناك، أي أنه اختار علاقة مع إسرائيل ذات بعد آخر. فهو بذلك، قد لبس جلد النمر ومدّ أظافره لحكومة الخرطوم التي لن تقف مقيّدة المعاصم، ولن تنظر إلى هذا الأمر كشأن داخلي سيادي بدولة جنوب السودان، وإنما ستضع في الاعتبار الأثر الذي سينجم عن ذلك. وبناءً عليه، يلزمها أن تتبنى سياسة خارجية معيّنة كوقاية للشر الذي يترقبها على طول حدودها الطويلة مع جارتها العجيبة، وأرى أن تكون هذه السياسة كما يلي: (أولاً) مقاطعة حكومة "سيلفا كير" اقتصادياً وسياسياً، فلا تجارة ولا مقايضة معها في سلع أو خدمات، بل لا تعاطف معها في المنظمات الإقليمية وغيرها. (ثانياً) تعضيد العلاقة مع مصر بإبرام اتفاقية دفاع مشترك معها وتعاون أمني عميق الغور، الأمر الذي يفضى إلى تعديل اتفاقية كامب ديفيد، وهذا ما تخافه إسرائيل وتتجنب حتى الكلام عنه. *** وأرى أن تستمر حكومة الخرطوم في هذه المقاطعة حتى تدرك حكومة جوبا أنها على خطأ، وحتى تنشأ في دواوين حكمها ومنظماتها ومجالسها وأروقتها السياسية معارضة ذات رأي آخر يناقض رأي حكومتها التافهة. فتقوم هذه المعارضة بتنوير شعبها بأن دولتهم الوليدة في حاجة ماسة إلى ما تُنبت أرض جمهورية السودان من بقلها وفومها وعدسها وبصلها، وبأن أي عزلة تُضرب حولها من قِبل جارتها هذه، سوف تنهكها وتجعلها دولة فاشلة مدى الدهر. عجباً! "سيلفا كير" صاحب البرنيطة المستوردة، لا يعنيه كم هو ثمن رطل السكر في جوبا ونمولي وغيرها من مدائن وأرياف دولته، ويتجاهل عمداً أن السكر لا تصنعه إسرائيل ولا يوغندا وكينيا، وإنما تصنعه جمهورية السودان. وهو بعلاقته الطيبة مع إسرائيل موطن الشر، قد جلب على شعبه عداءً مصدره دول عديدة أولها جارته العربية المجاورة له من ناحية الشمال، التي لا تعتدي على أية دولة، وإنما تحمي نفسها بالقوة إذا اضطرت لذلك. وختاماً، نقول: ليت "سلفا كير" يكف عن وقاحته وينزع عنه ثوب السوء الذي سربلته به "تل أبيب"، فإن فعل، فهو ذاك، وإن أبى واستكبر فسوف تبادله جمهورية السودان الشر بالشر.