خطة مفاجئة.. إسبانيا تستعد لترحيل المقاول الهارب محمد علي إلى مصر    مشاهد من لقاء رئيس مجلس السيادة القائد العام ورئيس هيئة الأركان    (خطاب العدوان والتكامل الوظيفي للنفي والإثبات)!    من اختار صقور الجديان في الشان... رؤية فنية أم موازنات إدارية؟    المنتخب المدرسي السوداني يخسر من نظيره العاجي وينافس علي المركز الثالث    الاتحاد السوداني يصدر خريطة الموسم الرياضي 2025م – 2026م    البرهان يزور جامعة النيلين ويتفقد مركز الامتحانات بكلية الدراسات الاقتصادية والاجتماعية بالجامعة    وزير الصحة المكلف ووالي الخرطوم يدشنان الدفعة الرابعة لعربات الإسعاف لتغطية    إعلان خارطة الموسم الرياضي في السودان    غنوا للصحافة… وانصتوا لندائها    ترتيبات في السودان بشأن خطوة تّجاه جوبا    توضيح من نادي المريخ    حرام شرعًا.. حملة ضد جبّادات الكهرباء في كسلا    تحديث جديد من أبل لهواتف iPhone يتضمن 29 إصلاحاً أمنياً    شاهد بالفيديو.. لاعب المريخ السابق بلة جابر: (أكلت اللاعب العالمي ريبيري مع الكورة وقلت ليهو اتخارج وشك المشرط دا)    شاهد بالفيديو.. بأزياء مثيرة وعلى أنغام "ولا يا ولا".. الفنانة عشة الجبل تظهر حافية القدمين في "كليب" جديد من شاطئ البحر وساخرون: (جواهر برو ماكس)    امرأة على رأس قيادة بنك الخرطوم..!!    ميسي يستعد لحسم مستقبله مع إنتر ميامي    كمين في جنوب السودان    تقرير يكشف كواليس انهيار الرباعية وفشل اجتماع "إنقاذ" السودان؟    محمد عبدالقادر يكتب: بالتفصيل.. أسرار طريقة اختيار وزراء "حكومة الأمل"..    وحدة الانقاذ البري بالدفاع المدني تنجح في إنتشال طفل حديث الولادة من داخل مرحاض في بالإسكان الثورة 75 بولاية الخرطوم    "تشات جي بي تي" يتلاعب بالبشر .. اجتاز اختبار "أنا لست روبوتا" بنجاح !    المصرف المركزي في الإمارات يلغي ترخيص "النهدي للصرافة"    الخرطوم تحت رحمة السلاح.. فوضى أمنية تهدد حياة المدنيين    "الحبيبة الافتراضية".. دراسة تكشف مخاطر اعتماد المراهقين على الذكاء الاصطناعي    أول أزمة بين ريال مدريد ورابطة الدوري الإسباني    أنقذ المئات.. تفاصيل "الوفاة البطولية" لضحية حفل محمد رمضان    شهادة من أهل الصندوق الأسود عن كيكل    بزشكيان يحذِّر من أزمة مياه وشيكة في إيران    لجنة أمن ولاية الخرطوم تقرر حصر وتصنيف المضبوطات تمهيداً لإعادتها لأصحابها    انتظام النوم أهم من عدد ساعاته.. دراسة تكشف المخاطر    مصانع أدوية تبدأ العمل في الخرطوم    خبر صادم في أمدرمان    اقتسام السلطة واحتساب الشعب    شاهد بالصورة والفيديو.. ماذا قالت السلطانة هدى عربي عن "الدولة"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان والممثل أحمد الجقر "يعوس" القراصة ويجهز "الملوحة" ببورتسودان وساخرون: (موهبة جديدة تضاف لقائمة مواهبك الغير موجودة)    شاهد بالفيديو.. منها صور زواجه وأخرى مع رئيس أركان الجيش.. العثور على إلبوم صور تذكارية لقائد الدعم السريع "حميدتي" داخل منزله بالخرطوم    إلى بُرمة المهدية ودقلو التيجانية وابراهيم الختمية    رحيل "رجل الظلّ" في الدراما المصرية... لطفي لبيب يودّع مسرح الحياة    بنك أمدرمان الوطني .. استئناف العمل في 80% من الفروع بالخرطوم    زيادة راس المال الاسمي لبنك امدرمان الوطني الي 50 مليار جنيه سوداني    وفاة 18 مهاجرًا وفقدان 50 بعد غرق قارب شرق ليبيا    احتجاجات لمرضى الكٌلى ببورتسودان    السيسي لترامب: ضع كل جهدك لإنهاء حرب غزة    تقرير يسلّط الضوء على تفاصيل جديدة بشأن حظر واتساب في السودان    استعانت بصورة حسناء مغربية وأدعت أنها قبطية أمدرمانية.. "منيرة مجدي" قصة فتاة سودانية خدعت نشطاء بارزين وعدد كبير من الشباب ووجدت دعم غير مسبوق ونالت شهرة واسعة    مقتل شاب ب 4 رصاصات على يد فرد من الجيش بالدويم    دقة ضوابط استخراج أو تجديد رخصة القيادة مفخرة لكل سوداني    أفريقيا ومحلها في خارطة الأمن السيبراني العالمي    الشمالية ونهر النيل أوضاع إنسانية مقلقة.. جرائم وقطوعات كهرباء وطرد نازحين    شرطة البحر الأحمر توضح ملابسات حادثة إطلاق نار أمام مستشفى عثمان دقنة ببورتسودان    السودان.. مجمّع الفقه الإسلامي ينعي"العلامة"    ترامب: "كوكاكولا" وافقت .. منذ اليوم سيصنعون مشروبهم حسب "وصفتي" !    بتوجيه من وزير الدفاع.. فريق طبي سعودي يجري عملية دقيقة لطفلة سودانية    نمط حياة يقلل من خطر الوفاة المبكرة بنسبة 40%    عَودة شريف    لماذا نستغفر 3 مرات بعد التسليم من الصلاة .. احرص عليه باستمرار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مُوغَابِي: أَنَا الدَّوْلَة! .. بقلم/ كمال الجزولي
نشر في سودانيل يوم 02 - 12 - 2017


(1)
أخيراً .. وبعد كثير مطل ومطاولة، وإرجاء ومساومة، مع الجَّنرالات، تارةً، مستغلاً حرصهم على ألا يبدو تحرُّكهم "انقلاباً"، ومع "رفاقه" في حزب "زانو"، تارةً أخرى، متجاهلاً قرارهم بإقالته من رئاستهم، ومع قادة الدُّول المجاورة، تارةً ثالثة، مستثمراً خشيتهم من أن يروا إقليمهم يغرق في الفوضى، ومع الجَّماهير، تارةً رابعة، وقد رابضت في الشَّوارع، ليل نهار، تطالبه، على بكرة أبيها، بالرَّحيل؛ أخيراً .. وبعد أن عِيلَ كلُّ صبرٍ، وضاق كلُّ صدرٍ، وبلغت الأرواح الحلاقيم، وحزم البرلمان أمره، وقرَّر عقد جلسة مخصوصة لإقالته، بل وحتَّى بعد أن كادت الجَّلسة تبدأ فعليَّاً، وتهيَّأ مويندا، رئيس البرلمان، لإعلان افتتاحها، عندذاك، فقط، تحرَّك موغابي، متثاقلاً، ليستلم مويندا خطاب استقالته الذي زعم فيه أنه يترجَّل طوعاً، ليضمن انتقالاً سلميَّاً للسُّلطة .. وكذَب! فقد ظلَّ يعصلج، حتَّى الثَّانية الأخيرة، كأيِّ مقامر محترف، قبل أن يرمي على الطاولة بشرطه الأساسي للهبوط من عرشه السَّامق، بعد إذ بقي متشبِّثاً به سبعة وثلاثين عاماً، حتَّى تيبَّست أصابعه، أن يُمنح، هو وبعلته غريس، حصانة من أيِّ مساءلة!
كان أهمَّ ما أهمَّ الجَّماهير، لحظتها، حصولها على وثيقة استقالته بأيِّ ثمن! فما لبثت، حين جاءها الفرج، أن انفجرت، مساء 21 نوفمبر الجَّاري، من أقصى البلاد إلى أقصاها، بالطبول، والكرنفالات، وأبواق السَّيَّارات، وصيحات الابتهاج، وحلقات الرقص الشَّعبي، وهطل عليها فرح لم تشهد له مثيلاً إلا لدى استقلالها قبل زهاء الأربعين سنة، وقال أحد النوَّاب بعينين ترقرق في مآقيهما الدَّمع: "إذا استمسك الشَّعب بما يريد، تحقَّق التَّغيير"!
هكذا، وكما يحدث لكلِّ المستبدِّين بعد سقوطهم، لم يرتفع صوت واحد يذكر موغابي بالخير، فلكأنَّ نفس هذا الشَّعب ما كان قد سعد، نفس هذه السَّعادة، يوم تبوَّأ نفس الرَّجل رئاسة البلاد عام 1980م، باعتباره، آنذاك، البطل الذي قاد معركة الاستقلال عن الاستعمار البريطاني! فكيف، تراها، تستقيم هذه المفارقة عقلاً؟!
(2)
السُّلطة قوَّة معنويَّة قد تنفلت من عقالها، إذا لم يتمَّ ضبطها جيِّداً، فتنحرف بتفكير البعض وسلوكهم عن جادَّة الاعتدال العقلي، والسَّويَّة النَّفسيَّة. ذلكم هو درس اللورد أكتون في نهاية القرن التاسع عشر: "السُّلطة مَفسدة، والسُّلطة المطلقة مَفسدة مطلقةPower tends to corrupt and absolute power corrupts absolutely". فهل، تُراك، جرَّبت، مثلاً، أن تستدعي، من ذاكرة أواخر القرن 17، ومطالع القرن 18، لويس الرَّابع عشر، الخائض، أبداً، نزاعات لا تنتهي، وحروباً لا تضع أوزارها، المحبُّ للأعياد الباذخة، والاحتفالات المترفة، والمهرجانات المسرفة، في دولة تعاني الإفلاس، حتَّى لقد فشل كلُّ وزراء ماليَّته في توفير الأموال التي تلزمه، رغم أنه حكم أطول فترة في التَّاريخ الأوربِّي، متربِّعاً فوق الجَّميع، ومختزلاً فلسفة حكمه الإلهي المطلق، بكلمته الشَّهيرة "أنا الدَّولة والدَّولة أنا L'état, c'est moi"؟!
إذا جرَّبت فسترى أمامك، على الفور، أبرز ملوك البوربون ذاك في صورة موغابي، الزَّعيم الزيمبابوي النَّزق، المغرور، المفارق للوقار مثل فتى مراهق، المتوهِّم، وعمره يقارب القرن، أن الموت نفسه ليس بقادر على اقتلاعه من قمَّة سنام زيمبابوي، حيث ظلَّ مغروساً هناك، كمسمار صدئ، زهاء الأربعة عقود، لدرجة أنه لم يعُد يتصوَّر "الدَّولة"، ذاتها، بدونه، فلكأنَّ التَّفريق غير وارد، البتَّة، بين "السُّلطة" و"مَن يتولاها"!
ولا تسَلْ، بعد ذلك، عن الفروق بين الرَّجلين، على اختلاف زمنيهما، فهي كذرَّات رمل الصَّحاري، بلا عدٍّ ولا حد، إذ ارتقى الأوَّل بفرنسا، قبل ما يربو على القرنين، في مجال الثَّقافة على الأقل، من دولة متخلفة، إلى قمة النفوذ العالمي، حتَّى لقد سُمِّي "الشَّمس"؛ بينما انحطَّ موغابي بزيمبابوي، مطالع الألفيَّة الثَّالثة، من قمَّة الأمل في أن تصبح سلة غذاء أفريقيا، إلى سفح اليأس من أن تنجو من مصير التَّسول، حتَّى لقد تحوَّلت من بلد منتج، وحاضن لملايين المهارات والقوى العاملة، إلى بلد طارد بلغت أعداد الهاربين من جوعه وعطشه وجفافه غير المسبوق، إلى جنوب أفريقيا المجاورة وحدها، أكثر من مليون مهاجر؛ بلد تخنقه الفاقة، ويطحنه الفساد، ويتفاقم تضخُّمه بمعدَّلات فلكيَّة، ويرتفع دَّينه الخارجي بنسب خرافيَّة، وتبلغ نسبة البطالة فيه94%، وتتفشَّى فيه الأوبئة والأمراض الخطيرة كالإيدز والكوليرا!
أكثر التَّقارير دقَّة تشير إلى السَّنوات الخمس الأولى، فحسب، من حكمه، باعتبارها شهدت إنجازات نسبيَّة، حيث أضحت زيمبابوي الأفضل، مثلاً، في التَّعليم، أفريقيَّاً على الأقلِّ، بنسبة أميَّة لا تتجاوز 10%. أما العقود التَّالية فسادتها سياسات منحرفة، وترتيبات دستوريَّة وقانونيَّة عشوائيَّة، أوخمها مصادرة 95% من مزارع السُّكَّان البيض، عام 2000م، وإعادة توزيعها على السُّكان السُّود، بدعوى الإصلاح الزِّراعي، قبل التَّحقُّق من مقدرة هؤلاء على حسن إدارتها، كما في السَّابق، مع حرمان 4000 متضرِّر من اللجوء للقضاء،الأمر الذي بدا كمحاربة للعنصريَّة بعنصريَّة أبشع، وأدَّى إلى أعمال عنف، ومذابح، واضطهاد بحسب لون البشرة. وقابل الغرب تلك الإجراءات بعقوبات لم يكن موغابي قد تحسَّب لها، فضلاً عن تأثيرها السَّالب على الزِّراعة، حتَّى لقد تحوَّلت زيمبابوي من بلد يصدِّر المحاصيل، إلى بلد يعاني المجاعة!
(3)
أولاد الرَّئيس الوالغون في حياة الصَّعلكة بحانات جوهانسبيرج هم، بالتأكيد، بعض محن هذا البلد المنكوب! على أن أكبر هذه المحن هي غريس، عقيلة أكبر الرُّؤساء سنَّاً، والتي تصغره بنصف قرن، وأوَّل الهاربين، مؤخَّراً، من سفينته الموشكة على الغرق، تاركة العجوز يواجه مصيره وحده؛ غريس التي لم تكتف بجعل "مليكها العريان" يخطر، في أخريات أيَّام "ملكه"، مجرَّداً من كلِّ فضيلة، ومتوهِّماً، في الوقت نفسه، أنه يرفل في التِّبر، والخزِّ، والدِّيباج، والقصب، بل وبجعله، حتف أنف التَّاريخ، والسِّياسة، والاجتماع، والشَّعب الزِّيمبابوي، يمهِّد لخلافتها له بأن أقال نائبه منانغاغوا، رفيق كفاحه القديم من أجل الاستقلال، ليعيِّن محله مفوكو الموالي لغريس، في خطوة مفضوحة اعتبرت الأخطر، حيث أفضت بالجنرال شيوينغا، القائد العام للجَّيش، لأن يقول فوراً: "كفى enough is enough"، وأن يدفع بدبَّاباته، في 15 نوفمبر 2017م، لاحتلال الإذاعة، والبرلمان، والمحكمة العليا، ومقرِّ الحزب الحاكم، وأن يضَعِ موغابي نفسه قيد الإقامة الجَّبريَّة، وهي "العمليَّة" التي ظلَّ العسكر ينفون عنها صفة "الانقلاب"، معلنين أنها محض "وسيلة" لإزالة المجرمين من حول الرَّئيس!
وإذن، فمحاولة موغابي رفع زوجته إلى مقعد الرِّئاسة، كانت القشَّة التي قصمت ظهر بعيره! فهي سيِّدة بلا أيِّ تاريخ نضالي، أو حتَّى أبسط مؤهِّل أخلاقي، ولم يحملها إلى عضويَّة المكتب السِّياسي لحزب "زانو" الحاكم، أو تسنُّم رئاسة تنظيمه النِّسائي، سوى عشق موغابي لها، وزواجه منها، في حفل أسطوري عام 1996م، بعد أن قدَّموها له كموظفة آلة كاتبة في القصر الرِّئاسي! سيِّدة أقصى مواهبها جولات التَّسوُّق الباذخ في العواصم الكبرى، وترتيب الحفلات التي تنضح بالتَّرف، والمناسبات التي تضجُّ بالفخامة، والتي درجت فيها على تملق الزَّعيم العاشق، حدَّ المبالغة، كالحفل الذي أقامته في 2014م، ودعت الجَّماهير، خلاله، لإعادة انتخابه، حتى لو مات وصار جثة هامدة (!) وإحيائها، العام الماضي، عيد ميلاده الثَّاني والتَّسعين بحفل كلف مليون دولار، في بلد بات يتلقَّى المعونات!
مواطنو زيمبابوي يلقِّبونها ب "غوتشي غريس"، إشارة إلى الماركة العالميَّة GUCCI، وكناية عن ولعها بأغلى المقتنيات على حساب المال العام؛ ويتداولون في ذلك قصصاً عجيبة، كإنفاقها، خلال ساعات معدودات، أثناء رحلة تسوُّق بباريس، مبلغ 120 ألف دولار أمريكي، وسحبها، مطالع التِّسعينات، ما يربو على 6 ملايين دولار أمريكي من البنك المركزي دون وجه حق، وامتلاكها قصرين مبهظين، باعت القذَّافي أحدهما، ويُسمَّى "غريس لاندز"، بينما كلفها بناء الآخر 26 مليون دولار أمريكي. وفي 2010م أظهرت بعض تسريبات "ويكيليكس" اسمها كمتَّهمة بتجارة الماس غير المشروعة blood diamond!
أمَّا حصولها على الدُّكتوراه في علم الاجتماع، من جامعة زيمبابوي، عام 2014م، فتظلُّ القصَّة الأكثر طرافة، إذ حصلت عليها بعد شهرين، فقط، من التَّسجيل .. دون أن توجد أطروحتها في أيِّ مكان!
وفي الرَّابع من أكتوبر المنصرم قبض على الصَّحفي كنيث نيانجاني لإيراده خبراً اعتُبر "مسيئاً" لها، حول "تبرُّعها" بملابسها الدَّاخليَّة المستعملة لعضوات "رابطة المرأة" التي تترأسها في الحزب الحاكم!
وبالمناسبة، فإن زيمبابوي مصنفة في المركز/128، ضمن قائمة منظمة "صحفيون بلا حدود" لمؤشر حريَّة الصَّحافة العالمي للعام 2017م، والتي تضمُّ 180 دولة. وقد وصفت المنظمة الوضع الإعلامي هناك بكلمة واحدة .. "قمعي"!
(4)
أجبر موغابي، إذن، على التَّرجُّل مقابل حصانة ظلَّ يساوم من أجلها، حتَّى ورمت لهاته، له ولغريس. وفي الأثناء لم تعُد خافية علاقة منانغاغوا، أو "التِّمساح"، كما يلقِّبونه، ب "عمليَّة العسكر"؛ فرغم أن موغابي أزاحه، قبل أيَّام، إلا أن العسكر والنُّوَّاب استهدفوا بالإزاحة موغابي نفسه. وجاءوا بمنانغاغوا، مساء الخميس 23 نوفمبر، ليؤدِّي القسم نهار الجُّمعة 24 نوفمبر كرئيس للبلاد، دون أن يفتقد أحد مفوكو، نائب الرَّئيس الذي عومل كمحض جردل لجمع القمامة بركن القصر الرِّئاسي!
في الأثناء راح موغابي يتلظى في جحيم وحدته كجنرال هابط من إحدى روايات ماركيز! فحتَّى غريس هربت، الله وحده يعلم إلى أين. وتخلى عنه أقرب الأقربين في الجَّيش، مثلما تخلى عنه الرِّفاق في رابطة قدامى المحاربين. أمَّا أعضاء الحزب الذي يرأسه فقد عقدوا اجتماعاً، بدونه، وأقالوه من رئاستهم؛ بل ووَرْوَرُوا له بالأعين الحمراء، وطالبوه، الضُّحى الأعلى، بالاستقالة من رئاسة الدَّولة كلها، هم الذين ما كانوا ليجرؤوا، يوماً، على رفع أعينهم إلى عينيه!
وبمناسبة ترجُّله أعلن الاتحاد الإفريقي، باللغة المداهنة، ذاتها، التي اعتاد عليها، ترحيبه بقرار الاستقالة "بعد حياة كرّسها لخدمة زيمبابوي"، معتبراً ذلك خياراً "سيحفظه له التَّاريخ" .. فتأمَّل! أمَّا الجنوب أفريقي جاكوب زوما فقد أبدى "تفاؤلاً حذراً" بهذه الاستقالة! وأمَّا البوتسواني إيان خاما فقد صرَّح، عديل كدا، بأن موغابي لا يتمتع بأيِّ دعم دبلوماسي، وأنه "ينبغي ألا يبقي رئيس في السُّلطة لثلاثة عقود"!
حتَّى الصُّحف المحليَّة لم تخلُ من غمز "الشَّماتة" ولمزها. فعلى سبيل المثال عنونت "نيوزدي" عددها غداة الاستقالة: "وداعاً"! أمَّا صحيفة "الهيرالد" الرَّسميَّة فقد عنونته "وداعاً أيُّها الرَّفيق الرَّئيس"، بل ولم يفتها أن تكتب عن "أخطاء الماضي"!
وبدأت بريطانيا تتحدَّث عن مستقبل مستعمرتها السَّابقة بدون موغابي، معلنة أنها تريد لها أن تنضمَّ، مجدَّداً، إلى المجتمع الدَّولي، حيث يشكِّل "سقوط" موغابي "بارقة أمل"، وأن "الأولويَّة أن تكون لديها حكومة شرعيَّة منبثقة عن انتخابات حرَّة وعادلة". كذلك عبَّرت أمريكا عن أن هذه الاستقالة "فرصة تاريخيَّة" للتَّغيير، وإنهاء "عزلة" زيمبابوي الدَّوليَّة.
أمَّا الصِّين، "الشَّريكة" الأبرز لزيمبابوي، فقد أثارت "الغارديان" البريطانيَّة شكوكاً جديَّة في علاقتها بالإطاحة ب "صديقها" موغابي، حيث كشفت عن زيارة قام بها الجَّنرال شيونغا إلى بكين، في إحدى عتبات "الإنقلاب"! واستنتجت أن العالم قد يكون شهد للتَّو أوَّل نموذج "انقلاب سرِّي" من النوع الذي كانت تفضّله "السي آي إيه" الأمريكيَّة، و"الإم آي 6" البريطانيَّة، ولكن، هذه المرَّة، بملامح صينيَّة! وأسندت الصَّحيفة تحليلها إلى مصالح الصِّين الاقتصاديَّة ونفوذها السِّياسي في زيمبابوي منذ سنوات الصِّراع من أجل الاستقلال.
على أيِّ حال، وبصرف النَّظر عن تحليل "الغارديان"، فإن من الوارد، عقلاً، أن الصَّين التي اقتدت بالإمبرياليَّة الغربيَّة في استثمار اقتصاديَّات "البلدان النَّامية" لخدمة مصالحها، لا تستنكف من الاقتداء، أيضاً، بأساليب ومناهج المخابرات الغربيَّة في حراسة هذه المصالح، حتَّى لو اضطرَّت إلى .. صناعة الانقلابات!
(5)
مهما يكن من أمر هبوط موغابي "إضطراريَّاً"، وصعود "التِّمساح" على أسنَّة رماح العسكر، فإن ثمَّة من يعبِّرون عن الخشية، بحق، من ألا يتعدَّى ذلك ذهاب "قيصر" قديم، ومجئ "قيصر" جديد! فالتَّناوب الشَّكلاني الفوقي على سدة الحكم لا يعني، بالضَّرورة، مزيداً من الدِّيموقراطيَّة! كما وأن "الدَّولة العميقة" لن تتيح تحقيق تقدُّم طالما أن ثمَّة عناصر من الحزب الحاكم ما تزال في السُّلطة! وهذه الهواجس السِّياسيَّة ليست بعيدة عن الحقيقة لعدَّة أسباب:
أوَّلاً: رصدت منظمات دوليَّة معنيَّة بالدِّفاع عن حقوق الإنسان، مثل "هيومن رايتس ووتش"، و"منظمة العفو الدوليَّة"، جمهرة وقائع قتل، وتعذيب، واختفاءات قسريَّة وقعت في عهد موغابي، دون أن يكون ثمَّة ما يبرِّر استثناء منانغاغوا من المسؤوليَّة عنها، فقد كان، دائماً، أهمَّ أركان جهاز الأمن، ونائباً لموغابي، وساعده الأيمن، ومستودع سرِّه، ورفيق دربه في الحرب والسِّلم، وأقرب حلفائه ومعاونيه إليه.
ثانياً: لم يُرصد لمنانغاغوا خلاف مع موغابي سوى كونه منافس غريس الأخطر، والمهدِّد الأكبر لفرصتها في خلافته؛ وليس ثمَّة سبب، سوى هذا، لإقالته.
ثالثاً: "صفقة" استقالة موغابي مقابل تحصينه، هو ورفيقته، من المساءلة كانت "أوَّل الوهن" الذي ستدفع زيمبابوي ثمنه غالياً، طال الزَّمن أو قصر، بينما تمثَّل البديل الثَّوري الأكثر سداداً في قول كريس موتسفانغوا، الزَّعيم الشَّعبي، ورئيس رابطة قدامى المحاربين، مومئاً إلى موغابي: "إذا لم يقدم استقالته، فسنطلب من الزيمبابويين أن يدلوه على طريق الخروج!"، ما يعني ردِّ الأمر إلى الشَّعب، لا التَّعويل على الإنقلاب.
رابعاً: الدَّعوات التي ارتفعت من عدَّة جهات "لاستدبار تجاوزات الماضي، وإجراء إصلاحات أساسيَّة في جهازي الجيش والشُّرطة اللذين كانا أداتَي الشُّموليَّة الرَّئيستين"، أثبتت الخبرات التَّاريخيَّة لعشرات البلدان عدم جدواها إن لم تقترن بمشروع متكامل ل "العدالة الانتقاليَّة" بهدف تصفية "تركة الماضي" المثقلة، بحيث يكون هذا "الإصلاح المؤسَّسي" أحد عناصرها، وليس هدفاً مفصولاً عن جماع هذا "المشروع المتكامل". بدون ذلك لا يمكن حتَّى مجرَّد التَّفكير في "استدبار تجاوزات الماضي".
خامساً: تدخُّل الجيش في الحياة السِّياسيَّة بهذا السُّفور يثير مشكلة في حدِّ ذاته. فرغم أن حزب "زانو" الحاكم أدان هذا التَّدخُّل، في بدايته، بل اعتبره "خيانة عظمى"، إلا أنه انتهى بموالاة الجنرالات، ومباركة خطوتهم! وللمفارقة، فإنه قد اعتبر التَّحرُّك العسكري "ضروري للدُّستور ووحدة الأمَّة"! كما عبَّر أحد قادته عن ندمه على موقفه الأوَّل الرَّافض للانقلاب، طالباً الصُّفح من الجنرال تشوينغا، بقوله: "ما زلنا صغاراً نرتكب الأخطاء"!
فكيف السَّبيل، بإزاء ذلك، للخروج بالبلاد، وحزب "زانو"، والحركة السِّياسيَّة الوطنيَّة من هذا الوحل اللبيك؟!
***
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.