السودان..رصد 3″ طائرات درون" في مروي    البيت الأبيض: يجب على الصين السماح ببيع تطبيق تيك توك    دبابيس ودالشريف    كواسي إبياه سيعيد لكرتنا السودانيةهيبتها المفقودة،،    في أول تقسيمة رئيسية للمريخ..الأصفر يكسب الأحمر برعاية وتألق لافت لنجوم الشباب    الديوان الملكي السعودي: خادم الحرمين الشريفين يغادر المستشفى بعد استكمال الفحوصات الروتينية    وزير الخارجية المكلف يتسلم اوراق اعتماد سفير اوكرانيا لدى السودان    فيديو.. مشاهد ملتقطة "بطائرة درون" توضح آثار الدمار والخراب بمنطقة أم درمان القديمة    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. "دعامي" يظهر في أحضان حسناء عربية ويطالبها بالدعاء بأن ينصر الله "الجاهزية" على "الجيش" وساخرون: (دي بتكمل قروشك يا مسكين)    شاهد بالصورة والفيديو.. إعلامية مصرية حسناء تشارك في حفل سوداني بالقاهرة وتردد مع الفنانة إيلاف عبد العزيز أغنيتها الترند "مقادير" بصوت عذب وجميل    د. مزمل أبو القاسم يكتب: جنجويد جبناء.. خالي كلاش وكدمول!    محمد وداعة يكتب: الامارات .. الشينة منكورة    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    الخارجية الروسية: تدريبات الناتو في فنلندا عمل استفزازي    السوداني في واشنطن.. خطوة للتنمية ومواجهة المخاطر!    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    مدير شرطة شمال دارفور يتفقد مصابي وجرحى العمليات    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    عن ظاهرة الترامبية    سفير السودان بليبيا يقدم شرح حول تطورات الأوضاع بعد الحرب    تواصل تدريب صقور الجديان باشراف ابياه    مدير شرطة محلية مروي يتفقد العمل بادارات المحلية    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    «الفضول» يُسقط «متعاطين» في فخ المخدرات عبر «رسائل مجهولة»    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على ناشفيل    لجنة المنتخبات الوطنية تختار البرتغالي جواو موتا لتولي الإدارة الفنية للقطاعات السنية – صورة    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حول مفهوم الدولة وأنواعها وتعاطى كل نوع مع القضايا المصيرية للسودان - الشريعة الإسلامية مثالاً (4/4) .. بقلم: حسين أحمد حسين
نشر في سودانيل يوم 01 - 02 - 2019

سيتناول هذا المبحث مفهوم الدولة المتعلق بتوصيف ما تقوم به من مهام، كما أنَّه يتطرق لأنواع الدولة؛ الدينية منها والعلمانية والمدنية. وسننظر فى ميراثنا من كل نوع، وكيف أجاب كل نوع على أسئلة السودان المصيرية خاصةً تلك المتعلقة بالشريعة الإسلامية؛ كونها أكثر قضايا السودان المصيرية حساسيةً في الشأن السوداني.
فالدولة بالمفهوم أعلاه هى: "حزمة الإجرآءات القانونية والمؤسسية المعبرة عن مجتمع بعينه، على بقعة أرض بعينها، بالكيفية التى تُكسبها اعترافاً دولياً وسيادةً على تلك البقعة من الأرض" (لنستحضر ولادة دولة الجنوب - رغم قيصريتها - حتى نتبيَّن تعريف الدولة).
هذا التعريف البسيط يخضع بالطبع لشروط التشكل الإقتصادى الإجتماعى التى تُفَسِّر لنا صيرورة الدولة ومسيرة نضجها منذ ولادة الحاجة إليها قبل نحو 10 ألف سنة حتى يوم النَّاس هذا؛ فالدولة قد بدأت ثيوقراطية/دينية، ثمَّ أصبحت علمانية بأنواعها المتعددة، ثمَّ وصلت في الوقت الراهن إلي مرحلة الدولة المدنية.
فالتعريف أعلاه يُمثل الشروط العلمية لإنجاز مهام الدولة فى أىِّ مكان، وعلى أىِّ دين/لا - دين كانت؛ لا يهم أنَّها في مكة المكرمة زادها اللهُ تشريفاً ورفعةً، ولا يهم أنَّها في موسكو زادها اللهُ بيريسترويكا وغلاسنوست.
كما أنَّ الدولة بهذا التعريف ليست معصومة من التعاطى مع معتقدات النَّاس. بل إنَّها تتأثر بمعتقدات شعبها وتؤثِّر فيها، فى إطارٍ من الجدل الحميم والمحتدم. ويجب ألاَّ يتوقع السياسى الناضج إجابة سهلة على عواقب إقحام الدين فى الدولة أو فصله عنها؛ فالمخاض طويل. والمهم فى كل ذلك هو أنْ تتعاطى الدولة مع معتقدات شعبها بالطريقة التى لا تخل مطلقاً بالحقوق الأساسية لكافة مواطنيها وأن تتعامل معهم على قدمِ المساواة.
أُفُق الدولة المدنية للتعاطي مع المعتقدات (الشريعة مِثالاً):
من الواضح أنَّ ثمةَ مشكلة بالنسبة لكلِّ نوع من أنواع الدولة حينما يكون الحديث عن المعتقدات بشكل عام، والحديث عن معتقد الأغلبية ومعتقد الأقلية على وجه الخصوص، كما أنَّ للدولة الدينية مشاكل أُخرى متعلقة بالحرية والديموقراطية ومفهوم المواطنة القطرية.
والجدير بالذكر، أنَّ الثلاثة أنواع للدولة تُقِر بالتنوع الثقافى، والإثنى، والدينى، واللغوى فى السودان. وبالرغم من هذا الإقرار، إلاَّ أنَّ المشرعين المعنيين بقضايا السودان المصيرية فى إطار كلِّ دولة من الدول الثلاث، يلجأون إلى حلول غير متناغمة مع هذا التنوع وفوق ذلك تعسُّفية؛ ومنها مَن ينحو منحىً عنصرياً كالدولة الدينية. بمعنى آخر إنْ جاءت الأغلبية للسلطة عمَّمَتْ معتقدها على حساب المعتقدات الأخرى، وإن جاءت الأقلية للسلطة تعسَّفت متجاهلةً - على نحوٍ ما - دين الأغلبية.
تعريف الدولة المدنية وفق مفهوم الدولة الوارد بعاليه
الدولة المدنية هى: جملة الإجراءات القانونية والمؤسسية المُتَوَصَّل إليها ديموقراطياَ، وِفق دستورٍ ديموقراطىًّ دائم، ومُنبثقٍ عن عقدٍ إجتماعىٍّ مدنىٍّ جامعٍ وديمقراطيٍّ أيضاً، ومعبِّرٍ عن إرادة المجتمع بكل تنوعاته؛ وبالتالي هى غير خاضعة لتأثيرات القوى الإجتماعية فى ذلك المجتمع ولا لأيديولوجياتها ولا لنزعاتها؛ مهمتها إنجاز الحقوق والواجبات المتبادلة بين الدولة المدنية والمجتمع المدني فى إطار دولة مواطنة ديموقرادية؛ وتتعامل مع تنوعات ذلك المجتمع بالطريقة التى لا تخل مطلقاً بتلك الحقوق والواجبات لكافة المواطنين؛ وأن تتعامل معهم على قدمِ المساواة بلوغاً لاستدامةِ الديموقراطية وترسيخها.
وتأسيساً على ما جاء بعاليه، فإنَّ البرادايم الأمثل للدولة المدنية هو الثورة الوطنية الديموقراطية بِبُعدها الليبرالي؛ وبالتالي فهىَ تسعى لاتزان ودمقرطة واستدامة كلِّ شئٍ (الإقتصاد، السياسة، والقضايا الإجتماعية) في المفهوم القطري/الوطني للدولة المدنية. وبمعنى آخر بدون النزوع نحو الثورة الوطنية الديموقراطية، فإنَّ الدولة المدنية يصعُب ترسيخها في أرض الواقع.
محددات الدولة المدنية
يمكننا من التعريف الوارد أعلاه - ومن مقال د. أحمد زايد والذي يُعتبر تطوراً نوعياً باتجاه ترشيخ معاني الدولة المدنية (كل ما هو بين معكوفتين مقتبس من مقاله)* - أن نعيِّن محددات الدولة المدنية وأركانها التى إنْ غاب أحدها إنزلقَ مفهوم الدولة المدنية إلى الدولة الدينية أو العلمانية، وهذه المحددات هى:
1- كما هو معلوم فإنَّ الأساس المادى للثورة الوطنية الديموقراطية وبالتالي بالنسبة للدولة المدنية، هو إتزان معادلة الإنتاج/معادلة الإقتصاد القومي (العمل/العمال والقوى الحديثة + رأس المال/رجال الأعمال + التنظيم/المهنيين + الأرض/بورجوازية الدولة = الإنتاج/العملية الإنتاجية/الثورة الوطنية الديموقراطية فى نهاية المطاف) وديموقراطيتها واستدامتها. ولن تكون معادلة الإنتاج هذه ديموقراطية فى غياب تنظيمات المجتمع المدنى السياسية الممثِّلة/الحارسة لكلِّ عنصر من عناصر إنتاج هذه المعادلة. وإذا نظرنا للواقع الإقتصادى والسياسي والإجتماعي السوداني نجد فيه غياب تام لحزب يُمثل العمال بكلِّ شِعبِهِم والقوى الحديثة فى السودان، ليقف على حراسة استحقاقات عنصر العمل بالأصالة لا بالوكالة.
وبالتالي من أهم محددات الدولة المدنية هو قيام حزب للعمال والقوى الحديثة ليكون مفتوحاً لكلِّ التحالفات (مع المهنيين السودانيين) التي تجعل الإقتصاد والسياسة القوميين متجانسين ومتوازنين وديمقراطيين ومستدامين.
2- من أهم محددات الدولة المدنية هو رغبة المجتمع فى الخروج من البوهيمية إلى الحال المدنى (Civil Status/state)، بالتوافق على عقد إجتماعى يشمل كافة قطاعات المجتمع، ويتحوَّل فيما بعد إلى دستورٍ دائمٍ مُعبرٍ عن إرادة ذلك المجتمع وإجماعه، فى صورة مؤسسات وقوانين لا تطالها تأثيرات القوى المجتمعية أيَّاً كان مصدرها: الفرد أو الجماعة أو الطائفة أو المذهب أو مجموعات الضغط؛ غايتها تنظيم الحياة العامة وحماية الملكية الخاصة وتنظيم العقود وشمولية تطبيق القوانين على كافة أفراد المجتمع دون إستثناء لذى جاهٍ أو سلطان.
3- من أهم سمات الدولة المدنية هى أنَّها "دولة القانون" التى تحتاج إلى القضاء المستقل والمؤسسات الأُخرى التشريعية والتنفيذية المستقلة، وذلك لضمان إرساء المبادئ العدلية وشموليتها. ولعلَّ "أهم سمة من سمات دولة القانون هى ألاَّ تخضع حقوق الفرد فيها لأىِّ إنتهاك من قِبَل أى طرف آخر، وذلك لأنَّ سُلطة الدولة دائماً حاضرة وهى فوق سلطة الأفراد، ويلجأ إليها كل أفراد المجتمع حينما تُنتهك حقوقهم أو تكون قابلة للإنتهاك".
4- من سمات الدولة المدنية هى "تنامى الوعى المدنى والعقيدة المدنية التى تنبنى على السلام والتسامح وقبول الآخر واحترام خصوصياته والمساواة فى الحقوق والواجبات والثقة فى عمليات التعاقد والتبادل المختلفة". وهذه القيم تمثل ما يُطلق عليه "الثقافة المدنية" وهى ثقافة تخلقها إستدامة حكم القانون والديموقراطية، أىْ العيش في واقع الثورة الوطنية الديموقراطية، وهى تقوم على مبدأ الإتفاق والتراضى، وتعززها أعراف وأنساق عديدة غير مدونة تمثل عصب الحياة اليومية للمواطنين (وما أعظم هذه الأعراف والأنساق عند أهل السودان)، تصوغ لهم "مبادئ التبادل القائم على النظام لا الفوضى، وعلى السلام لا العنف، وعلى العيش المشترك لا الفردى، وعلى القيم الإنسانية العامة لا الفردية ولا المتطرفة".
فالثقافة المدنية تخلق من المواطنين نشطاء مثقفين مدنياً (شباب شارع الحوادث ونفير مِثالاً) يعرفون ما لهم وما عليهم، ويساهمون بفعالية فى تحسين ظروف مجتمعاتهم، بحيث يرتقون بوعيهم المدنى بشكلٍ مستدام، ويُمجِّدون كلَّ ما هو عام: "كالأخلاق العامة، الصالح العام، الملكية العامة، المبادئ العامة، ويحرصون دائماً على كل ما يتصل بالخير العام".
5- من سمات الدولة المدنية أنَّها "دولة مواطنة"، يُعرَّف الفردُ فيها "تعريفاً قانونياً إجتماعياً على أنَّه مواطن (بدون ألقاب) فى المجتمع له حقوق وعليه واجبات يتساوى فيها مع جميع المواطنين. وإذا كان القانون يؤسس فى الدولة المدنية قيمة العدل، وإذا كانت الثقافة المدنية تؤسس فى الدولة المدنية قيمة السلام الإجتماعى، فإنَّ المواطنة تؤسس فى الدولة المدنية قيمة المساواة والقيم الإنسانية جميعها".
6- ومن أهم سمات الدولة المدنية ومحدداتها هى "الديموقراطية"، وهى بالتالى الصمام الذى يمنع أخذ السلطة بالقوة والغصب بواسطة "فرد أو نخبة أو عائلة أو أُرستقراطية، أو نزعة أيديولوجية". إنَّ الديموقراطية هى سبيل الدولة المدنية الوحيد لتحقيق كلِّ ما هو عام، "كما أنَّها هى وسيلتها للحكم العقلانى الرشيد وتفويض السلطة وانتخابها وتداولها سلمياً.
إنَّ الديموقراطية تتيح التنافس الحر الخلاَّق بين الأفكار السياسية المختلفة للمواطنين، وذلك بما ينبثق عنها من سياسات وبرامج مكرسة لتحقيق المصلحة العليا للمجتمع، ويكون الحَكَم النهائى لهذا التنافس هو الشعب؛ لابصفة شخوصه، ولكن بما يطرحونه من برامج وسياسات" لتحقيق أهداف معادلة الإقتصاد القومي المتجانس الديمقراطي المتوازن والمستدام.
إذاً، فالديموقراطية تُزَكى الثقافة المدنية التى تَرْقى بالمجتمع وتحسِّن ظروفه المعيشية. ولا تتحقق الديموقراطية إلاَّ بمزيدٍ من الديموقراطية (بالثورة الوطنية الديمقراطية)؛ أىْ "بقدرة الدولة المدنية على خلق مناخ عام للنقاش والتبادل والتواصل الإجتماعى بين المجموعات المدنية المختلفة والآراء المختلفة وغيرها. ويشمل هذا المناخ العام فى المستوى الجزئى الجماعات الفكرية والأدبية والروافد الثقافية، ويتدرج ليشمل الجمعيات الأهلية والمنتديات والمؤتمرات العامة، وصولاً إلى النقاشات التى تدور فى أروقة النقابات وجماعات الضغط ومنظمات المجتمع المدنى الأخرى والحركات الإجتماعية والأحزاب السياسية".
هذا المناخ العام يجب أن يكون مستقلاً ومدنياً وغيرَ مُحَرَّضٍ بالأيديولوجيا، ليكون بمستطاعه القدرة على طرح الفهوم والأفكار بشكل ناضجٍ وحرٍ ونزيه. وبالتالى هذا المناخ العام هو الذى يُحرِّض المجتمع على ابتداع الأساليب المدنية النوعية فى التثاقف العام والتواصل الجمعى، ويخلق من الحوارات المتنوعة والمتباينة فُسيفساء مدنية مُقترنة بالهم العام. "ويتأسس هذا المناخ المدنى العام بالفعل التواصلى الحوارى الذى يقوم على إحترام أفعال الآخرين وأفكارهم ومعتقداتهم والإستجابة إليها بشكل مدنى عقلانى من غير فوضى أو رفض".
موقف الدولة المدنية من المعتقدات (الشريعة الإسلامية مثالاً):
لا تقوم الدولة المدنية بمعاداة معتقدات النَّاس (أىِّ معتقدات) كما كان الحال على عهد الدولة العلمانية الإلحادية فى الأتحاد السوفياتى السابق. كما لا تسمح الدولة المدنية باستغلال المعتقد لمصلحة دنيوية وبالتالى تجرح قُدُسِيَّتَهُ وتستهزء به كما تفعل الإنقاذ فى السودان وغيره من الدول الدينية. ولا تتسربل الدولة المدنية بدِين أغلبية ولا بدين أقلية كما هو الحال فى بعض نماذج دول العلمانية السياسية كبريطانيا. ولكنَّ الدولة المدنية تؤكد على أهمية الدين كجزء لا يتجزأ من منظومة الحياة المدنية، وكقيمة إيمانية روحية بالغة التأثير فى حياة النَّاس ومعزِّزة لجوهر الثقافة المدنية من جهة كون أنَّ المعتقد هو "الداعم الأهم للأخلاق والحاض على الإستقامة والإلتزام لا سيما فى الشئون التعاقدية؛ بل هو عند البعض الباعث على حب الخير للنَّاس والإخلاص فى العمل والنجاح فى الحياة عموماً".
إذاً، فالدولة المدنية لا تتسامح مطلقاً مع إستخدام المعتقد لتحقيق أهداف سياسية (تنتهي في العادة إلى أهداف إقتصادية)، وبالتالى تحويله إلى موضوع خلافى وجدلى وإلى تفسيرات تُسئ إليه وتبعده عن عالم القداسة وتدخل به إلى عالم المصالح الدنيوية الضيقة الزائلة. فالمعتقد فى ظل الدولة المدنية ليس أداةً للسياسة تُجيِّرُهُ أنَّى شاءت لتحقيق مصالحها، ولكنَّه بالمقابل فهو أسمى القِيم فى الفضاء المدنى، وتتطور علومُهُ وفهومُهُ بقوة الفكر ومنطقه الداخلى القويم؛ بعيداً عن منطق التطرف والعنف الذيْن لا يُسمح بهما البتة فى إطار الدولة المدنية.
وبهذا الفهم فإنَّ الدولة المدنية لا تتعامل مع الأديان (الشريعة الإسلامية مثالاً) بالمنطق المتعسف التى تمارسه دولة العلمانية الإلحادية أو الدولة الدينية، ولكنَّها تلجأ إلى التخيير كقيمة مدنية ديموقراطية محقِّقة لشروط المواطنة. وبالتالى من حق المواطن (أى مواطن) أن يختار نوع الشرائع/القوانين التى يود أن تُطبَّق عليه؛ سواء أكانت شرائع/قوانين دينية (إسلامية، مسيحية، يهودية، إلخ) أو وضعية، ويجب أن تُسجَّل فى سجلِّه المدنى ويحويها رَقْمُهُ الوطنى. كذلك فإنَّ الدولة المدنية تكْفُل له الدخول تحت الشِّريعة والقانون الذى يُريد، وتكْفُل له الخروج منهما متى ما يريد تحت ضوابط تكفل إحترام المعتقدات فى الحالتين (حسين أحمد حسين ولؤى هاشم، مناقشات حول تطبيق شرائع/قوانين الأغلبية والأقليِّة، 2013).
ولعل فضيلة التخيير المدنية هذه ستُساعدنا فى تجاوز مأزق الدولة الدينية المتاجِرة بالأديان، والتى تود أن تفرض قوانينها الدينية بمنطق الإكراه والوصايا والحاكمية الإلهية، ومنطق الأغلبية والنخبوية والأُرستقراطية. كما يُساعدنا ذلك التخيير بالنفاذ بالعبارة الحصيفة التى أوردتها دولة نُقُد المدنية "لا تخضع المعتقدات لمعيار وعلاقة الأغلبية والأقلية" إلى غاياتها؛ وهى حرية الإعتقاد، إحترام المعتقدات، حرية الإنتقال بين المعتقدات، وتحرير المعتقد من عسف السياسة وتركه للفضاء المدنى.
نعم ربما تكون هناك مشكلة فى ذهن المشرِّعين متعلقة بكثرة الشرائع وكثرة القوانين، ولكنَّها فى نهاية المطاف تعبِّر عن تنوعنا (لكلٍ جعلنا منكم شِرعةً ومِنهاجاً) بشكل مدنى ديموقراطى خالى من التعسف والإكراه والجبرية، ويجب أن يكون الدستور الدائم للسودان معبِّراً عن هذا الواقع أيضاً. كما أنَّ تتعدد القوانين وتعدد الشرائع وما يُصاحبُها من الحرج العقدى المفتعل عند البعض (ومن لم يحكم بما أنزل الله)، أهون على النَّاس من أن يكون التعسُّف سبباً فى حروب وفتن لانهائية بسبب العسف العقدي.
لقد جرَّب السودان العسف والحَيْف منذ الإستقلال إلى يومِ النَّاسِ هذا، وكانت النتيجة فُرقة أبناء الوطن الواحد، واحترابهم الدائم وانفصال جزءٍ عزيز من بلدهم، وبُغِّضَ إليهم كلُّ ما هو دينى. فلماذا لا نجرِّب التخيير؟ فبدلاً من أنْ تُطبَّق علىَّ الشريعة إكراهاً كما تفعل الإنقاذ الآن، فلتُخيِّرُنى الدولة المدنية بمسلك مدنى ديموقراطى (وهنا تسقط صفتها الدينية والعلمانية القُحَّة معاً) فى القوانين التى أحب أنْ تُطبَّق علىَّ: قوانين الشريعة الإسلامية (المسيحية واليهودية وغيرها)، القوانين الوضعية، أو أى قوانين أُخرى. وهنا تظهر عدد من الحقائق التى لا يراها المتعسف الديني ولا المتعسف العلماني:
1- ستتبدَّى للنَّاس لِأَوَّل مرة سماحة الشريعة الإسلامية فيكثر أتباعُها (أو وجاهة القوانين الوضعية فيزداد أنصارها). وإذا كان اللهُ عزَّ وجلَّ مُتِمَّاً نوره ولو كَرِهَ الكافرون، فَفِيمَ الخشية من التخيير؟ هل هى حيطة وحرص ونوع من الوصايا من الحاكم إذا لم يُكره النَّاس على الشريعة فإنَّ النَّاس سيهجرون دين الله؟ هل هى خشية من الله لأنَّ الحاكم طبَّقَ شرائعَ أخرى إلى جوار شرع الله؟
ونقول على العكس، النَّاس يهجرون دين الله بسبب القدوة السيئة التى تستخدم الدين كغطاء للفساد والإفساد، وبسبب الإكراه أكثر مما لو خُيِّروا. ولن يكون عدد المطبقين للشريعة الإسلامية على أنفسهم بشكل إختيارى أقل من الآن بأىِّ حال من الأحوال؛ بل على العكس سيتضاعفون.
وقد وجدنا أنَّ تطبيق الشريعة بالطريقة الشائهة المتعسِّفة لا يخلو من الأغراض الدنيوية السياسية والإقتصادية، وفى ذلك تشويهٌ للدين، وطمس لمقاصده السمحة، وعلى النَّاس أن يعملوا بكلَّ ما أوتوا من حصافة فكرية لمنع هذا العبث بالمعتقدات من قِبَلِ المستهزئين بها وردِّ قدسيتها لها.
2- سينتقل النَّاس من أُفقِ الأيديولوجيا الدموى إلى أُفقِ المناخ المدنى السلمي الخصيب الذى تنشط فيه حرية الفكر المحرَّضة بالعقل الحر والتفكير الحر بغرض إنتاج المعرفة الدينية، وتطوير الفكر الدِّينى وإخراجه من حالة التكلُّس التى هو فيها الآن. والجدير بالذكر أنَّ الشريعة الإسلامية لم تُنْعَتْ بالسمحاء، إلاَّ لأَنَّ مِضمارَها هو الفِكر الحر المتأتى من التخيير. ولم تتطور الشريعة الإسلامية في موطنها عبر قرونها الطِوال إلاَّ لأنَّ أهلَها أكثرُ إشتغالاً بالسلطان من الإشتغال بالفكر الحر. ولذلك، فلا غُروَ أنَّ معظم الذين أهتموا بالفكر الدينى في الإسلام هم مسلمو الهامش من خارج جزيرة العرب.
3- وفى إطار الدولة المدنية لن يُسمح بأى نوع من أنواع العنف الدينى أو الثقافى أو الإثنى أو اللغوى، أو العنف الأيديولوجى/السياسى/الإقتصادى أو الجسدى أو اللفظى المُجيَّر لخدمة أى شرخ فى البناء المدنى، وسوف يُفسح فقط للفكر الحر والتفكير الحر ليكونا مُدْخَلَيْنِ مُهِمَّيْنِ فى مجال المعرفة المعلومة الأدوات فى إطار الدولة المدنية.
وبهذه الكيفية سيكون بالإمكان حل كل مشاكل السودان المصيرية بأُفقِ الدولة المدنية ذى القدرة الحقيقية على حماية التنوع فى البيئة السودانية الغير متوفرة لدى الدولة الدينية والدولة العلمانية معاً. وبالتالى فى إطار هذا الأفق المدنى يمكن ان يعود الجنوب، ومن ثم نسعى إلى آفاق جديدة من التماسك والإستقرار والإنطلاق نحو مستقبل مزدهر.
4- فى إطار الدولة المدنية، ستنتهى حالة النفاق الدينى/الإجتماعي وتطبيق الشريعة على اللا - إخوانويين دون الإخوانويين، وسيُحاسب النَّاس بالشرائع التى اختاروها ومضمنة فى سِجِلِهِم المدنى ورقمهم الوطنى، ولا مجال هنا للمحاباة والمحسوبية فى إطار القضاء المستقل والسلطات الأخرى المستقلة. وليس ثمة خوف فى أن يقل عدد النَّاس المناصرين للشريعة الحقة ولا توجد أىُّ أرضية لذلك؛ فالمسلم المُحَقِّق لن يتراجع عن تطبيق الشريعةِ الناصعة عليه اختياراً فى إطار الدولة المدنية العادلة إذا ما قارنا تطبيقها الشائه عليه إكراهاً فى غيرها حيث يُستثنى القوى من التطبيق والضعيف يُقام عليه الشرع.
بل على العكس، فيومئذٍ سنجد كثيراً من منافقي الجبهة الإسلامية القومية سيختارون قوانين غير قوانين الشريعة الإسلامية لتُطبق عليهم (وربما غادروا السودان إلى بلدان لا تُطبَّق فيها الشريعة الإسلامية من الأساس)، طالما أنَّهم يتحايلون على تطبيقها على أنفسِهم الآن ويُطبقونها على اللا – إخوانويين فقط.
ومن هنا يجب أن يعلم الجميع أنَّ الإنقاذ ترفض الدولة المدنية؛ لا لأنَّها "إسم دلع" للعلمانية وقد جاء بها الشيوعيون كما تروِّج هِىَ لذلك - وقد فنَّدنا هذا فى مقالات سابقة - ولكن لأنَّ الشريعة الإسلامية حينما تكون فى يد القضاء المستقل والنزيه فى إطار الدولة المدنية، ستُطبَّق على الوجه الأكمل على من اختاروها، وبالتالي سوف تطال أهل الإنقاذ الذين اختاروها أجمعين قبل غيرهم على حسب إفادة د. حسبو عبد الرحمن الذى قال: "كلُّ أعضاء حزبه فاسدون".
كما أنَّ تطبيق الشريعة الإسلامية إذا خرجَ من يدِ الإنقاذ الفاسدة إلى يدِ القضاء النَّزيه المستقل فى إطار الدولة المدنية، فإنَّ دولة الإنقاذ الدينية سوف تُحْرَم من أهم عنصرين من عناصر برنامجها الأيديولوجى "المشروع الحضاري - الإسلام هو الحل"، وهما النِّفاق والمتاجرة بالدين، وسوف تقف عارية من أى نوع من أنواع الأخلاق.
5- حينما تكف الدولة عن حشر أنفها سلباً فى طريقة تدين النَّاس وإثنياتهم وثقافاتهم ولُغاتهم، تخمد الفتن والحروب القائمة على أساسها، وتتحول ميزانية هذه الحروب بالنسبة للدولة إلى ميزانية مواطنة؛ ميزانية مدنية تخدم إيجاباً ذات التنوع الدينى والإثنى والثقافى واللغوى.
6- فى إطار الدولة المدنية (دولة المواطنة والديموقراطية) ستكون البرامج الحزبية ملحمة من التنافس على كيفية خدمة كافة المواطنين، وستكون مُكرَّسة لعكس استحقاقاتهم من حقوق المواطنة وواجباتها بما يخدم التوازن فى العملية الإنتاجية (عمال/قوى حديثة + رأسماليين/زواد أعمال + منظمين/مهنيين + بورجوازية دولة محايدة = الإنتاج/العملية الإقتصادية/الثورة الوطنية الديموقراطية) ولن تكون مكرَّسة تمكيناً للأنا السياسية أو الأيديولوجية أو الإثنية أو الجهوية أو اللغوية أو لمطامع حزبية أو فردية؛ فالكلُّ رابح فى ظل الدولة المدنية وبشكلٍ ديموقراطى متوازن ومستدام وفي كامل السلام الإجتماعي.
خاتمة
على الشعب السودانى ألاَّ يرضخ لسايكلوجية المقهور وأن ينتبذ هذه الإستكانة، وأن يدلف إلى فضاء التخيير - الفضاء المدنى، ويختار القوانين التى يود أن تُطبَّقَ عليه ويكون مسئولاً عن تلك الخيارات، وأن يُغيِّرَها متى ما يشاء.
وأقول لكلِّ مسلمى السودان الذين يريدون أن تُطبَّقَ عليهم الشريعة الإسلامية السمحاء: إرفضوا تطبيقها من قِبَل الإنقاذ وجبهتها المسماة زوراً وبهتاناً بالإسلامية، لأنَّها غير مؤهَّلة أخلاقياً لتطبيقها، واطلبوا تطبيقها من قِبَل الدولة المدنية (إن كانت هِىَ اختياركم) حيث القضاء المستقل والنزيه الذى يتعامل مع الضعيف والشريف على قَدَم المساواة.
وسنُثبِتُ لكل العالم الإسلامي (وغيره) أنَّ الذين سيختارون الشريعة الإسلامية فى ظل الدول المدنية - فى ظل التخيير - سيزداد عددهم بكل المقاييس. وسنثبِتُ له أيضاً أنَّ الجبهة الإسلامية القومية هى من يخاف من تطبيق الشريعة لأنَّها غارقة إلى أُذنُيْها فى الفساد والإجرام، ولأنَّها كانت تستهزء بالشريعة فتطبقها على الغرماء وتعفي منها أنصارها.
إذاً، فالشعب السودانى لن يخاف من تطبيق الشريعة لأنَّه لم يقتل، ولم يسرق، ولم يفسد، ولم يغتصب؛ بل أنتم من يخاف تطبيقها لكلِّ ذلك وبئس المصير.
* (دكتور أحمد زايد: "ماذا تعنى الدولة المدنية"، الشروق الألكترونية، 26 فبراير 2011).
حسين أحمد حسين.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
//////////////////


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.