تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    إقصاء الزعيم!    برشلونة: تشافي سيواصل تدريب الفريق بعد تراجعه عن قرار الرحيل    إيفرتون يصعق ليفربول بثنائية    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    السيسي: قصة كفاح المصريين من أجل سيناء ملحمة بطولة وفداء وتضحية    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    الحلم الذي لم يكتمل مع الزعيم؟!    الجيش يقصف مواقع الدعم في جبرة واللاجئين تدعو إلى وضع حد فوري لأعمال العنف العبثية    تشكيل وزاري جديد في السودان ومشاورات لاختيار رئيس وزراء مدني    أحلام تدعو بالشفاء العاجل لخادم الحرمين الشريفين    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    السودان..رصد 3″ طائرات درون" في مروي    البيت الأبيض: يجب على الصين السماح ببيع تطبيق تيك توك    دبابيس ودالشريف    كواسي إبياه سيعيد لكرتنا السودانيةهيبتها المفقودة،،    في أول تقسيمة رئيسية للمريخ..الأصفر يكسب الأحمر برعاية وتألق لافت لنجوم الشباب    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    فيديو.. مشاهد ملتقطة "بطائرة درون" توضح آثار الدمار والخراب بمنطقة أم درمان القديمة    وزير الخارجية المكلف يتسلم اوراق اعتماد سفير اوكرانيا لدى السودان    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. "دعامي" يظهر في أحضان حسناء عربية ويطالبها بالدعاء بأن ينصر الله "الجاهزية" على "الجيش" وساخرون: (دي بتكمل قروشك يا مسكين)    شاهد بالصورة والفيديو.. إعلامية مصرية حسناء تشارك في حفل سوداني بالقاهرة وتردد مع الفنانة إيلاف عبد العزيز أغنيتها الترند "مقادير" بصوت عذب وجميل    محمد وداعة يكتب: الامارات .. الشينة منكورة    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    عن ظاهرة الترامبية    مدير شرطة شمال دارفور يتفقد مصابي وجرحى العمليات    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    مدير شرطة محلية مروي يتفقد العمل بادارات المحلية    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    «الفضول» يُسقط «متعاطين» في فخ المخدرات عبر «رسائل مجهولة»    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قراءة نقدية.. حول تناقضات ..مواقف أبناء جبال النوبة -5-
نشر في سودانيل يوم 20 - 01 - 2010

قراءة نقدية.. حول تناقضات ..مواقف أبناء جبال النوبة.. وما يثار عن الهيمنة والتهميش.. من أجل البحث عن الحكمة الغائبة.. نحو وعى قومى جديد ضد التعصب
) 5 – 6)
بقلم/ آدم جمال أحمد – القاهرة
كما ذكرت في الحلقات السابقة والتي وعدت فيها القراء نواصل ......
خامساً: الأحزاب النوبية .. الصفوة والنخبة السياسية .. والمستقبل السياسى فى جبال النوبة:
إن مصادرة حق الإختلاف السياسى فى الرأى مع الأفكار التى يؤمن بها الآخرين جريمة إنسانية ولا سلطان لأحد عليها إذا أوعى هذا الدرس ليتوقف عنده قليلاً ، لأن ركوب الموجات السياسية أصبح أحد الموضات المميزة لعديد من الذين إحترفو العمل السياسى فى الأونة الأخيرة .. ولكن هذا الأسلوب يحتاج الى أرضية فكرية ثابتة تضع المعايير والأسس والخلفيات التى يمكن أن تسوعب الواقع ، وحتى لا تكون مجرد مرض من الأمراض النفسية الملازمة لبعض أساليب التقلب السياسى .. ولا سيما لقد عاشت الساحة السياسية النوبية أشكالاً مختلفة.
قناعتنا بأن هذه هذه اللحظات شائكة ومعقدة من تاريخ أمتنا .. يجب أن نفصل فيها القول فى كل الأحزاب النوبية والقيادات التى فشلت عملياً فى الممارسة السياسية لإرساء قواعد وأسس منهجية حتى لا نضطر للتعامل مع هياكل تنظيمية فارغة المحتوى والمضمون وشخصيات سياسية متطاحنة ، تسعى ليلها ونهارها للتنافس السلبى بإسم قضية جبال النوبة ، وتأتى بعد ذلك للحديث عن نضال النوبة ووحدته وعن مستقبل جبال النوبة .. فماذا أعدت ؟.
نحن بصددد الحديث عن صفحات تاريخ جبال النوبة السياسى .. الحديث فى بعض تفاصيلها الدقيقة فى الممارسة ، حتى تقل حدة المزايدة والبطولات الزائفة والتنظير العدمى الفارغ المحتوى وإحتراف المتاجرة السياسية .. والمساهمة فى قلب مسار بعض الأحداث المصيرية .. ونحن نعلم لقد فات على بعض هذه العناصر إن السياسة رسالة لها وصفها الذى يجد الإحترام إذا تمسكنا بالمصداقية والموضوعية ونأينا عن الأساليب الرخيصة بشتى مفاهيمها.
نشأة التنظيمات السياسية فى جبال النوبة:
ظلت قضية جبال النوبة تشكل إحدى الأجندة الحاضرة دوماً فى ملف السياسة السودانية ، وظلت مصطلحات ( النعرة العنصرية ، الأحزاب العنصرية ، الإنقلابات العنصرية ... إلخ ) مرتبطة الى حد كبير بهذه القضية بإعتبارها تمثل مصدر قلق دائم فى كل العهود والأزمنة ، فهى تأخذ أشكالاً تنظيمية قبلية واقليمية ( تنظيم الكتلة السوداء ، اتحاد عام جبال النوبة ، الحزب القومى السودانى ... إلخ ) ، ومنطقة جبال النوبة تشكل رقماً مهماً فى رصيد المقدرة القومية للدولة لموقعها الجغرافى فى قلب السودان.
تطورت الحركة السياسية فى جبال النوبة بعد تسريح أبناء النوبة من قوة دفاع السودان الذين أتيحت لهم الفرصة لزيارة أغلب مدن شمال ووسط السودان وشمال أفريقيا ، فشاهدوا التطور الاجتماعى وعندما عادوا وجدوا المئات من أبناء النوبة قد تخرجوا من المدارس الأولية والوسطى ، وبإلتقائهم بدأت الأفكار تتلاقح وبرزت قضية التحرر والمطالبة بالحقوق المدنية والاجتماعية ، وكان فى مقدمة هذه المطالب إلغاء الدقنية والسخرة.
وظهر جلياً الوعى الاجتماعى الذى تنامى وسط النوبة مما أصاب المستعمر بالهلع ، وقد كان يظن أنه فرض سيطرته عليهم بقانون المناطق المقفولة .. فلجأ المستعمر الى إعادة نظام الإدارة الأهلية وكسب ثقتهم بعد أن وضعت إعتبارات خاصة لهم ولأسرهم حتى لا يعيد التاريخ نفسه وتتكرر الثورات فى جبال النوبة ، وأطلقت يد رجال الإدارة الأهلية لمتابعة الصفوة المناوئين والبطش بهم وزجهم فى السجون ، ولكن رغم ذلك لم يتوقف النشاط خاصة بعد قيام مؤتمر جوبا 1947م وقيام الجمعية التشريعية ، إذ بدأت الاجتماعات تعقد داخل المنازل بأحياء المدن الكبيرة مثل الدلنج .. كادقلى .. تلودى .. الرشاد .. وكان النقاش يدور حول الظلم الاجتماعى والتحرر منه.
وعندما قامت الأحزاب السودانية لم تستوعب طاقات أبناء النوبة ، فقد كان حزب الأمة يعتمد على (البقارة) ، بينما إعتمد الحزب الوطنى الاتحادى على فئة التجار الوافدين الى المنطقة ، بينما كان أبناء النوبة يتلقون التعليمات من هؤلاء نيابة عن أحزابهم ، مما جعل أبناء النوبة يتخذون مواقف متطرفة من هذه الأحزاب التى لا تضم فى عضويتها وقياداتها أفراداً فاعلين من بينهم.
ومن خلال هذه التطورات وجد أبناء النوبة أنفسهم معزولين عن الحركة السياسية وهناك من يديرون شئونهم بالنيابة عنهم ، ولقد خلق هذا العزل شعوراً سيئاً فى أنفسهم ، بالرغم من أن حزب الأمة قد فاز فى أول إنتخابات بأغلبية المقاعد فى كل من دوائر لقاوة والمجلد والدلنج ودلامى وهيبان .. لأنه رفع شعار .. ( السودان للسودانيين ) الذى كان أقرب الى نفوس النوبة منه الى شعار الوحدة مع مصر، مقابل مقعدين فقط للحزب الاتحادى عن دائرة كادقلى ورشاد.
فى ظل تلك الأحداث ظهر على المسرح السياسى تنظيم الكتلة السوداء عام 1948م كأول تنظيم بالمنطقة يضم قبائل النوبة ، وكانت أفكاره تدور حول تطوير الخدمات وفتح آفاق التنمية فى منطقة جبال النوبة ، وكان على رأسه د. أدهم وأخرون ، ولم يلاقى التنظيم القبول لدى الرأى العام السودانى وبعض من أبناء النوبة.
وفى أول حكومة وطنية خرج أبناء النوبة منها صفر اليدين ، مما زاد من خيبة أملهم فى الأحزاب السياسية أنذاك ، إضافة الى أنه لم يعين أحداً من أبناء النوبة عند سودنة الوظائف .. وفى منتصف عام 1955م وبعد إلحاح شديد من نواب الحزب الوطنى الاتحادى تم إستيعاب أثنين من أبناء النوبة بدورة تدريبية للضباط الإداريين إستثناءاً وهما المرحوم كودى الدومة والأستاذ جبريل تية عبدالقادر ، وفى نفس العام عاد من مصر السير المك الزاكى الفكى على الميراوى .. يحمل موافقة مصر على بعثة قوامها ثلاثون طالباً من أبناء النوبة لتلقى التعليم الثانوى والجامعى بمصر ، ولكن بسقوط حكومة الأزهرى ألغى عبدالله خليل تلك البعثة مما أشعر أبناء النوبة بالغبن الشديد.
وبدأ الشعور بالإقليمية يتصاعد تدريجياً وكان عدم مشاركتهم فى الحكومة الوطنية عاملاً مؤثراً فى قيام حركة النوبة ، ففى رأيهم أن الحكومات الوطنية فشلت فى تحقيق الأهداف الوطنية والقومية لأنها إتبعت منهج الاستعمار فى التفكير السياسى ، مما جعل المثقف ( النوباوى ) يتحول تدريجياً بفكره الى خانة العداء السياسى للحكومات ، وبرز ذلك فى خطب محمود حسيب فى تلك الآيام حيث يقول ..( لقد كنا فى الماضى نضع ثقتنا فى أخواننا زعماء الأحزاب السياسية ولكن النتيجة فى هذا التجاهل وهذا التخلف الذى نشكو منه الآن ).
بعد ثورة إكتوبر 1964م نشأ إتحاد عام جبال النوبة بالخرطوم وقد شارك فى تأسيسه الأستاذ عطرون عطية ، عثمان عبدالنبى ، عبدالله حامد ، محمد حماد كوة وترأسه المرحوم محمود حسيب ، ولقد كان الاتحاد يحمل هموم ومشاكل أبناء جبال النوبة ، وبعد تكوينه رفع شعارات تطالب بتمثيل جبال النوبة فى البرلمان وكانت خطوة متقدمة فى حركة تضامن أبناء النوبة ، وفى عام 1965م أُتخذ قراراً بأن ينافس اتحاد عام جبال النوبة فى مقاعد البرلمان فى الاقليم ، ووجه جميع قواه لتنضم الى معركة الإنتخابات العامة فى تنظيم مستقل ، وكانت الظروف مواتية لصالح اتحاد عام جبال النوبة نسبة لليأس فى وسط جماهير النوبة من الأحزاب التقليدية ، والاتحاد أصبح يعبر عن آمالهم وتطلعاتهم مما جعله يفوز بثمانية مقاعد من جملة أربعة عشر مقعداً لجنوب كردفان ، وكان هؤلاء الأعضاء جمعياً من مناطق تمركز النوبة بجنوب وشمال وغرب الجبال .. وكان على رأس الفائزين الأب فيليب عباس غبوش الذى فاز بالدائرة ( 207 ) الدلنج وترأس فيما بعد الهيئة البرلمانية للاتحاد داخل البرلمان.
هذه النتائج جعلت الأحزاب التقليدية تقفد نفوذها فى المنطقة وبذلك قويت شوكة الاتحاد العام بإعتباره قوى جديدة فى الساحة السياسية ، ولقد ظل متكاملاً ذا قوة فعالة على المستويين القومى والمحلى معاً ، وإستمر الاتحاد فى المحافظة على الدعم والزخم الشعبى الذى أفرزته نتيجة الإنتخابات مما عمق الروابط ما بين الاتحاد وقواعده وظهر ذلك جلياً فى أول مؤتمر بكادقلى عام 1966م والذى حضره وفود كبيرة من أعضاء الاتحاد العام وطلاب جنوب كردفان بالجامعات والمعاهد العليا وعناصر قيادية من أبناء الاقاليم الجنوبية وكان هدف المؤتمر توعية المواطنين من خلال الأوراق التى قدمت ، أما المؤتمر الثانى للاتحاد فى مدينة الدلنج عام 1967م كان أقل شعبية وزخماً من المؤتمر الأول ، وذلك لنشوب الخلاف بين جناحى فيليب غبوش ومحمود حسيب ، كما إنسلخ ثلاثة من النواب التابعين للاتحاد وإنضموا الى حزب الأمة فى نفس ذلك العام.
لقد قاد الاتحاد حركة نشطة لإنشاء جمعيات تعاونية فى الاقليم ولعب دوراً هاماً فى علاج قضايا الناس اليومية ، وبذلك إستطاع إقامة منهج جديد فى تعاطى السياسة المحلية على مستوى المنطقة لم تشهد مثل ذلك من قبل ، مما جعل الحكومة تبادر بدفع الأحزاب السياسية الى الدخول فى نشاطات مكثفة بجبال النوبة للتقليل من قوة وتأثير جهود اتحاد عام جبال النوبة.
وفى مجال السياسة الوطنية فقد ظهر الاتحاد بجلاء ككتلة منسجمة من خلال نشاطات أعضائه داخل وخارج البرلمان لأنهم كانوا يتطلعون الى التمثيل الوزارى فى الحكومة ولكن الأمور لم تكن كذلك فأعلنوا إنضمامهم مباشرة الى المعارضة ، ومع ذلك فقد إستطاعوا إقناع المجلس بمعاملتهم كمجموعة متميزة إستطاعوا إظهار قضية جبال النوبة السياسية والاقتصادية والاجتماعية من خلال المنابر التى تيسرت لهم وعبر الندوات والصحف وغيرها ، ولكن لنشوب الخلاف فى عدم الإتفاق فى الأيدولوجية بين قياداته المتمثلة فى محمود حسيب وبعض عناصر النوبة المستعربة الذين كانوا ينادون بتعريف هوية السودان كدولة عربية افريقية وجناح الأب فيليب غبوش بتبنى السودان ذى الهوية الأفريقية ، هذا الخلاف أدى الى تضاؤل الاتحاد تدريجياً حتى ظهر ضعفه بوضوح فى عام 1967م عندما فاز أعضاؤه بثلاثة مقاعد فقط فى الإنتخابات العامة فى ذلك العام.
وعندما إستولت ثورة مايو على السلطة فى مايو 1969م خرج الأب فيليب غبوش مواصلاً المعارضة من خارج البلاد ، وظل يدعم خطه السياسى من الخارج حتى عام 1977 عندما دخل فى مصالحة وطنية مع نظام جعفر نميرى ضمن أحزاب المعارضة ، لكن نظام نميرى أوقف نشاط الأب فيليب السياسى أكثر من عامين وظلت تحركاته مرصودة من قبل أمن النظام حتى أعلن جهاز أمن الدولة عن تورطه فى محاولة إنقلابية عام 1984 وصفت بأنها ( عنصرية ) لإحتوائها على العناصر الزنجية ( السوداء ) من النوبة والجنوبيين ، وتم إعتقاله ومعه نائبه محمد حماد كوة ومن ثم العفو عنه فى المحاكمة الشهيرة ، أما الجناح الأخر الذى تزعمه محمود حسيب فقد لعب دوراً فى قيام ثورة مايو حيث ذكر أنه نقل الى قادة الإنقلاب مخطط الجناحين ( جناح الأب فيليب وجناح محمود ) للإستيلاء على السلطة فى البلاد مما جعل جعفر نميرى يستعجل تحركه ويسبق الجناحين ، فلذلك عين محمود حسيب وزيراً للمواصلات فى أول حكومة تم تشكيلها فى 1969م .. ( وهو أول منصب وزارى يناله النوبة ) ، ثم محافظاً لكردفان ومحافظاً لمديرية جنوب كردفان وأقيل لأسباب غامضة وصفت بأنها لأسباب صحية حتى تم إغتياله عام 1984م فى ظروف غامضة.
ثم بعد ذلك برز على الساحة السياسية تنظيم يسمى بمنظمة الشباب أو رابطة جبال النوبة أو حزب العمل وكان يعمل سراً فى عهد مايو ، وإنحصر نشاطه فى منطقة جبال النوبة بل فى ريفى كادقلى تحت قيادة المرحوم يوسف كوة مكى ، ومارس نشاطاً سياسياً ملحوظاً خلال فترة خدمته كمعلم أدى فوزه بتمثيل دائرة كادقلى فى مجلس الشعب الاقليمى ، وحزب العمل هذا لقد تعددت مسمياته فى مراحله المختلفة إلا أن أهدافه التى وصفت بالعنصرية ومعاداته للإسلام والعروبة والتى ما زالت محل خلاف عن صحة هذه الأقوال فلم تتغير كما وردت فى وثائق هذا التنظيم الذى أسسه يوسف كوة ، وهو الذى قاد عملية التمرد فى جبال النوبة وقرر إختيار أعضاء من التنظيم للإنضمام الى الحركة الشعبية لتحرير السودان.
وبعد الإنتفاضة إنضم حزب العمل وغالبية مثقفى اتحاد عام جبال النوبة الى الحزب القومى السودانى لتطابق أهدافهما الذى تأسس فى عام 1985م ، وجاء تكوين الحزب القومى السودانى فى المؤتمر العام لاتحاد عام جبال النوبة الذى قرر تحوله الى حزب قومى سودانى يضم كافة المواطنين وتوسيع نشاطه ، وإعتبار جميع أعضاء اللجنة التنفيذية لاتحاد عام جبال النوبة مؤسسين وأعضاء فى المكتب السياسى .. ( 41 ) عضواً منهم ( 18 ) عضواً من أعضاء اللجنة التنفيذية للاتحاد العام وبقية الأعضاء تم إنتخابهم بواسطة المكتب التنفيذى الذى تكون من رؤساء اللجان المركزية بالعاصمة القومية.
مسيرة الحزب القومى السودانى ودوره فى الحياة السياسية فى السودان:
تأسس الحزب القومى السودانى عقب الانتفاضة فى أبريل 1985م وكان ذلك نتيجة لوجود أطروحات وهموم متشابهة حول مشاكل السودان لكثير من القوى التى كانت متشابهة فى الساحة السياسية السودانية فيما يتعلق بالمناطق المهمشة وقوى الريف وكثير من الشخصيات المستقلة ذات الوزن والثقل والتى لها رؤاها ، وكانت محاولة واضحة وصريحة للخروج بأبناء النوبة من القضايا المحلية الى التصدى لقضايا السودان بإعتبار أنهم السكان الأصليون فيه ، وفتحت عضوية الحزب لكل أبناء السودان وكان شعار الحزب أو ميثاقه ( الله والوطن ).
لقد تجمعت هذه القوى من مختلف أنحاء السودان وكان على رأسها اتحاد عام جبال النوبة فى تشكيل واحد وهذا ما أكسب الحزب القومى السودانى فيما بعد صبغة القومية كحزب لكافة أبناء السودان ، ويعتبر الحزب السودانى الوحيد الذى يضم فى عضويته كل السودانيين بمختلف جهاتهم أى بغض النظر عن أديانهم أو قبائلهم أو ألوانهم وله مراكز ثقل ونفوذ ينطلق منها فى جبال النوبة وجنوب كردفان بصفة خاصة ، حيث نجد أن حوالى 90% من سكان مناطق جبال النوبة هم معتنقوا مبادئ الحزب القومى السودانى ، إلا أن جماهير الحزب ورؤاها لها وجودها فى كل السودان بشكل واضح وحتى على مستوى قيادة الحزب ، فعلى سبيل المثال السكرتير العام للحزب القومى كان من أبناء دارفور والمسئول المالى من أبناء الكاملين وإدوارد لينو المسئول الكبير بالحركة الشعبية كان عضواً بالحزب القومى وكان ممثلاً له فى دائرة الفيتحاب فالحزب يحمل إسماً مطابقاً لمسماه.
فالحزب القومى يعتبر من أفقر الأحزاب السودانية مالياً إلا أنه غنى بجماهيره والشاهد على ذلك فترة الديمقراطية الثالثة فى إنتخابات 1986م التى خاضها الحزب ، كانت حصيلته ثمانية دوائر جغرافية .. سبع دائرة فى جنوب كردفان ودائرة فى قلب العاصمة القومية والتى فاز بها الأب فيليب غبوش وكان رئيس الحزب الوحيد الذى فاز فى العاصمة القومية بمنطقة الحاج يوسف وفى دائرة هو ليس منها ولا تربطه صلة بها ، وبذلك إحتل مرشحو الحزب القومى المركز الثانى فى ( 17 ) دائرة والمركز الثالث فى حوالى ( 32 ) دائرة ، حتى حققوا الشعار الذى كان يرفعه ويردده الجماهير ( أصحاب الملاليم غلبوا أصحاب الملايين ) ، لأنهم إعتمدوا على مواردهم الذاتية فى التمويل والدعاية الإنتخابية ، وبذلك دخل الحزب القومى الجمعية التأسيسية بثمانية نواب برلمانيين ، ولكن بعد ذلك حدث إنشقاق بقيادة ستة نواب داخل الحزب القومى ودب الخلاف وسطه حيث إنشق عدد من قادة الحزب ونوابه عن قيادة الأب فيليب غبوش وكونوا كتلة أخرى برئاسة محمد حماد كوة وعضوية إثنين من النواب هما بشير فلين ومحمد أبوعنجة وسموا أنفسهم القيادة الجماعية ، وذلك فى الاجتماع الذى عقد بدار أساتذة جامعة الخرطوم فى 19 نوفمبر 1987م ، وكان غبوش قد إختار قبل ذلك حسن الماحى نائباً لرئيس الحزب وسالم على عيسى مساعداً لرئيس الحزب ، السبب الذى أدى الى التذمر .. إضافة الى تكوينه لجنة إستشارية سباعية إعتبرها المنشقون إلغاءاً وتهميشاً لدور المكتب السياسى والهيئة البرلمانية ، بالإضافة الى إتهام الجانب الأخر للأب فيليب بالدكتاتورية ومصادرة الرأى فى الحزب لنفسه مما أدى الى حدوث الإنشقاق ، وظل الأب غبوش ونائب أخر فى الحزب القومى .. وبعد تشكيل الوزارة فى حكومة الوفاق الوطنى تم التحاور معهم وإختير أمين بشير فلين ليكون أول وزيراً عن جبال النوبة فى عهد الحكومة الديمقراطية الثالثة ، ومكث لمدة عام ونصف بالوزارة ثم خلفه الأستاذ محمد حماد كوة فى وزارة السياحة والفنادق ( وزارة مركزية مستحدثة ) ، ثم بعد ذلك عاد أربعة من النواب الى الحزب القديم.
ولكن إستمر مسلسل الإنقسامات وتفاقمت الخلافات داخل الحزب القومى السودانى مما أدى الى ظهور عدد من التيارات تحمل إسم الحزب القومى بقيادة الأب فيليب الذى تحالف مع حكومة البشير وتم تسجيله تحت مظلة التوالى السياسى ، والحزب القومى السودانى بقيادة البروفيسور الأمين حمودة والذى خاض المعارضة بالخارج والداخل بصورة قوية جداً وفرض نفسه على الساحة السياسية والتجمع الوطنى ، والحزب القومى القيادة الجماعية بقيادة محمد حماد كوة والذى خاض المعارضة بالداخل ضد النظام ووقع على المذكرة الأخيرة التى قدمت الى الرئيس عمر البشير.
أما فى الخارج بدأ عمل الحزب القومى السودانى بداية متعثرة وبدأت مسيرته عن طريق منير شيخ الدين وهو لم يكن من المكتب القيادى للحزب فى الداخل ، ولكنه جاء من الداخل ومثل الحزب القومى وخطى به خطوات مفيدة .. حيث ساهم فى عكس القضية النوبية الى الرأى العام والمجتمع الدولى ، لكنه إنسحب من اللجنة الإستشارية للتجمع الوطنى فى عام 1992م وكون جسماً أخراً مع مجموعة منشقة من الأحزاب الأخرى وأطلقوا على أنفسهم بالقوى الجديدة ، والذى تحول فيما بعد الى الحزب القومى الديمقراطى والذى لم يعلن عن تسجيله ضمن الأحزاب المعارضة بالخارج أو من ضمن أحزاب التوالى السياسى أو المعارضة من الداخل للنظام ، ثم إختفى ولم يظهر على السطح إلا بعد أن توحدت الأحزاب النوبية الأربعة فى مؤتمر ( كاودا ) بفترة طويلة أى من خلال حرب البيانات التى برزت على السطح مؤخراً.
دور الصفوة والنخب السياسية والمتعلمين والقيادات فى جبال النوبة:
لا مساغ لنكران دور بعض الصفوة أو النخبة من المتعلمين وقيادات النوبة فى صنع الأمجاد فى تاريخ النضال النوبى ، إلا أن هذه الصفوة بنفس القدر مسئولة عن كل ما أصاب جبال النوبة من فشل وبلاء وإرزاء ، وما أكثر ما تساهمته الصفوة من الفشل الذى لازم أبناء المنطقة من السياسيين الذين أهدروا حقوق المواطنين فى التمثيل سواء كانوا فى مناصب سيادية أو مواقع لإتخاذ القرار أو داخل مجلس برلمانى أو تشريعى أو تنفيذى ، أما بالعزلة المرسومة حولهم أو بالخوف القسرى الذى يلازمهم حتى لا يفقدوا مواقعهم أو بالضعف والهشاشة التى لازمتهم طوال مسيرة عملهم .. لأن معظم الذين مثلوا النوبة فى مواقع سيادية ( وزارية ) كانوا من القيادات الهشة والضعيفة ، لا يستطيعون أن يقدموا أى خدمة لمناطقهم تذكر خوفاً من وصمهم بالعنصرية أو الجهوية ، ومن حاول وتجرأ كان مصيره العزلة الطويلة الضاربة بأطنابها من الجهات التى نصبته بل القيام بعزله وإقصائه.
ولا مساغ أيضاً للإدعاء بأن المسئولية عن كل هذه الأزراء تقع على النخبة القائدة من أهل السياسة وحدها ( رجالات الأحزاب السياسية ) .. التقليدية منها والمستحدثة .. حول التطور المضطرب للسياسة فى جبال النوبة ، وأى تحليل لدور هذه النخبة ومسئوليتها عن الاختباط السياسى والتشويش الفكرى التى عانت وما زالت تعانى منها جبال النوبة على إختلاف المنابت الفكرية لهؤلاء النخبويين بالخيبة والفشل حتى أصبحنا من مدمنى الفشل فى كل خطواتنا ومساعينا ، وتعود الأزمة النخبوية فى جوانبها الفكرية الى تصدع الذات والذى يقود بطبعه الى فجوة بين الفكر والممارسة .. بين ما يقول المرء وما يفعل .. بين التصالح مع الواقع السلبى والتخبط فى الأداء أياً كان نوع البزة التى يرتديها النخبوى بوعى أو بدون وعى .. وقد ظل هؤلاء النخب السياسية يتجنبون مناقشة نقطة هامة هى إنعدام الثقة المتبادلة بين القيادات أنفسهم .. فالثقة يجب أن تأتى فى المقام الأول بالتصدى الواعى فى التفهم التام لكل المشاكل موضع الخلاف والمسببات الساسية للنزاع ، فيما ذلك فمن السهل على أى من هذه الرموز والقيادات الحزبية أن تواصل كفاحها بأجندتها الخاصة فى تأسيس كيانات وتنظيمات خاصة بها تجد فيها قناعاتها وآمالها .. وهذا ما حدث للبعض منها.
ومن خلال هذا السرد لا بد أن أشير بأن الساحة السياسية النوبية بدأت تشهد الآن حركة رجوع العرقيات وظاهرة المجموعات الإثنية السياسية واالتقوقع الجهوى والتخندق القبلى وسط تجمعاتنا النوبية من أحزاب وروابط بمختلف مسمياتها ، وما نخشاه قد تصبح نموذجاً تحتذى به كثير من العرقيات الإثنية وتؤدى الى إستشراء الجهويات التى تشكل خطراً ماثلاً على وحدة الصف النوبى ومصير القضية النوبية ، والظروف حبلى بالخطر وقابلة للإنفجار .. وأبرز دلائل هذا الإنبعاث العرقى الإثنى الجهوى هو الهجوم الذى قادته بعض الجماعات والأفراد فى ردها عبر البيانات والمقالات المختلفة نجد أن طابعها أخذت منهجية الفكر التكتلى الإثنى بدلاً عن منهجية الفكر المتجاوز للحدود العرقية والإثنية ، التى يجب أن تقوم عليها وحدة عموم النوبة بالرغم أن هناك تفكير للبوتقة الإثنية الموجهة للسياسة يقودها بعض الأفراد فى المجتمع النوبى ، والتى يمكن أن تكون مدخلاً لتوجيه الساسية فى مستقبل جبال النوبة ، وإلا سينشطر ويتقطع أوصال الجسد النوبى بما فيه من كيانات وإثنيات.
ولا نريد أن نستعجل الأمور .. ولكن قراءة واقع الخارطة للساحة السياسية النوبية تفوح منها هذه السيناريوهات .. وهذا يقودنا فى الحلقة القادمة والأخيرة إنشاء الله والتى نختم فيها حلقاتنا الست بالحديث عن الحزب القومى السودانى ومسيرته فى مواجهة التحديات .. والتساؤلات من نحن وماذا نريد كنوبة ؟!...


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.