شهود عيان يؤكدون عبور مئات السيارات للعاصمة أنجمينا قادمة من الكاميرون ومتجهة نحو غرب دارفور – فيديو    الغرب "يضغط" على الإمارات واحتمال فرض عقوبات عليها    دورتموند يسقط باريس بهدف فولكروج.. ويؤجل الحسم لحديقة الأمراء    وزارة الخارجية تنعي السفير عثمان درار    العقاد والمسيح والحب    واشنطن: دول في المنطقة تحاول صب الزيت على النار في السودان    شاهد بالفيديو.. حسناء السوشيال ميديا السودانية "لوشي" تغني أغنية الفنان محمد حماقي و "اللوايشة" يتغزلون فيها ويشبهونها بالممثلة المصرية ياسمين عبد العزيز    شاهد بالصور.. المودل والممثلة السودانية الحسناء هديل إسماعيل تشعل مواقع التواصل بإطلالة مثيرة بأزياء قوات العمل الخاص    شاهد بالصورة والفيديو.. نجم "التيك توك" السوداني وأحد مناصري قوات الدعم السريع نادر الهلباوي يخطف الأضواء بمقطع مثير مع حسناء "هندية" فائقة الجمال    شاهد بالفيديو.. الناشط السوداني الشهير "الشكري": (كنت بحب واحدة قريبتنا تشبه لوشي لمن كانت سمحة لكن شميتها وكرهتها بسبب هذا الموقف)    محمد وداعة يكتب: الروس .. فى السودان    مؤسس باينانس.. الملياردير «سي زي» يدخل التاريخ من بوابة السجن الأمريكي    «الذكاء الاصطناعي» بصياغة أمريكية إماراتية!    الموارد المعدنية وحكومة سنار تبحثان استخراج المعادن بالولاية    طبيب مصري يحسم الجدل ويكشف السبب الحقيقي لوفاة الرئيس المخلوع محمد مرسي    "الجنائية الدولية" و"العدل الدولية".. ما الفرق بين المحكمتين؟    الى قيادة الدولة، وزير الخارجية، مندوب السودان الحارث    السودان..اعتقال"آدم إسحق"    فلوران لم يخلق من فسيخ النهضة شربات    رئيس نادي المريخ : وقوفنا خلف القوات المسلحة وقائدها أمر طبيعي وواجب وطني    المنتخب يتدرب وياسر مزمل ينضم للمعسكر    عائشة الماجدي: دارفور عروس السودان    لأول مرة منذ 10 أعوام.. اجتماع لجنة التعاون الاقتصادي بين الإمارات وإيران    فينيسيوس يقود ريال مدريد لتعادل ثمين أمام البايرن    والي الخرطوم يدشن استئناف البنك الزراعي    دولة إفريقية تصدر "أحدث عملة في العالم"    أول حكم على ترامب في قضية "الممثلة الإباحية"    بعد اتهام أطباء بوفاته.. تقرير طبي يفجر مفاجأة عن مارادونا    تعويضاً لرجل سبّته امرأة.. 2000 درهم    الحراك الطلابي الأمريكي    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الثلاثاء    أنشيلوتي: لا للانتقام.. وهذا رأيي في توخيل    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    بعد أزمة كلوب.. صلاح يصدم الأندية السعودية    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ومضةٌ من سيرةِ الأم شَجاعة: وغزلت خنساءُ قصيدَتها بأحُرفٍ من ثباتٍ ونارٍ ونور .. بقلم: عبد الجبار عبد الله
نشر في سودانيل يوم 16 - 09 - 2017


"يا صباحَ الخيرِ كم أوحشتنا
يا مساءَ الخيرِ تُشجيكَ المنازل
لم يعُد للنبعِ غيرَ المنحنى
أرهفَ القلبَ على نبضِ المناجل
ما المنايا؟ إنها أقدارُنا
وامتدادُ البحرِ أحضانُ السواحل
لا ألومُ الدمعَ إن هامت به
وحشةُ النخلِ وأحلامُ البلابل
لا ألومُ الليلَ والنجمُ هوَى
يعتلى الفجرُ المتاريسَ الجنادل"
(جيلي عبد الرحمن - من رثائيات شهداء 19 يوليو 1971(
وها قد حلّت علينا ذكرى يوليو 1971 بشلالات دمائها وآلامها وبكل ما تثيره من أسئلة وجدل ونقاش يمور داخل الحزب الشيوعي وخارجه . غير أن ما جال بخاطري هذه المرة، التعليق على الكتابة الصادمة التي نشرها عبر وسائط التواصل الاجتماعي الزميل والصديق الفنان التشكيلي عبد المنعم الريح، مقترنا بتعليق رصين للأستاذة منى عابدين - ابنة سفير السودان المعروف حينها في لندن - والموثَّق موقفه وإدانته على رؤوس الأشهاد وأمام عدسات الكاميرا لاختطاف الطائرة التي كانت تقل الشهيدين بابكر النور وفاروق حمد الله أثناء توجههما إلى السودان. وغنيٌّ عن القول أن ذلك الموقف الشجاع قد كلّفه ثمناً غالياً ليس أقله السجن والفصل من الوظيفة.
لقد صُعقت وأنا أقرأ سلسلة التعليقات الثلاثة التي كتبها عبد المنعم الريح على شريط فيديو توثيقي عن 19 يوليو من إعداد الأستاذ عدلان عبد العزيز تجدونه في الرابط أدناه:
http://sudan-forall.org/forum/viewtopic.php?t=9420&sid=f9657ac55a874d610ca869049b7643a7
جاء عنوان التعليق:
"رداً علي الفيديو الذي أعدَّه المسخ اسحق فضل الله بالاتفاق مع الخنساء رفيقة الشهيد بابكر النور له الرحمة" .
وخُتم بعبارة "نيابة عن أسرة عابدين اسماعيل".
وما بين العنوان و ذاك التوقيع سيلٌ من الشتائم والتجريح الشخصي الذي لا يليق، لا بأدب الحوار في مسائل عامة ما برحت محل جدال وخلاف فكري، ولا باحتجاج عبد المنعم نفسه على ابتذال ما هو عام إلى شخصي والخوض في وحل فجور الخصومة الشخصية وإسفافها.
فعلى نقيض ذلك تكاد مادة التعليقات كلها تصبُّ في قالبٍ شخصيٍ محض، وتوحي لقارئها وكأن حرباً ضروساً قد نشبت بين أسرة عابدين ورفيقة الشهيد بابكر النور وأسرتها على وسائط التواصل الاجتماعي!
ويا لفرحة اسحق أحمد فضل وأمثاله من مسخ الإنقاذ وأعداء الحزب وكل الوطنيين، بدءاً بباكر النور ورفاقه من كوكبة شهداء يوليو والسفير المرحوم عابدين اسماعيل وغيرهم، بهذا الغسيل القذر المبذول لهم طوعا بسخاء زميل شيوعي عضو في الحزب في ساحات الأسافير الرحيبة. وهذا ما دفعني إلى التعليق عن مغزى الخصومة والخلاف في ساحات العمل العام، خاصة حين تكون لتلك الساحة وشيجةٌ بالحزب الشيوعي وأعضائه وأصدقائه وحلفائه.
ف"ما هكذا تورد الإبل" كما قلت أنت يا صديقي عبد المنعم في استعارة مضادة المعنى والدلالة لعبارتك. وقد عنيتُ بهذا التعليق في الأساس الوقوف على مسألة هامة ذات صلة وثيقة بأداء الحزب وبنائه وسلوك أعضائه إزاء بعضهم بعضاً داخل حزبهم وفي إطار علاقتهم مع الجماهير وأصدقائهم وحلفائهم في أوقات المدّ والجزرِ والانحسار معاً. ولنا إلى اليوم في وثيقة "إصلاح الخطأ في العمل وسط الجماهير" التي خطَّها الشهيد عبد الخالق محجوب أسوةٌ وعبرة في كيف ينبغي أن نسلك في مسالك العمل العام وساحاته، كانت إسفيرية افتراضية أم كنا نعمل في غمار الناس مباشرةً في حياتنا اليومية الواقعية.
وغبطة اسحق أحمد فضل الله مضاعفة هنا هذه المرة لأنه "جاتو جاهزة ومملّحة" -كما يجري القول في المثل الشعبي- قصة ذلك اللقاء التوثيقي الذي أُقحم فيه اسمه إقحاما ونُسب إليه زوراً من بنات الخيال شرف "التغرير بخنساء واستغلال تقدمها في العمر ومن ثم استدراجها لإجراء المادة التوثيقية معها". فعلى حد عبارة عبد المنعم: " ونحن نعرف أن هذا الفيديو تم باتفاق بينها والمدعو اسحق فضل الله قبل ثلاثة أشهر، ومعروف الغرض الذي يسعي إليه هذا المسخ ووقعت هي في براثنه مستغلاً عوامل تقدُّم العمر"!
وهذه بصريح العبارة فِرية داوية لست أدري كيف يداري صديقنا الزميل منعم وجهه عنها . ولعل هذا التربُّص المبيّت منذ قبل ثلاثة أشهر هو الذي أعمى بصيرته وحجبها عن التمييز بين صوت صحفي جريدة "الانتباهة" المعروف وصوت الأستاذ عدلان عبد العزيز الذي أجرى اللقاء. فأيُّ خيالٍ مجنّحٍ هذا يا منعم الذي دفعك إلى خلط شنيع كهذا؟ دعك عن الصوت، فلو استمعت جيدا إلى شريط الفيديو لتنبهت إلى من أجرى اللقاء. هذه "طبزة" لا تليق بك ولا بمقام السفير عابدين اسماعيل، ولا بالحزب الذي تذود عنه كفاحاً في وجه الخنساء. أليس هذا التدليس خطأ بائنا في عملنا وسط الجماهير؟
ومن يقرأ تعليق عبد المنعم يلحظ أنه قد صبَّ على خصمه الوهمي خنساء لعنة ابليس فطردها شرَّ طردةً من فردوسِ الحزبِ واستبْرِقِه وسُندُسِهِ الخُضر إلى جحيم "جزيرة المُبعَدين" النائية القاحلة في بلاد الواقواق، راكلاً إياها بجرة قلم واحدة بعبارة "الزميلة سابقا". بل مضي إلى دق إسفينٍ بينها وتقاليد المؤسسة التي انتمت إليها وزوجها ورفيق دربها الشهيد بابكر النور بقوله :
" ولكن هذه التخاريف تداوُلها في حد ذاته إساءة للصورة النزيهة التي حافظ بها الحزب علي شرف ونزاهة ومواقف الكثير من الوطنيين حتي وإن كانوا من غير أعضاء الحزب. فلم يحدث في تاريخ الحزب فجور الخصومة بهذا الشكل والطرح حتي لأشخاص شكّلت مواقفهم عداء سافراً للحزب. فلم يُعهد الحزب في تاريخه تصفية الخصومة باتهامات شخصية او اتهام بدون دليل. ولذا ما صدر في هذا الفيديو لا ينمُّ إلا عن أحقاد ووساوس لا تسندها وثائق أو أدلة إنما تنصبّ في مسار تشويه التاريخ وتشويه سيرة أشخاص عُرف عنهم الوطنية والنزاهة والشرف".
أما الصورة العامة التي يرسمها عبد المنعم عن خصمه المتخيَّل اللدود فهي أنها تميل دائما إلى تفسير ذلك الحدث التاريخي الهام مدفوعةً بجائحة الغبن والحقد الشخصي الأعمى الذي يحضُّها حضّاً على البحث دائماً عن شماعة تحمّلها مسؤولية إعدام زوجها الشهيد.
ولا يكتفي منعم بذلك بل يمضي شوطاً أبعد بتوجيه اتهام قاتل لخصمه بالقول: " وأضيف لقد تركت محارق الشجرة 19 يوليو الكثير من الجراح داخل نفوس أرامل شتي وأبناء في المهد لكنهم كلهم كانوا من السمو والتجرد بعدم تحميل جريمة إزهاق أرواحهم إلا لجلادهم"!
ويزيد على ذلك بالقول -مع الاعتذار المسبق عن طول الاقتباس الضروري لعدم توفر هذه التعليقات لقراء هذا المقال-
" لذا كانت عظمة من أدرك ذلك من أرامل وأبناء الشهداء ولم يجلسن في بيوت العزاء العمر جله ليكلن ويهلن التراب علي رأسهن ورأس شرف شهادة أزواجهن. فكل نفس ذائقة الموت ويكفي هؤلاء أن نالوه بشرف يحسدون عليه. فنحن لا نقيم للأبطال مأتما وعويلا بل نعلي الهتاف إثر الهتاف حتي ينضج الوعي الثوري. وأرجو أن نجعل من ذكري 19 يوليو فعلا شرفا ندعيه لا مهانة ومذمة ومندبة وعويل".
صادمةٌ هذه التعليقات من نواح ولأسباب عدة. أهمها وعلى رأسها اختزال كل ما أوردته خنساء في الشريط المذكور إلى مجرد هجوم على شخص السفير المرحوم عابدين اسماعيل، علما بأن المادة الأساسية هي جزء من التوثيق ل 19 يوليو وأن سيرة السفير لم ترد فيه إلا عرضاً. ومؤسف إغفال الزميل للحقيقة العلمية البسيطة وهي:
إن كل ما تقوله خنساء وغيرها من رواة الأحداث والملابسات التي أحاطت بتلك الواقعة التاريخية المفصلية في مسار الحركة السياسية السودانية لا يعدو عن كونه ضمن المصادر الشفوية للتاريخ. وهي قابلة بطبيعة الحال للتدقيق والتمحيص والتحليل بأدوات ومنهج البحث العلمي.
وعليه، فإن خنساء وغيرها من رواة الأحداث ليسوا جهيزة التي قطعت قول كل خطيب، وأنَّ رواياتهم ليست سوى مادة خام لكتابة التاريخ، وأنها تظل قابلة للتأويل بما في ذلك نقضها وتصحيح ما ورد فيها من أخطاء تقوم على تقديرات ذاتية للوقائع. ولئن كانت نظرة المعلِّق علمية وموضوعية الهدف والمقصد لما كان التشنج والانفعال وحريق الأعصاب أساساً، ولما دُقت طبول الحرب على خنساء، لأن من الطبيعي أن يجري فرز مياه الذاتي من الموضوعي في مجرى التحليل العلمي الهادئ لما يستقيه المؤرخون من تلك المصادر الشفوية.
ألسنا نسعى إلى تطبيق المنهج العلمي في ممارستنا الثورية على الصعيدين النظري والعملي كما نقول نحن الشيوعيين ونعلنها في برامج الحزب وأدبياته؟ فأي مفارقة هذه للعلم نراها في التعليقات آنفة الذكر؟ وهذه ثانية ربما نجد إجابة شافية عنها في عموميات وأبجديات الفكر الماركسي وفي وثيقة "الماركسية وقضايا الثورة السودانية" الغراء على وجه الخصوص.
والمثير للانتباه أن هذه النظرة العلمية المتسائلة والمتفحصة لروايات التاريخ - والمنتجة للمعرفة والمعرفة النقيض بالضرورة - نلحظها بوضوح في التعليق الهادئ الرصين للأستاذة منى عابدين اسماعيل، التي أحسنت مخاطبة خنساء بما يليق من توقير واحترام، بقدر ما أحسنت إثارة الأسئلة التاريخية الموضوعية المشروعة حول ما ورد من إفادات تتعلق بوالدها السفير المرحوم في شريط الفيديو نفسه.
ومن حق مُنى أن تحصل على إجابات عما طرحته من أسئلة بطبيعة الحال. وهذا ما ينبغي أن يكون عليه سلوكنا في أدب الخلاف والحوار الفكريين، ديمقراطيين كنا أم أعضاء في الحزب.
أما ثالثة الأثافي فهي الصورة الشائهة المتوهَّمة التي ترسمها تعليقات الزميل عبد المنعم عن الخنساء. ولن يتسنى نفي هذه الصورة المتخيَّلة الشائهة عن الخصم إلا بإبراز نقيضها على النحو الذي تبيّنه هذه الومضة الخاطفة السريعة عن سيرة هذه المرأة العظيمة المناضلة التي لم أتردد في وصفها ب "الأم شَجاعة" في ترجمة ثانية إلى العربية لعنوان مسرحية برتولد بريشت الشهيرة (Mother Courage ). وما أكثر "الأمهات شجاعة" في حياتنا السودانية العامة والسياسية من اللائي بات يُطلَق عليهن مؤخرا اللقب الملكي النوبي القديم "الكنداكات".
فهنّ من حفيدات مهيرة ويا "ام ضافير قودي الرسن" والراحلة فاطمة أحمد ابراهيم اللائي ما فتئن يتقدمن صفوف المقاومة منذ ذلك الحين، وهاهنَّ يقفن اليوم في الخط الأمامي في مواجهة الغول الإسلاموي البغيض الذي لا يخفي عداءه للمرأة وشيّد لها من ترسانة التشريعات والإجراءات والقوانين ما يكفل اضطهادها وقهرها والحط من كرامتها الإنسانية.
وخنساء هذه التي رُكلت بتلك العبارةٍ الإقصائيةٍ الواحدة ووُضِعت بغتةً في خانة العداء للحزب بجرة قلم، كانت قد التحقت بعضوية الحزب منذ عام 1952. وهي أول طالبة تُفصل سياسياً من مدرسة امدرمان الثانوية عقاباً لها على المشاركة في مظاهرة مناهضة للعدوان الثلاثي على قناة السويس. وأثناء فصلها من الدراسة أسهمت في تأسيس فرع للحزب الشيوعي والاتحاد النسائي في الحي الذي كانت تسكنه في مدينة عطبرة، حيث كان يقيم والدها في عام 1956.
بعد 19 يوليو 1971 مباشرة وُضعت تحت الإقامة الجبرية لمدة ستة شهور متتالية، في حين اُعتقلت طوال ديكتاتورية نميري 14 مرة من جملة 16 عاماً هي مدة نظام حكم الفرد المايوي.
وهي من مؤسسات الاتحاد النسائي كتفاً بكتف مع القائدتين الراحلتين فاطمة أحمد ابراهيم وخالدة زاهر وغيرهن من طلائع الحركة النسائية السودانية. وإلى ذلك فهي من مؤسسات التجمع النسائي الوطني الديمقراطي بعد انتفاضة مارس-أبريل 1985.
وظلت خنساء عضوة نشطة في الحزب ولم تقدم استقالة منه إلى اليوم، ولم تتوقف قط عن العمل في صفوفه بمحض إرادتها واختيارها. ومن باب اللياقة وحدها، يهمني جدا أن أشير إلى أنني لم أكن قد وُلدت ولا رأت عيناي الدنيا في عام 1952 الذي التحقت فيه خنساء بعضوية الحزب وأسهمت بعده في تأسيس الاتحاد النسائي. وربما يصدق ذلك أيضا على صديقي عبد المنعم الريح.
وفوق ذلك كله، دفعت خنساء باكراً بفلذات كبدها الخمس: هدى وهالة وهند وكمالا وخالد إلى ساحة العمل العام، التي ولجوا إليها جميعا من بوابة المنظمات الديمقراطية والحزب الشيوعي. وهو الارتباط التاريخي الذي ما يزال يشدّهم إلى هذه المؤسسة وإلى حاضر السودان كله ومستقبله .
بل إن من دلالات الرمز على هذا أن البنت الكبرى هُدى التي تركها بابكر وهي في سن الحادية عشرة قد اُعتقلت بعد عامين فقط من إعدامه لمشاركتها وأمها في موكب لأسر الشهداء يطالب بتحديد مواقع المقابر والدفن حينئذ. كانت هُدى هناك وهي طفلة في سن الثالثة عشرة.
فأين المناحة والعويل وإهالة التراب على رؤوس الشهداء من هذا الفعل المصادم الجسور منذ أن كان الحزن ندياً حاراً وعارماً كما شلالات الدم التي أراقها السفاح الطاغية؟
وفي معنى الأمومة الجليلة التي تغنَّى بها شاعرنا الراحل محجوب شريف يكفي خنساء ويكفينا فخراً حصاد تربيتها لزُغب الحمائم الخمسة الصغار الذين تركهم لها بابكر في طريق رحلته الأبدية الجليلة. فلقد أوصلتهم جميعا بلا استثناء إلى مراقي العلم والمهنية والنجاح، وجعلت منهم ذخرا لنا وللوطن كله على اتساعه وترامي أطرافه في مجالات الطب والقانون والاقتصاد والعلوم السياسية وفن الموسيقى. ي
كفيها فخرا أن نذرت شبابها وحياتها للقضية التي آمنت بها، وللمضي العنيد في ذات الطريق الذي سار عليه زوجها، لتربية بناتها الأربع وابنها الوحيد على ذات النهج منذ أن كانت زهرة يانعة في بداية عقدها الثالث.
أيُّ وفاءٍ هذا لبابكر، لمعاني الحب ورفقةِ المشاويرِ والمخاطر الجسيمة؟ فكيف لأي كان أن يزايد على قبضتها على جمر الوفاء الحرَّاق بمعناه الخاص والعام على امتداد 46 عاماً مضت على ذلك الفراق المأساوي؟
خنساء يا صِحابي ورفاقي من الجنسين هي من لُحمة وسداة هذه المؤسسة التي ننتمي إليها جميعا.. جذر من جذورها العميقة. وهي لم تزل وقد ناهزت الثمانين عاما من العمر شيوعية الهوى والمزاج والانتماء، عملت بين صفوف الحزب مباشرة أم لم تعمل. وحتى في انتقادها اللاذع المرير للحزب غيرةٌ عليه وعشمٌ كبير فيه وأملٌ في إصلاحه وتجديده لمن يغوص إلى ما تحت سطح الأشياء وظواهرها.
والدليل على ذلك اهتمامها الذي لا يكل بمسار الحزب ومواقفه، بما في ذلك اختتامها لهذا التوثيق بالقول:
"ودي دروس وعِبَر، ويهمّني أنو الناس يوثقوا للمسائل دي والناس تستفيد منها لاستنهاض الحركة السياسية نفسها لأنو فعلا يوليو دا ضرب الحركة السياسية في مقتل".
ولمن يريد الوصول إلى كبد الحقيقة العارية فهذا لسان حال من يقول: قلبي عليك...قلبي على وطني.
هي لم تزل إذاً بعضاً من ذاك "الحريق وأحلام البلابل" الذي وصفه شعراً جيلي عبد الرحمن وجسّدته سيرة حياتها الطويلة العامرة بالوفاء والسخاء وحب الناس والوطن. وعليها هنا - في مثل هذه التعليقات والأحكام المتعجلة الجائرة - تصدق الحكمة الشعرية المأثورة: وظلمُ ذوي القُربى أشدّ مرارةً....
فأي خطأ فادح هذا تجاه صلة الرحم الحزبية قبل أن يكون خطأً فادحاً في عملنا وسط الجماهير؟ وهل يمكن أن يكون هذا طريقنا إلى بناء الحزب وتوسيع قاعدته في زمان الجزر والانحسار وهذه الهجمة الشرسة للرأسمالية الطفيلية عليه؟
هذا هو المحك ومربط الفرس وجوهر القضية. أيُّ سلوكٍ نسلُك إزاء عضوية الحزب وأصدقائه عموماً؟ ههُنا نشربُ من ضوءِ النُجيماتِ البعيدة لإشراقاتِ عبد الخالق المعرفيةِ المُلهِمة ذات الصلة بهذه الأسئلة المُلّحة على وجه التحديد. فلا يستقيم أن نجهل ذلك الإرث الوضيء، نطرحه جانباً ثم نسمح لأنفسنا أو للبعض منّا بجعل الحزب كُرباجاً على ظهور أعضائه ممن منحوه حياتهم كلها مقدمين في ذلك أغلى التضحيات وأنبلها.
يكفينا ويكفي الحزب وأعضائه وأصدقائه وجماهيره كرباج الإنقاذ النازل فوق ضهورنا يوماتي. كُرباج برَّه وكُرباج جُوَّه.. ليه؟ على قول حمدنا الله عبد القادر في مسرحية "خطوبة سهير".
فلننظر إلى أنفسنا في ضوء ذلك الإرث النظري العامر بالمعرفة، ولنقُم إلى إصلاح بيتنا وحالنا في الداخل. ولننهض إلى كفاحنا ضد الغول الإسلاموي عدونا الرئيسي المشترك وعدو المرأة أولاً. ولنكفَّ عن مبارزة طواحين الهواء بأسيافِ العُشَر إذ نتوهم لنا أمامها أعداءً هم إلاّ منّا وفينا لحماً ودماً وفكراً وانتماء.
وبين هذا وذاك لندعو لخنساء وهي في عقدها الثامن الآن بقلوبٍ صافيةٍ كاللبن بوافر الصحة والعافية والسعادة والعمر المديد بقدر مآثرها وعطائها السلسبيل السخي لهذا الوطن.
تغريدةٌ لها ولكل أمهاتنا المناضلات العظيمات،
نسمةٌ .. لحنٌ سماويٌّ نبيل لحضورهِنَّ الرؤوف الحميمِ بيننا في غمرة حزنهن وحزننا الكبير العميق على فاطمة، التي كتبتُ عنها وداعاً في مقال آخر عن معنى "اغترابها"،
ذي دلالةٍ وصلةٍ وثيقةٍ بهذا المقطع:
لو لحظةٌ من وسَنِ
تغسلُ عنُي حَزَني
تحملُني
تُرجعُني
إلى عيونِ وطني
يا وطني ..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.