اللاعبين الأعلى دخلًا بالعالم.. من جاء في القائمة؟    جبريل : مرحباً بأموال الإستثمار الاجنبي في قطاع الصناعة بالسودان    قيادي سابق ببنك السودان يطالب بصندوق تعويضي لمنهوبات المصارف    بعد رحلة شاقة "بورتسودان.. الدوحة ثم الرباط ونهاية بالخميسات"..بعثة منتخب الشباب تحط رحالها في منتجع ضاية الرومي بالخميسات    على هامش مشاركته في عمومية الفيفا ببانكوك..وفد الاتحاد السوداني ينخرط في اجتماعات متواصلة مع مكاتب الفيفا    شاهد بالصورة.. (سالي عثمان) قصة إعلامية ومذيعة سودانية حسناء أهلها من (مروي الباسا) وولدت في الجزيرة ودرست بمصر    شاهد بالفيديو.. الرجل السودني الذي ظهر في مقطع مع الراقصة آية أفرو وهو يتغزل فيها يشكو من سخرية الجمهور : (ما تعرضت له من هجوم لم يتعرض له أهل بغداد في زمن التتار)    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان أحمد محمد عوض يتغزل في الحسناء المصرية العاشقة للفن السوداني (زولتنا وحبيبتنا وبنحبها جداً) وساخرون: (انبراش قدام النور والجمهور)    الخارجية تنفي تصريحا بعدم منحها تأشيرة للمبعوث    آفاق الهجوم الروسي الجديد    كيف يتم تهريب محاصيل الجزيرة من تمبول إلي أسواق محلية حلفا الجديدة ؟!    شبكة إجرامية متخصصة في تزوير المستندات والمكاتبات الرسمية الخاصة بوزارة التجارة الخارجية    مناوي: وصلتنا اخبار أكيدة ان قيادة مليشات الدعم السريع قامت بإطلاق استنفار جديد لاجتياح الفاشر ونهبها    يوفنتوس يتوج بكأس إيطاليا للمرة ال15 في تاريخه على حساب أتالانتا    مانشستر يونايتد يهزم نيوكاسل ليعزز آماله في التأهل لبطولة أوروبية    مطار دنقلا.. مناشدة عاجلة إلى رئيس مجلس السيادة    عثمان ميرغني يكتب: السودان… العودة المنتظرة    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    بعد حريق.. هبوط اضطراري لطائرة ركاب متجهة إلى السعودية    نهضة بركان من صنع نجومية لفلوران!!؟؟    واشنطن تعلن فرض عقوبات على قائدين بالدعم السريع.. من هما؟    د. الشفيع خضر سعيد يكتب: لابد من تفعيل آليات وقف القتال في السودان    الكشف عن شرط مورينيو للتدريب في السعودية    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني في الموازي ليوم الأربعاء    رسميا.. كأس العرب في قطر    وسط توترات بشأن رفح.. مسؤول أميركي يعتزم إجراء محادثات بالسعودية وإسرائيل    "تسونامي" الذكاء الاصطناعي يضرب الوظائف حول العالم.. ما وضع المنطقة العربية؟    عالم آثار: التاريخ والعلم لم يثبتا أن الله كلم موسى في سيناء    "بسبب تزايد خطف النساء".. دعوى قضائية لإلغاء ترخيص شركتي "أوبر" و"كريم" في مصر    شاهد بالصورة.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تنعي جوان الخطيب بعبارات مؤثرة: (حمودي دا حته من قلبي وياريت لو بتعرفوه زي ما أنا بعرفه ولا بتشوفوه بعيوني.. البعملو في السر مازي الظاهر ليكم)    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    5 طرق للتخلص من "إدمان" الخلوي في السرير    انتخابات تشاد.. صاحب المركز الثاني يطعن على النتائج    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    روضة الحاج: فأنا أحبكَ سيَّدي مذ لم أكُنْ حُبَّاً تخلَّلَ فيَّ كلَّ خليةٍ مذ كنتُ حتى ساعتي يتخلَّلُ!    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    أسترازينيكا تبدأ سحب لقاح كوفيد-19 عالمياً    القبض على الخادمة السودانية التي تعدت على الصغيرة أثناء صراخها بالتجمع    الصحة العالمية: نصف مستشفيات السودان خارج الخدمة    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هذا هو الإسلام وهذا سقوط دولته ولا حاجة إلى البحث عن "جوهر" ديني في الرد على النور حمد .. بقلم: عبد اللطيف علي الفكي
نشر في سودانيل يوم 05 - 01 - 2018

هذا هو الإسلام وهذا سقوط دولته ولا حاجة إلى البحث عن "جوهر"
ديني في الرد على النور حمد في مقاله "الحركة الإسلامية لمة بلا مشروع"
بقلم: عبد اللطيف علي الفكي
1
يبدو أن مقال النور حمد قد استمدَّ اهتمامه وحماسه من مقال للتيجاني عبد القادر الذي وصفه بكونه "الإسلامي السوداني البارز، والرئيس الأسبق لاتحاد طلاب جامعة الخرطوم، والأكاديمي المتميز"؛ وفوق ذلك وصف المقال نفسه بأنه "مقال ملفت". ولكن – أكبر ظني – أن الاهتمام والحماس لم يأتيا من المقال بقدر ما يأتيا من كاتب المقال. لأن ثيمة المقال عند التيجاني عبد القادر، كما لخصها النور حمد نفسه، تدور حول وصف هذه السلطة سلطة الإخوان المسلمين بأنها "تحالف خام وفج بين القبيلة والسوق والذهنية الأمنية". حين تصدر هذه الثيمة المكوِّنة لمقال التيجاني عبد القادر، وحين نعرف أنه من أنداد هؤلاء الذين يصف حكمهم بالخام والفج، نستشعر إلى أي مدى ينتشي اهتمام وحماس مقال النور حمد في المقولة المتداولة الصادرة من القرآن في سورة يوسف 'وشهد شاهد من أهلها‘. وهي مقولة لا تنجي الشاهد قيد وصف شهادته قولاً لا فعلاً، ولا توقف أهل هذا الشاهد من شين أعمالهم.
فالتيجاني كشاهد من أهل الإخوان المسلمين لا تدفعه شهادته السالبة في سلطة الإخوان المسلمين كونها "تحالفاً خاماً وفجاً بين القبيلة والسوق والأمن" لأن يصبح مقاله "مقالاً ملفتاً" كما يصفه النور حمد. وذلك لسببٍ جوهري جداً عندنا؛ وهو أن هذه الثيمة التي يشير إليها التيجاني يعيشها الناس ويتنفسون نتانتها لثلاثة عقود. فالذي يعيش السوء في حياته اليومية لا يُغنيه أن تصف له ذلك السوء. لقد كَثُرَ الواصفون لهذا السوء من جماعة الإخوان أنفسهم؛ وعلى أكمل وجه بعد ما أطلقوا على هذا السوء المفاصلة التي كوَّنت الوجه الآخر لعملة السلطة؛ أي، المؤتمر الشعبي برئاسة الترابي. يُسمِّي النور حمد هؤلاء "بالنابهين". وهم عنده الذين أدركوا فجاجة التحالف بين القبيلة والسوق والأمن. فهل هذا الفعل يجعلهم نابهين؟ بالطبع لا، طالما أن هذا ليس شيئاً تجاه ضياع وطن بأكمله بأيادي النابهين وغير النابهين.
وأكبر ظني لو يقصد النور هؤلاء الذين ضاق بهم حال فساد إخوانهم، هم النابهون، فمنذ البداية لا توجد هناك مفاصلة صادَقَ عملها التاريخ الذي بين أيدينا؛ بحكم رجوع الترابي ومؤتمره الشعبي مصرحاً "عدنا لأننا لم نستطع إسقاط النظام". ونتيجة لذلك، لا يوجد نابهون قاموا بالدور الفعلي العملي الذي يجعلهم نابهين حقاً بخروجهم من الخطاب الذي يخلط الدولة بالدين. هم نابهون في حدود هذا الخطاب الذي يخلط الدولة بالدين في فترات وهنه وضعفه. ففي هذه الفترات تكثر الدسائس والحوارات والتصريحات والمؤتمرات في مسميات مختلفة. إنهم نابهون في أفعال الديتور (أي شق طرق مؤقتة تدور لتنتهي في الطريق الرئيس المُقْفل). أفعال الديتور هو شغلهم الشاغل، ولن يتخلوا عنه. لأن نظرية الخطاب تُعَلِمُنا أن اهتراء الخطاب وتضارباته مع علاقات مكانه لا ترقعها إلا أعمال الديتور.
النباهة عند السياسي ليست هي الحنكة في أفعال الخداع، والمحاجة مع الأفراد وكسبهم على حين غِرَّة، وكأن الدولة هم هؤلاء الأفراد الذين أغريتهم أو غررت بهم، فتمَّ بيع وشراء الذمم. بل العكس تماماً من ذلك، إذ تعني النباهة عند السياسي الشعور في اللحظة التي يصطدم فيها خطابه لاغياً ومقصياً وعازلاً علاقة من علاقات مكونات هذا الخطاب في المكان، فما عليه إلا أن يُصلح أو أن يتنازل معتذراً عن تلك البقعة العمياء في خطابه (التي تسببت في الاصطدام بالمكان المحدد) ليتماشى الخطاب مع علاقات المكان الذي هو فيه. فتطوير الخطاب السياسي مرهون بتطوير المكان، وليس أن يلوي الخطاب عنق المكان ويحتفي بكسره وتفتيته وفصله وخرابه ليتماشى مع خطابه؛ أو مع فكرةٍ مجنونة هو يحملها، كالحاصل اليوم.
فهل كان هؤلاء نابهين حقاً؟ كلا.
2
لنقف وقوفاً مقتضباً في مقولة: تشكيل الخطاب مرهون بعلاقات المكان، وليس تشكيل علاقات المكان مرهونة بالخطاب. الشق الثاني من المقولة وهو (تشكيل علاقات المكان مرهونة بالخطاب)، هو ما تطلق عليه سلطة الإخوان المسلمين منذ إعلان قوانين الشريعة في عام 1983 وحتى الآن (المشروع الإسلامي). ويصف النور حمد هذا المشروع بالصفات التالية: "أ/ لم يكن شيئاً ب/ وُلِدَ ميتاً ج/ فج وفارغ المحتوى د/ هلامي ه/ كئيب و/ يجلب الموت ص/ يقتطع البلاد". نحن هنا بهذه الصفات أمام مستويين:
I- مستوى من هو داخل الخطاب الإسلامي المصطدم بالمكان.
II- مستوى من يبحث عن بديل داخل الخطاب الإسلامي لفداحة الاصطدام.
مستوى من يبحث عن بديل داخل الخطاب الإسلامي هو دائماً ينظر – بحُكْم طبيعته – في الجوهر. لذلك يكيل الأوصاف من (أ) إلى (ج) أي "لم يكن شيئاً، وُلِدَ ميتاً، فج وفارغ المحتوى". وهي صفات خارجية برانية لأنها تصدر مما، أطلق عليه النور حمد "حقيقة الإسلام وجوهره". أما المستوى الذي هو داخل الخطاب الإسلامي المصطدم بالمكان، فلا يعير للخارج البراني شيئاً؛ لذلك سيرتضي بصفاتك من (د) إلى (ص) أي "نعم المشروع الإسلامي هلامي، كئيب، يجلب الموت، يقتطع البلاد". لأنها ليست بصفاتٍ مطلقة، وإنما هي صفات آدائية تطبيقية. فالمشروع الإسلامي يقول لك أنت تراه من الخارج هلامياً لا لشيء سوى نحن في داخله نعمل على قداسة ألوهيته. وهذه القداسة لا تفصيل فيها بحكم طبيعة أن القرآن كلام الله فالله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن؛ ويقول لك كذلك: نعم هو كئيب لأنه يذكِّر بالموت لا بالحياة الفانية؛ وأخيراً يمدُّ لك لسانه قائلاً نعم هو يقتطع البلاد لأن المشروع لا يتعامل مع الكفار، وبالتالي لا يعير بالاً واهتماماً لحدود وهمية صنعها المستعمر وأسماها وطناً. فالمشروع أكبر من الوطن. وهي الدائرة الكبرى التي يطلق عليها المشروع الحركة الإسلامية بدلاً من الوطنية.
كل ذلك يتماشى مع المقولة الميتافيزيقية (تشكيل علاقات المكان مرهونة بالخطاب). إنها المقولة التي تكافئ السرير البروكرستي وهو أن بروكرست له سرير يضعه لنزلائه إذا قصرت رجلاه يمدهما مدَّاً حتى تلامس طرف السرير، أما إذا كانت رجلاه طويلتان فيقطعهما حدَّ طرف السرير حتى يتناسبان معه. فالسرير هنا هو هذا الخطاب، والنزيل عليه هو المكان. "يجب أن نَحُفَّ المكان على قدر الخطاب" يقول خطاب المشروع الإسلامي، وما كان يقوله قد فعله الآن.
3
يشير مستوى البديل من داخل الخطاب الإسلامي، حيث يؤكد النور حمد:
III- لم يكن للحركة الإسلامية السودانية حلمٌ نبيل تحققه، ولم يكن لها صرح تبنيه.
IV- التماهي الكلي مع أكبر نظام هو النظام الرأسمالي في نسخته الأمريكية؛ وهو أكبر نظام مهدِر لكرامة الإنسان في الأرض.
كما أسلفت أن يحف خطاب المشروع الإسلامي المكان على قدر أطراف خطابه؛ كما يفعل سرير بروكرستي؛ فهذا حلم نبيل بالنسبة للآدائية الفعلية للخطاب. وحتى يحقق ذلك ما عليه إلا أن يتماهى التماهي الكلي مع أكبر قوة في العالم سواء أكانت شرقيةً أم غربية. وفوق ذلك، يتم مداهنات لقِوَى أخر تؤثر في محيط المنطقة لا عالمياً.
فالحلم لا يكون حلماً نبيلاً لهذا المشروع الإسلامي إلا وأن يتم تقسيم السودان إلى دويلات هي خمس، كما صرَّح البشير ومن قبله مقترح مثلث الترابي. لأن هذا المثلث سوف يلجم كل الذين ينادون بالتعدد على صعيد الشعوب وثقافاتها ولغاتها. الحُلم بشعب يتحدث لغة واحدة ويدين بدين واحد. لا لغات متعددة في المثلث ولا أديان.
4
اللافتة العملية لخطاب المشروع الإسلامي هو هذا الشعار الذي يحقق حلمه النبيل (سحب المكان من شعوب المكان). مرَّة أخرى، كيف دخل مستوى من هو يريد البديل داخل الخطاب نفسه، وهو مستوى النور حمد في هذا الشعار، في هذه اللافتة العملية التي يجب تطبيقها كحلمٍ نبيل؟ دخل عليهما على حدِّ تعبير النور حمد بما هو "مُهم". فما هو هذا المهم؟ يقول "عدم نفاذ فكر الإخوان المسلمين إلى حقيقة الإسلام وجوهره".
هنا أمران أساسيان. الأمر الأول أن نطلق على حلم المشروع الإسلامي المبني على سحب المكان من شعوب المكان كونه "فكراً" على حدِّ تصنيف النور حمد نفسه. فإذا كان النور حمد يقرُّ أن من تبعات المشروع الإسلامي في السودان هو أنه أ/"جلب فاجعة الموت إلى كل عتبة دار"، هو أنه ب/"قام بترحيل البشر أفواجاً إثر أفواج شطر جهات الأرض الأربع"، هو أنه ج/"جعل دارفور برمتها تتحول إلى معسكر ضخم للنزوح يتربص الخطر الماحق، والموت الزؤام بساكنيه في كل منعطف، وكل لحظة"، هو أنه ليس شيئاً سوى د/ "حراسة المصالح الشخصية للقلة التي تحققت لها على حساب الكثرة بالمليشيات، والقبضة الأمنية الحديدية"، فهل هذه التبعات (4 أ- د) هنا، تمثل "فكراً"؟ هل الفكر هو تخريب الوجود؟ أم هو الفكر الذي ينير مستقبل الوجود قائماً على عزل الخطأ ليجعل العالم في متناول اليد عند شعوبه؟ أيهما يُشتق منه التفكير: التخريب أم الازدهار؟
الأمر الثاني أن نعدِّل صيغة النور حمد كالآتي: عدم نفاذ المشروع الإسلامي إلى حقيقة الإسلام وجوهره. بدلاً من عبارة عدم نفاذ فكر الإخوان المسلمين. لأن المسألة كلها خارج الفكر، بل هي الآن خارج الممارسة السياسية. الأن دعوني أركز قليلاً على عبارة "نفاذ"، التي تعني نفاذ المشروع نحو إقامة دولة. لأن النفاذ يتضمن بصورة صريحة وليست ضمنية التطبيق الفعلي نحو 'ازدهار‘ وجود علاقات المكان البشرية والإنمائية، وليس التخريب. هناك تضاد يعيق هذا النفاذ نحو الدولة بصورة حاسمة ألا وهو تضاد الدولة والجوهر. لماذا هذا التضاد؟ وإلى أي شيء يرجع؟ لأن هذا التضاد يتنافي بعضه ببعض، ويرجع في الدرجة الأولى إلى أن الجوهر من خصائصة الخفاء والضمنية وليس الظهور والصراحة. لهذه الخصائص يقع التضاد بين الجوهر والدولة. مما يؤدي إلى أن الجوهر لا يتم نفاذه نحو الدولة. فإذا كان المشروع الإسلامي قد تم نفاذه للدولة تخريباً، فإن جوهر الإسلام لا يستطيع أن ينفذ إلى الدولة بحكم طبيعة الجوهر. وما هو فاقد النفاذ لا نستطيع أن نرجو منه إصلاحاً.
5
دخل خطاب النور حمد، إذاً، في خطاب المشروع الإسلامي ناقداً من باب البديل كجوهر. وما دعا خطابه الناقد لأن يقول ذلك هو فداحة اصطدام الإسلام بالمكان؛ فأسس مبدأ نظره المعتمد اعتماداً تاماً على أن المشروع الإسلامي الذي وقع عليه اللوم لم يحقق "جوهر الإسلام". فهناك إسلام آخر خارج هذا المشروع الإسلامي المطبِّق لدولة الإخوان المسلمين التي يعيشها السودانيون الآن بتعب كل نَفَس. يؤكد النور حمد على ذلك قائلاً أ/ "أنها حركة لم تعرف عن جوهر الإسلام" شيئا، ب/ إنها "جهل موبق بجوهر الإسلام".
حركة لم تعرف جوهر الإسلام، وفوق ذلك جهل موبق بجوهر الإسلام يجعلان أية ممارسة للإسلام هي ممارسة خارج جوهر الإسلام. فما هو هذا الجوهر عند النور حمد؟ إنه كما يقول "العدالة ونبذ الظلم ونبذ السخرة والاستغلال وأكل أموال الناس بالباطل". هذا هو الجوهر الذي مال عنه المشروع الإسلامي. وقد صبَّ جام غضبه عليه في كونه يميل كل الميل وينحرف كل الانحراف عن "جوهر الإسلام". هذا هو الأساس في فشل المشروع الإسلامي عند الإخوان المسلمين السودانيين. أما التعرُّض لما قاله سلفاً وهو "جلب فاجعة الموت إلى كل عتبة دار" إلى آخر التبعات في (4 أ- د أعلاه)، فيأتي نتيجة للميل والانحراف عن الجوهر الذي يعتقد فيه.
6
منذ البداية وضع النور حمد ميزاناً في المطلق هو "جوهر الإسلام"، والدولة هي التابعة لهذا الجوهر. وخراب جوهر الإسلام يؤدي بالضرورة – عنده – إلى خراب الدولة. ومنذ البداية لو جعل النور حمد ميزانه ميزاناً دينياً صرفاً حصراً على السلوك الفردي لمن يحكمون باسم ذلك الجوهر، لما تعرضنا له. ولكن، يجئ الرد عليه من مبدأ النظر الأساسي: أن انحطاط الدولة يقاس بالعلاقات التي أدت إلى ذلك الانحطاط وليس قياساً في انحطاط أيديولوجي لتلك الأيديولوجيا الإسلامية. خلاف ذلك سيقع مبدأ النظر في قياس الأشياء في حلقة مفرغة لا تؤدي إلا إلى مزيدٍ من الغيبوبة والدوار. وهي الدائرة نفسها حين نبرر أن سقوط الاتحاد السوفيتي قد كان في انعدام التطبيق الصحيح للماركسية والاشتراكية العلمية.
مبدأ النظر هنا معقود أمره بعلاقات مكانية محددة في مكانٍ بعينه. وهي في الوقت نفسه يتوافر بعضها ببعض ازدهاراً في غياب الحروب غياباً تاماً. هذا المكان المحدد إما أن يتعطل بتعطيل تلك العلاقات المتوافرة نحو الازدهار، أو يمتد مستقبلاً ليستوعب الأجيال القادمة عقوداً بعد عقود. هذا الامتداد المستقبلي لا يعمل معه أي نوع من أنواع الجوهر؛ جوهر الصحوة (الصادق المهدي)، أو جوهر الرسالة الثانية (محمود محمد طه)، أو جوهر الأممية (الشيوعي)، أو جوهر الحركة الإسلامية العالمية (الترابي، الحكومة الآن)، أو جوهر رسالة عربية خالدة (البعثي)، أو جوهر نحن أولاد البلد الأصليين (حزب الفلاحين والعمال). كل هذه الأنواع لا تنفع مع مبدأ النظر هذا، لأن الجوهر هنا مسكون ومنقاد نحو ماضوية جوهره، بينما العلاقات المكانية مشدودة نحو المستقبل.
الخطاب في هذه العلاقات المكانية (السودان وشعوب السودان) مكاني جداً ينهض بنفسه نحو سيادة مكانية. هذه السيادة المكانية – ليست هي بجوهر ولا مُلْكِيَّة خاصة – وإنما هي القاسم المشترك الأعظم في الديمقراطية. ولأنها هي كذلك، فالسيادة نفسها هي أفكار متحققة تجعل الحق يمشي بين الناس، لأن مركزه العدل. ولا يتحقق العدل إلا بتحقيق الديمقراطية. في هذه السيرورة السيادية المتحققة – ليست كجوهر، بل كشيء في متناول اليد عند الناس يومياً – (الحق العدل الديمقراطية السيادة كقاسمٍ مشتركٍ) محقت أنواع الجوهر المشار إليها في الفقرة السالفة تحقيق هذه السيادة. باختصار، محقت الأحزاب القديمة هذه السيادة المكانية سعياً نحو تحقيق جوهرها. هذه هي الحلقة المفقودة منذ تأسيس الأحزاب السودانية القديمة. لقد كان تحقيق هذا الجوهر والخطاب الذي يفصح عنه بمثابة نقطة عمياء لا ترى علاقات المكان، بل تصطدم بهذه العلاقات. وأقصى مستوى لهذا الاصطدام هو الحروب (1821- 1885) (1885- 1898) (1955- 1971) (1981- 2011) أضف لكل ذلك مئات السنين تحت فوضى خلافة سنار (1501- 1821).
فبعد كل هذا الخراب عبر مئات السنين لهذا المكان ما زلنا نتغالط أن "الجوهر" تحقق أم لا. حين يقول النور حمد "جوهر الفكرة الإسلامية الخالد، المتمثل في العدالة ونبذ الظلم، ونبذ السخرة، والاستغلال، وأكل أموال الناس بالباطل، جوهرٌ أصبح يتداعى إليه الخيرون في العالم، من جميع الملل والنحل، إنما هو جوهر لا يحتكره الإسلام حصراً، ولم تبدأ البشرية بمعرفة هذا الجوهر ابتداءً من الإسلام؛ بل هو منذ تطور البشرية نفسها. من جهة أخرى يستدرك النور قائلاً "لقد ظلت تتباعد عن هذا الجوهر، وبصورةٍ ثابتة، خطى من ينتسبون إلى الإسلام. ولربما عبر عن ذلك الجوهر دون وعي به، رجال مثل مايكل مور، ونعوم شومسكي، في حين جهله وخالف مقاصده المفترون باسم الإسلام". هنا يدخل النور حمد في المقولة القديمة زرتُ فرنسا ووجدت فيها إسلاماً بلا مسلمين، وحين عدتُ إلى القاهرة وجدتُ مسلمين بلا إسلام. إنها المقولة التي تفترض سلفاً الآتي:
أ‌- أن العدالة وفعل الخير إلخ، هو مُعْطَى ديني، وعلى وجه الخصوص إسلامي. مما يؤدي إلى:
ب‌- أن الحياة هي جزء من الدين، وليس الصحيح أن الدين جزءٌ من الحياة.
تجعل (أ) أن شومسكي حين ألَّف كتبه السياسية جميعها ناقداً الظلم الإمبريالي، إنما كان "يعبر عن جوهر الفكرة الإسلامية الخالد دون وعي منه" بعبارة النور حمد. فهل هذا الأمر كان كذلك؟ بالطبع كلا. لأن العدالة وفعل الخير إلخ، هو معطى بشري سابق للأديان السماوية، أديان التوحيد، فليس دقيقاً أن البشرية تعلمت العدل والخير بعد هذه الأديان. لأن في القرآن نفسه استمداد من قوانين سابقة في تحديد أخذ العدل كالآية 45 من سورة المائدة (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ"، وغيرها من الآيات الأخر. )
هذا الادعاء يأتي على وجه الخصوص بعد الدين الخاتم كما يعتقد المسلمون الآن، وكل أديان التوحيد من قبل، بل الدقيق أن المناداة بهذه العناصر الجوهرية نجدها عند هيراقليطس وبارمنيدز وأفلاطون ومحاوره الرئيسي سقراط؛ وغيرهم. ولو فعل النور كما فعل الفيلسوف فيلو اليهودي (المتوفَّىْ عام 20م) الذي يعاجل آيات التوراة بمفاهيم الفلسفة الإغريقية الحديثة له، فيضع النور القرآن موضع ذلك الرجل مستفيداً من معطيات مفاهيم جديدة الآن وفق العقيدة لا الدولة، لكان أجدى مما يجعل الجوهر الديني الإسلامي ينتسب إليه كُلُّ مَن ناشد العدل والديمقراطية وفق الحقوق الإنسانية المعاصرة، وصادم الإذعان الإمبريالي العالمي مستبصراً اختلاف علاقات مكانه الذي هو فيه من موقع لموقع؛ وهنا باعتبار 'الموقع‘ هو أصغر وحدة مكانية.
عبد اللطيف علي الفكي
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.