منع قناة تلفزيونية شهيرة في السودان    وزارة الصحة تلتقي الشركة المصرية السودانية لترتيب مشروعات صحية مشتركة    ماذا قال ياسر العطا لجنود المدرعات ومتحركات العمليات؟! شاهد الفيديو    تم مراجعة حسابات (398) وحدة حكومية، و (18) بنكاً.. رئيس مجلس السيادة يلتقي المراجع العام    انطلاق مناورات التمرين البحري المختلط «الموج الأحمر 8» في قاعدة الملك فيصل البحرية بالأسطول الغربي    شاهد بالصور.. ما هي حقيقة ظهور المذيعة تسابيح خاطر في أحضان إعلامي الدعم السريع "ود ملاح".. تعرف على القصة كاملة!!    تقارير صادمة عن أوضاع المدنيين المحتجزين داخل الفاشر بعد سيطرة الدعم السريع    لقاء بين البرهان والمراجع العام والكشف عن مراجعة 18 بنكا    السودان الافتراضي ... كلنا بيادق .. وعبد الوهاب وردي    د.ابراهيم الصديق على يكتب:اللقاء: انتقالات جديدة..    لجنة المسابقات بارقو توقف 5 لاعبين من التضامن وتحسم مباراة الدوم والأمل    المريخ (B) يواجه الإخلاص في أولي مبارياته بالدوري المحلي بمدينة بربر    الهلال لم يحقق فوزًا على الأندية الجزائرية على أرضه منذ عام 1982….    شاهد بالصورة والفيديو.. ضابطة الدعم السريع "شيراز" تعبر عن إنبهارها بمقابلة المذيعة تسابيح خاطر بالفاشر وتخاطبها (منورة بلدنا) والأخيرة ترد عليها: (بلدنا نحنا ذاتنا معاكم)    شاهد بالصور.. المذيعة المغضوب عليها داخل مواقع التواصل السودانية "تسابيح خاطر" تصل الفاشر    جمهور مواقع التواصل بالسودان يسخر من المذيعة تسابيح خاطر بعد زيارتها للفاشر ويلقبها بأنجلينا جولي المليشيا.. تعرف على أشهر التعليقات الساخرة    المالية توقع عقد خدمة إيصالي مع مصرف التنمية الصناعية    أردوغان: لا يمكننا الاكتفاء بمتابعة ما يجري في السودان    وزير الطاقة يتفقد المستودعات الاستراتيجية الجديدة بشركة النيل للبترول    أردوغان يفجرّها داوية بشأن السودان    وزير سوداني يكشف عن مؤشر خطير    شاهد بالصورة والفيديو.. "البرهان" يظهر متأثراً ويحبس دموعه لحظة مواساته سيدة بأحد معسكرات النازحين بالشمالية والجمهور: (لقطة تجسّد هيبة القائد وحنوّ الأب، وصلابة الجندي ودمعة الوطن التي تأبى السقوط)    إحباط محاولة تهريب عدد 200 قطعة سلاح في مدينة عطبرة    السعودية : ضبط أكثر من 21 ألف مخالف خلال أسبوع.. و26 متهماً في جرائم التستر والإيواء    الترتيب الجديد لأفضل 10 هدافين للدوري السعودي    «حافظ القرآن كله وعايشين ببركته».. كيف تحدث محمد رمضان عن والده قبل رحيله؟    محمد رمضان يودع والده لمثواه الأخير وسط أجواء من الحزن والانكسار    وفي بدايات توافد المتظاهرين، هتف ثلاثة قحاتة ضد المظاهرة وتبنوا خطابات "لا للحرب"    أول جائزة سلام من الفيفا.. من المرشح الأوفر حظا؟    مركزي السودان يصدر ورقة نقدية جديدة    برشلونة ينجو من فخ كلوب بروج.. والسيتي يقسو على دورتموند    "واتساب" يطلق تطبيقه المنتظر لساعات "أبل"    بنك السودان .. فك حظر تصدير الذهب    بقرار من رئيس الوزراء: السودان يؤسس ثلاث هيئات وطنية للتحول الرقمي والأمن السيبراني وحوكمة البيانات    ما الحكم الشرعى فى زوجة قالت لزوجها: "من اليوم أنا حرام عليك"؟    غبَاء (الذكاء الاصطناعي)    مخبأة في باطن الأرض..حادثة غريبة في الخرطوم    رونالدو يفاجئ جمهوره: سأعتزل كرة القدم "قريبا"    صفعة البرهان    حرب الأكاذيب في الفاشر: حين فضح التحقيق أكاذيب الكيزان    دائرة مرور ولاية الخرطوم تدشن برنامج الدفع الإلكتروني للمعاملات المرورية بمركز ترخيص شهداء معركة الكرامة    السودان.. افتتاح غرفة النجدة بشرطة ولاية الخرطوم    5 مليارات دولار.. فساد في صادر الذهب    حسين خوجلي: (إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار فأنظر لعبد الرحيم دقلو)    حسين خوجلي يكتب: عبد الرجيم دقلو.. إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار!!    الحُزن الذي يَشبه (أعِد) في الإملاء    السجن 15 عام لمستنفر مع التمرد بالكلاكلة    عملية دقيقة تقود السلطات في السودان للقبض على متّهمة خطيرة    وزير الصحة يوجه بتفعيل غرفة طوارئ دارفور بصورة عاجلة    الجنيه السوداني يتعثر مع تضرر صادرات الذهب بفعل حظر طيران الإمارات    تركيا.. اكتشاف خبز عمره 1300 عام منقوش عليه صورة يسوع وهو يزرع الحبوب    (مبروك النجاح لرونق كريمة الاعلامي الراحل دأود)    المباحث الجنائية المركزية بولاية نهر النيل تنهي مغامرات شبكة إجرامية متخصصة في تزوير الأختام والمستندات الرسمية    حسين خوجلي يكتب: التنقيب عن المدهشات في أزمنة الرتابة    دراسة تربط مياه العبوات البلاستيكية بزيادة خطر السرطان    والي البحر الأحمر ووزير الصحة يتفقدان مستشفى إيلا لعلاج أمراض القلب والقسطرة    شكوك حول استخدام مواد كيميائية في هجوم بمسيّرات على مناطق مدنية بالفاشر    السجائر الإلكترونية قد تزيد خطر الإصابة بالسكري    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مقال تذكاري في ذكري رحيله: ثلاث لوحات لمحمد محي الدين، إذ ينهضنا لنري الوطن، لنكون فيه .. بقلم: جابر حسين
نشر في سودانيل يوم 05 - 06 - 2018


وضع الحقيقة،
والرياح ...
البحر والمدي الممتد،
الفقراء والناس الذين
عليهمو عبء التساؤل والثبات!
وأرخي السدول علي قصيدته،
أكسبها غموضا لينا
وجسارة في اللون
فتوهج المعني،
وأشرقت العبارة!
تحل ذكري رحيله الثالثة، وقد ذهب عنا إلي حيث يغدو ( ذكري ) في ضمير ثقافتنا، في شعرنا وإبداعنا. نحتفي به، بمسيرة حياته وسيرته، ثم، وهذا هو أجمل وأغني ما في حياته، بشعره وأعماله الإبداعية في تنوعها المثير، فماذا ترك لنا محي الدين، ماذا بقي لدينا منه يرافقنا في حاضرنا فيمنحنا ألق الحياة والثقافة وجدواها النبيلة؟
منذ حوالي أكثر من عامين علي رحيله صباح 26/5/2015، كنت قد أرسلت إليه رسالة، ولأنها ليست تدخل في حيز الخصوصية التي كم راكمنا في خبائها خيباتنا وآمالنا، فقد نشرتها في الملأ، فطالعها هو، كغيره من القراء، في الصحف! قلت له وقتذاك:
اللوحة الأولي :
إلي محمد محي الدين:
فيما بين النهر والشجر
ما بين السحابة والحديقة والمطر
بين العبارة
والحواشي والمتون
( كان ما سوف يكون )!
بحر من الحبر الملون
وأفق شاسع،
ممتد في المعني ...
وفي الناس المسرة!
يا عزيزي،
كم علمتنا
كيف للكلمات تغدو
بعضا من تضاعيف الرؤي
حيث التضاد ... والصراع،
فنعيشها ...
وتدع الحياة بنفسها تخلق المعني
تسع المخيلة الفسيحة
فتزهر ألف فكرة!
هكذا إبتدأت
وأوغلت ...
في ركضها المجنون
صوب النهر ...
في شارع الأسفلت،
في الحوانيت الصديقة
في الكتب العتيقة
في موقع ( الشجرة )،
فكانت الفكرة
كانت الثمرة!
و ... تركتها،
تسعي في المدينة
في أزقتها،
وخلف بيوتها الطينية الجدران.
حتي أنمحي الفارق اللفظي
ما بين المسيرة والكتابة
فارتدت كل التصاوير
أردية الهوية والنجابة!
هي رحلة الملكوت في العمر القصير
تسير فيها،
والدنيا حصار في حصار!
وحدها،
هي وحدها ...
ألق القصيدة في ( حديقة الورد الأخيرة ).
نضار في نضار!
تقول حكمتها
وكسوتها الملونة البديعة
حبيبة الزمن الجميلة
الآن تجلس أمام ( الكونتنتال )
تجللها المهابة
والوسامة،
يا محمد ...
الوسامة والقيامة!
هكذا ، رأيته تلك الأيام، ممسكا إليه بلحظة الشعر ويسير حثيثا فيه، لكنه، في ذات الوقت، أشتغل علي المسرح، علي الكتابه فيه وإعداد السيناريوهات والأخراج، من أعماله المسرحية التي أنجزها كتابة وأخراجا وتمثيلا أحيانا ، فقد كتب:
- القطر صفر.
- مطر الليل.
- هبوط الجراد.
- الرجل الذي صمت.
إلي جانب مؤلفاته المسرحية، كتب سيناريوهات مسرحية وإذعية وسينمائية عديدة، وأعد وأخرج مسرحيات كثيرة مثل في بعضها أحيانا. أعماله في اتساعها وتنوعها لم تحصي وتحصر وتسجل بشكل دقيق بعد، أنها مهمة تنتظر أن نقوم بها تمهيدا لإعداد أعماله الكاملة لأجل أن تقوم جهة ما بطباعتها ونشرها.
كنت قد رأيت ذلك المنحي قد شرع يسير فيه، ذلك التوجه الذي ( جذب ) إليه العديد من الشعراء مؤخرا، وفي خاطري الشاعر النوبي الكبير كمال عبد الحليم الذي أسماه ( مسرحية الشعر ). تذكرت يوم حالفني الحظ فحضرت حوارا أجراه الشاعر أحمد النشادر مع محمد محي الدين بمدني حوالي العام 2009 لصالح ملف ( تخوم ) الثقافي بصحيفة الأحداث. أذكر جيدا اجابته حين سأله النشادر كيف يري الراهن الشعري عندنا، سرح ببصره إلي أعلي الشجرة كثيفة الأغصان التي كنا نجلس تحت ظلها ذلك النهار، ركز عيناه إلي الصفق الأخضر يراقص الرياح الخفيفة في تثنيه فقال: ( لا يعجبني، تلك الطلسميات لا تعجبني ولا أفهمها! ) ... وصمت. لم يعلق النشادر ولا أنا! قصيدة محي الدين، طوال مسارها، ظلت واضحة في تعابيرها وفي كلماتها وبعيدة عن الغموض، لأنها لا تجلس إلا في الضوء ولاتحب أن تكون في الخبأ وأن كان رداءا شفيفا يشف عنها! قصيدته فيها الموهبة الكبيرة والمخيلة المجنحة، بلغة سلسة وبمفردات سلسة خالية من أي تعقيد، لكأنها تخاطب اليومي وتجالسه وهو الحري بأن يكون وجها للقصيدة وملمحا باهرا فيها. أيكون، بسبب من ذلك كله كف محي الدين قليلا عن الشعر ليذهب إلي حيث البراح فسيحا فيسمح له أن يقول برؤياه وهي تلامس الواقع اليومي بكل ضجيجه وصخبه وزخمه الخشن وصراعاته وتناقضاته العديدة؟
اللوحة الثانية :
هي لوحته هو، ( عشر لوحات للمدينة وهي تخرج من النهر )، نبوءاته الشعرية المبكرة وإعلانه الجهير عميق الدلالة عن إنتمائه إلي شعبه وإلي الوطن، رؤياه التي جعلها تصدر عن مدينته / حبيبته التي لم يبارحها قط سوي بضع سنوات قضاها في اليمن مبتعثا للتعليم في مدارسها، فظل وفيا وراضيا أن يعيش أطوار حياته كلها في رفقتها أيا ما كان الحال وأن أشتدت عليها القسوة وتجاسر عليها الطغيان. هذه القصيدة / الملحمة أعدها بمثابة المانيفستو لكامل شعره، فقد جعل فيها رؤياه ومواقفه ورؤاه، كتبها منفعلا بإنتفاضة الجماهير بود مدني في العاشر من يناير 1982م والمدينة تشيع شهيدها الفنان التشكيلي طه يوسف عبيد. هي كتابة للمدينة وللنهر و ... للشهيد، لكنها، في ذات الوقت، خلاصة مكثفة لمشهده الشخصي وهو في بلبال ذلك النضال الجسور، فرأي وجه الوطن جليا أمامه، وعايش نضالات الجماهير وهي تعلو وتعلو وتصفع وجه الحاكم وطغيانه وقمعه، رأي الصحو والنهوض والجسارة والحيوية تطال كل ما حوله، فقد كان الحدث عظيما وعميق الأثر، وسيمتد تأثيره، فيما بعد، فيبلغ كل أطراف الوطن من أدناه إلي أقصاه. فالشعر، كما أظنه لدي محي الدين، هو سؤال الوجود، أي الطرق يسلكها، أي الاشكال والأساليب ينتهجها، ولم يكن الأمر عنده متعلقا بالحرفة نفسها، بالتكنيك وحسب، أنما كان يشمل أساسا وجهة النظر، الرؤية، وما يريد أن يقوله. فإلتزام المبدع لا يتموضع ضمن المفهوم الشائع للكلمة، فالنضال داخل حزب أو منظمة سياسية شئ، والكتابة مع الممارسة السياسية شئ آخر، إلا أن أحدهما لا ينفي الآخر، لكن نلاحظ أنه نادرا ما تلتحم المسؤوليتان دون أن تسئ أحداهما إلي الآخري، أو دون أن ينتج عن ذلك إلتباس وسوء فهم. فليس ضروريا أن يكون الإنسان كاتبا أو فنانا ليحس أنه معني بما يقمع ويخنق صوت الشعب، فذلك أحساس كل مواطن يأبي لنفسه الخضوع والإستكانة، فإذا كان هذا المواطن، فضلا عن ذلك، شاعرا مبدعا، فذلك يكون من نعم الثقافة والوعي، لأنه يتوفر مبدئيا علي امكانيات – محدودة لا شك – تسمح له بمقاومة الهمجية والطغيان بشكل أكثر فعالية، كما تسمح له في ذات الوقت، بما ينتجه من أدب أو فن، بترسيخ ورفد ثقافة شعبه ووجدانه، التي تتهددهما أخطار الديكتاتورية والحرق والأبادة. محي الدين وجد نفسه وكامل وعيه وإبداعه علي المحك، في مواجهة الإنتفاضة وقدراتها المتنامية حد تبلغ بها هزيمة الطغيان وتحقيق التغيير صوب المستقبل الأفضل. بهذه الروح التواقة للحرية كتب محي الدين ( اللوحات ). لكن لن أتمكن هنا من إيراد تلك الملحمة كاملة في هذا الحيز، لكنني، سأورد منها اللوحة الأولي والأحرف الثلاث قبل العاشرة والعاشرة نفسها، بقصد أن نري معا كيف كتب رؤاه كلها تقريبا علي إتساع وجوهها وجعلها في هذا المنفيستو مثبتا رايته علي طول حياته الشخصية وفي تجليات إبداعها. فأنظر إلي تلك الحيوية تطال كل شئ في المدينة التي هي الوطن في رؤياه المحيطة:
1 :
( لوحة صباحي :
شجر البان استعاد الريح
وارتاح على رقصته
النسوة يغسلن الجلابيب الثياب الخضر
اركان البيوت انتفضت
بالأرجل الراكضة
الطير انتشي
صفقت الزونيا
وضجت ساحة الجميز بالطير الصباحى
الحمامات تبرجن ونثرن على الابراج ريشاً أبيضاً
والنهر اخفى لونه العادى
اجيال من الاسماك ترمى ظلها المائي
تخضر وتحمر
على الشاطئ عمال المجارى
بائعات الكسرة الشماسة النسوة
ارباب المعاشات
في انتظار السفر،
الباصات ملت جسد الاسفلت
القت راكبيها
وتخلت عن مواعيد لعشاق يعيشون الجوى فيها
كراسي الخشب المكسورة الأيدى زماناً في مقاهى السوق
تشتاق لرواد يضيئون الزوايا
والدراويش استفادوا من نشيج الرعشة الأولى
على ايقاع بوب مارلي
استفادوا
لحظة اخرى من الظل الذى جاور جدران المراحيض العمومية
والنسوة يدخلن تباعا،
والضريح انفتحت منه الشبابيك يلملمن الزورات
وارداف التجار المرحليون على باب المديرية تهتز
وآلاف من الطير الصباحى على بوابة النيل تحيى حمد النيل
ورايات الضياء الخضر شوشن اذاعات جنود الشعب
في الحامية الباسلة
الطير انتشي
شجر البان استعاد القبعات الموسميات
استراحت غابة النيم على وقع خطى الجند
رجال الامن يوفون نذور الحب للتجار والسادة والقادة
والأطفال يوفون نذور الحب للأرض
البيوت انتفضت بالأرجل الراكضة
الاردية الخضراء والزرقاء والكتب الحكايات المجلات الطباشير المناديل الزهور النور
والنسوة نشرن الجلاليب على الجدران
جهزن الملاءات
الحنوط
الكسرة الصامتة /الصامدة
الشاي
وعبَّأن الأناشيد
المواعيد
وأقلام الرصاص
الجرس الاول دقّ
الجرس الثاني دقّ
الجرس الثالث ..
دقت الاجراس دقّ
جرس جرس
النحاسى
الاساسي
الخلاسي
الخلاصي
الرصاصي
الرصاص! ) ...
هكذا، من من كائنات المدينة لم يصحو وينهض و ... ينتفض ذلك الصباح؟ أود الآن أن أصوغ انطباعي عنها علي النحو التالي : أنا لا أعتبر أن الشكل في القصيدة، أيا ما كان، يأتي ليعوض شكلا آخر أو ليحل بديلا عنه، ولا هو، بذاته، يعبر عن مضمون جديد ومبتكر. ذلك لأنهما معا، الشكل والمضمون، يعبران عن ثمرة من ثمار الوعي العام الذي يتمتع به الشاعر والمبدع عموما، فالوعي لديهم له جانبان، جانب جمالي وآخر أيديولوجي، وهما، معا أيضا، ودائما في جدلية تخصهما وتتحدد جواهرها لدي الشاعر، هذا مما غدا منذ وقت طويل من القضايا التي لا يختلف حولها إلا اولئك المتنطعين الذين علا صراخهم وهم يهللون بموت الأيدلوجيا، وهي مقولة ملتبسة تشوه الوعي وتبعده عن أن يعيش الحياة ويلامس واقع الإنسان في نضاله الذي لا يكف لأجل الحرية والتقدم والسلام. وضرورة أن يكون المبدع وسط الناس حاملا معاولهم وسائرا في دروبهم نفسها ومن تلك البيئة نفسها تطلع زهور إبداعه وتجلياته الجمالية. وفي ظني أن المنهج الذي أتبعه غولدمان يقترح وسيلة اختراق لهذه المسألة، باعتبار أن الشكل ما هو إلا الوجه الآخر البارز للوعي. وما لاحظته هنا، هو أن النتائج – القصيدة أعني – التي توصل إليها محي الدين وعلقها حلية في عنق قصيدته من شأنها أن توضح هذه الرؤية، رؤية العالم، رؤية الوطن، رؤية المدينة، رؤية النهر والشجر والطير وساكني المدينة من الكادحين والفقراء، رؤية الطغيان حين يقتحم المدينة محدثا فيها الجراح والدم والقتل، رؤية كل شئ من حوله، كائنا ما كان، فكل شئ هو في صيرورة الحياة ومعمعانها الذي لا يكف عن الحركة والنهوض، رؤية الجلاد إذ يقتص من أطراف ضحاياه و يبكيهم، هو وزبانيته، بعد مواراتهم الثري، رأيت هذه الرؤيات كلها وغيرها، ولم أعد بحاجة للرجوع إلي غولدمان المعروف عنه بحثه الدءوب عن رؤية العالم ويصل إلي رؤية متكاملة وهي الرؤية التي تتحكم وتبرز في الأعمال بشكل واضح. وهكذا رأيت أن محي الدين قد فعلها هنا، حين أمسك بتلك الجوهرة، الزمن المحيط برؤيا العالم لديه، فجعل قصيدته تكون في ذات الزمن الذي تكون الناس فيه ويكون الوطن، ثم أمسك ببرهات الحيوية في الأمكنة والأشياء والكائنات، كل ذلك تجده بإمتياز في قصيدته هذه. هذه العين التي تري، وهذه الرؤية المحيطة، تجدها قد حدقت في وجهة الآتي، في المستقبل الذي سيجئ ، ذلك ما نجده في اللوحة السابعة التي قسمها إلي ( أ ) و ( ب ) و ( ج )، بدقة الشعر حين يكون ناظرا إلي الرياضيات في حياتنا، هكذا لتصبح، الحروف الثلاث بكلماتها الدالات، مكملات اللوحة الثالثة، تماما، مثلما فعلها قبله أمل دنقل في قصيدته: الورقة الآخيرة – الجنوبي. فعلها نزولا علي ملاحظة د . لويس عوض علي العنوان الذي جعله لها، فعل ذلك في بضع ثوان بمكتب لويس فشطب العنوان وكتب:( صورة – وجه – وجه – وجه – مرآة ) فصارت أبلغ عناوين تؤشر إلي القصيدة بدلالاتها اللغوية ومعانيها وأمتداداتها في القصيدة نفسها. محي الدين فعلها أيضا في ملحمته الشعرية الكبري عشر لوحات، فكيف رأي الغد وهو يضئ أملا ورؤيا في الناس، فالقادم، لا شك، أجمل:
( اللوحة السابعة وأخواتها، ثم العاشرة:
7
الوان
(ا)
اسودا كان لون النهار
وكانت خيوط الأشعة سوداء مصبوغة بالدخان
خطوط الجرائد سوداء
صوت المذيع يندد بالشغب الموسمى
ويعلن للشعب باسم قوى الشعب ان الاشارة خضراء ان الطمانينة سائدة
لا إله سوى القبعات.
ب
اخضرا كان لون الشجر
ج
ازرقا كان لون النهر
10
لوحة حمراء تماما
اخضرا كان لون الحقول
ولون الغصون واشجارها والعصافير
كانت مياه الجداول زرقاء
والنهر غير أزيائه
الحقل غير ازيائه
والمدارس والمصنع الدور
والأحمر الآن
إن الشوارع غارقة في الدم الأحمر
والأحمر لايكذب يأتى
في سراويل من الدم يأتى
راجلا يسبق ألاف الخناجر!
أليس هذه الرؤية نفسها ما نراه يحدث الآن من قمع وسجن وقتل لشبان وشابات بلادنا بواسطة الجلاد الذي يوغل في الدم، يوغل فيه إلي حين أن تكون للشعب الكلمة الفصل فيذهب الطغيان بكل رموزه إلي وحل النسيان، إلي مزبلة النسيان مجللا بالعار والحقارة كلها. وبرغم الإطالة في هذه اللوحة التي أعتذر عنها، لكنني أعتقد، بإطمئنان كثير، أن هذه القصيدة بالذات، من بين كل شعره، تستحق قراءة متأنية وتأملا فيها، والشئ نفسه لمشروعاته، للمسرح وللسينما، فإبداع محمد محي الدين يحتاج لدرس كثير سيأتي، لا شك، آوانه و ... يكون!
اللوحة الثالثة :
في أخريات سنين حياته توجه محي الدين بكلياته إلي غرب البلاد، إلي حيث الجرح الدامي في خاصرة الوطن، إلي دارفور. ظل ينقب في تاريخها فيراه من جديد، بعيون الشاعر فيه، وبقلبه، ثم ليسقط مشاهداته الخصبة علي الواقع الحي، علي اليومي من حياة الناس والوطن. تداعيات نابضة بالحياة لاتزال، تنثر فينا نزيف الدم وصراخات الجسد، يؤشر عبرها إلي رؤيات وأحداثيات وتجليات، يراها في الوطن ويراها أيضا في الشعب، فيشرع، بتوق جارف ومحرق، ليكون الأتون، وفي المتون نفسها لا في الحواشي والهوامش منها! كتب سيناريوهات عديدة إستلها من ذلك الرحم الولود، لنقرأ معا مجتزأ صغيرا واحدا من تلك الأعمال لنري كيف رأي وجه التاريخ الهناك وهو يداخلنا في راهننا المعاش:
* ثورة السلطان عجبنا:
قرأ وجه دارفور عبر تاريخها الطويل، الذي لا يكف يمتد ويمتد، فكتب:( شكلت جبال النوبة تفاعلا مستمرا في قلب الأحداث السياسية والعسكرية في التاريخ القديم. كانت لها علاقاتها القوية ذات الجذور مع الدولة المروية، وأمتدت هذه العلاقة مع علوه ودنقلا في العصور الوسطي. ظلت جبال النوبة لقرون عديدة منطقة نزاع بين سلطنة الفور والسلطنة الزرقاء، وقد شكل النوبة عماد جيش بادي الثالث ملك الفونج فأكسبوه القوة والشدة والثبات )، ثم كتب في مقابلها، سيناريو بسيط:
- ( مشهد عام. جبال النوبة:( نقوش مروية، أهرامات، معابد، جداريات، مخطوطات سنارية. ).
- إشارات:( خرائط لدولة الفونج، الفور ).
- إفادة حول الدور التاريخي والسياسي لجبال النوبة.
شرع محي الدين يكتب تلك الحقبة التاريخية لتلك البلاد، التي تتوهج الآن وتتعمد بنيران الثورة ولهيبها ودمائها، نضالا جسورا يمتد فينا وفي المدي ويشهد العالم كله علي عار الطغيان وصلفه وقسوته وخسته. رأي الثائر يتقدم شعبه حاملا شعلة الثورة مناديا بها في الملأ ضد المستعمر البريطاني، ضد الطغيان. رأي (عجبنا)، فكتبه كما رأه:( ظل النيمانج في ثورة وحالة حرب دائمة ضد الحكم البريطاني بقيادة البطل الثائر الشهيد عجبنا أبن أروجا، سلطان قبائل الاما ومنطقة النيمانج، بطل ومقاتل ومحارب شجاع. أسم نادر تحفظه ذاكرة الجبال وتمتلئ بسيرته الشعاب والدروب في منطقة الدلنج التي تضم ثمانية مناطق كبيرة هي: النتل، وكرمتي، وككره، وتنديه، وشلارا، وحجر السلطان، وكلارا والفوس. لم تخضع قبائل الاما للسلطة الحكومية الإستعمارية منذ دخول الجيش البريطاني السودان. أظهرت تمردها وخاضت معارك شرسة وضارية دفعت بالانجليز لمحاولة اخضاع ( النيمانج ) لسيطرتها بكل الحيل والحملات العسكرية وتوجيه الضربات الخاطفة ).
أخذ محي الدين من الحقبة وجهها الثائر وذاكرتها، الثورة والثائر معا، تأملهما طويلا ليحدث السيناريو بكلمات تشي بالمشاهد الحية وهي في دورة حياتها علي الخشبة أو الكاميرا فكتب:
(- خريطة جبال النوبة.
- أغاني تراثية، فلكلورية حماسية.
- صور ورسومات.
- صور السلطان عجبنا.
- أرشيف.
- إفادة.
- مارشات: أصوات).
تأمل تلك الثورة فأشتغل عليها، تلك الثورة التي اندلعت شرارتها العام 1914م وانتهت في فبراير 1948م بمحاصرة عجبنا وقواته ومنعهم من مصادر المياه فبدأ العطش ينال منهم حد أن خزنوا البطيخ بكميات كبيرة ليستخدمه الثائر وقواته عوضا عن الماء الذي لم يستطيعوا أن يتمكنوا منه. لكن القائد العسكري البريطاني ( سي مارشال ) أحكم عليهم الحصار حتي تمكنوا من اعتقاله في المنطقة الحدودية بين سلارا وتندبه، اعتقلوه هو وأحد أبنائه ورئيس هيئة أركانه ومساعده الكجور كليلون.
وهو الشاعر النابه، محب الوطن والشعب و الحياة، لم يفته أن ينظر إلي المرأة في مشهد الثورة، فقاده تنقيبه ليراها في سيرة الأميرة النوباوية ( ماندي )، حين دخلت معترك الحرب بجسارة الثوار، تلك المقاتلة من بين بنات النوبة الثائرات، تماما مثلما أشار إليهن، السلالة من النساء الباسلات في تاريخنا: مهيرة بت عبود ورابحة الكنانية وغيرهن، يقول محي الدين:
( حملت ماندي البندقية واتجهت صوب ميدان المعركة، حاولوا إرجاعها فإنتفضت غاضبة ورمت ( بخستها ) إلي الأرض وصاحت:( دعوني، ليس الوقت وقت كلام)! كان تحطيم البخسة عند النيمانج يعني الوصول إلي قمة الغضب والإصرار علي عدم التراجع. أفسحوا الطريق، صاحت ماندي، وأسرعت مهرولة إلي قلب المعركة. كان دخولها إلي صفوف المحاربين دفعة معنوية عالية، إمتلأت الصدور حماسا وعزيمة وقاتلت ماندي بكل ضراوة وقوة. خلد الجيش السوداني تلك المرأة الثائرة بمارش عسكري يعرف بمبارش الأميرة ماندي، مستلهم من الأغاني الشعبية والحكايات التي انتشرت تعبر عن الفخر وتتغني بأمجاد تلك المرأة الثائرة). يقولون، الحياة أنثي، فقال محي الدين، الثورة أنثي أيضا. أضاء الحدث فأبرزه وأعلاه مشعا كما الشهاب في وجه الراهن إذ يسير الوطن والشعب في دروب الإنتفاضات والتغيير، نضالا وكفاحا ومآثر!
وعن الأميرة ماندي كتب في السيناريو:
(- المرأة تحمل البندقية وتعبر الجبال.
- سقوط البخسة.
بداية مارش ماندي.
- زغاريد، أهازيج، أغاني أسطورية).
هذه مجرد إطلالة علي هذا العمل الكبير، قصدنا بها أن نقدم اضاءة صغيرة عنه لنري، من بعد، كيف توجه محي الدين بكلياته، سنواته الأخيرة، صوب هذا الدرب التاريخي الذي أتخذه ملهما ودافعا لإشتغالاته المبدعة، مسرحا كانت أو أفلاما تسجيلية، حيث تتركز رؤيات الكاميرا والكادر السينمائي علي إبراز اللحظات المتوهجة ذات الجدوي في نضالات شعبنا، في المعني وفي الدلالة، مستخدما ومستنفرا كل أدوات المسرح والسينما ومتكئا علي القدرات الكبيرة للشعر لديه علي نفس هذا النسق، وعلي ذات السياق، كتب سيناريوهات عديدة عن نضالات تلك الشعوب منها:
* ثورة السلطان علي الميراوي.
* جبال النوبة، مواسم الحب والحصاد.
* سيناريو أبطال الجبال.
* مملكة تقلي.
* منارة الجبال.
كل هذه الأعمال جاهزة وصالحة لتكون أمام شعبنا ومشهدنا الثقافي، وهنا يتوجب علي أن أزجي شكري العميق وإمتناني للأستاذة الصحفية النابهة حنان آدم عثمان التي أرتني هذه الأعمال المهمة، وكان الراحل قد أودعها لديها أخريات أيامه كآخر أعماله تمهيدا لطباعتها والأشغال عليها لتفيذها، لكن لم يمهله، ذلك اللص الجبان علي قول درويش ليكمل مشواره وإشتغالاته المبدعة!
و ... نحن نرفع إليه لوحاته، في مقام تمجيده جراء حياته الخصبة وما منحنا إياه من جماليات ورؤي ومواقف، يبقي هنالك سؤالا يلح في الخاطر، ويقرع فينا أجراسه: تري، لماذا هذا التوجه نحو التاريخي، صوب المسرح والكاميرا، هل يعد ذلك نأيا ما عن الشعر، في وجهته الجديدة؟ نعلم أن محي الدين قد درس المسرح وتخرج فيه وزامل العديد من المسرحيين والشعراء، ونعلم، أيضا، أنه بدأ مشوار إبداعه خائضا في بلبال الشعر، حتي غدا أحد أهم وجوهه في حقبته، لكنه سرعان ما عاد، بخفة الكائن عنده، إلي المسرح وإلي الكاميرا، أيكون هو الحنين، أم هو الشعر الذي بدأ يكف عن السطوع رويدا رويدا عنده، أو بالأحري، صعب عليه أن يسير فيه، بطلسمياته ووجوهه ( المغايرة ) التي، أصلا، هي لا تعجبه كما تبدو في حال الشعر الآن؟!
محمد محي الدين:
لروحك نقول، شكرا جميلا يا حبيبنا، فنحن، الآن، نري الوطن أجمل، وشعبنا يضئ العتمات وينهضنا للنضال، أليس ذلك ما رأيته وأردتنا نكون فيه؟!
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
/////////////////


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.