السودان الافتراضي ... كلنا بيادق .. وعبد الوهاب وردي    إبراهيم شقلاوي يكتب: يرفعون المصاحف على أسنّة الرماح    د.ابراهيم الصديق على يكتب:اللقاء: انتقالات جديدة..    لجنة المسابقات بارقو توقف 5 لاعبين من التضامن وتحسم مباراة الدوم والأمل    المريخ (B) يواجه الإخلاص في أولي مبارياته بالدوري المحلي بمدينة بربر    الهلال لم يحقق فوزًا على الأندية الجزائرية على أرضه منذ عام 1982….    شاهد بالفيديو.. لدى لقاء جمعهما بالجنود.. "مناوي" يلقب ياسر العطا بزعيم "البلابسة" والأخير يرد على اللقب بهتاف: (بل بس)    شاهد بالصورة والفيديو.. ضابطة الدعم السريع "شيراز" تعبر عن إنبهارها بمقابلة المذيعة تسابيح خاطر بالفاشر وتخاطبها (منورة بلدنا) والأخيرة ترد عليها: (بلدنا نحنا ذاتنا معاكم)    لماذا نزحوا إلى شمال السودان    جمهور مواقع التواصل بالسودان يسخر من المذيعة تسابيح خاطر بعد زيارتها للفاشر ويلقبها بأنجلينا جولي المليشيا.. تعرف على أشهر التعليقات الساخرة    شاهد بالصور.. المذيعة المغضوب عليها داخل مواقع التواصل السودانية "تسابيح خاطر" تصل الفاشر    جمهور مواقع التواصل بالسودان يسخر من المذيعة تسابيح خاطر بعد زيارتها للفاشر ويلقبها بأنجلينا جولي المليشيا.. تعرف على أشهر التعليقات الساخرة    أردوغان: لا يمكننا الاكتفاء بمتابعة ما يجري في السودان    مناوي .. سلام على الفاشر وأهلها وعلى شهدائها الذين كتبوا بالدم معنى البطولة    وزير الطاقة يتفقد المستودعات الاستراتيجية الجديدة بشركة النيل للبترول    المالية توقع عقد خدمة إيصالي مع مصرف التنمية الصناعية    أردوغان يفجرّها داوية بشأن السودان    اللواء الركن"م" أسامة محمد أحمد عبد السلام يكتب: الإنسانية كلمة يخلو منها قاموس المليشيا    وزير سوداني يكشف عن مؤشر خطير    شاهد بالصورة والفيديو.. "البرهان" يظهر متأثراً ويحبس دموعه لحظة مواساته سيدة بأحد معسكرات النازحين بالشمالية والجمهور: (لقطة تجسّد هيبة القائد وحنوّ الأب، وصلابة الجندي ودمعة الوطن التي تأبى السقوط)    بالصورة.. رجل الأعمال المصري نجيب ساويرس: (قلبي مكسور على أهل السودان والعند هو السبب وأتمنى السلام والإستقرار لأنه بلد قريب إلى قلبي)    إحباط محاولة تهريب عدد 200 قطعة سلاح في مدينة عطبرة    السعودية : ضبط أكثر من 21 ألف مخالف خلال أسبوع.. و26 متهماً في جرائم التستر والإيواء    الترتيب الجديد لأفضل 10 هدافين للدوري السعودي    «حافظ القرآن كله وعايشين ببركته».. كيف تحدث محمد رمضان عن والده قبل رحيله؟    محمد رمضان يودع والده لمثواه الأخير وسط أجواء من الحزن والانكسار    وفي بدايات توافد المتظاهرين، هتف ثلاثة قحاتة ضد المظاهرة وتبنوا خطابات "لا للحرب"    أول جائزة سلام من الفيفا.. من المرشح الأوفر حظا؟    مركزي السودان يصدر ورقة نقدية جديدة    برشلونة ينجو من فخ كلوب بروج.. والسيتي يقسو على دورتموند    "واتساب" يطلق تطبيقه المنتظر لساعات "أبل"    بنك السودان .. فك حظر تصدير الذهب    بقرار من رئيس الوزراء: السودان يؤسس ثلاث هيئات وطنية للتحول الرقمي والأمن السيبراني وحوكمة البيانات    ما الحكم الشرعى فى زوجة قالت لزوجها: "من اليوم أنا حرام عليك"؟    غبَاء (الذكاء الاصطناعي)    مخبأة في باطن الأرض..حادثة غريبة في الخرطوم    رونالدو يفاجئ جمهوره: سأعتزل كرة القدم "قريبا"    صفعة البرهان    حرب الأكاذيب في الفاشر: حين فضح التحقيق أكاذيب الكيزان    دائرة مرور ولاية الخرطوم تدشن برنامج الدفع الإلكتروني للمعاملات المرورية بمركز ترخيص شهداء معركة الكرامة    عقد ملياري لرصف طرق داخلية بولاية سودانية    السودان.. افتتاح غرفة النجدة بشرطة ولاية الخرطوم    5 مليارات دولار.. فساد في صادر الذهب    حسين خوجلي: (إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار فأنظر لعبد الرحيم دقلو)    حسين خوجلي يكتب: عبد الرجيم دقلو.. إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار!!    الحُزن الذي يَشبه (أعِد) في الإملاء    السجن 15 عام لمستنفر مع التمرد بالكلاكلة    عملية دقيقة تقود السلطات في السودان للقبض على متّهمة خطيرة    وزير الصحة يوجه بتفعيل غرفة طوارئ دارفور بصورة عاجلة    الجنيه السوداني يتعثر مع تضرر صادرات الذهب بفعل حظر طيران الإمارات    تركيا.. اكتشاف خبز عمره 1300 عام منقوش عليه صورة يسوع وهو يزرع الحبوب    (مبروك النجاح لرونق كريمة الاعلامي الراحل دأود)    المباحث الجنائية المركزية بولاية نهر النيل تنهي مغامرات شبكة إجرامية متخصصة في تزوير الأختام والمستندات الرسمية    حسين خوجلي يكتب: التنقيب عن المدهشات في أزمنة الرتابة    دراسة تربط مياه العبوات البلاستيكية بزيادة خطر السرطان    والي البحر الأحمر ووزير الصحة يتفقدان مستشفى إيلا لعلاج أمراض القلب والقسطرة    شكوك حول استخدام مواد كيميائية في هجوم بمسيّرات على مناطق مدنية بالفاشر    السجائر الإلكترونية قد تزيد خطر الإصابة بالسكري    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ومضةٌ من سيرةِ الأم شَجاعة : وغزلت خنساءُ قصيدَتها بأحُرفٍ من ثباتٍ ونارٍ ونور
نشر في حريات يوم 14 - 09 - 2017


"يا صباحَ الخيرِ كم أوحشتنا
يامساءَ الخيرِ تُشجيكَ المنازل
لم يعُد للنبعِ غيرَ المنحنى
أرهفَ القلبَ على نبضِ المناجل
ما المنايا؟ إنها أقدارُنا
وامتدادُ البحرِ أحضانُ السواحل
لا ألومُ الدمعَإن هامت به
وحشةُ النخلِوأحلامُ البلابل
لا ألومُ الليلَ والنجمُ هوَى
يعتلى الفجرُ المتاريسَ الجنادل"
(جيلي عبد الرحمن- من رثائيات شهداء 19 يوليو 1971)
وها قد حلّت عليناذكرى يوليو 1971 بشلالات دمائها وآلامها وبكل ما تثيره من أسئلة وجدل ونقاش يمور داخل الحزب الشيوعي وخارجه . غير أن ما جال بخاطري هذه المرة، التعليق على الكتابة الصادمة التي نشرها عبر وسائط التواصل الاجتماعي الزميل والصديق الفنان التشكيلي عبد المنعم الريح، مقترنا بتعليق رصين للأستاذة منى عابدين -ابنة سفير السودان المعروف حينها في لندن- والموثَّق موقفه وإدانته على رؤوس الأشهاد وأمام عدسات الكاميرالاختطاف الطائرة التي كانت تقل الشهيدين بابكر النور وفاروق حمد الله أثناء توجههما إلى السودان. وغنيٌّ عن القول أن ذلك الموقف الشجاع قد كلّفه ثمناً غالياً ليس أقله السجن والفصل منالوظيفة.
لقد صُعقت وأنا أقرأ سلسلةالتعليقات الثلاثة التي كتبها عبد المنعم الريح على شريط فيديو توثيقي عن 19 يوليو من إعداد الأستاذ عدلان عبد العزيز تجدونه في الرابط أدناه.
http://sudan-forall.org/forum/viewtopic.php?t=9420&sid=f9657ac55a874d610ca869049b7643a7
جاء عنوان التعليق "رداً علي الفيديو الذي أعدَّه المسخ اسحق فضل الله بالاتفاق مع الخنساء رفيقة الشهيد بابكر النور له الرحمة" وخُتم بعبارة "نيابة عن أسرة عابدين اسماعيل".
وما بين العنوان وذاكالتوقيع سيلٌ من الشتائم والتجريح الشخصي الذي لا يليق،لا بأدب الحوار في مسائل عامة ما برحت محل جدال وخلاف فكري، ولا باحتجاج عبد المنعم نفسه على ابتذال ما هو عام إلى شخصيوالخوض في وحل فجور الخصومة الشخصية وإسفافها.
فعلى نقيض ذلك تكاد مادة التعليقات كلها تصبُّ في قالبٍ شخصيٍ محض، وتوحي لقارئها وكأن حرباً ضروساً قد نشبت بين أسرة عابدين ورفيقة الشهيد بابكر النور وأسرتها على وسائط التواصل الاجتماعي!
ويالفرحة اسحق أحمد فضل وأمثاله من مسخ الإنقاذ وأعداء الحزب وكل الوطنيين،بدءاًبباكر النور ورفاقه من كوكبة شهداء يوليو والسفير المرحوم عابدين اسماعيل وغيرهم،بهذا الغسيل القذر المبذول لهم طوعا بسخاء زميل شيوعيعضو في الحزب في ساحات الأسافير الرحيبة. وهذا ما دفعني إلى التعليق عنمغزى الخصومة والخلاف في ساحات العمل العام، خاصة حين تكون لتلك الساحة وشيجةٌ بالحزب الشيوعي وأعضائه وأصدقائه وحلفائه. ف"ما هكذا تورد الإبل"كما قلت أنت يا صديقي عبد المنعم في استعارة مضادة المعنى والدلالةلعبارتك. وقد عنيتُ بهذا التعليق في الأساس الوقوف على مسألة هامة ذات صلة وثيقة بأداء الحزب وبنائه وسلوك أعضائه إزاء بعضهم بعضاً داخل حزبهم وفي إطار علاقتهم مع الجماهير وأصدقائهم وحلفائهم في أوقات المدّ والجزرِ والانحسار معاً.ولنا إلى اليوم في وثيقة "إصلاح الخطأ في العمل وسط الجماهير" التي خطَّها الشهيد عبد الخالق محجوب أسوةٌ وعبرة في كيفينبغي أن نسلك في مسالك العمل العام وساحاته، كانت إسفيرية افتراضية أم كنا نعمل في غمار الناس مباشرةً في حياتنا اليومية الواقعية.
وغبطة اسحق أحمد فضل الله مضاعفة هنا هذه المرة لأنه "جاتو جاهزة ومملّحة" -كما يجري القول في المثل الشعبي- قصة ذلك اللقاء التوثيقي الذي أُقحم فيه اسمه إقحاما ونُسب إليه زوراً من بنات الخيال شرف "التغرير بخنساء واستغلال تقدمها في العمر ومن ثم استدراجها لإجراء المادة التوثيقية معها". فعلى حد عبارة عبد المنعم: "ونحن نعرف أن هذا الفيديو تم باتفاق بينها والمدعو اسحق فضل الله قبل ثلاثة أشهر، ومعروف الغرض الذي يسعي إليه هذا المسخ ووقعت هي في براثنه مستغلاً عوامل تقدُّم العمر"!
وهذه بصريح العبارة فِريةداوية لست أدري كيف يداري صديقنا الزميل منعم وجهه عنها . ولعل هذا التربُّص المبيّت منذ قبل ثلاثة أشهر هو الذي أعمى بصيرته وحجبها عن التمييز بين صوت صحفي جريدة "الانتباهة" المعروف وصوت الأستاذ عدلان عبد العزيز الذي أجرى اللقاء. فأيُّ خيالٍ مجنّحٍ هذا يا منعم الذي دفعك إلى خلط شنيع كهذا؟ دعك عن الصوت، فلو استمعت جيدا إلى شريط الفيديو لتنبهت إلى من أجرى اللقاء.هذه "طبزة" لا تليق بك ولا بمقام السفير عابدين اسماعيل، ولا بالحزب الذي تذود عنه كفاحاً في وجه الخنساء. أليس هذا التدليس خطأ بائنا في عملنا وسط الجماهير؟
ومن يقرأ تعليق عبد المنعم يلحظ أنه قد صبَّ على خصمه الوهمي خنساء لعنة ابليس فطردها شرَّ طردةًمن فردوسِ الحزبِواستبْرِقِه وسُندُسِهِ الخُضر إلى جحيم "جزيرة المُبعَدين" النائية القاحلة في بلاد الواقواق،راكلاً إياها بجرة قلم واحدة بعبارة "الزميلة سابقا". بل مضي إلى دق إسفينٍ بينها وتقاليد المؤسسة التي انتمت إليها وزوجها ورفيق دربها الشهيد بابكر النور بقوله : "ولكن هذه التخاريف تداوُلها في حد ذاته إساءة للصورة النزيهة التي حافظ بها الحزب علي شرف ونزاهة ومواقف الكثير من الوطنيين حتي وإن كانوا من غير أعضاء الحزب. فلم يحدث في تاريخ الحزب فجور الخصومة بهذا الشكل والطرح حتي لأشخاص شكّلت مواقفهم عداء سافراً للحزب. فلم يُعهد الحزب في تاريخه تصفية الخصومة باتهامات شخصية او اتهام بدون دليل. ولذا ما صدر في هذا الفيديو لا ينمُّإلا عن أحقاد ووساوس لا تسندها وثائق أو أدلة إنما تنصبّ في مسار تشويه التاريخ وتشويه سيرة أشخاص عُرف عنهم الوطنية والنزاهة والشرف".
أما الصورة العامة التي يرسمها عبد المنعم عن خصمه المتخيَّل اللدود فهي أنها تميل دائما إلى تفسير ذلك الحدث التاريخي الهام مدفوعةً بجائحةالغبن والحقد الشخصي الأعمىالذي يحضُّها حضّاً على البحث دائماً عن شماعة تحمّلها مسؤولية إعدام زوجها الشهيد.
ولا يكتفي منعم بذلك بل يمضي شوطاً أبعد بتوجيه اتهام قاتل لخصمهبالقول: "وأضيف لقد تركت محارق الشجرة 19 يوليو الكثير من الجراح داخل نفوس أرامل شتي وأبناء في المهد لكنهم كلهم كانوا من السمو والتجرد بعدم تحميل جريمة إزهاق أرواحهم إلا لجلادهم"!
ويزيد على ذلك بالقول -مع الاعتذار المسبق عن طول الاقتباس الضروري لعدم توفر هذه التعليقات لقراء هذا المقال-
"لذا كانت عظمة من أدرك ذلك من أرامل وأبناء الشهداء ولم يجلسن في بيوت العزاء العمر جله ليكلن ويهلن التراب علي رأسهن ورأس شرف شهادة أزواجهن. فكل نفس ذائقة الموت ويكفي هؤلاء أن نالوه بشرف يحسدون عليه. فنحن لا نقيم للأبطال مأتما وعويلا بل نعلي الهتاف إثر الهتاف حتي ينضج الوعي الثوري. وأرجو أن نجعل من ذكري 19 يوليو فعلا شرفا ندعيه لا مهانة ومذمة ومندبة وعويل".
صادمةٌ هذه التعليقات من نواح ولأسباب عدة. أهمها وعلى رأسها اختزال كل ما أوردته خنساء في الشريط المذكور إلى مجرد هجوم على شخص السفير المرحوم عابدين اسماعيل، علما بأن المادة الأساسية هي جزء من التوثيق ل 19 يوليو وأن سيرة السفير لم ترد فيه إلا عرضاً. ومؤسف إغفال الزميل للحقيقة العلمية البسيطة وهي: إن كل ما تقوله خنساء وغيرها من رواة الأحداث والملابسات التي أحاطت بتلك الواقعة التاريخية المفصلية في مسار الحركة السياسية السودانية لا يعدو عن كونه ضمن المصادر الشفوية للتاريخ. وهي قابلة بطبيعة الحال للتدقيق والتمحيص والتحليل بأدوات ومنهج البحث العلمي. وعليه، فإن خنساء وغيرها من رواة الأحداث ليسوا جهيزة التي قطعت قول كل خطيب، وأنَّ رواياتهم ليست سوى مادة خام لكتابة التاريخ، وأنها تظل قابلة للتأويل بما في ذلك نقضها وتصحيح ما ورد فيها من أخطاء تقوم على تقديرات ذاتية للوقائع. ولئن كانت نظرة المعلِّق علمية وموضوعية الهدف والمقصد لما كان التشنج والانفعال وحريق الأعصاب أساساً، ولما دُقت طبول الحرب على خنساء، لأن من الطبيعي أن يجري فرز مياه الذاتي من الموضوعي في مجرى التحليل العلمي الهادئ لما يستقيه المؤرخون منتلك المصادر الشفوية. ألسنا نسعى إلى تطبيق المنهج العلمي في ممارستنا الثورية على الصعيدين النظري والعملي كما نقول نحن الشيوعيين ونعلنها في برامج الحزب وأدبياته؟ فأي مفارقة هذه للعلم نراها في التعليقات آنفة الذكر؟وهذه ثانية ربما نجد إجابة شافية عنها فيعموميات وأبجديات الفكر الماركسي وفي وثيقة "الماركسية وقضايا الثورة السودانية" الغراء على وجه الخصوص.
والمثير للانتباه أن هذه النظرة العلمية المتسائلة والمتفحصة لروايات التاريخ -والمنتجة للمعرفة والمعرفة النقيض بالضرورة – نلحظها بوضوح في التعليق الهادئ الرصين للأستاذة منى عابدين اسماعيل التي أحسنت مخاطبة خنساء بما يليق من توقير واحترام، بقدر ما أحسنت إثارة الأسئلة التاريخيةالموضوعية المشروعة حول ما ورد من إفادات تتعلق بوالدها السفير المرحوم في شريط الفيديو نفسه. ومن حق مُنى أن تحصل على إجابات عما طرحته من أسئلة بطبيعة الحال. وهذا ما ينبغي أن يكون عليه سلوكنا في أدب الخلاف والحوار الفكريين، ديمقراطيين كنا أم أعضاء في الحزب.
أما ثالثة الأثافي فهي الصورة الشائهة المتوهَّمة التي ترسمها تعليقات الزميل عبد المنعم عن الخنساء. ولن يتسنى نفي هذه الصورة المتخيَّلة الشائهة عن الخصم إلا بإبراز نقيضها على النحو الذي تبيّنه هذهالومضة الخاطفة السريعة عن سيرة هذه المرأة العظيمة المناضلة التي لم أتردد في وصفها ب "الأم شَجاعة" في ترجمة ثانية إلى العربية لعنوان مسرحية برتولد بريشت الشهيرة (Mother Courage ). وما أكثر "الأمهات شجاعة" في حياتنا السودانية العامة والسياسية من اللائي بات يُطلَق عليهن مؤخرا اللقب الملكي النوبي القديم "الكنداكات". فهنّ من حفيدات مهيرة ويا "ام ضافير قودي الرسن" والراحلة فاطمة أحمد ابراهيم اللائي ما فتئن يتقدمن صفوف المقاومة منذ ذلك الحين، وهاهنَّ يقفن اليوم في الخط الأمامي في مواجهة الغول الإسلاموي البغيض الذي لا يخفي عداءه للمرأة وشيّد لها من ترسانة التشريعات والإجراءات والقوانين ما يكفل اضطهادها وقهرها والحط من كرامتها الإنسانية.
وخنساء هذه التي رُكلتبتلكالعبارةٍالإقصائيةٍالواحدةووُضِعت بغتةً في خانة العداء للحزب بجرة قلم،كانت قد التحقت بعضوية الحزب منذ عام
1952 . وهي أول طالبة تُفصل سياسياً من مدرسة امدرمان الثانوية عقاباً لها علىالمشاركة في مظاهرة مناهضة للعدوان الثلاثي على قناة السويس. وأثناء فصلها من الدراسة أسهمت في تأسيس فرع للحزب الشيوعي والاتحاد النسائي في الحي الذي كانت تسكنه في مدينة عطبرة حيث كان يقيم والدها في عام 1956. وبعد 19 يوليو 1971 مباشرة وُضعت تحت الإقامة الجبرية لمدة ستة شهور متتالية في حين اُعتقلت طوال ديكتاتورية نميري 14 مرة من جملة 16 عاماً هي مدة نظام حكم الفرد المايوي. وهي من مؤسسات الاتحاد النسائي كتفاً بكتف مع القائدتين الراحلتين فاطمة أحمد ابراهيم وخالدة زاهر وغيرهن من طلائع الحركة النسائية السودانية. وإلى ذلك فهي من مؤسسات التجمع النسائي الوطني الديمقراطي بعد انتفاضة مارس-أبريل 1985. وظلت خنساء عضوة نشطة في الحزب ولم تقدم استقالة منه إلى اليوم، ولم تتوقف قط عن العمل في صفوفه بمحض إرادتها واختيارها. ومن باب اللياقة وحدها، يهمني جدا أن أشير إلى أنني لم أكن قد وُلدت ولا رأت عيناي الدنيا في عام 1952 الذي التحقت فيه خنساء بعضوية الحزب وأسهمت بعده في تأسيس الاتحاد النسائي. وربما يصدق ذلك أيضا على صديقي عبد المنعم الريح.
وفوق ذلك كله، دفعت خنساء باكراً بفلذات كبدها الخمس: هدى وهالة وهند وكمالا وخالد إلى ساحة العمل العام التي ولجوا إليها جميعا من بوابة المنظمات الديمقراطية والحزب الشيوعي. وهو الارتباط التاريخي الذي ما يزال يشدّهم إلى هذه المؤسسة وإلى حاضر السودان كله ومستقبله . بل إن من دلالات الرمز على هذا أن البنت الكبرى هُدى التي تركها بابكر وهي في سن الحادية عشرة قد اُعتقلت بعد عامين فقط من إعدامه لمشاركتها وأمها في موكب لأسر الشهداء يطالب بتحديد مواقع المقابر والدفن حينئذ. كانت هُدى هناك وهي طفلة في سن الثالثة عشرة. فأين المناحة والعويل وإهالة التراب على رؤوس الشهداءمن هذا الفعل المصادم الجسور منذ أن كان الحزن ندياً حاراً وعارماً كما شلالات الدم التي أراقها السفاح الطاغية؟
وفي معنى الأمومة الجليلة التي تغنَّى بها شاعرنا الراحل محجوب شريف يكفي خنساء ويكفينا فخراً حصاد تربيتها لزُغب الحمائم الخمسة الصغار الذين تركهم لها بابكر في طريق رحلته الأبدية الجليلة. فلقد أوصلتهم جميعا بلا استثناء إلى مراقي العلم والمهنية والنجاح، وجعلت منهم ذخرا لنا وللوطنكله على اتساعه وترامي أطرافه في مجالات الطب والقانون والاقتصاد والعلوم السياسية وفن الموسيقى. يكفيها فخرا أن نذرت شبابها وحياتها للقضية التي آمنت بها، وللمضي العنيد في ذات الطريق الذي سار عليه زوجها، لتربية بناتها الأربع وابنها الوحيد على ذات النهج منذ أن كانت زهرة يانعة في بداية عقدها الثالث. أيُّ وفاءٍ هذا لبابكر، لمعاني الحب ورفقةِ المشاويرِ والمخاطر الجسيمة؟ فكيف لأي كان أن يزايد على قبضتها على جمر الوفاء الحرَّاق بمعناه الخاص والعام على امتداد 46 عاماً مضت على ذلك الفراق المأساوي؟
خنساء يا صِحابيورفاقي من الجنسين هي من لُحمة وسداة هذه المؤسسة التي ننتمي إليها جميعا.. جذر من جذورها العميقة. وهي لم تزل وقد ناهزت الثمانين عامامن العمر شيوعية الهوى والمزاج والانتماء، عملت بين صفوف الحزب مباشرة أم لم تعمل. وحتى في انتقادها اللاذع المرير للحزب غيرةٌ عليه وعشمٌ كبير فيه وأملٌفي إصلاحه وتجديده لمن يغوص إلى ما تحت سطح الأشياء وظواهرها. والدليلعلى ذلك اهتمامها الذي لا يكل بمسار الحزب ومواقفه، بما في ذلك اختتامها لهذا التوثيق بالقول: "ودي دروس وعِبَر، ويهمّني أنو الناس يوثقوا للمسائل دي والناس تستفيد منها لاستنهاض الحركة السياسية نفسها لأنو فعلا يوليو دا ضرب الحركة السياسية في مقتل". ولمن يريد الوصول إلى كبد الحقيقة العارية فهذا لسان حال من يقول: قلبي عليك…قلبي على وطني.
هي لم تزل إذاً بعضاً من ذاك "الحريق وأحلام البلابل" الذي وصفه شعراً جيلي عبد الرحمن وجسّدته سيرة حياتها الطويلة العامرة بالوفاء والسخاء وحب الناس والوطن. وعليها هنا -في مثل هذه التعليقات والأحكام المتعجلة الجائرة- تصدق الحكمة الشعرية المأثورة: وظلمُ ذوي القُربى أشدّ مرارةً….فأي خطأ فادح هذا تجاه صلة الرحم الحزبية قبل أن يكون خطأً فادحاً في عملنا وسط الجماهير؟ وهل يمكن أن يكون هذا طريقنا إلى بناء الحزب وتوسيع قاعدته في زمان الجزر والانحسار وهذه الهجمة الشرسة للرأسمالية الطفيلية عليه؟ هذا هو المحك ومربط الفرس وجوهر القضية. أيُّ سلوكٍ نسلُك إزاء عضوية الحزب وأصدقائه عموماً؟ ههُنا نشربُ من ضوءِ النُجيماتِ البعيدة لإشراقاتِ عبد الخالق المعرفيةِ المُلهِمة ذات الصلة بهذه الأسئلة المُلّحة على وجه التحديد. فلا يستقيم أن نجهل ذلك الإرث الوضيء، نطرحه جانباً ثم نسمح لأنفسنا أو للبعض منّا بجعل الحزب كُرباجاً على ظهور أعضائه ممن منحوه حياتهم كلها مقدمين في ذلك أغلى التضحيات وأنبلها. يكفينا ويكفي الحزب وأعضائه وأصدقائه وجماهيره كرباج الإنقاذ النازل فوق ضهورنا يوماتي. كُرباج برَّهوكُرباججُوَّه.. ليه؟على قول حمدنا الله عبد القادر في مسرحية "خطوبة سهير".
فلننظر إلى أنفسنا في ضوء ذلك الإرث النظري العامر بالمعرفة، ولنقُم إلى إصلاح بيتنا وحالنا في الداخل. ولننهض إلى كفاحنا ضد الغول الإسلاموي عدونا الرئيسي المشترك وعدو المرأة أولاً. ولنكفَّ عن مبارزة طواحين الهواء بأسيافِ العُشَرإذ نتوهم لنا أمامها أعداءً هم إلاّ منّاوفينا لحماً ودماً وفكراً وانتماء.
وبين هذا وذاكلندعو لخنساءوهي في عقدها الثامن الآن بقلوبٍ صافيةٍ كاللبن بوافر الصحة والعافية والسعادة والعمرالمديد بقدر مآثرها وعطائها السلسبيل السخي لهذا الوطن. تغريدةٌلها ولكل أمهاتنا المناضلات العظيمات،نسمةٌ .. لحنٌ سماويٌّ نبيل لحضورهِنَّ الرؤوف الحميمِ بيننا في غمرة حزنهن وحزننا الكبير العميق على فاطمة التي كتبتُ عنها وداعاً في مقال آخرعن معنى "اغترابها" ذي دلالةٍ وصلةٍ وثيقةٍ بهذا المقطع:
لو لحظةٌ من وسَنِ
تغسلُ عنُي حَزَني
تحملُني
تُرجعُني
إلى عيونِ وطني
يا وطني ..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.