عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته. وساء ساوةَ أن غاضتْ بحيرتُها ورُدَّ واردُها بالغيظِ حينَ ظمِي من قصيدة البُردة للإمام البوصيري ظلت بحيرة تشاد ، منذ أوان الطلب ، وأول عهدنا بدراسة جغرافيا القارة الإفريقية ، حينما وُصفت لنا بأنها تتفرد بأنها بحيرة ذات تصريف داخلي ، بمعنى أنها يغذيها نهر ، هو نهر " شاري " ، ولا ينبع منها نهر متجهاً نحو جهة أخرى ، كحال معظم البحيرات ، ظلت تستثير خيالي وفضولي المعرفي معاً ، كما ظلت تشكل بالنسبة لي بهيئتها وموقعها شبه الأسطوري ، مصدراً مهولاً لتفجر جملة من التساؤلات التاريخية ، والطبيعية ، والبيئية ، والجغرافية ، والسكانية ، والثقافية ، والاقتصادية في ذهني. ربما ذلك لأنني أشبهها في لا وعيي ، ب " تُردة الرهد " ، تلك البحيرة الصغيرة العجيبة أيضا ، التي تطوق خصر مدينة الرهد أبو دكنة بكردفان ، والتي تنبأ الإمام المهدي بظهورها – كما يزعمون – ووصفها بأنها ستكون: " بحر بين قوزين " ، أي مسطحاً مائياً ضخما يقع بين كثيبين من الرمال ، فلا هو يغمرهما ، ولا هما يمتصان مياهه. وقد ازداد ذلك الخيال قوةً ، وأمعنت تلك التساؤلات إلحاحاً ، وراهنية وموضوعية مهنية، عندما تهيئت لي فرصة العمل بالفعل ، دبلوماسياً ناشئاً في مدخل الخدمة بسفارة السودان بانجمينا ، بين أواخر ثمانينيات القرن الماضي ومطلع تسعينياته. ثم ثاورني الاهتمام بأمر بحيرة تشاد بقوة مؤخراً وعلى نحوٍ أخص، مع انعقاد المؤتمر الدولي من أجل إنقاذ هذه البحيرة ، الذي انعقد بالعاصمة النيجيرية " أبوجا " في الفترة من 26 إلى 28 فبراير 2018م ، بمبادرة مشتركة بين الحكومة النيجيرية ولجنة حوض بحيرة تشاد ، تلك المنظمة الحكومية شبه الإقليمية المعنية بتطوير موارد البحيرة والمحافظة عليها ، والتي تتخذ من العاصمة التشادية " انجمينا " مقراً لها ، وتضم في عضويتها البلدان المطلة على تلك البحيرة وهي: تشاد ، والكميرون ، والنيجر ، ونيجيريا ، ومشاركة عدد من الشركاء المعنيين ، بما في ذلك منظمة الأممالمتحدة. وبحيرة تشاد ، قد كانت هي في الواقع من الناحية الجغرافيىة والطبيعية والتاريخية ، بحيرةً ضخمة جداً من المياه العذبة التي يغذيها نهر شاري ، الذي ينبع من مرتفعات شاري أوبانقي بوسط إفريقيا ، بالإضافة إلى غير ذلك من الأودية الصغيرة الأخرى الهابطة إليها من مرتفعات تبستي بشمال تشاد ، فضلاً عن مياه الأمطار التي كانت تتساقط عبر آلاف السنين خلال حقب متطاولة في العصور المناخية القديمة التي أعقبت عصر الجفاف الذي خيم أخيراً على منطقة الصحراء الإفريقية الكبرى ، منذ حوالي 7000 سنة قبل الميلاد. لقد كانت بحيرة تشاد ، كما يقول العلماء المختصون ، بحراً هائلاً من المياه العذبة في قلب الصحراء الكبرى ، إذ بلغت المساحة التي كانت تغطيها مئات الآلاف من الكيلومترات المربعة ، ولكن حجمها ما زال يتقلص بفعل عوامل تغير المناخ ، والجفاف ، والتصحر ، وانعدام الأمطار أو شحها ، وتناقص كميات المياه التي تغذيها عبر نهر شاري الذي يصب فيها ، وغير ذلك من العوامل الطبيعية والبشرية الأخرى. هذا ، وما تزال وتيرة انكماش هذه البحيرة ، وتقلص مساحتها ، وانحسار مياهها ، تتسارع باطراد ، مما ينذر بشدة باحتمال زوال هذه البحيرة عن الوجود بالكلية ، ربما في غضون مدة قد لا تكون طويلة بحساب أعمار الدول والشعوب ، " يقدرها العلماء ما بين ستين إلى مائة عام فقط من الآن " ، إذا لم تُتخذ التدابير اللازمة و بأعجل ما تيسر ، من أجل إنقاذها من هذا المصير المخيف والمحزن حقا. ومما يدل على الوتيرة المخيفة لانكماش بحيرة تشاد ، وتقلص مساحتها ، على مدى تاريخ قريب ومنظور ، وبياناته موثقة بدقة ، ناهيك عن ذلك التاريخ الموغل في القدم ، أن هذه البحيرة التي كانت تبلغ مساحتها 25,000 كيلومتراً مربعاً في عام 1963م ، لم تعد مساحتها تغطي أكثر من 2,500 كيلومتراً مربعاً فقط في الوقت الراهن. علماً بأن ضفاف البحيرة المطلة على أربع دول متجاورة كما أسلفنا ، يقطن فيها نحوٌ من ثلاثين مليون نسمة ، يعتمدون على مواردها الآخذة في النضوب ،في معاشهم وسبل كسبهم من زراعة ، ورعي ، وصيد أسماك ، وصناعات تقليدية ، وخدمات نقل بالقوارب وغيرها. لقد منحت هذه البحيرة في الواقع ، اسمها لذلك البلد الجار العزيز " تشاد " ، إذ يُرجح بعض اللغويين والمؤرخين ، أن بعض المجموعات العربية التي نزحت إلى نواحي تلك البحيرة خصوصا بعد انبلاج فجر الدعوة الاسلامية ، قادمةً إما من شمال إفريقيا ، أو من الجزيرة العربية والشام عبر مصر وسودان وادي النيل ، قد أطلقوا اسم " الشَّط " ابتداءً على ذلك المسطح المائي الضخم الذي شاهدوه أمامهم ، خصوصاً وأنه اسم مألوف لديهم ، إذ أنه على غرار شط العرب في العراق ، وشط الجريد بتونس وغيره من الشطوط الأخرى على سبيل المثال. ثم تحرف ذلك الاسم من بعد بسبب تأثر عربية القوم بما احتكت بها من لغات محلية ، حتى انتهى إلى الصيغة التي تبناها الفرنسيون ونقلوها لاحقا ، وهي " تشاد " Tchad . ويدلل الآثاريون بصفة خاصة على ضخامة المساحة التي كانت تغمرها مياه بحيرة تشاد في العصور السحيقة ، بأنهم ما يزالون يعثرون إلى هذا اليوم في الحفريات التي يجرونها في قلب صحراء شمال تشاد ، على بقايا كائنات مائية مثل: القواقع ، وعظام التماسيح ، والأسماك ، وأفراس النهر ، والسلاحف ، وهلم جرا. ومرةً شاهدتُ فيلماً وثائقياً بقناة " ناشونال جيوغرافيك " التليفزيزنية العالمية الشهيرة ، زعم مُعدُّوه أن بحيرة تشاد قد كانت في عهد طفولة كوكب الأرض ، وقبل أن تُفتق القارات وتتباعد عن بعضها البعض بعد أن كانت رتقاً ، هي أصل نهر الأمازون الحالي الكائن بقارة أمريكا الجنوبية ومنبعه ، والله أعلم بمدى صحة هذه الفرضية. أما علاقة حوض بحيرة تشاد ، وما يتصل بها من محيط جغرافي وطبيعي وبشري بالسودان ، فيتمثل في كون أن البحيرة نفسها قد كانت تصل في اتساعها إلى قريب من حدود السودان شرقا ، وربما كان جزء منها واقعاً بالفعل داخل حدوده الحالية ، شاملاً أجزاء من صحراء بيوضة وصحراء شمال دار فور على الأقل. على أن مما لا شك فيه أن مياه السودان الجوفية ، خصوصاً الكائنة داخل ما يعرف بالحوض النوبي ، الذي تشاركه فيها كل من مصر وليبيا وتشاد ، ينبغي أن تكون متكونة جزئياً من النتح المتسرب إلى ذلك الحوض من مياه تلك البحيرة التاريخية الضخمة عبر ملايين السنين. كذلك كانت مرتفعات تبستي بشمال تشاد ، المرتبطة جغرافياً وطبوغرافياً بتلك البحيرة ، منبعاً لأكبر الروافد القديمة لنهر النيل من الجهة الغربية ، ألا وهو " وادي هَوَرْ " الذي كان نهراً دائم الجريان في العصور السحيقة ، وكان يعرف باسم النهر الأصفر أو " النيل الأصفر ". وقد كف ذلك النيل الأصفر عن الجريان وجفت مياهه من ضمن ما جف من روافد النيل الغربية الأخرى مثل أودية المُقَدم ، والمِلْك ، وأبو زعيمة التي التي صارت أودية موسمية ، بعد أن حاق بها ما حاق بسائر أجزاء ومكونات الصحراء الإفريقية الكبرى بسبب الجفاف والتصحر. وقد نشأت على ضفاف وادي هور حضارة سودانية عتيقة تعود إلى العصر الحجري ، ولله در شاعرنا الضخم الأستاذ محمد سعيد العباسي ، إذ يصف ذلك الوادي بأنه: وادي الجحاجحة الأولَى عمروهُ في خالي العُصُرْ ثم التحية من بعد ، لأستاذنا المؤرخ الكبير الدكتور أحمد الياس حسين ، الذي عرض لهذا الموضوع باستفاضة وعمق ، خصوصاً من خلال سلسلة مقالاته الباذخة مؤخراً بعنوان: " مقدمة لدراسة تاريخ غرب السودان القديم ". أما على مستوى تحركات السكان وهجراتهم عبر التاريخ ، فإن من المؤكد أن التغيرات البيئية والمناخية ، قد كانت أهم البواعث على تلك الهجرات والتحركات بين السودان ومحيطه الإقليمي بصفة عامة ، وخصوصاً منطقة الصحراء الكبرى غربا. وهنالك بالفعل من العلماء من يعزو – على سبيل المثال - نزوح النوبيين ، الذين يُرجح أنهم كانوا يعيشون في صحراء غرب النيل وواحاتها ، وذهابهم إلى وادي النيل من أجل العيش والاستقرار في ضفافه ، إلى موجات الجفاف المتلاحقة التي ضربت مناطقهم الأصلية بصحراء غرب النيل. وهذا الوضع من شأنه أن يذكرنا بما حدث في التاريخ المنظور في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي ، عندما تعرض السودان لموجات هجرة ولجوء ونزوح كبيرة مصدرها عدد من بلدان الساحل الإفريقي ، التي تعرضت لموجة عاتية من موجات الجفاف والتصحر ، وما تسببا فيه من فقر ومجاعة ماحقة آنئذٍ. والحال كذلك ، فإن أيما تحول أو تغيير جذري لوجود بحيرة تشاد ومصيرها ، من شأنه أن ينعكس بصورة مباشرة على السودان طبيعياً ،و بيئياً ، وبشرياً ، واقتصادياً ، وبالتالي فأنه ينبغي عليه أن يكون معنياً به ، ومتحسباً لمآلاته من جميع النواحي من وجهة النظر الاستراتيجية البحتة ، والتي لا تجدي معها تلك الروح التسويفية المتسيبة ، التي تجسدها بعض أمثالنا المثبطة في مثل هذا السياق من قبيل: ليها مية فرج ، ويحلها ألف حلال ، وأصلها الدنيا طايرة !! الخ. ولعل المصلحة تقتضي على السودان بكل تأكيد أيضاً ، أن يتابع ويدعم عن كثب ، بل ويشارك بفعالية في كافة الجهود والتدابير والمبادرات الإقليمية والدولية الرامية إلى إنقاذ بحيرة تشاد من النضوب والجفاف الكامل ، بما في ذلك دعم الجهود الرامية إلى إقناع كافة الأطراف المعنية بالموافقة على مقترح مشروع تغذية بحيرة تشاد من فوائض مياه نهر الكونغو ، أو إحياء وتفعيل المبادرة التي كانت قد طرحها طيب الذكر: تجمع دول الساحل والصحراء أو تجمع س.ص سابقاً ، والداعية إلى تحويل فوائض مياه أعالي نهري شاري وأوبانقي ، من أجل زيادة حصيلة نهر شاري من المياه ، بما يؤمِّن تغذية بحيرة تشاد بالكميات الكافية من المياه اللازمة ، بهدف المحافظة على جميع خصائصها ومقوماتها الهيدروليكية والطبيعية والأيكولوجية والاقتصادية والبيئية الخ ، وبما يضمن حياتها المستقبلية بصورة مستدامة ، وإلا فليستعد السودان لاستقبال أولئك الثلاثين مليونا من البشر في أراضيه ، ولو بعد حين.