الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تقارير: القوات المتمردة تتأهب لهجوم في السودان    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. "دعامي" يظهر في أحضان حسناء عربية ويطالبها بالدعاء بأن ينصر الله "الجاهزية" على "الجيش" وساخرون: (دي بتكمل قروشك يا مسكين)    شاهد بالصورة والفيديو.. إعلامية مصرية حسناء تشارك في حفل سوداني بالقاهرة وتردد مع الفنانة إيلاف عبد العزيز أغنيتها الترند "مقادير" بصوت عذب وجميل    د. مزمل أبو القاسم يكتب: جنجويد جبناء.. خالي كلاش وكدمول!    محمد وداعة يكتب: الامارات .. الشينة منكورة    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    الخارجية الروسية: تدريبات الناتو في فنلندا عمل استفزازي    مصر تنفي وجود تفاهمات مع إسرائيل حول اجتياح رفح    السوداني في واشنطن.. خطوة للتنمية ومواجهة المخاطر!    "تيك توك": إما قطع العلاقات مع بكين أو الحظر    عن ظاهرة الترامبية    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    مدير شرطة شمال دارفور يتفقد مصابي وجرحى العمليات    منتخبنا يواصل تحضيراته بقوة..تحدي مثير بين اللاعبين واكرم يكسب الرهان    حدد يوم الثامن من مايو المقبل آخر موعد…الإتحاد السوداني لكرة القدم يخاطب الإتحادات المحلية وأندية الممتاز لتحديد المشاركة في البطولة المختلطة للفئات السنية    المدير الإداري للمنتخب الأولمبي في إفادات مهمة… عبد الله جحا: معسكر جدة يمضي بصورة طيبة    سفير السودان بليبيا يقدم شرح حول تطورات الأوضاع بعد الحرب    طائرات مسيرة تستهدف مقرا للجيش السوداني في مدينة شندي    هيثم مصطفى: من الذي أعاد فتح مكاتب قناتي العربية والحدث مجدداً؟؟    ترامب: بايدن ليس صديقاً لإسرائيل أو للعالم العربي    تواصل تدريب صقور الجديان باشراف ابياه    مدير شرطة محلية مروي يتفقد العمل بادارات المحلية    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    «الفضول» يُسقط «متعاطين» في فخ المخدرات عبر «رسائل مجهولة»    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على ناشفيل    لجنة المنتخبات الوطنية تختار البرتغالي جواو موتا لتولي الإدارة الفنية للقطاعات السنية – صورة    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



على مشارف مائة عام من ثورة 1924م (1924 السودانوية ترياق العنصرية): نحو آفاق جديدة للبناء الوطني 2-3 .. بقلم: ياسر عرمان
نشر في سودانيل يوم 23 - 07 - 2018

*القبول المشترك وحق الآخرين في أن يكونوا آخرين، مفتاح بوابة المستقبل السوداني:*
*لوحتان من عبق التاريخ:*
عند تحرير الخرطوم فى يناير 1885 كان قائد الثورة وجيش التحرير دنقلاوى من جزيرة لبب وكان يتحدث بلغة الدناقلة بطلاقة كما ورد في المراجع التاريخية ومن الذين عاصروه، وهي لغة سودانية اصيلة ومن لغات العالم القديم وليست (رطانة)، وامعاناً في رغبة البعض في التفوق فقد نسبوه للأشراف وللحسن بن علي وفاطمة الزهراء، مع إن إنتسابه الي ترهاقا اكثر واقعية ولا يقلل من قيمته العظيمة في تاريخ السودان، وقد كان نائبه (ود تورشين الخليفة عبدالله التعايشي) من أقصى غرب السودان والقادة الآخرون؛ عثمان دقنة من البجا فى الشرق والعبيد ود بدر من الجزيرة و عبدالرحمن النجومى جعلي من نهر النيل و ابو قرجة دنقلاوي من الولاية الشمالية وحمدان ابو عنجة من الكارا والزاكى طمل ...الى آخر القائمة، وهي لوحة من لوحات البناء الوطني.
كانوا يمثلون لوحة سودانية في تضادٍ مع ما يجرى الآن، وكم كانوا عظاماً. وفى ثورة 1924 رسم على عبد اللطيف وعبيد حاج الامين وصالح عبد القادر وعبدالفضيل الماظ وسليمان محمد وفضل المولى وثابت عبدالرحيم وسيد فرح ... وبقية عقدهم الفريد، رسموا لوحةً أخرى هي في الواقع امتداد للوحة الأولى، والواقفون في اللوحتين يمثلون شعب السودان كله، أما لوحة اليوم تسدد طعنةً نجلاء للوحتي الماضي، ولذا توّجب أن تستعيد لوحاتنا المسروقة من عبق التاريخ.
نحن على مشارف مائة عام من ثورة 1924 آن لنا أن نزيل غبار السنين والشوائب المتعمدة التي علقت بهذه الثورة، وهي تجسد لحظة مفصلية من لحظات انبثاق الوعي الوطني والبناء الوطني كما تحتاجها بلادنا اليوم. لابد من تقويم سديد لهذه الثورة ووضعها في الإطار التاريخي اللائق بها في مسيرة تاريخنا التي تمتد لأكثر من سبعة الف عام، ولنحتفي جميعا بروح ثورة 1924 ومعايير القيادة الجديدة التي وضعتها وبكفاحيتها ضد العنصرية وإرث تجارة الرقيق، وقضية القبول بالآخر، وأن يُقبل السودانيون بعضهم على بعض، وهي القضية التي شكلت إحدى مأسي بلادنا وأعاقت تطورها.
السودان اليوم في مفترق الطرق فقد غادر جنوب السودان، ويستعد آخرون لحزم أمتعتهم، ولا بدّ لنا من العودة إلى طمي الأرض وبذورنا التي اختزناها لأوقات الشدة وأزمنة العواصف، وثورة 1924 بذرة صالحة لنغرسها في طمي الأرض وإن تأخرنا مائة عام فالخير خير وإن طال الزمان به، ونحن ندعو للاحتفاء على مدى الست سنوات القادمة بالذكرى المئوية لثورة 1924 في مؤسساتنا الشعبية والرسمية، وان نعبر عنها بكافة وسائل الإبداع وأن يأخذ شبابنا مقعدهم في مقدمة هذا الاحتفاء، فثورة 1924 هي ثورة الشباب.
ثورة 1924 هي من أولى الحركات السياسية الحديثة خارج الطوائف والتفكير والبناء التقليدي لمجتمعنا، وهي أم التنظيمات السياسية الحديثة ومرجعيتها وحملت في طياتها أسئلة البناء الوطني والهوية، وكانت طيفاً وخيالاً ورؤى وأماني جزلة، وعلينا أن نتحلق حولها كالفراشات على نار الهوى، وبالعودة إليها نعود الي روحنا وإرثنا الوطني، فهي ما تزال شابة وفتية وبداخلها رابط قوي بين الشمال والجنوب، فبعض أهم قادتها ينحدرون من الشمال والجنوب على حدٍ سواء، وهي جزء من الثورة الوطنية الديمقراطية السودانية.
الحديث عن أن السودان الحالي هو مجرد رابطة جغرافية، حديث ينقصه التاريخ وتنقصه الثقافة، فالسودان الحالي ظل على الدوام منطقة جغرافية ذات روابط اجتماعية وثقافية وسياسية وتاريخية مشتركة أوسع من بلاد السودان الحالية، والذين يقولون بغير ذلك يحاولون التمترس حول عقيدة لا ترى الماضي وتريد إلغاء الحاضر دون بديل للمستقبل، وقد ثبت من تجربة انفصال الجنوب الأخيرة ان رؤية السودان الجديد هي وحدها التي تقدم البديل، وإن قضية الوحدة هي عظم الظهر في هذه الرؤية، وهي الجديد التي أتت به هذه الرؤية سودانياً وإفريقياً، فتقسيم المجتمعات الافريقية على أسس اثنية أو دينية يخدم مصالح القوى التي تسعى لنهب البلدان الافريقية، وان الانقسامات الاثنية والدينية لا حدود لها، فهي لن تكتفي بتقسيم البلدان الافريقية الحالية بل ستقسم حتى المجموعات الاجتماعية والقبيلة الواحدة التي تظن نفسها متجانسة وبمنأى عن التقسيم، ولذا فإن طرح قضية وحدة افريقيا وبلدانها في مواجهة التخلف وقوى النهب العالمي هي قضية ذات أهمية قصوى للثورات الوطنية الديمقراطية في البلدان الافريقية. والذين يطرحون حق تقرير المصير على أساس إثني فإنهم يرقصون في وليمة من الولائم التي تقيمها قوى النهب العالمي.
مكافحة العنصرية في أكثر المجتمعات تقدماً عملية طويلة من الاقتصادي والثقافي والسياسي والقانوني والتاريخي، وهي ظاهرة كونية غير متعلقة باللون فحسب بل أشمل وأعمق حتى من قضايا اختلاف اللون، فقد وحّد القائد الايطالي غاريبلدي شمال وجنوب إيطاليا وهما يحملان اختلاف سمات المجتمع الزراعي والصناعي، ولا تزال جروح التعالي تضرب إيطاليا وكثير من المجتمعات ذات اللون الواحد، وبعد حركة الحقوق المدنية الواسعة في الولايات المتحدة الأمريكية لا تزال قضية البناء الوطني المنسجم بعيدة المنال في الولايات المتحدة.
وفي استدعاء ثورة 1924 فاننا نستدعى عملية شاملة من النهوض الوطني والسياسي والمجتمعي يحتاجها شعبنا اليوم، وعلى الجيل الجديد أن يرد الاعتبار لثورة 1924 كاعلى محاولات السودانيين في تجربتهم السياسية قبل استقلال السودان في يناير 1956 لتجاوز العنصرية؛ واستحداث نسق مغاير لا سيّما على مستوى القيادة والمشاعر والتلاحم الإنساني الذي ابداه قادة ثورة 1924 وهم ينحدرون من مجمل التنوع السوداني فكم كان ذلك ساحرا وفريدا ومؤثرا، وهو انجاز لوحدة مجتمعنا بالاستناد على تنوعه.
لقد كانت حركة اللواء الأبيض اكبر التنظيمات الحديثة ذات الرسم والصورة المكتملة والشعار ولها رؤية سياسية واضحة، عمد خصومها على تجاهلها، والصور الفوتوغرافية الجميلة باللون الأسود والأبيض التي تركها قادة الحركة تمثل جنين وحدتنا وتنوعنا، إن ثورة 1924 بذرة من بذور الوطنية الحديثة، وهي حركة جماهيرية منحازة لمصالح الشعب السوداني.
لعل الباحث والمدقق في تاريخ انحياز القوات المسلحة في عام 1964 وعام 1985 في انتفاضتي أكتوبر وابريل يُرجع جذور هذا الانحياز الي الموقف الوطني في داخل قوة دفاع السودان الذي ابتدره علي عبداللطيف وعبد الفضيل الماظ وثابت عبدالرحيم وحسن فضل المولى وسليمان محمد وعلي البنّا وغيرهم، انها بذرة رووها من دمهم وشربت من تضحياتهم وقامت على اكتافهم القوية.
حينما اختار ثوار 1924 علي عبداللطيف قائداً لهم كانت حاجة العازة محمد عبدالله تلك المرأة بهية الطلعة والتي كانت تقوم بتأمين الاجتماعات وأول امرأة خرجت وهتفت في مظاهرة وحيت طلاب الكلية الحربية قد ذكرت أن الزعيم علي عبداللطيف قد سأل اكثر من مرة الحاضرين في ذلك الاجتماع عن اختيارهم له كزعيمهم وهي أسئلة تحمل محمولات وارث ما جرى في مجتمعنا من مساوي الماضي، ولكن اختيار علي عبداللطيف كان لحظة تاريخية فارقة في العبور نحو القبول المشترك وانما يوحد السودانيين ويجمعهم هو ان يتركوا خلفهم ما يفرقهم ويبحثوا في "المسكوت عنه" لبناء مجتمع على أسس جديدة، كما قال دكتور فرانسيس دينق ان "المسكوت عنه" هو الذي يفرقنا، وآن لنا في وسائل التواصل الاجتماعي ان نحتفي بحاجة العازة محمد عبدالله ونرسل مرة أخرى الفيديوهات التي تحوى المقابلات القليلة التي أجريت معها، وحاجة العازة محمد عبدالله ساهمت على نحوٍ ما في حركة النساء الحديثة في بلادنا، وهي مساهمة من افضال ثورة 1924 وهذ المقالات مكرسة للإمساك بهذه اللحظة المفتاحية كواحدة من اعظم لحظات القبول الوطني المشترك والدفع ببناء وطني بآفاق جديدة. فواحدة من أكبر معضلات بلادنا هي قضية القبول بالآخر، لقد خرج جنوب السودان من بوابة رفض الآخرين وحقهم في أن يكونوا آخرين.
الجدير بالتأمل أن ضباط ثورة 1924 تخلوا عن امتيازاتهم في وقت يصعب ان يحلم الكثيرون بتلك الامتيازات كضباط في قوة دفاع السودان، والاهم من ذلك انهم رفضوا سياسة (فرق تسد) التي استخدمها الانجليز، لاسيّما ان بعض هؤلاء الضباط كانت اسرهم من ضحايا تجارة الرقيق، وظن الانجليز بغشامة انهم سيكونون أسرى لماضي تجارة الرقيق، وسيوجهون بنادقهم اذا تطلب الامر الي صدور أبناء وطنهم، ولكنهم وجهوا بنادقهم الي صدور الانجليز وانحازوا الي الشعب، ولله درهم هؤلاء الفتية العظام، ويا لهم من وطنيين في أعلى مراقي سلم الوطنية – لقد جئنا وحررناك، أخرجوا انتم من بلادنا واتركونا عبيدا كما كنا- فقد اكتشف هؤلاء الوطنيين الكبار ان التناقض الرئيسي هو بين الاستعمار والشعوب التي استعمرها، وان التناقضات بين من تم استعمارهم هي تناقضات ثانوية، ولذا فان البنادق جميعها يجب ان تتوجه ضد المستعمرين، ومن الغريب بعد ما يقارب مائة عام يصعب على البعض في زماننا هذا إدراك هذه الحقيقة.
في نهاية القرن التاسع عشر، وفي مصر، ولعله في القاهرة نصب سرداق لحفل زواج فريد بين شابة من قبيلة المورو التي تقطن غرب الاستوائية والماظ عيسى الذي ينحدر من النوير في أعالي النيل، هذا الزواج المختلط لا زال يحمل كثير من المصاعب حتى في زماننا هذا، الماظ كان جنديا في الأورطة (12) التي شاركت في إعادة استعمار السودان رزق بإبن من هذه الزيجة المباركة، وحملت زوجته ابنها الذي لم يتجاوز الثلاثة أعوام وهم في طريقهم الي السودان مع جيش كتشنر، كان ذلك الإبن هو عبد الفضيل الماظ الذي استشهد لاحقا في معركة النهر الثانية، وقد رحلت والدته وخلفته وحيداً ونما عوده وطنياً بالكامل حتى خاض آخر معاركه في مساء الخميس 27 نوفمبر 1924م في المعركة التي انتقل بها الي مستشفى النهر (مستشفى العيون الحالي) والتي استمرت حتى ضحوة الجمعة 28 نوفمبر 1924م، ففي يوم الجمعة نفدت الذخيرة وأعطى الماظ الجنود أوامر بالانصراف والتجأ الي مبني المستشفى العسكري متحصناً واخذ الذخيرة التي يريد لمدفعه المكسيم والتي وجدها في المخزن التابع للمستشفى، واعتلى المبنى واتخذ من احدى غرفه حصناً منيعاً له، كانت ذخائر المكسيم هي الوحيدة التي استمرت في المعركة، لمدفع وحيد استلمه قائد القوة ملازم اول عبد الفضيل الماظ عيسى واستمر في حصد الجنود والضباط الانجليز وعجزوا عن الاقتراب منه، ففي يوم الجمعة كان الماظ وحيداً بشهادة سيد فرح الضابط الاخر الذي سنتطرق له لاحقا، فر سكان الخرطوم الي الغابة وبقى الماظ وجيش الانجليز في حوار ومواجهة متصلة بالذخيرة وحدها، وعند منتصف النهار في يوم الجمعة، ولعل الناس قد ذهبوا الي الصلاة أمرت طابية الخرطوم بإطلاق المدفعية الثقيلة وهدم المستشفى العسكري، وهي جريمة حرب، وعندما بحث الانجليز تحت الأنقاض وجدوا الماظ والمدفع، لقد شرب الماظ الوطنية من ثدي امه وهو عائد من نحلة الجرح القديم الي تفاصيل البلاد وكان وحده، واستشهد الماظ وهو ابن (28) عاما، وليت كل من يولدون في 28 نوفمبر من أي عام يطلق عليهم اباؤهم وأمهاتهم اسم عبد الفضيل الماظ، فالماظ جاء الي السودان وعمره نحو ثلاثة أعوام واستشهد بعد (25) عاما من مجيئه المبارك، والماظ نطفة وانسان مكتمل جاء من امشاج الوطنية السودانية، سياتي من بعده الكثيرون على هذا الطريق وهنالك من يلد ضحايا، وإن لم نحتفي بالماظ فبماذا نحتفي يا هؤلاء؟
بعد أن شاهدت مسرحية أبيض واسود بدعوة من الصديق والمبدع محمد نعيم سعد، وهي من المسرحيات التي تستحق المشاهدة، وطلبت من أصدقاء كثر مشاهدتها لاسيّما من قادة الحركة الشعبية ووزرائها آنذاك من جنوب السودان، وشاهدتها مع زوجتي أوار دينق مجوك، ففي إعتقادي ان فكرتها البديعة تقوم على تناقص قيمة الانسان السوداني عبر الزمن حتى وصلنا الي الخمسين جنيه غير المبرئة للذمة، بعدها التقيت في منزل صديقنا طارق الأمين بصديقي الاخر محمد نعيم سعد، قلت له في تلك الأمسية لو كان لي أن أتمنى لتمنيت أن أترك هذا الضجيج السياسي جانبا وأساهم في كتابة سيناريو حول ثورة 1924 وعبدالفضيل الماظ كشخصية رئيسية من شخصياتها، وقبل أيام من تركي للخرطوم في الحرب الثانية في يونيو 2011م طلبت من مجتبى عرمان أن ياتيني بكتاب ملامح من المجتمع السوداني للأستاذ حسن نجيلة، فإن الجوار بالقرب من عبد الفضيل الماظ ينعش فيض ذاكرتنا الوطنية المشتركة التي يحاول البعض أن يقنعنا بإن تاريخنا قد بدأ في 1989 وآخرون يقفون في الضفة الأخرى ضد 1989 ويشاركونها معزوفتها الموسيقية بإن لاشئ يجمع بلادنا غير الجغرافيا فيا لها من مفارقات حينما تجتمع الضفتان.
في شهر يوليو 2006م كنت اعمل في مكتبي في شارع (33) بالعمارات في الخرطوم وكنا نحضر للإحتفاء بالذكرى الاولي لرحيل جون قرنق، بعد رحيله عم في أوساط الكثيرين الإحباط وساد الكساد، وذكرتُ للرفاق الذين يعملون معي ان طريقنا نحو استنهاض عضوية واصدقاء الحركة الشعبية يمر بالاحتفاء على نحو واسع بالذكرى الأولى لاغتيال دكتور جون قرنق، وان الناس سيأتون من كل الفجاج لحبهم له، واخترنا استاد المريخ الذي كان يسع حوالي 35 الف شخص، وقد إمتلأ الاستاد على اتساعه وفاض الجمهور في الخارج بأكثر ممن استطاعوا دخول الاستاد، وكانت لحظة مؤثرة حينما أضيئت الشموع للإحتفاء بحضور قرنق مبيور في تسونامي الغياب.
ونحن في زحمة الإعداد جاءني احد الرفاق الذين يعملون معي، وقال لي ان هنالك امرأة وثيقة الصلات بثورة 1924 تطلب مقابلتك، وكنت قد أبلغته إنني لا اود مقابلة أي شخص سوى المشاركين في الإعداد للذكرى الأولى لإستشهاد جون قرنق، وطلبت منه أن يأتي معها، قالت لي تلك السيدة: إنني قد جئت لاشكرك لأنك في كل اللقاءات الجماهيرية تتحدث عن ثورة 1924 وعن قادتها وعن جدي أحد قادة ثورة 1924، وقالت لي في حكي مدهش أن اسمها خديجة وقد ولدت وحيدة لأبيها جار النبي الذي ولد وحيدا لأبوه عبدالفضيل والذي ولد وحيدا لوالده الماظ والذي ولد وحيدا لوالده عيسى، وسألتها عن ابناءها فقالت انها الوحيدة التي ولدت مجموعة من الأبناء، أمضينا وقت ليس بالقصير معها في الحديث عن اسرتها وعن جدها عبد الفضيل الماظ وقلت لها غداً سنحتفي بالذكرى الأولى لجون قرنق واطلب منك أن تكوني ضيفة الشرف في هذا الإحتفال، فسالتني اين يوجد هذا الاحتفال، قلت لها في استاد المريخ، وسيحضره الوزراء ونائب الرئيس، فقالت لي كيف استطيع الدخول؟ قلت لها ستعطيني عنوانك وسيكون هنالك من هو في انتظارك لنذهب معاً، وجاءت معنا الي استاد المريخ، وفي خطابي أعلنتها ضيفة للشرف وعن إن جون قرنق قد عمل لإنصاف المهمشين وإنها وأسرتها قد تم تهميشهما وها هو جون قرنق في ذكرى غيابه الأولى يرد لها الاعتبار، وفي أي بلد آخر كان سيتم تكريم هذه الاسرة وسيكون لها شأن، وقد أبلغتني إن المعاش الزهيد الذي كانت تتحصل عليه قد تم إيقافه وطلبتُ في خطابي من نائب الرئيس علي عثمان محمد طه آنذاك ان يرجع معاشها وان يطلق على مستشفى العيون في شارع النيل إسم مستشفى عبد الفضيل الماظ لأن هذا هو المكان الذي عطره عبد الفضيل الماظ بعطر الوطنية دائم الصلاحية وغير القابل للنفاد، وفي خطابه وجه نائب الرئيس وزارة الصحة بإطلاق اسم عبد الفضيل الماظ على ذلك المستشفى، وشكري للسيدة خديجة عبد الفضيل الماظ فقد كان اللقاء معها ممتعا وجاء في لحظة كأن روح عبد الفضيل الماظ قد خططت لها، فقد قام بتحيتها وتحية عبد الفضيل الماظ عشرات الالاف داخل الاستاد وخارجه، فشكراً لهؤلاء الذين احبوا الوطن واوجعهم جميعاً.
في احدى امسيات عام 1938 وفي نحو الساعة العاشرة ليلاً وفي مدينة شندي توقف قطار قادم من الخرطوم وقد كان في انتظاره رهط من اهل شندي لوداع اخر طبيب لبناني يسمى حسن سلامة الذي كان مقيما في شندي، وهو الذي كان عليه مغادرة السودان الي بلاده، حكى الأستاذ حسن نجيلة ان الرهط حينما اقترب من عربة الدرجة الاولي هالهم ان اسرع بالنزول جنديان مسلحان يحرسان العربة ويمنعان كل من كان على الرصيف من الاقتراب منها فدهشوا لذلك، نزل الدكتور سلامة ورأى الدهشة على من هم ينتظرونه في الرصيف يسالونه عما يجري، ذكر لهم ان سر استدعائه للخرطوم وعدم مغادرته من شندي ان طلب منه اصطحاب الزعيم علي عبداللطيف من محطة الخرطوم بحري حيث جيئ به من سجن كوبر بغرض تسليمه للمسؤولين في القاهرة بعد سنوات طويلة أمضاها في السجن متنقلاً من كوبر الي واو في 1925 ثم عاد الي سجن كوبر بعد استشهاد عبيد حاج الأمين في سجن واو 1932 بالحمى، وها هو علي عبداللطيف في عام 1938 في طريقه للقاهرة.
22 يوليو 2018م


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.