تعرضت في المقالات السابقة لقضية الحوار حول انتخابات 2020، ووصفتها بالألويات المقلوبة التي تقفز فوق التحديات والمهام الراهنة، كما انها قضية تصب فيما يخطط له النظام للظهور بمظهر النظام الديمقراطي، حيث يتم تداول السلطة عبر صناديق الاقتراع. وناقشت أطروحات الداعين للمشاركة والرافضين لها. ثم تعرضت لأدوات التغيير، واعطيت الحركة النقابية، حقها المشروع من النقاش، مبينا العوامل التي اضعفتها، وأكدت انها ستتخطى العوامل الموضوعية والذاتية التي اقعدت بها، وستكون قوة أساسية في معركة التغيير. ثم ناقشت قضية احزابنا باعتبارها أداة هامة واساسية هي الأحزاب السياسية السودانية، وان ضعفها وعدم ديمقراطيتها من أسباب تعطيل التغيير، وشددت على ضرورة الاجتهاد لتطويرها وتقويتها وتجديدها. ثم تعرضت لطرف أساسي في العمل العام، وأداة هامة من أدوات التغيير، وهي منظمات المجتمع المدني. وقدمت قراءة نقدية لدور نشطاء الخارج. وهذا المقال مكرس لجوهر أزمة عملنا المعارض وهو التشتت والانقسام وتصويب بنادقنا للخلف. ولأن وحدة المعارضة قضية معقدة، فلن يتم تحقيقها الا بتفكير من نوع جديد، تفكير خارج الصندوق. أعتقد جازما، بلا حذلقة لفظية، أو تهويم في التنظير، أو غرق في بحر المصطلحات، ان أحد أهم أسباب بقاء الإنقاذ، هو تشتتنا وصراعاتنا الغير مبدئية، وانقساماتنا التي لا تنتهي. وأكرر، حتى لا يلتبس على البعض، التشتت هو أحد أهم الأسباب وليس السبب الوحيد. وتحقيق وحدة قوى المعارضة، بكل احزابها وتياراتها وجماعاتها وقواها وأفرادها، هو الخطوة الأولي والأساسية والمحورية في تحقيق التغيير القادم، والتحكم في مساره ونتائجه. أبدأ بتحديد واضح، لا لبس فيه، لما اقصده بوحدة المعارضة. لا اقصد من قريب او بعيد توحيد المعارضة، في تنظيم واحد متماسك، تتفق مكوناته في الأفكار السياسية، وفي كل القضايا البرامجية، والتكتيكات المطلوبة لإنجازها، لأنها، إذا حدث ذلك، ستصبح تنظيم واحد. وانما اقصد، مركز قيادي، أو هيئة تنسيقية، أو مظلة تلتقي تحتها عدة تنظيمات ذات توجهات مختلفة، ولكن يجمعها هدف واحد، او سمه تحالف مرحلي لإنجاز هدف أو أهداف محددة. وبلغة تنظيمية هو تنظيم برنامج الحد الأدنى الذي تلتقي فيه كل مكوناته، بينما برنامج الحد الأقصى هو البرنامج الخاص لأي تنظيم منها، وهو ما يسعي لتحقيقه وانجازه في حالة وصوله للسلطة منفردا. وألخص المسالة لأقول ما يجمع كل هذه القوى والتنظيمات هو انهاء تحكم الإنقاذ وانفرادها بالسلطة وإقامة نظام تعددي، يبُنى علي دولة المؤسسات وحكم القانون. كيف نحقق هذه الوحدة، بالمفهوم أعلاه، ونرى أمامنا كل مظاهر التشتت والانقسام، واتهامات التخوين، ومحاولات التكويش وتكبير الكوم، بل والضرب تحت الحزام؟ هي مهمة ليست سهلة، ولكنها ضرورية ولازمة لتحرير شعبنا من التخريب الممنهج الذي تقوم به سلطة الإنقاذ. ولن تتم هذه المهمة ما لم تستشعر كل القوى والحركات والتنظيمات، انها بمواقفها الراهنة، مسئولية أمام التاريخ، وأمام الأجيال القادمة عن كل الدمار الذي تسببت فيه الإنقاذ، خلال الفترة السابقة، وتصر ان تواصل في مسلسلها التدميري بإصرار عجيب، لإيمانها بتشتت المعارضة، ومراهنتها على ذلك التشتت، بل ودورها في ذلك التشتت. الخطوة الأولى والاساسية ان نحدد، وبدقة، اهدافنا، وما نعمل لتحقيقه. ثم نخطو خطوة للأمام بتحديد تلك القوى التي تتفق مع تلك الأهداف، ولها مصلحة في إنجازها، وتسعى بصدق لتحقيقها. الهدف الذي يجمع بين كل قوى المعارضة، بتياراتها ومنظماتها وشخصياتها المختلفة، هو تغيير نظام الإنقاذ بنظام ديمقراطي تعددي، يحكم بالقانون، حيث تحكم فيه المؤسسات ويتم الفصل بين السلطات الثلاث، ويتمتع الجميع بالحريات الأساسية، وتحترم فيه حقوق الانسان. وهذا النظام هو مطلب الأغلبية الساحقة من الشعب السوداني. ونعتقد ونؤمن، بأن كل من يعتقد في هذا النظام ويسعى لتحقيقه هو حليف لنا، ويجب ان ننسق معه، ونعمل معا، ونخلق الإطار الواسع، الذي يجمعنا ويوحد جهودنا، ويزيد من قوتنا. هناك حجة تترد دائما بان هناك اختلافات كثيرة بيننا. نعم هناك اختلافات كثيرة بيننا، في تنظيماتنا، في طريقة تفكيرنا، في خلفياتنا الاجتماعية والاثنية، في مستوى تعليمنا، في مصالحنا المادية، وفي موقعنا من العملية الإنتاجية الخ. ولكن هذا الاختلاف هو من طبيعة الأشياء، ومن طبيعة مجتمعنا الذي يتميز بالتعددية، في كل شيء. وأي محاولة للقفز فوق هذا الواقع التعددي أو تناسيه، مصيرها الفشل. لذلك ندعو، بصدق وإخلاص، للاعتراف بهذه التعددية، والايمان بهذا الشعار: الوحدة في التنوع، وتنزيله لأرض الواقع السياسي، وان نسعى بجد لتنفيذه. بل ادعو ان نمارس جميعنا ضغطا حقيقيا ومتواصلا على احزابنا وتنظيماتنا ومنظماتنا للعمل المشترك، تجاه الهدف الأوحد وهو قيام نظام ديمقراطي في بلادنا. هل يمكن تحقيق ذلك الهدف؟ نعم وألف نعم، عندما تقول الجماهير كلمتها القوية في وجه كافة أطراف المعارضة: أوقفوا هذا الصراع غير المجدي وتعالوا لكلمة سواء. هناك ما يجمعكم، فاعملوا سويا لتحقيقه، وأيضا هناك ما يسعى كلٍ منكم لتحقيقه كهدف نهائي، فهذا برنامجه فليسعي له من مواقعه المستقلة. ويمكن ان يتحقق ذلك الاتفاق والوضوح النظري عندما ننظم حوارات علنية بين أطراف المعارضة حول استراتيجياتها وتكتيكاتها، ونقاط الاتفاق ونقاط الخلاف بينها. لنقيم أهدافها القريبة والبعيدة. وأن نلزم الجميع على الاعتراف، بشجاعة ووضوح تام، عن دور تشتتهم في استمرار النظام كل هذه المدة. هناك مقولة تترد بان النظام ضعيف ومعزول وآيل للسقوط. وهي نفس المقولة التي تكررت في بداية الانقلاب بأنه لن يستمر. وها هو الانقلاب يمضي نحو عامه الثلاثين. علينا عدم الاستهانة بقوة النظام. وأيضا بقدرة النظام على المناورة، داخليا وخارجيا، وعلى استعداده لبيع أي شيء، بدون ان تطرف له عين. وان نعلم بان له أساس مادي يتمثل في الفئات الطفيلية التي أنشأها، وفي قوى الإسلام السياسي، وفي الدولة العميقة التي تتحكم في كل مناحي الحياة، وفي الفئات التي تقتات وتتحالف مع أي نظام، وفي ميلشياته الخ. النظام ليس ضعيفا حسب ما يعتقد بعض الناس. ولكن في نفس الوقت، النظام متراجع بسبب فشله في إدارة البلد، وخائف لعزلته عن اغلبية شعبنا، ومنهك بسبب صراعات المصالح التي تنهش جسده، وظهره للحائط بعد انكشاف تستره بالإسلام واستغلاله لمصالح دنيوية، ويظهر جبنه من المصير المحتوم بمنعه من مباراة كرة قدم. نعم هو ضعيف بهذا الفهم، ولكنه شرير وحاقد، ويصر على الدفاع عن مصالحه. كما ويعتقد انه فهلوي يخدع شعبنا بحواراته الممجوجة وانتخاباته المضروبة. ويظهر امام العالم اجمع بمظهر النظام الديمقراطي الذي تتداول فيه السلطة بصندوق الاقتراع. هل سنشرك اليمين في هذا التحالف الواسع؟ نعم. ولكيلا يحدث التباس، أقول نعم اليمين والطائفية والأحزاب التقليدية ستشارك في تحالفنا، وفي معاركنا من أجل التغيير. والسبب الأساسي ان لها مصلحة في التغيير الديمقراطي، فقد تضررت مصالحها الاقتصادية بسبب ابعادها عن السوق من قبل الرأسمالية الطفيلية الانقاذية، وتم ضرب منظماتها السياسية، وابعدت عن السلطة، لذلك لها مصلحة في انجاز التغيير الديمقراطي، بالمفهوم الذي اتفقنا عليه في وثائقنا: حكم القانون. هل سنناضل ونضحي لترجع الطائفية لحكمنا مرة أخرى؟ اننا لا نناضل لإرجاع الطائفية، ولكننا نناضل من اجل الديمقراطية، وإقامة حكم المؤسسات، ولن يكون البديل فرد وانما نظام متكامل. وإذا نجحت أحزاب الطائفية في الفوز في انتخابات حرة، في ظل نظام ديمقراطي حقيقي، فهذا حقها المشروع الذي منحنها له الشعب السوداني. ونضيف انه في ظل حكم المؤسسات لن يتحكم حزب الأغلبية في السلطة القضائية ولا في الحريات الأساسية، وستقدم ممارساته للتقييم في نهاية الدورة الانتخابية. من المستحيل توحيد أطراف المعارضة؟ لا مستحيل تحت الشمس، ولا مستحيل أمام من يضعون مصلحة السودان أولا. ولا مستحيل امام العقل السياسي الجمعي المحلي والعالمي، امام كافة المعضلات. فقد تم انجاز عشرات الاتفاقيات بين من كانوا يتحاربون لعقود من الزمن. وهناك المثال الذكي للصينين، الذين انجزوا: نظامان وبلد واحد. فها هي هونج كونج الرأسمالية ذات الأحزاب، مع الصين الشيوعية وذات الحزب الواحد، يعيشان في بلد واحد. فعلى أطراف معارضتنا ان تعيد التفكير بمسئولية تجاه هذه المسألة، خاصة وانهم انجزوها في إعلان الخلاص الوطني الذي تم خلال حراك يناير2018، وفيه التقت أطراف المعارضة الرئيسية من قوى الاجماع ونداء السودان. مما يؤكد ان ما يجمع بين أطراف المعارضة أكبر مما يفرق بينها. تجميع قوى المعارضة لا يتم بالبيانات الفوقية، او في الحجرات المغلقة، او في المؤتمرات الصحفية، وانما باتفاق جاد، وبهيكل محدد، وواجبات واضحة، يتم تنفيذها جماعيا. تجميع قوى المعارضة يتم في لجان المقاومة في المدن والاحياء، يتم في مواقع العمل، يتم وسط النقابات، وسط منظمات المجتمع المدني، في لجان مكافحة السدود، ولجان مقاومة استخدام السيانيد وتلويث البيئة، في مواجهة النظام العام والعنف ضد النساء، في اعتصامات المدن والاحياء، في المقاومة القانونية للتجاوزات المختلفة، في التضامن مع طلاب دارفور، في عشرات القضايا والمهام، وعلى كافة الأصعدة. وأن يتم ذلك بلا تكويش من أي جهة، ولا أدعاء زائف بالقيادة والريادة. وكما في امثالنا " فالغريق لي قدام"، فمن يريد قيادة شعبنا، فليعمل معنا للإتيان بالديمقراطية أولا، وبعدها فقط، فليقنع شعبنا بتفويضه في انتخابات حرة نزيهة ليحكم. وحينها يملك كامل الحق ليقود شعبنا نحو تحقيق برنامجه وتنفيذ مقاصده العليا. أما قبل ذلك فلا صوت يعلو على صوت العمل المشترك من اجل الديمقراطية. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.