تقمص الأستاذ ضياء الدين البلال تلميذي باعترافه حاجة مريض المستشفى الحكومي ليعيب على الأطباء إضرابهم القائم بينما تجدهم لا يتأخرون قيد أنملة عن دوامهم بالمستشفيات الخاصة. وإمعاناً في تجريحهم قال إنهم يأتون إلى مرابط المستوصفات "على أجنحة البرق". وقال إن هذا الإضراب خلافاً لإضرابات مطلبية سبقت كان قد كتب عنها إضراب سياسي "صدرت الدعوة إليه من جهة إسفيرية مجهولة". وأخذ من لغة الطب ليقول بأنه "جرثومة" " هذا الإضراب غير الإنساني وغير الأخلاقي، تسرَّبت إلى الأطباء من حاضنة النادي السياسي، الحاكم والمعارض" الذرائعي العقيم. لم أفهم إن كان استنكار ضياء الأطباء الماثل استنكار لمطلق إضراب للأطباء أم أنه قاصر على إضرابهم السياسي. فبدا لي ضياء كمن يجيز أن يضرب الأطباء مهنياً لكنه يشجب الإضراب متى اتصل بالسياسة. ولكنه يقول في شجب الإضراب السياسي ما يصح على الإضراب المطلبي. فحمل على إضراب الأطباء السياسي لأن المرضى أولى بعنايتهم مضيفاً أن ليس من مكسب في السياسة يعدل شفاء مريض بين يدي طبيب. وقال إنه بحسب علمه أنه لا يضرب طبيب في بلاد تقر الإضراب بسبب السياسة. ولكنه، من الجانب الآخر، لا يجد مبرراً أخلاقياً واحداً لطبيب "يمتنع عن علاج مريض في حاجة إلى ما هو مُتوفِّر من علاج ولو كان على الأقل حبة بندول أو محلولاً وريدياً". فمحصلة الأمر أن ضياء لا يرى مبرراً لإضراب الطبيب لمطلب أو لسياسة. وعليه سقط تمييزه للإضراب السياسي عن المطلبي لأنه في كليهما يغادر الطبيب المستشفى ومرضاه. وفصل بين الإضرابين جدلاً ليدين الإضراب القائم الذي لا تعجبه سياسته. من المعلوم بالضرورة أن الفاصل بين المطلبي والسياسي في إضراب الأطباء وكل إضراب آخر متوهم. فدخل أطباء في إنجلترا وفرنسا وغيرها في إضرابات مختلفة دفاعاً عن أنفسهم وعن المرضى بسبب سياسات حكومية ضيقت بها على نظم العلاج العام. وهي سياسات لحكومات محافظة ونيوليبرالية أرادت الانقضاض على دولة الرفاه وامتيازاتها. ولو وقف ضياء عند إضرابات الأطباء عندنا في 1996، و2000، 2009 -2010 وسبتمبر 2016، وأكتوبر 2016 لبان له بجلاء تداخل المطلبي والسياسي الذي هو من طبيعة الأشياء. فقد طالب الأطباء بثبات بتحسين بيئة الخدمة الطبية التي هم سدنتها بما في ذلك ترقية شروط خدمتهم من حيث الأجر والتدريب. ولم تسفر اتفاقاتهم حول المسائل التي مر ذكرها مع وسطاء الحكومة عن شيء. فقد توصلوا بعد إضراب أكتوبر 2016 مع لجان كان فيها بروف غندور إلى محسنات لبيئة الخدمة العلاجية منها: 1-مجانية علاج الأطفال دون الخامسة من الفحص حتى الجراحة. 2-مجانية علاج الحالات الطارئة خلال الأربعة وعشرين ساعة الأولى. 3-تهيئة خدمة الحوادث لاثنين وعشرين مستشفى. 4-تعديل عقود تدريب الأطباء وحقوق مهنية أخرى. وهذا الخمول الحكومي في تنفيذ تلك الاتفاقات داء سياسي ودواؤه في السياسة. ويرجع إلى ضعف الصرف على الحقل الصحي كما هو معروف. فقد خصصت الحكومة مثلاً 4% من ميزانية 2018 للصحة والتعليم بينما خصصت 16% للأمن والدفاع و8% للشرطة. والحال في حاله في 2019. فحظي الدفاع والأمن والدعم السريع منها ب 33 مليار بينما لم تنل الصحة سوى 6 مليار جنيه. وهذا عوج سياسي هيكلي لا خلاص منه إلا بباب السياسة. ولو تركنا التبعة المهنية للأطباء لتقديم خدمتهم في شروطها المثلي جانباً لوجدنا أن مطلب إصحاح بيئة الخدمات لصحية كان من مضارفة المؤمن على نفسه كسباً للحسنة. فلما أفقرت الحكومة الخدمة الصحية بطيشها المعهود تقابل الطبيب المجرد من عدة الشغل والمريض وأهله المشفقون كأعداء. فجرى الاعتداء على الأطباء في مستشفى الخرطوم في 1996، وفي مستشفى إبراهيم مالك في 2016 علاوة على مستشفيات أخرى. وكانت 90% من حالات الاعتداء من طاقم الشرطة والأمن. يصر ضياء على أن إضراب الأطباء يقود لا محالة إلى موت المرضى. ويقع هذا الموت بالطبع. ولكن فايت أضانو أن المرضى يموتون أيضاً خلال دوام الأطباء وبين أيديهم لخلو المستشفى من مطلوبات العلاج. فكتب أحدهم عن طفل جاءهم فاقداً للسوائل بسبب الحمى. ومات وهم حضور " يعاينون" بعين بصيرة ويد قصيرة لأن المستشفى خلت من الفراشة والرنقرلاكتابيت. وكان أهله من غمار الناس الذين تحدث ضياء باسمهم عاجزين عن شرائها من السوق. وحكي عن الطبيبة التي انتحبت من فرط وجعها على الصغير. وتتعدد الأسباب والموت واحد. لو أحسن ضياء نفسه وللأطباء لرأى نبل هذا الجيل منهم الذي لم يكف لعقود من لفت نظر الحكومة بقوة لتردي الخدمات الطبية بتكلفة فادحة سجناً وتشريداً. وما جاء الجيل إلى السياسة البغيضة في نظر ضياء إلا لأن ركاكة الإنقاذ في إدارة المال العام جعلت من إصحاح بيئة العلاج تبعة مهنية وسياسية من الدرجة الأولى. مكرهاً أخاك لا بطل. لقد خرج هذه الجيل من أوجاع غمار الناس الذين تقمص ضياء صوتهم: فهم لهم لا عليهم. شق عليهم أن يروا غمار الناس يأتون لمستشفيات "مبرأة" من أسباب العلاج ووسائطه. كما خرجوا من مفازع "المامونحميدية" التي جعلت العلاج وتعليم فنونه سلعة لا يطالها إلا الأكابر ذوو الجيوب الكبيرة. وخرجوا أيضاً من خبائث الصفوة الحاكمة التي وطنت علاجها وأسرها في الخارج بعقود حكومية ناجية مما يصيب غمار الناس من وخم. استغربت لضياء يبحث عن سياسة هذا الجيل في غير جغرافيا العلاج الكأداء هذه. فنسب كما رأينا الدعوة لإضراب الأطباء السياسي ل " جهة إسفيرية مجهولة". وهذا ضرب تحت الحزام لا يمت لشغل الصحافي بصلة ما تقيد بالمهنة. فعلى طلاوة مكتوبات ضياء وغضباتها المؤرقة إلا أن له عيب تداولته معه مرات وهو أنه لا يستعين في هذه الكتابات بباحث، أو فريق منهم، كما ينبغي لرجل في مقامه يؤرشفون له مادة صالحة قبل أن يخوض في المسألة. فلم يطلعنا في مقاله، ولو في لمحة، حتى على ما ذكر أنه كتبه بنفسه من قبل عن إضرابات الأطباء. فلربما اغنته هذه الخدمة البحثية الواجب توافرها لكل كاتب رأي من الدس على الأطباء كما فعل ومن لغته الحامضة في مثل هذا الوقت العصيب. فضياء أقل الناس خطراً الآن على مصائر من استخف بمقاصدهم. فمصائرهم معلقة بقناصة قتلة ملثمة تتدلى الأرواح من زخات رصاصهم كعناقيد الغضب.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.