تأخير السؤال لا يلغى مشروعيته... لماذا لم يتبرع قادة الأحزاب الشمالية المعارضة ليبرروا لنا أسباب نكوصهم عن عهدهم الذى عاهدونا فى مؤتمر جوبا بأن يقاطعوا الإنتخابات إن لم يستجاب لمطالبهم و على رأسها حل مشكلة دارفور و تعديل القوانين المقيدة للحريات؟ انتهت المهلتين اللتين أمهلوهما حكومة الإنقاذ فى الثلاثين من نوفمبر و السابع من ديسمبر و لم تبدى حكومة الإنقاذ مجرد التفاتة لهذه المطالب التى تبدوا عادلة و منطقية، بل سفهها عرَابها النافع و استمر النظام فى غيه و جبروته ليضرب مسيرة الاثنين السلمية و يعتقل قادتها مؤكدا أن القوانين ستظل سارية المفعول و لو كره المعارضون. توالت قيادات الأحزاب الواحدة تلو الأخرى و بصورة مستفزة لقواعدها بالتملص من التزامها الذى تعهدت به و وقعت عليه دون أن تصدر حتى بيانا أو مذكرة تعلن فيها لهذه الجماهير و التى استبشرت خيرا بتوحد المعارضة، بعدم جدوى تلك المقررات التى وقعت عليها فى جوبا. و حتى على مستوى الأفراد و عندما أعلنوا مشاركتهم فى الأنتخابات لم يتبرع واحد منهم بالإشارة الى التزامه السابق بجوبا مبينا ما استجد من أحداث أدت الى هذا الإنحراف فى المواقف، ما يؤكد استخفاف هذه القيادات بعقول و مشاعر مسانديها. و قد اختُتم هذا الهرج و المرج السياسى باجتماع لما سمى بقوى الإجماع الوطنى شاركت فيه الحركة الشعبية بمحادثة تلفونية، و غادره الترابى قبل ان ينتهى، و صرح منظمه السيد فاروق أبوعيسى أنه لا يفهم عن ماذا أسفر هذا الإجتماع. هذا الضعف و الهوان الذى تعانيه الأحزاب السياسية الشمالية و فى غمرة تخبطها أدى بها الى الحيرة و الى هذا الهذيان و الذى أهم أعراضه ما يلى: - تتحدث هذه القيادات و بصوت و احد تردده كل يوم بأن هنالك تزوير فى كل شئ يتعلق بهذه الإنتخابات خاصة فى عمليات التسجيل التى تمت، و لكنها لا تتبع هذه التصريحات بمواجهات و تحديات أو حتى محاولات جادة توقف هذا التزوير و تعيد الأمور الى نصابها، و بقبولها الخوض فى الإنتخابات فان ذلك يعنى أن هذا التزوير لا قيمة له بالنسبة لها و بالتالى لن ينفعها قميصا لعثمان بعد السقوط المحتوم لهذه القيادات فى الإنتخابات القادمة، و لن يجدى وقتها التباكى على التزوير و قد سبق السيف العزل. - لم تداهم حمى الإنتخابات أى من قادة الأحزاب الشمالية و قد قضوا فترة التسجيل اما متجولين خارح البلاد فى غيرما هدف و اما منشغلين فى الداخل باجتماعات لا عائد منها أو مهتمون بمؤتمرات لا يلتزمون بقراراتها. و رغم ضعف امكاناتهم المادية و اللوجستيكية الا أنهم لم يولوا عملية التسجيل أى اعتبار يذكر و تركوا ساحتها للمؤتمر الوطنى الذى حشد مؤيديه و غيرهم فى القوائم. فأى سند جماهيرى يعتمدونه فى خوضهم لهذه الإنتخابات. - الوضع المالى المتردى للأحزاب الشمالية اذا استثنينا الحزبين اللذين كانا كبيرين الأمة و الإتحادى و فيهما تعتبر مالية الحزب التى تعتمد الجباية من البسطاء و ما يتصدق به نظام الإنقاذ مالية خاصة بالسيدين، هذا الوضع لا يؤهل هذه الأحزاب لخوض انتخابات حتى داخل الخرطوم ناهيك عن أطراف السودان المترامية. و انصراف الجماهير عن هذه الأحزاب لضعفها هو السبب وراء افلاسها. - ما يؤكد حالة الهذيان التى تعانيها هذه الأحزاب، تقديمها و فى طبق من ذهب و عن طواعية مدهشة المشروعية لنظام الإنقاذ و التى افتقدها خلال العشرين عاما الماضية من حكمه، لتشاركه انتخابات يخرج فيها فائزا فى مناخ لا يمتّ للديمقراطية بصلة فيبقى فى سدة الحكم الى ما شاء الله كما سنوضح لاحقا. - كان من المتوقع أن ائتلاف جوبا سيؤدى الى الإتفاق حول مرشح واحد يعمل الإئتلاف على فوزه كما حدث فى دائرة الصحافة، لكن يبدو ان نرجسية القادة أبت الا أن تكون الحاسم فى هذا الأمر و لو من باب المشاركة فى هذا الحدث التاريخى و قد يكون الأخير فى حياتهم، و الترشيح لرئاسة الجمهورية قد أصبح عودهم الأخير من دار أبيهم التى خرُبت. هذا الهذيان الذى تعانى منه هذه الأحزاب الشمالية هو حالة تسبق الإحتضار ثم الوفاة، و التى ستُحرر شهادتها خلال الخمس أو العشرة سنوات القادمة، و قد سبقتهم فى ذلك الأحزاب المصرية العريقة و التى نشأت بالوطنى عام 1907 على يد مصطفى كامل ليتبعه من بعد الأمة و الوفد و الأحرار و الدستوريون و غيرهم، و قد كانت لهم صولات و جولات فى مناهضة الإستعمار و القصر الملكى، فاستحوذ الوفد و قائده سعد زغلول على قلوب الملايين من الشعب المصرى. انتهى مجد هذه الأحزاب فى ظل الشمولية منذ أمد ليس بالقريب و قد تحولت أشلاؤها اليوم الى محاضن للأحزاب اليمينية المتطرفة و لا أثر لها فى الحياة السياسية بعد أن أسلمت أمرها للحزب الوطنى كما ستسّلم أحزابنا أمرها للمؤتمر الوطنى. المتتبع لتاريخ التجمع الوطنى الديمقراطى و الذى نشأ فى 21 أكتوبر 1989 جامعا فى عضويته كل المعارضة من أحزاب سياسية و جيش وطنى و نقابات و اتحادات و شخصيات و طنية لإزالة نظام الجبهة الإسلامية، المتتبع لهذا التاريخ يلحظ التنقل المطرد من ضعيف الى أضعف طوال مسيرة هذا التنظيم. بدأ الضعف فى العام 1995 بانشقاق المرحوم زين العابدين الهندى عن الإتحادى الديمقراطى و انضمامه لنظام الخرطوم، و فى نفس العام خرج الخاتم عدلان من الحزب الشيوعى و ان لم تكن الحادثتين مصدر اضعاف الا أنهما كانتا محبطتين. و تلى ذلك فى 1999 خروج حزب ألأمة من التجمع الوطنى الديمقراطى بعد اتفاق جيبوتى الذى وقعه الحزب مع الترابى. و فى العام 2002 قاد مبارك الفاضل انشقاقا داخل الحزب أدى الى انضمامه لحكومة الإنقاذ و التى لفظته بدورها بعد أن حسب نفسه شريكا و أبقت على مناصريه، و هى نفس الطريقة التى مورست مع الهندى من قبل. واصل التجمع مشوار ضعفه و قد تركته الحركة الشعبية الى نيفاشا و تركت له شعرة لمعاوية لا يملك القدرة على شدّها، و لم تكلف الحركة نفسها بالإصرار على مشاركة التجمع فى المحادثات و قد أحست ضعفه و عدم قدرته على منازلة العدو المشترك. و استمر مسلسل الضعف حتى وُقعت نيفاشا و لم يجد التجمع الحزبى مخرجا غير الإستسلام باتفاقية القاهرة فى 15 يناير 2005 و التى لم يحقق كغيرها من الإتفاقات شيئا غير تواجد رمزى فى الحكومة و المجلس الوطنى. عادت القيادات الحزبية الى الخرطوم بعد الإتفاقية مجرّدة من كوادرها المدربة التى تعتمدها فى العمل السياسى. هذه الكوادر الحزبية الشابة و التى تطّلع بالحراك السياسى اليومى من اصدار للصحف و المنشورات و توزيعها، و من الدعوة و التحضير و المشاركة فى الندوات العامة و المظاهرات، و متابعة التسجيل و التصويت فى الإنتخابات و أهم من ذلك كله اعداد و تجنيد كوادر جديدة للحزب، قد تخلفت عن الحضور مع قادة الأحزاب. كانت هذه الكوادر الحزبية النشطة قد لحقت بقادتها الى الخارج بعد انقلاب الجبهة الإسلامية فى يونيو 1996 و تحديدا الى قاهرة المعز. و عندما ضاق بأفرادها العيش فى القاهرة و عجز قادتها عن اسعافها اما ضيقا فى اليد أو سعة يحكمها تقتير، استعانوا بالأمم المتحدة و التى وفرت لهم الهجرة الى أصقاع الأرض النائية. فغادرت هذه الكوادر الشابة و الدينمو المحرك لهذه الأحزاب القاهرة مهاجرة الى كندا و استراليا و أمريكا و معظم الدول الأوربية و بمباركة من قادة أحزابها و الذين لعجزهم لم يتنبؤوا و لم يستبشروا عودا قريبا للسودان. استقرت هذه الكوادر فى أرض المهاجر استقرارا و كما اتضح لاحقا لا رجعة منه، و قد اقاموا فى هذه الدول و زاولوا فيها اعمالا و تجنسوا بجنسياتها و تمتعوا بحرياتها. و معظم محاولات العودة للإستقرار بالسودان باءت بالفشل لأسباب عدة، أهمها الظروف المعيشية الصعبة فى السودان و عدم القدرة على المواكبة مع حكومة الإنقاذ القابضة على مصادر الرزق، و سبب آخر أنهم أنجبوا أطفالا هم فى واقع الأمر ينتمون الى البلاد التى ولدوا فيها ثقافة و لغة و عادات، و احتمال عودة هذه الأجيال الجديدة للعيش فى السودان بظروفه الصعبة و المختلفة عن ما اعتادوا عليه دونه خرط القتاد. نخلص الى أن القيادات للأحزاب الشمالية مد الله فى أيامها قد رجعت الى الخرطوم و هى لا تملك سندا جماهيرا حقيقيا الا من بعض الذين فاقت أعمارهم الخمس و أربعين عاما فى بلد متوسط الأعمار فيه ثمان و خمسون عاما حسب آخر احصاء للأمم المتحدة. فالذين ولدوا فى بداية الإنقاذ و حتى الذين بلغت أعمارهم الخامسة عشر عاما و لصغر سنهم آنذاك لم يتمتعوا بوعى سياسى يؤهلهم للإنخراط فى هذه الأحزاب، و قد أصبحوا بعد عودة قيادات الأحزاب لمزاولة عملها السياسى فى السودان صبيانا فى العشرين من أعمارهم أو رجالا فى الخامسة و الثلاثين، و لم يسمع أغلبهم الا لماما عن هذه الأحزاب و لا يعرفون لها برنامجا و كما لم يتعرفوا بقادتها و لم يسمعوا لهم رأيا أو خطابا. و السبب كما هو معروف أن الوصال بين هذه الأجيال و الأحزاب السياسية التى جعلت من القاهرة مسرحا لنشاطها، كان ضعيفا ان لم يكن معدوما خلال غيابها عن السودان، ساعد على ذلك الوضع الشمولى القامع فى البلاد. كما أن الإنقاذ و بقسرها لهذا الجيل على الإنخراط فى جيشها الشعبى و غياب المناخ الثقافى و السياسى المعافى دفع بمن أقاموا فى المدائن الى البحث عن متنفس آخر وجدوه فى مباريات كرة القدم العالمية و الأغانى العربية و فى مصطلحات استجدوها فى لغة خطابهم الى جانب مساجلات الإنترنيت لمن توفرت لهم امكاناته. و من المؤكد أن انتقال لاعب من فريق اسبانى الى آخر ايطالى يشد انتباههم أكثر من انتقال السيد الميرغنى الى داخل البلاد، أو أن لقاء تلفزيونى مع الفنانة نانسى عجرم يعنيهم ألف مرة من لقاء صحفى مع السيد الصادق. أما فى الأرياف فشظف العيش الناتج من التهميش قد حال دون مشاركة هذا الجيل فى أى عمل سياسى غير التمرد الذى وجد فيه قطاع كبير منهم متنفسا للغبن الذى لازم حياتهم من أولها. هؤلاء الشباب ما بين العشرين (و قد نشأوا فى كنف الإنقاذ) و الخمس و ثلاثين (و قد شبوا فى عهدها) يمثلون الأغلبية العظمى من الناخبين المنوط بهم الإطلاع بهموم الإنتخابات و حسم نتائجها، لكنهم لا يلونها أى قدر من الإهتمام و إن فعلوا فمن باب "جناً تعرفو" و ذلكم أضعف الإيمان. من المؤكد أن الذنب ليس ذنبهم و لكنه ذنب الكبار و الذين هم اما طاغية لا يملك الا قهرهم و اما قائد حزبى معارض لا حول له و لا قوة. من المؤكد أن نتيجة الإنتخابات ستكون مخيبة للآمال، و سيتولى المؤتمر الوطنى أمر البلاد و بغالبية مطلقة كانت حقيقية أم لا، و تُطلق يده فى المال العام فتتضاعف ميزانية الأمن و معها يتضاعف القهر و تتحول الأحزاب الشمالية فى غياب كوادرها المدربة و غياب القاعدة التى تعرفها بعد فجوة العشرين عاما و غياب الحركة الشعبية بانفصال الجنوب، فتتحول بدورها الى أشلاء بعد الخمس سنوات الأولى من حكم المؤتمر الوطنى و بعد الخمسة الثاتية و الثالثة تتحول الى مجرد ذكريات أشبه بتلك التى يحكيها الناس عن حزب الوفد المصرى. يستمر هذا الحال حتى يأذن الله بقائد وطنى مجرّد و ملهم و له من الكارزما و البرنامج الواضح ما يمكنه من ملامسة شغاف القلوب لهذا الشعب الأبى الوفى، فينقله الى مرافىء الحرية و العدل و الديمقراطية الحقّة... اللهم عجّل بابتعاثه، آمين.