وزير سابق: 3 أهداف وراء الحرب في السودان    الامارات .. الشينة منكورة    معتصم اقرع: لو لم يوجد كيزان لاخترعوهم    الصين تفرض حياة تقشف على الموظفين العموميين    (المريخاب تقتلهم الشللية والتنافر والتتطاحن!!؟؟    وكالة الفضاء الأوروبية تنشر صورا مذهلة ل "عناكب المريخ" – شاهد    شركة توزيع الكهرباء تعتذر عن القطوعات وتناشد بالترشيد    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    "منطقة حرة ورخصة ذهبية" في رأس الحكمة.. في صالح الإمارات أم مصر؟    مصادر: البرهان قد يزور مصر قريباً    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    إقصاء الزعيم!    برشلونة: تشافي سيواصل تدريب الفريق بعد تراجعه عن قرار الرحيل    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    إيفرتون يصعق ليفربول بثنائية    الجيش يقصف مواقع الدعم في جبرة واللاجئين تدعو إلى وضع حد فوري لأعمال العنف العبثية    الحلم الذي لم يكتمل مع الزعيم؟!    أحلام تدعو بالشفاء العاجل لخادم الحرمين الشريفين    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    السودان..رصد 3″ طائرات درون" في مروي    في أول تقسيمة رئيسية للمريخ..الأصفر يكسب الأحمر برعاية وتألق لافت لنجوم الشباب    كواسي إبياه سيعيد لكرتنا السودانيةهيبتها المفقودة،،    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. إعلامية مصرية حسناء تشارك في حفل سوداني بالقاهرة وتردد مع الفنانة إيلاف عبد العزيز أغنيتها الترند "مقادير" بصوت عذب وجميل    شاهد بالصورة والفيديو.. "دعامي" يظهر في أحضان حسناء عربية ويطالبها بالدعاء بأن ينصر الله "الجاهزية" على "الجيش" وساخرون: (دي بتكمل قروشك يا مسكين)    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    عن ظاهرة الترامبية    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بروفسير عبد الله علي إبراهيم: الانقلاب هو سبيل البرجوازية الصغيرة إلى الحكم في مجتمع دولة الإرث
نشر في سودانيل يوم 21 - 01 - 2018


حوار مع بروفسير عبد الله علي إبراهيم
حاوره / ابراهيم مختار علي
جرى هذا الحوار مع جريدة إيلاف وتطرقت فيه لمسائل بدا لي أنها ما تزال شاغلة.
*الانقلاب هو سبيل البرجوازية الصغيرة إلى الحكم في مجتمع دولة الإرث
*بخت الرضا جعلت المثقف السوداني عالة على الواقع والماركسية هي بخت الرضا المضادة
*لولا نصح السوفيت لنا في 1966 ل"ماتت فوانيس البندر البوقدن"، الحزب الشيوعي.
*خلافاً لمشكلة الجنوب استصرختنا مشكلة دارفور لتحليل القاعدة المادية للمجتمع
*السياسيون في الأحزاب هزموا التربويين وفي الحركات المسلحة القول لبيض الصفائح
*لما توارت الثقافة عن الصراع صار كله شيلاً فوق الدبر مع ميلان برضو.
*قال منصور خالد إنه صانع لمايو لا حارق بخور، وصدق.
*آخر الدواء لخبرتنا من دولة الانقاذ الدينية وماسبقها هو العلمانية
*للشباب: شبابكم ولى وراح ولا شباباً "منتظر"؟
البروفيسور عبدالله علي ابراهيم، أستاذ التاريخ بجامعة ميسوري بالولايات المتحدة والقيادي السابق بالحزب الشيوعي السوداني، معروف بآرائه الجريئة والعميقة في الشأن السوداني. وكذلك الحال حيال المثقف السوداني وخلفياته التعليمية وادواره المرتجاة تجاه مجتمعه. صدر له عدة مؤلفات في قضايا الثقافة والسياسة في السودان منها (الإرهاق الخلاق)، و(الشريعة والحداثة)،و ( بئر معطلة وقصر مشيد) والكثير من المؤلفات والمقالات الصحفية التي تناولت الهم الوطني باستفاضة. جلست إليه صحيفة إيلاف ضمن سلسلة حواراتها مع المثقفين من اجل بلورة رؤية مستقبلية من شأنها تحريك التاريخ وتغيير الاوضاع المأزومة الى اوضاع منشودة. ولا يتم ذلك إلا برؤية مستقبلية وهي مهمة المثقفين . . . فإلى مضابط الحوار
سؤال: كيف ترى اشكالية الثقافة والسياسة في السودان؟
سأتغاضى عن الثقافة والسياسة في الأحزاب التي تأسست من جماعات دينية صوفية على أهميتها في هذا الجانب. وسأنظر في تجربة الشيوعيين والإسلاميين. فتناطحت السياسة والتربية فيهما في وقت باكر. أهل السياسة مثل أستاذنا عبد الخالق محجوب وحسن الترابي رأوا الخوض في السياسة بالعموميات الفكرية المتوافرة بينما رأى أهل التربية مثل عوض عبد الرازق في الشيوعي وجعفر شيخ إدريس في الإخوان إرجاء الخوض السياسة حتى نضمن حسن ثقافة الأعضاء في فكرتهم. وفي الحركتين انتصر أهل السياسة على أهل التربية حتى اشتكي الدكتور الإسلامي التجاني عبد القادر أنهم سموا مثله "المثقفاتي" لقلة القيمة. فلا نفر له من قبيلة . . ولا مال .
ولم يكن يعني انتصار الممارسة السياسة مدابرة للتربية. في الحزب الشيوعي انعقد العزم على استدراك التربية. مثلاً كان مقصوداً من إرسال عدد كبير من كادر الحزب للدول الاشتراكية رتلاً بعد رتل منذ بعثة محمد إبراهيم نقد في منتصف الخمسينات أن يصقل هذه الكادر معارفه في جوانب الماركسية ليطبقها عن بصر وبصيرة على الواقع السوداني. وظلت أوسع مساعي عبد الخالق بعد ثورة أكتوبر، التي بان فيها فقر الحزب النظري والمعرفي، أن يستدعي الثقافة لتتدارك السياسة التي تقطعت أنفاسها بعد نصرها في أكتوبر. وذكرتُ مراراً كيف وجد عبد الخالق في مفهوم "المثقف العضوي" للمفكر الإيطالي أنطونينو قرامشي ضالته. ومات المسكين ولم يحقق من هذا المسعى شيئاً. ونبهت إلى خطة معاكسة حدثت للجمهوريين. فقد بدأ الاستاذ محمود بالسياسة مثل ثورة رفاعة ومظاهرات جرى تحريكها من مقاهي الخرطوم بواسطة شباب الحزب ثم تحول إلى التربية بعد خلوته المعروفة وجلوته. وكان أن استغرق في التربية ليوم تنضج فتتسيس. ولكنه في انتظار ذلك النضج وقع في مهادنة نميري مما جلب له المؤاخذة. وكان يوم نهايته يوم سياسته في معارضته لقوانين سبتمبر 1983.
أذا أردنا معرفة شدة الطلاق بين الثقافة والسياسة فأفضل زاوية لذلك هي الحركات المسلحة. فاللجوء للسلاح نفسه ربما عكس ضيقاً بالصبر على التنوير والتحشيد. واستنكرت مرة بقولي إن بلدنا دفعت دم قلبها لينال بعض شبابها شهادة عليا وإذا بهم يفضلون أن يقال لهم "المقاتل فلان" لا "الدكتور فلان". وأقول عرضاً قرأت بالأمس أن الحركة الشعبية شمال قررت إعادة اصدار مجلتها الثقافية بعد توقف عقود. سؤالي: لماذا توقفت أصلاً؟ بالطبع ليس من قل المال لأن ثمن كاتوشا واحد كاف لإصدارها أبد الدهر. إن تفسير ذلك الوحيد أن السياسة بالحرب وبغيرها ظنت أنها لا تحتاج إلى الثقافة وهكذا صار حالها حديد يأكل حديد. وسيكون مفيداً أن ننظر إلى كساد الثقافة في الأحزاب والحركات على ضوء خروج المحبوب عبد السلام من المؤتمر الشعبي وأبكر آدم إسماعيل الأخير من الحركة الشعبية. لقد سبق للسياسي في المؤتمر الشعبي تشييع المحبوب إلى كوم نفايات الحزب. قال عنه إبراهيم السنوسي، الكادر التنظيمي بالحزب، لمحرر سأله عنه إنه يود أن ينشغل بأمهات الأمور عوضاً عن الحديث عن المحبوب. وهذا مثقف قضى نحبه. أما أبكر، الرجل المثقف من الطراز الأول الذي أعطى حركة المهمشين لم يستبق شيئا، فمن من ينتظرون.
سؤال: كيف تفسر فشل الحركة اليسارية في مشروع التنوير في الواقع السوداني؟
لنحسن فهم هذا الفشل (الذي لا نريد له أن يكون عاهة) وجب أن يولي غير الشيوعيين من الصفوة فهم الصراعات داخل الحزب الشيوعي بصورة أفضل مما تجد الآن. فالكثيرون يعتقدون أن هذا الفشل ثمرة استبداد هذا أو ذاك، أو أنها وجه من وجوه الإنتهازية السياسة، ناهيك من نسبوا الفشل دائماً كنتيجة حتمية لغرابة الفكرة عن ما يسمى تراثنا. أما الشيوعيون أنفسهم فنفَّروا الناس من فهم هذه الصراعات لأنهم جعلوها مثل صراع بين الخير والشر، بين المتمسكين بالمباديْ والمنفنسين، صحصح فيها الحق وأنمحق الباطل.
لم يكن الحزب الشيوعي في أي يوم من حياته كتلة واحدة صماء. ظل الحزب ساحة صراع أبدي بين العناصر البروليتارية (وأقولها للفصل بين القوات مع أننا لا نستخدم هذه اللفظة في خطابنا) التي تريد نهضة برلمانية بقيادة الطبقة العاملة والكادحين المتمتعين بما عرف ب"الحقوق الليبرالية البرجوازية". وتجمّرت هذه العقيدة من فوق ممارسة الحزب الشيوعي الجوهرية بين الطبقة العاملة والكادحين. فلم ير سبباً لحرق المراحل للاشتراكية متخلصاً من تلك الحقوق في ما سمي ب "الديمقراطية الجديدة أو الموجهة" التي استعبدت الكادحين أول ما استبعدت في دولها عند ناصر ونكروما في غانا وسيكتوري في غينيا. من الجهة الأخرى كان هناك تيار بين البرجوازية الصغيرة في الحزب والمجتمع يدعو لحرق المراحل للتخلص من "الديمقراطية الطائفية" في السودان. وهي الديمقراطية الوحيدة المتاحة في السودان إذا ما قامت على صوت واحد لكل ناخب لنفوذ الطوائف والعشائر. والنتيجة معروفة وسيضطر للانقلاب من ضاق ذرعاً بها ورغب في حرق المراحل وتجريع الشعب غصص السعادة. هذا هو جوهر الصراع في الحزب. وتغلبت البرجوازية الصغيرة في الحزب والمجتمع على البروليتاريين فأصبح حزبنا ينطق في صحوه بلسان كاره للانقلاب ولكنه في الممارسة انقلابي أشر. وتوضيح هذا الصراع في الحزب ولمجتمع يجده القارئ في كتابي "انقلاب 19 يوليو: من دفتر التحري إلى رحاب التاريخ". ومن أراد أن يعرف قوة الضغط البرجوازي الصغير للديمقراطية الجديدة من خارج الحزب فليقرأ "حوار مع الصفوة" لمنصور خالد وفيه برنامج دقيق لدولة الديمقراطية الجديدة تُلغى فيها كل الحريات البرجوازية الليبرالية بما فيها استقلال القضاء. قال منصور مرة إنه ليس حارق بخور في مايو مثلي ولكنه صانع مايو. وصدق. اقرأ كتابه "حوار مع الصفوة" وستراه تخيل مايو قبل أن تكون مايو.
أنا اعتقد أن أي تحليل لا يأخذ في الاعتبار هذا الصراع الحزبي والمجتمعي سيفشل في تعيين فشل الماركسية في النهضة القومية. فلسنا نعلق كل الفشل على شماعة تهافت الماركسية العالمي. ولكن كان للسوفيات أدوراهم السلبية (بل المخربة) في ترجيح كفة البرجوازية الصغيرة في حزبنا باسم دعم انقلاب 25 مايو بغض النظر. لقد تطفلوا علينا هذه المرة ولكن لن ننسى لهم يوماً في 1966 حين نصحونا ألا نحل الحزب وندخل في حزب اشتراكي فضفاض نصبح نحن نواته. وكان هذا تمشياً مع ما جرى في مصر حين حل الشيوعيون حزبهم وصاروا طليعة الاتحاد الاشتراكي المصري. لو لم يردونا عن هذا الغي كال الرماد حماد وماتت "فوانيس البندر البيوقدن". أما عن مشروع النهضة فهو أمر استراتيجي طويل وصراع الرجال والنساء متنى .
سؤال: الأولوية في تشكيل الواقع هل هي البنى المادية والأطر الاجتماعية أم الوعي والفكر وبناءً على ذلك كيف تلقى شيوعيّ السودان الفكر الماركسي ووطنوه -بيؤوه في الواقع السوداني؟ وما تأثير الحركة الشيوعية على مسار الوعي السوداني؟
بتركيز الماركسية على أولوية الأساس المادي في فهم تطور المجتمع شدت بصر وعقل من تبنوها إلى حقائق مجتمعهم. وهذا حدث كبير إذا وضعنا في الاعتبار أن الحداثة الاستعمارية والمشروع الإسلامي، اللذين غلبا على سائر المتعلمين، طبعتا الصفوة على الاشمئزاز من واقعهم. فليس لديهم المزاج ولا الوقت لدراسته ثم تغييره. فهو لا يستحق الدراسة. فقد علمتهم المدارس أنه ينبغي تجديد واقعهم (بل إلغاؤه) بسرعة للحاق بالعالم. ولهم ضيق بواقعهم فيصفون السودان ب"الحفرة" وأن أهله مصابون ب"العقل الرعوي" وأنسابهم مختلقة كذابّة وهويتهم منتحلة. أما الإسلاميون فاشترطوا للتعاطي مع هذا الواقع أن "يُغَّلطوا" الدين الذي سبقهم ويبدلوا أهلهم ديناً أفضل من دينهم. فجاؤوا ب"القبض" في الصلاة كعلامة من الدين الحق بدل "البسط" للأميين. للشيوعيين نصيب كبير في ترويج كلمات مثل "بدائي" أو "متخلف" في وصف واقعنا وأهله. وهذا جفاء. ولكنهم يختلفون في شيء هام وهو أن مادة التغيير عندهم هي هذا الواقع المتعين لا أضغاث التشهيات للحداثة الغربية. فاشتهروا بعبارة "التطبيق الخلاق للماركسية على الواقع السوداني". وساقهم هذا إلى جعل دراسة واقع كل جبهة من جبهات عملهم من زاوية قواها الاجتماعية فريضة مرعية. وأصدروا "الشيوعي" بصورة خاصة لتكون منبراً لتبادل الخبرات بين الكادر في الشاغل القيادي للتعمق في الواقع الذي خرجوا لتغييره. وأميز ما في هذا الشغل الشيوعي أنه أعتني بواقع جماعات سودانية لم تخطر لصفوة النادي السياسي مثل الكادحين وقوميات الهامش في جبال النوبة حيث أسسوا اتحاد مزارعي جبال النوبة. وكذلك في الجنوب. ومن أراد أن يعرف هذا النبل المعرفي الشيوعي فليقرأ كتاب الدكتور المرحوم مصطفى السيد "من مشاوير الحياة" ليقف على كيف طوع الشيوعيون لغات الاستوائية لتنطق بأوجاع أهلها. وبالطبع صار شهيراً كتاب كامل محجوب "تلك الأيام" بعد تهجم الرئيس البشير على الرجل. ورأى الناس من الكتاب كيف ضاق الشيوعيون المُرَّة ليلامسوا الواقع وأهله بقوة وعزيمة وفدائية. وأعدى ذلك الإخوان المسلمين الذين جعلوا حرب الشيوعيين أكبر همهم. فأكثر مواقف الإخوان تقدمية في مسألة المرأة (قبل الانقلاب) كانت محاكاة للشيوعيين ليستدرجوا النساء إلى دعوتهم بعيداً عن "الملاحدة". ولكن منذ أن تواضع الشيوعيون على أن الواقع الوحيد في السودان هو الكيزان دخلوا في أبلسة الخصم وضلوا ضلالاً بعيدا.
سؤال: كثر حديثك عن البرجوازية الصغيرة ما هي عند غيرنا وما هي عندنا؟
البرجوازية الصغيرة في الرأسمالية الكلاسيكية هي طبقة بينية، بين طبقة البرجوازية. المالكة لوسائل الإنتاج وبين الطبقة العاملة التي تبيع قوة عملها للبرجوازيين. وعلى خلاف من العمال المجردين من وسائل الإنتاج فالبرجوازية الصغيرة هي طبقة صغار المنتجين مثل تجار السوق والحرفيين أصحاب الورش والمزارعين المالكين لقطع أرض. ويدخل في عدادهم من يبيعون قوة عملهم الذهني من "الأفندية" والمهنيين والطلاب بما سيكنون عليه. وهي تعبر عن ذاتها ومطامحها بلغة مأخوذة من مصطلح الطبقة البرجوازية، أي أنها تقبل النظام الرأسمالي ومنطقة لا تريد لسنته تبديلا. بل لا يطمع الواحد منهم في تحسين فرصه ومعاشه بغير أن يصبح مالكاً كالبرجوازيين. ومتي استقر المجتمع الرأسمالي على وتيرته تميزت البرجوازية الصغيرة بثقافة خاصة بها وعوالم من خيال وحقائق. ووصف نجيب محفوظ عوالم هذه الطبقة في مصر بحرفية أدبية عالية في ثلاثيته.
هذا هي الطبقة في سياقها الأوربي. فما خصائص هذ الفئة المدينية في السودان؟ أصلها في فئة الأفندية التي نشأت في ظروف امتلك الاستعمار زمام الأمر. وتسمي نفسها حالياً "الصفوة". فلم تنشأ في ظروف طبيعية من فوقها برجوازية محلية كما في أوربا. كان فوقها عندنا بالأحرى طبقة تقليدية سميناها قديماً "شبه إقطاعية" من زعماء الطوائف والعشائر. ولما كان الكسب سبباً في وجود الأفندية كان الإرث سبباً في وجود "شبه الإقطاع". وقادت البرجوازية الصغيرة الحركة الوطنية وطمعت في أن تكون لها قيادة الأمة لكي تسوقها في طريق الحداثة والتي هي ثمرة من ثمراتها. ولكن لم تنجح لأنها بلا قاعدة جماهيرية تنافس "شبه الإقطاع". فكان عليها إما أن تطأطئ لها أو تتخلص منها. وبالطبع لا يمكن أن تتخلص منها بالطريق البرلماني الليبرالي ولذلك كان سلطانها لا يأتي إلا بالانقلاب. ولذا قلنا في الحزب الشيوعي إن الانقلاب هو خطة البرجوازية الصغيرة للنهضة الوطنية. وهذه الفكرة قد تفسر لنا تواتر الحلقة الخبيثة من ديمقراطية وانقلاب. فالديمقراطية ل"شبه الإقطاع" المعزز بالجماهير والانقلاب للبرجوازية الصغيرة الفقيرة في الجمهور والمخذولة من البرلمان. ولم تأخذ البرجوازية الصغيرة شفقة بالكيان الإرثي السياسي في الطوائف الكبرى. فهدت حيل دوائره الاقتصادية بالتجريد والحراسة والملاحقة تريد دك حصونه دكاً. وهدمت النظم هذه الطبقة التقليدية في 1969 و1989 ولكنها لم تصنع من نفسها طبقة تأمن إليها البلد وتٌسلم لها زمامها. فمنذ عرفت البرجوازية الصغيرة صناعة الثراء والجاه من عقر الدولة لم يتوقف عنفها بالانقلاب الناجح والفاشل وبالعصب المسلحة. وساد فينا عصر الطغم. وهو عصر الهرج العظيم.
سؤال: المثقف السوداني وتوهانه وتعاطيه مع الواقع وخلفياته التعليمية (بخت الرضا) .. وتأثير ذلك على عدم قدرته لقيادة عملية التغيير كيف ترى ذلك؟
صلاح فرج الله، المثقف الحافي، عنده مقولة عذبة وهي أن المثقف السوداني ضيف ثقيل على الواقع. وهذا مردود للطلاق الذي وقع بين المدرسة ومحيطها كما بينت في كتابي "التعليم والاستعمار: بخت الرضا". فخريج التعليم الحديث تَخّلق في بخت الرضا على عهد الاستعمار الإنجليزي. وهو تعليم سيء الظن جداً في إمكانات الواقع السوداني. فمن رأي قريفث مؤسس بخت الرضا أن الواقع السوداني في غاية الفقر الثقافي حتى اضطرهم للتعويض عنه بمدرسة غنية تتلافى وحشته. فصارت المدرسة مثل خضراء الدمن: المرأة الحسناء في المنبت السوء. بَخّست بخت الرضا الواقع السوداني بما سيجده القاريء في كتاب قريفث الذي أتمنى أن تكون طبعته الأولي، لا الثانية، هي التي ترجمتها ونشرتها زميلتنا فدوي عبد الرحمن لفروق كبيرة بين الاثنين. فلم تبدأ بخت الرضا تعليمها بثقافة المحيط لتطمئن التلميذ إلى حقائقه وتاريخه. وقامت على فرض الطلاق بين علم المدرسة وعلم محيطها. فالطالب الشكري مثلاً يأتي للمدرسة بحصيلة مقدرة من عيون دوباي البادية ولكنه ما أن يدخل المدرسة حتى يملص ذلك عند بابها ويبدأ ينهق بعد ذلك ب" أشرقت شمس الضحا إلخ". وهذا "تبليه" منقطع النظير. ونبه إلى هذا قبلي كل من عبد الله الطيب ومنصور خالد في "حوار مع الصفوة". وسمى عبد الله الطيب مثل "أشرقت شمس الضحا" نصوص مستكرهة. وكثيراً ما سمعت تزكية بخت الرضا بأهزوجة "في القولد التقيت بالصديق" ولكن لم أر من أشاد بها لأناشيد مثل "لي قطة صغيرة" والخزعبلات الأخرى. إن تعليمنا يفرخ في المهني والمتعلم الاشمئزاز من الشعب والريبة في واقعه. فتراه "واقع نبذ" في أهله: "بدائي"، "متخلف"، "أمي" إلخ. ويري هذا المنبت عن محيطه أرضه كمحض خلاء لا تصلح إلا كمدافن للنفايات الأوربية. ومن المستحيل بالطبع أن ينهض مثل هذا المثقف بمرمي الله، شعبه، كما علموه حتى صار ذلك عند عقيدة.
سؤال: كيف ترى أزمة دارفور والمناطق الثلاث بمنظور سيوسيولوجي؟
وفرت أزمة دارفور فرصة (محزنة ما تزال) لننظر إلى أبعد من العرق والثقافة كالأصل في النزاع في السودان. فجاءت أول ما جاءت، وبعنوان كبير، بمسألة الحق في الأرض: هل نقبل بمبدأ الحواكير الذي الأرض فيه لمن ورثها كابراً إثنياً عن كابر إثني أم أنها ملك شائع لمواطني الدولة الحديثة ينالون حظهم منها بحسب قوانين تضعها تلك الدولة؟ لم تكن هذه القاعدة المادية واضحة في صراع الجنوب. كانت مسألة الأرض هناك أيضاً ولكن كان الجنوب كله أرضاً وطنية يريد الانفصاليون القوميون بترها من جسد الوطن. فعقدت الدولة الوطنية العزم على إبقائها داخل الوطن الجديد. حدث هذا في الكونغو مع انفصال كاتنقا وفي نيجريا في انفصال شعب الإيبو في الستينات. فلا جديد. ولكن خالط نزاع الجنوب حول قومية الأرض عناصر عرقية وثقافية واضحة غطت على شاغل الأرض. وهكذا جاءت دارفور بعلم اجتماع الأرض في الدولة الحديثة بصورة بارزة مع ظلال الفروق الإثنية (لا الدينية كما في الجنوب). وللأسف ما أن نشأت مسألة دارفور حتى رحّل النادي السياسي مصطلح الجنوب العرقي الثقافي لوصف أزمة الإقليم بغير تفكير أو روية. وكتبت كتابي "أصيل الماركسية: المقاومة والنهضة في ممارسة الحزب الشيوعي" أنعى على الشيوعيين دس عدة الماركسية من تحليل نزاع دارفور من فوق قواعده المادية التي لم تخلق نظرية مثل الماركسية لتحليله بكفاءة. فوجدت الشيوعيين تبعوا "طيرة مبارية السيرة" من فسروا النزاع ثقافيا وكفى. كانت مسألة دارفور تستصرخ الماركسية، عصارة علم الاجتماع، ولكن لا مجيب. وأسمعت لو ناديت فمن بين الشيوعيين من قرر سلفاً أن الماركسية ذاتها زمانها فات وغنايها مات.
سؤال: جوهر الهوية الوطنية هو التراضي والتناسي. هل السودانيون مستعدون لذلك حتى يتجاوزوا نزاعاتهم وشقاقاتهم ويصلوا الى الوفاق أو" البوش الوطني " كما تقول أنت في كتابك "الإرهاق الخلاق: نحو الصلح الوطني"؟
إن الذي تتخبط فيه بلدنا هو أزمة سياسية عامة. فصعب أن تزعم أي جماعة أو تنظيم أو مؤسسة وطنية أنها الفئة الناجية وما عداها في النار. بالطبع تتحمل الإنقاذ ومن تبعها من الإسلاميين والسلفيين وزر إخفاء كرة هذه الأزمة بالقوة عنا لربع قرن. ولكنهم رأس الجليد الطافي من هذه الأزمة لا كلها. ومن قرأ لسلمان محمد سلمان كلمته جيدة السبك عمن فصل الجنوب لعرف أن دم الجنوب على أيدينا جميعاً بما في ذلك الحركة الشعبية التي اختارت أن تشيل شليتها من الوطن الخاسر خلسة بعد أن رفعت سقف الأماني في الوطن الواحد منذ الثمانينات. ثم أنظروا ما فعلوا بشليتهم الله لا ينصرهم.
متى أنشبت الأزمة الوطنية العامة ببلد باخت مباراة حكومة ومعارضة في مثل هذه الحالة. فهما ذات الوحش على ضفتين متوهمتين. وكان مأمولاً من المثقف أن يحملنا حملاً بأدواته الساهرة لنرى هذه الأزمة وتبعتنا جميعاً فيها بحيث نبطل الكجار "والشيل فوق الدبر" ونتصالح مع إرهاقنا، ونعانقه لنخلق منه خيالاً مبتكراً لممارسة جديدة جدية نستنقذ الوطن من بؤسنا وفترنا. وكان ذلك موضوع محاضرتي "الإرهاق الخلاق: نحو الصلح الوطني" كما أشرت والتي ألقيتها في نهاية التسعينات بقاعة الشارقة بدعوة من جريدة الصحافي الدولي، ثم نشرتها في كتاب صغير عن دار عزة في 2004. ولكن ترافق مع الشعور النامي بهذا الإرهاق صعود نجم السلاح في التقرير بشأن الوطن. فتراخى المثقف عن المهمة ورهن الخلاص بإسقاط النظام وتسليم مفاتيح البلد. وأصبح بذلك في الذيل يصفق من المصطبة مفرطاً في واجبه بما يعد خيانة للأمانة. فلم تنشأ طوال ربع قرن مدرسة علم أو منبر ثقافة نهضوي (سوى ما رأيناه في مركز حيدر الثقافي وأفسده بضيق خلقه المعروف) يكشف سوءتنا ويطهرنا من لوثة الثوابت والشيل فوق الدبر. لم ينعقد البوش الوطني لأنه لم تخرج "المداعي" من الفئة الوحيدة المؤهلة لانعقاد هذا البوش أي من المثقف مهندس النفس اللوامة. وقيل إن الذهن الكسول مرتع أو ورشة الشيطان الراكب بلدنا كما قال المرحوم زين كو.
في هذا السياق عجبت لمنصور خالد يتملص من وزر ما يجري في الجنوب في حديثه التلفزيوني مع ضياء الدين البلال، ويحيلنا إلى مقارنته بصورة عرجاء مع صراع المعاليا والرزيقات. طيب الهلولة دي كلها، وسودان جديد، وبطيخ وفي الآخر ترتد الحكاية إلى "نزاع قبلي" حول الموارد بين الدينكا والنوير يشبه نزاع المعاليا والرزيقات. إن نزاع الجنوب وقع بين صفوات عسكرية أو متعسكرة في الحركة الشعبية استخدمت أطرافه الدينكا والنوير بصورة فاضحة. وكتب عن صفقاتها التاريخية ومباذلها إلكس دي وال وبندرقاست "بتاع الأزمات"، عراب الفتنة "الأمريكي القبيح، المعروف. ولم يكن هذا أول توظيف مخجل للدينكا والنوير. وقع مثله في 1991 وقرنق حياً في هذه الدنيا . . ما مات. واتخذ منصور موقفه الصارم آنذاك مع قرنق (الذي كان يمثل الدينكا "وفي الدينكا دينكا بور"). وخلافاً لمنصور وقف جوك مادوت، المثقف الجنوبي، ناقداً بشجاعة تكيتكات قرنق خلال هذا الصراع. لقد انضم منصور وشماليو الحركة من الصفوة إلى تنظيم هو الحركة الشعيبة اسماً مع أنهم لم يكونوا سوى مستخدمين في مكتب علاقات قرنق العامة. وفوجئوا بسفك الدماء الجنوسايدي في الجنوب فصمتوا صمتاً رهيباً، أو شبهوه تجملاً بالرزيقات والمعاليا. وهذه من طأطأة المثقف للسلاح يصبح بها المثقف بلا إرادة ولا مقبض على الأحداث التي هو طرف أصيل فيها. وربما حمدنا للواثق كمير وحده وقفته أمام النفس اللوامة المعروفة حيال تجربته الجنوبية.
سؤال: هل ترى فارقاً جوهرياً بين عقلية المتمركس وعقلية المتأسلم؟
أفضل أن نقول "الماركسي" و"الإسلامي" على "المتمركس والمتاسلم". ولا داعي ل"تاء" المناتقة في قول عبد الله الطيب التي راج استخدامها كوجهة نظر سياسية في ما يقوم بها خصمك لا لضرورة معنى. فأنا مستغرب مثلاً للشيوعيين يقولون إن انقلاب البشير هو انقلاب كيزان. طيب: ألم تقولوا على عهد الرجل النير عبد الخالق إن الانقلاب كتكيتك هو خطة البرجوازية الصغير (كما شرحناها في إجابة سابقة). فكيف بربكم صار الانقلاب يُعّرف بلونه السياسي بعد أن كان يعرف بلونه الطبقي بدون إغفال للون السياسي وغيره. نقول انقلاب عبود لكبار الضباط وقامت به قيادة الجيش الرسمية لا ثلة من الضباط دونها إلخ. لقد وقع هذا الخلط في التحليل عند الشيوعيين منذ انقلاب 19 يوليو. منعهم الحرج البرجوازي الصغير ذاته من تسميته بما سمينا انقلاب مايو فقالوا عنه "حركة". وربما كان هذا نبلاً ولكنه "نبل شيل الدبر" لأنه صَادرَ من مداركنا مباضع تشريح الممارسة الانقلابية للأبد. فبين الماركسيين والإسلاميين وشيجة قوية هي نسبتهم جميعاً إلى الطبقة البرجوازية الصغيرة (مع اختلاف فروق اللون السياسي) التي الانقلاب في طرف لسانها السياسي. وقلت في كتابي "انقلاب 19 يوليو: من يومية التحري للتاريخ" أن انظروا لرفيقنا المرحوم أحمد سليمان حامل جرثومة الانقلاب من الشيوعيين إلى الإخوان ولم يشعر بفرق ووجد سوقاً لبضاعته عند كليهما كل في وقته المناسب.
سؤال: د عبدالله ...ألا ترى أن الجدل الدائر في الساحة السودانية باسم الشريعة تارة واخرى فصل الدين من السياسة، ألا ترى ذلك جدلاً بيزنطياً لا جدوى منه غير المزاودة وشرعنة الاستبداد؟ وهل الغرب فصل الدين من السياسة أم فصل المذهبية الدينية من السياسية؟ ويمكننا أن نشير الى كتابك الشريعة والحداثة؟
كتاب "الشريعة والحداثة" كان محاولة مني لكي احتل موقعي الشاغر كماركسي في الخطاب الديني بغير فرز (تطبيق الشريعة، علمانية الدولة، مدنية الدولة، المعاش، المعاد، التراث، الغيرة على الرسول الكريم إلخ،) أصالة. وهي الخطة التي تواضعنا عليها في الحزب الشيوعي بعد حلنا في 1965 بجريرة الإلحاد. فقال لنا أستاذنا عبد الخالق إن بواعث الحملة علينا معروفة ومكشوفة قوامها سياسيون فشلوا في التأقلم في مناخ ما بعد ثورة أكتوبر 1964 الذي ارتفعت به توقعات الشعب من الحكم إلى عنان السماء. ولكن ينبغي ألا نستهين بكل الحملة. فقد نجحت بكل صفاقتها السياسية في عزلتنا النسبية ونهش فكرنا فعلينا أن نسد الفرج التي يدخل علينا منها شيطان العزلة. فلا يكفينا الآن أن نقول إننا نحترم الدين والمتدينين. فسبقنا إلى مثل هذا القول نابليون في تطمين للمصريين بأمنهم الثقافي بعد غزوه بلدهم في 1798. ونابليون كافر ونحن قوم مسلمون. فعلينا إذا أردنا للماركسية أن تتوطن في بلدنا أن ندخل بها عميقاً في تراثنا لنجدده في عصرنا. هذا كان توجيهاً ذكياً عاماً أخذت أنا بركته وانشغلت منذها بالعوالم الفكرية والوجدانية التي تفتحت لي به. ووصف أستاذنا مثل هذه العزيمة كسباً بالهجوم لا بالدفاع. ومن مثل نهج الدفاع اقتراح قديم متجدد لرفيقنا الشفيع خضر بتغيير اسم الشيوعي للاشتراكي. ولن ترضى عنك اليهود والنصارى ولو سميته حزب بن باز السلفي. وسبب اضطرارنا لهذه الخطة الدفاعية بتغيير الاسم عسانا نرتاح من وجع دماغ الإلحاد هو فشلنا الأعظم أن نصبح طرفاً أصيلاً في الخطاب الديني، بحقنا. إننا نتعشم بمثل هذا التغيير في الرايات أن نرمي بثقل ماضينا الفكري على قارعة الطريق فينساه لنا الناس. ولكن جرب تغيير الاسم ثم واصل الحديث عن الكادحين وستجد تهمة الالحاد ارتدت إلى صدرك. فلا غرض لمن يحيك هذه التهم بالرب أو الدين إلا مكاء. فهمه الأول ألا تقوم للمستضعفين راية او دولة. ووجدت أنني الذي أحاول تطبيق خط حزب قديم متروك متهماً ب"الدروشة" ولحس عقائد الإنقاذ.
لسنا اولاد اليوم. وكل من عاش فترة الستينات يدرك الآن أن المخرج من الدولة الدينية التي كانت زبدة مشروع الإسلاميين هي الدولة العلمانية المحايدة تجاه الدين تاركة لأهل الدين أو الديانات أن يحملوا عاطفة الدين وربانيته وإنسانيته للمجتمع بصورة مباشرة بغير وسيط الدولة. فعاطفة الصدقة هي من أعظم العواطف قاطبة في الولايات المتحدة. فمنظمة "اليوانايتد وي" الخيرية الصدقية تكاد تبلغ مقام الزكاة. بل هي زكاة علمانية يجمع لها متطوعون المال بصورة ساهرة دقيقة. وكنت أدفع ضمن موظفي مؤسستي لها حباً وكرامة. فلم تحتج عاطفة الصدقة للدولة لتقوم بها. وينهض بشغل الجمعية جهاز من الموظفين والمتطوعين بتقوى شهمة وشجاعة.
ظللت أقول للمعارضين إن حكم الإنقاذ لم يرح سدى لو رأى الناس عن كثب وتجربة ومعاناة لربع قرن أن تديين الدولة وخيم العواقب على الدولة والدين. في الستينات كان الإسلاميون يعتقدون أنهم وجدوا مفتاح المستقبل للوطن المستقل المسلم وهو الدستور الإسلامي. بل كان في جمهرة الناس شوق إلى أن تتحد سياستهم وإسلامهم ملهمين بالخليفة الذي أمن ونام وأدب المال العام في بيت المال. ثم لم يلبث الإسلاميون قليلاً في الحكم حتى علموا أنهم كانوا في أحسن أحوالهم رومانسيين عرفوا عن الماضي (أو تشوقوا للماضي) ما لم يعرفوا عن الحاضر والمستقبل. واعترف أفاضلهم أنهم جاؤوا للحكم خاليّ الوفاض من فقه الحكم وصار أمرهم ارتجالا مكلفاً. ولكن بعضهم من مثل الأستاذ حسن عمر يكابر ما يزال. قال من قريب إنه إذا أراد أحدهم جعل الدول علمانية فسيجد شباب الإسلام بالمرصاد. ونقول عرضاً فليبدأ هؤلاء الشباب الكواسر به لأنه جعل الدولة كسروية. بل هو يعرف أن لأفضل هؤلاء الفدائيين رأياً سيئاً فيه وفي رفقته الذين ما زالوا في دولة الإنقاذ أو يكاد. قد كتبت مرة عمن توعدنا مثل أمين لأن يسأل نفسه من فصل الدين عن الدولة؟ من غطّس حجر الدولة حتى لم يعد للدين موضعاً فيها. فصار حتى ديوان الزكاة في أعلى قائمة دواوين الفساد بالدولة كمثل نيابات الأراضي. وقلت له ما بقيت جذوة الدين في الناس يصلون الرحم ويتصدقون ويتعبدون إلا لأنهم ناووا بدينهم عن الدولة الكافرة.
يشاع أن ما يريده المعارضون هو دولة مدنية. وهذا أيضاً من الحيل الدفاعية لا الهجومية. يريد أهل الدعوة بها تفادي محمولات "علمانية" مع ثبات مطلبهم في فصل الدين عن الدولة. وهذا إما خداع للنفس او خداع للآخرين او هو معاً. ليس هناك شائنة في العلمانية استدعت عبارة رديفة جديدة. فالمبادئ مثل فصل الدين عن الدولة لا تنعقد باللطف القاموسي بل بخلق قاعدة لها مما يسميه الأمريكان "الكتلة الحاسمة" (كرتيكل ماس) لتعبئ العقول والوجدان للتغيير وقبول حقائق الحياة ببينة مما جربناه. وبالطبع هناك علمانيات من مثل علمانية أتاتورك المعادية للدين وعلمانية جيفرسون الأمريكي المحايدة تجاهه ما اتصل الأمر بالدولة. ونقول عرضاً أنه كان للرجل مصحف مترجم اطلع عليه حتى حفيت أوراقه. وهو القائل فليأت إلى سدة حكم أمريكا من أراد المواطنون حتى لو كان "محمدياً" أي مسلم.
علاقة الدين بالدولة لا نفاد لمدادها. فحتى في أمريكا التي نظن أن علمانية الدولة قد استقرت فيها للأبد تتعاورها رغبات متعددة لأوبة الدولة للدين في مصطلح الترابي. فهناك قاض في "حزام الإنجيل" بالجنوب الأمريكي أقام نصباً في محكمته بالوصايا العشر ويرفض حالياً مع آخرين تزويج المثليين. وأمر بالطريق هنا بمتظاهرين يتناوبون الاحتجاج أمام مركز تنظيم الأسرة الذي تجري فيه عمليات الإجهاض. بل قتل أحدهم طبيباً بأحد هذه المراكز. وها هو البابا يستجيب للكتلة الحاسمة التي تريد للإجهاض أن يكون شأناً تختص به من تريد الإجهاض لا رأي فيه للدولة أو حتى الكنيسة. وما زلت استغرب للشيخ الترابي قال مرة إن فساد تلاميذه في الحكم نتج من نقص تربيتهم. لقد سبق أن قال لك جعفر شيخ إدريس إن تربي قبل أن تسيس. ثم حتاما ننتظر حتى يأتي الكادر الإسلامي لحسن التربية ليقيم الدولة المتدينة؟
كلمة اخيرة، ولمن؟
هذه كلمة للشباب. وأحكي لهم نادرة. كنت بين جماعة الرباطاب حين استنكر أحدهم على شاب ألا يُرى منه ما يفعله الشباب مثله. فقال له:"يا فلان إنت شبابك شيتاً جا وراح واللا شيتاً حيجي لسه". أذكر هذه الكلمة الحكيمة كل ما سمعت الشباب يستنكر خمول القيادات العجوز (القاعدة بره) ومكنكشة وبقية الصفات.
ماذا تريدون أن تفعلوا بشبابكم ومرت 3 أجيال شابة منذ الإنقاذ غادر أكثرهم الآن مرحلة الشباب إلى الكهولة. وما زلتم تطالبون أن "يتبرع" عجوز لكم بفرصة في قيادة حزب أو حركة. طيب وأنتم داخرين شبابكم المفترض فيه المغامرة والتجريب والتمرد وشق الطرق الجديدة، داخرنو لمتين؟ هل شبابكم ولي راح أم أنه في الطريق إلينا ما يزال. كفوا عن الشكوى وتحزبوا باستقلال ومروءة وذكاء ولا تطلبوا أحزاباً مفروشة.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.