تعرضت في المقالات السابقة لقضية الحوار حول انتخابات 2020، ووصفتها بالألويات المقلوبة التي تقفز فوق التحديات والمهام الراهنة، كما انها قضية تصب فيما يخطط له النظام للظهور بمظهر النظام الديمقراطي، حيث يتم تتداول السلطة عبر صناديق الاقتراع. وناقشت أطروحات الداعين للمشاركة والرافضين لها. ثم تعرضت لأدوات التغيير، واعطيت الحركة النقابية، حقها المشروع من النقاش، مبينا العوامل التي اضعفتها، وأكدت انها ستتخطى العوامل الموضوعية والذاتية التي اقعدت بها، وستكون قوة أساسية في معركة التغيير. واليوم اناقش أداة هامة واساسية هي الأحزاب السياسية السودانية. قراءة استهلالية لواقع الأحزاب: نشأت احزبنا التقليدية وخرجت من رحم مؤتمر الخريجين، بعد الحرب العالمية الثانية. وكانت تعبيرا عن واقع السودان آنذاك، حيث احتضنت كل طائفة دينية حزب من الأحزاب. وفي ذات الوقت وبتأثير الطلاب السودانيين الدارسين بمصر، وارتبطوا بالحركة الشيوعية المصرية تم تأسيس الحزب الشيوعي. ثم تأسس، بعده، تنظيم الاخوان المسلمين، بتأثير من الطلاب السودانيين بمصر. وساهمت تلك الأحزاب، إيجابا وسلبا، في التطور السياسي السوداني. ولكن شابت تطورها الطبيعي نكسات وتراجعات بسبب ثلاث أنظمة عسكرية، غطت أكثر من 80% من سنوات ما بعد الاستقلال، وبأسباب تعود لتركيبة المجتمع السوداني الاقتصادية والاجتماعية. وكانت، ولا تزال، هذه الأحزاب تشكل مرآة صادقة لواقع المجتمع السوداني، بتعدديته وتناقضاته وصراعاته، ومصالح طبقاته الاجتماعية، ومظاهر قوته وضعفه، وتخلفه وسيطرة البيوتات الطائفية عليه. أبدأ، بنقطة أساسية، كبداية لهذه المناقشة، وهي تأكيدي ان أحزابنا تمر بأزمة حقيقية. وهذه الازمة هي واحدة من تجليات الأزمة الوطنية الشاملة، التي ادخلتنا فيها سلطة الإنقاذ، التي خربت كل شيء في وطننا، وشوهت اشياء أساسية في حياتنا. التعامل مع ازمة الأحزاب لا يتم بالنقد العدمي اليائس، بل بالمنهج العلمي الموضوعي. نبدأ بتحليل جذور ومظاهر الأزمة، والعوامل التي ساعدت في زيادة وتيرتها، ثم نتقدم بحلول واقعية، تنظر للماضي لتشكيل المستقبل، وليس للتباكي على الماضي، أو اليأس من الحاضر والمستقبل. وهذه مهمة نظرية عظيمة، تحتاج لجهود الأكاديميين والمثقفين وكوادر الأحزاب. الموقف من الأحزاب: أصبح ضعف الأحزاب السياسية السودانية، وعدم فعاليتها، بندا أساسيا في الحوار حول الشأن العام. البعض يصفها بعدم الديمقراطية وان فاقد الشيء لن يعطيه، وآخرون يستميتون في الدفاع عنها لصمودها امام القمع المتواصل. ولأنه لا ديمقراطية بلا أحزاب، فسنقدم قراءة موضوعية لواقع الأحزاب السودانية، ومظاهر ضعفها وقوتها، والتحدي امامها لتجديد نفسها، ولعب دورها القيادي في عملية التغيير. وأعتقد ان واجب النضال من اجل تغيير النظام الحالي لا يتناقض مع العمل الجاد لتطوير وتجديد الأحزاب القائمة، أو انشاء أحزاب حديدة. دعاة المشاركة في الانتخابات، وقطاعات من الجماهير التي يئست من التغيير، والقوى الناهضة من الشباب، تجمع على ضعف الأحزاب السياسية، وإنها غير ديمقراطية، ولن تحقق التغيير المنشود، وعلينا البحث عن بدائل أخرى. سأبدأ يعرض ومناقشة الأسباب الأساسية، المعلنة، عن يأس أولئك وهؤلاء من الأحزاب، وكفرهم بمقدرتها على هزيمة نظام الإنقاذ. أهم الاتهامات التي توجه للأحزاب السودانية، في تعميم مخلل: الأحزاب تسيطر عليها الطائفية الأحزاب غير ديمقراطية. برامجها غير جذابة. ضعيفة ومعزولة عن الجماهير تعاني من الانقسامات قابلة للاستسلام للسلطة والتنكر للقضية الوطنية تهمش الشباب وتبعدهم عن القيادة قضية سيطرة الطائفية: سيطرت الطائفية، تاريخيا، على قطاعات واسعة من أبناء شعبنا، كما سيطرت على الحزبين الكبيرين. هذه السيطرة تعرضت للضعف بمرور الزمن، وتطور الممارسة الديمقراطية، وارتفاع وعي الجماهير خاصة بعد ثورة أكتوبر 1964. وبوضوح تام، وبلا لبس، لن تحقق الأحزاب الطائفية الديمقراطية الحقيقية التي نحلم بها، ونعمل لها، ولكن بكل الصدق، هي قادرة على تحقيق ووضع الأساس للممارسة الديمقراطية التعددية كما اثبتت تجارب التاريخ، خلال ثلاث حقب ديمقراطية. بعد تحقيق ذلك الأساس، المتفق عليه، يمكننا تطويره وتجويده. وحتى قبضة الطائفية ما عات كما كانت، وكمثال كانت الجماهير تتحرك بالإشارة فمثلا محمد أحمد محجوب كان يفوز في دائرة أم كدادة، التي لم يراها، ولكن الامام الهادي المهدي، كان يعطي الإشارة بالتصويت له، فيفوز. ثم بدأت الجماهير تطالب بترشيح أبنائها خاصة بعد الانتفاضة. وتطور الأمر بتشكيل كتلة أبناء الغرب، من نواب حزب الأمة، في الجمعية التأسيسية بزعامة مادبو وبكري عديل، والتي صارعت من اجل مطالب غرب السودان، ورفضت السيطرة المطلقة لبيت المهدي على الحزب. كما ان انقسامات الاتحادي الديمقراطي الحالية هي شكل من اشكال التمرد على سيطرة بيت الميرغني. هذا يوضح تراجع السيطرة الطائفية، والديمقراطية القادمة ستشهد تلجيم السيطرة الطائفية في الحزبين. وبصدق، علينا الاعتراف بتعددية المجتمع السوداني وتنوعه وانقساماته وتناقضاته، فالطائفية، شئنا أم ابينا، مكون أساسي لهذا الوطن، في الوقت الراهن. تخطي سيطرة الطائفية لا يتم بلعن الأحزاب، أو السخرية منها، وانما بنشر الاستنارة والنضال من اجل الديمقراطية التي ستعطي جماهير الحزبين سيطرة أكبر في تسيير شئونهما، حينذاك ستصبح الطائفة ممارسة دينية، لمن يعتقد فيها، ولا سيطرة لها على السياسة. تهمة ضعف الأحزاب: هذه حقيقة ملموسة، وأكبر تجلياتها هي فشلها في اسقاط الإنقاذ. ولتلك الظاهرة عدة أسباب، اهمها الدكتاتوريات التي تحكمت في شعب السودان، وقمعته، وعطلت تطوره الديمقراطي وممارساته السياسية. لجوء الأحزاب للعمل السري أضعف من إمكانية تواصلها مع الجماهير. هذه الأحزاب الضعيفة هي نتاج أكثر من ثمانية عقود من الزمن، من التضحيات المادية وغير المادية، ممن آمنوا بها وتمسكوا بها، خلال ثلاث دكتاتوريات عسكرية غاشمة، ولا تزال صامدة في الساحة السياسية. ونعتقد ان التحدي امامنا ليس وصف الأحزاب بالضعف من مقاعد المتفرجين، لأننا لا يمكن ان نلقي بها في البحر، ونستورد أحزاب من الخارج. واجبنا هو التصدي لعملية تقوية وتفعيل وتطوير هذه الأحزاب، وأن نواصل نقد مظاهر ضعفها استهدافا لتطويرها. كما يمكننا ان ننشئ أحزابا جديدة تضيف للساحة السياسية. انعدام الديمقراطية داخل الأحزاب: نعم كل احزابنا لا تمارس الديمقراطية داخلها، بدرجة أو أخرى. والأصح، والأكثر دقة، ان نصف ممارستها للديمقراطية بغير المكتملة أو الناقصة. وهناك أسباب ذاتية وموضوعية أدت لذلك، منها سيطرة فرد واحد، أو بيت واحد، او مبررات أيديولوجية، أو منهج الطاعة للأمير، أو دعاوي السرية والحفاظ على جسد التنظيم الخ. السؤال الجوهري هو: هل ستحقق أحزاب غير ديمقراطية النظام الديمقراطي؟ نعم لان تاريخ الفترات الديمقراطية الثلاث، رغم قصرها، أثبت انها يمكن ان تؤسس لنظام ديمقراطي، رغم النواقص الكثيرة التي شابت التجربة، وان ما اقامته الاحزاب أفضل بألف مرة من دكتاتورية الانقاذ. وكمثال للمقارنة، في 1968 قدم البنك الدولي مقترحات لإجراء تغييرات هيكلية بمشروع الجزيرة، ولكن رفض حركة المزارعين والأحزاب والنواب، أوقفتها ولم تنفذ، اما في عهد الإنقاذ فقد تم " تشليع" ونهب مشروع الجزيرة بأوامر سلطانية، وتم قمع كل من رفض ذلك. وهذا يوضح بعض الفرق بين طبيعة النظامين: الديمقراطي والدكتاتوري. برامج الأحزاب غير جذابة: هذه واحدة من أهم نقاط ضعف احزابنا على مر تاريخها. فأغلب الأحزاب، ليس لها برامج واضحة عن سياساتها ونوع التغييرات التي ستنفذها. كما انه من النادر ان نسمع بمراكز دراسات او مستودعات أفكار، تابعة او صديقة لأحزابنا. ويشكل العمل الفكري آخر هموم احزابنا، وانعكس ذلك على إصداراتها وبرامجها، وحتى على منهج ادارتها للدولة عندما كانت حاكمة. وتطرح هذه القضية سؤالا هاما عن دور المثقفين داخل الأحزاب، هل إضافة نوعية لها أم هم امتداد للأجيال التي سبقتهم وارتمت في أحضان الطائفية بحثا عن المناصب والمكاسب؟ الأحزاب معزولة عن الجماهير: نعم الأحزاب ضعيفة وتعاني، لحد ما، من العزلة. وهي تعرضت مثل كل أوجه الحياة في بلادنا، في ظل نظام الإسلاميين، للدمار والتخريب. ونسأل هل قصدت الأحزاب ان تعزل نفسها أم فرض عليها العزل. وبعضنا يذكر الحملات الانتخابية الضخمة، خلال الديمقراطيات الثلاث التي مرت بها بلادنا، وكيف أضاف ذلك الزخم لتجربة شعبنا في الممارسة الديمقراطية. وهي الآن تعاني من الضعف، بعد ثلاث عقود من التخريب المتعمد. والتدي امامنا هو: هل نرمي بها في البحر، ثم نستورد أحزاب غير ضعيفة من العالم المتقدم؟ أم نقبل التحدي ونتصدى لعوامل ضعفها، وان ندعمها أو نقويها، أو أن نتخطاها ونكون أحزاب جديدة تختلف عنها شكلا ومضمونا. وبكامل الوضوح لا توجد ديمقراطية بدون أحزاب. تعاني من الانقسامات: تعد الانقسامات، التي طالت كل الأحزاب والحركات والمنظمات السودانية، من أخطر الظواهر التي خربت حياتنا العامة. كما انها مرض انقاذي أصيل، أدى لإحباط قطاعات واسعة من الناس، وأفقدها الثقة في العمل العام. وتحتاج، منا جميعا، لحملة قوية ترفض ظاهرة الانقسامات، وتعزل الفئات التي تقتات من فتات السلطة بخلق تنظيمات وهمية، أو تحول التنظيم الواحد لعدة تنظيمات. ليس من الديمقراطية في شيء وجود مائة حزب وهمي، يتم تحريكها بالريموت كنترول. قابلة للاستسلام للسلطة والتنكر للقضية الوطنية: من الغريب، بل غير اللائق، رمي الأحزاب، كل الأحزاب، بجريرة اقلية جرت وراء مصالحها، وقسمت احزابها، او أنشأت أحزاب، وصفها شعبنا بذكائه اللماح باحزاب الفكة. من استسلموا أو باعوا قضية شعبهم لا يمثلون الأحزاب. وحتى تلك الأحزاب التي شاركت، كالاتحادي الأصل، فقد فرض ذلك رئيس الحزب رغم رفض معظم عضوية الحزب لمشاركة النظام، ولا تزال تقاوم قرار المشاركة المعيب. بل تمضي، بعض الأقلام في نظرية المؤامرة، بان هناك اتفاقا سريا، بين الأحزاب وصلاح قوش للاستكانة والقبول بالأمر الواقع. الأحزاب تهمش الشباب: نعم هذه حقيقة، وحقيقة مؤلمة حقا. ففرص الشباب للصعود لمواقع القيادة ضئيلة. السبب الرئيسي في ذلك يعود للعقلية الغير ديمقراطية التي تعشعش في أدمغة اغلبية قيادات احزابنا. فتداول المواقع وافساح المجال للأجيال الجديدة غير ممارس. ومن يتم السماح لهم بالصعود في سلم القيادة هم من الشباب الذين يؤيدون او يحملون نفس أفكار ويدعمون مواقف القيادات الراهنة. وأعتقد ان معالجة هذا القصور تتم على مستويين: الأول الصراع المستمر وسط الأحزاب لضخ دماء جديدة وحارة لمواقع قيادية. الثاني هو، بعد تحقيق النظام الديمقراطية البديل، الصراع الفكري العلني من اجل التجديد البرامجي وافساح المجال للأجيال الجديدة، ليس بسبب سنها وانما لأنها بحكم تعليمها وتجربتها تحمل بذرة الجديد القادم وتعبر عن روح العصر، ولها القدرة على استشراف المستقبل. ضرورة النقد: أري ضرورة مواصلة نقد الأحزاب السياسية، فهذا حق ديمقراطي مشروع لجماهير شعبنا، وعلى قيادات الأحزاب الا تتخوف منه، بل تعمل للتعلم من النقد والاستفادة من دروسه. لان الأغلبية الساحقة يهمها ان تكون احزابنا بمستوى التحدي، اما الأقلية التي تحمل اجندة معادية لمبدأ وجود أحزاب، وتُنظر للدكتاتورية، فهي معروفة ولا مستقبل لأطروحاتها. ما العمل: نري ضرورة ان يتكامل النضال ضد نظام الإنقاذ مع العمل الدؤوب لتطوير وتقوية وتجديد أحزاب ووضع خططها البرامجية. ما نقصده هو تطوير الهياكل التنظيمية، وجعلها أكثر ديمقراطية، والتمسك بعقد المؤتمرات الدورية، وتحديد عدد الدورات التي يشغلها القادة، والاجتهاد لإنجاز برامج، علمية وعملية، لحل إشكالات الواقع السوداني، الكثيرة والمعقدة. كما نطرح بوضوح، ان الأحزاب لن تقود التغيير القادم لوحدها. فجانب الأحزاب هناك الحركات المسلحة، والنقابات، ومنظمات المجتمع المدني المتنوعة، ومنظمات الشباب والنساء والطلاب. والخطوة الأساسية هي توحيدها حول برنامج متفق عليه وقيادة موحدة، تنال ثقة شعبنا في انجاز التغيير. والتغيير هو إقامة دولة المؤسسات وحكم القانون، بمعني آخر، التغيير هو نظام بديل وليس فرد بديل. (نواصل لمناقشة دور منظمات المجتمع المدني) عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.