لجان مقاومة النهود : مليشيا الدعم السريع استباحت المدينة وارتكبت جرائم قتل بدم بارد بحق مواطنين    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    جامعة ابن سينا تصدم الطلاب.. جامعات السوق الأسود والسمسرة    من رئاسة المحلية.. الناطق الرسمي باسم قوات الدعم السريع يعلن تحرير النهود (فيديو)    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    بحضور عقار.. رئيس مجلس السيادة يعتمد نتيجة امتحانات الشهادة السودانية للدفعة المؤجلة للعام 2023م    إعلان نتيجة الشهادة السودانية الدفعة المؤجلة 2023 بنسبة نجاح عامة 69%    والد لامين يامال: لم تشاهدوا 10% من قدراته    احتجز معتقلين في حاويات.. تقرير أممي يدين "انتهاكات مروعة" للجيش السوداني    هجوم المليشيا علي النهود هدفه نهب وسرقة خيرات هذه المنطقة الغنية    عبد العاطي يؤكد على دعم مصر الكامل لأمن واستقرار ووحدة السودان وسلامة أراضيه    منتخب الشباب يختتم تحضيراته وبعثته تغادر فجرا الى عسلاية    اشراقة بطلاً لكاس السوبر بالقضارف    المريخ يواصل تحضيراته للقاء انتر نواكشوط    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    ترامب: بوتين تخلى عن حلمه ويريد السلام    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    ارتفاع التضخم في السودان    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حول مفهوم الدولة وأنواعها وتعاطى كل نوع مع القضايا المصيرية للسودان - الشريعة الإسلامية مثالاً (3-4) .. بقلم: حسين أحمد حسين
نشر في سودانيل يوم 26 - 01 - 2019

سيتناول هذا المبحث مفهوم الدولة المتعلق بتوصيف ما تقوم به من مهام، كما أنَّه يتطرق لأنواع الدولة؛ الدينية منها والعلمانية والمدنية. وسننظر فى ميراثنا من كل نوع، وكيف أجاب كل نوع على أسئلة السودان المصيرية خاصةً تلك المتعلقة بالشريعة الإسلامية؛ كونها أكثر قضايا السودان المصيرية حساسيةً في الشأن السوداني.
فالدولة بالمفهوم أعلاه هى: "حزمة الإجرآءات القانونية والمؤسسية المعبرة عن مجتمع بعينه، على بقعة أرض بعينها، بالكيفية التى تُكسبها إعترافاً دولياً وسيادةً على تلك البقعة من الأرض" (لنستحضر ولادة دولة الجنوب - رغم قيصريتها - حتى نتبيَّن تعريف الدولة).
هذا التعريف البسيط يخضع بالطبع لشروط التشكل الإقتصادى الإجتماعى التى تُفَسِّر لنا صيرورة الدولة ومسيرة نضجها منذ ولادة الحاجة إليها قبل نحو 10 ألف سنة حتى يوم النَّاس هذا؛ فالدولة قد بدأت ثيوقراطية/دينية، ثمَّ أصبحت علمانية بأنواعها المتعددة، ثمَّ وصلت في الوقت الراهن إلي مرحلة الدولة المدنية.
فالتعريف أعلاه يُمثل الشروط العلمية لإنجاز مهام الدولة فى أىِّ مكان، وعلى أىِّ دين/لا - دين كانت؛ لا يهم أنَّها في مكة المكرمة زادها اللهُ تشريفاً ورفعةً، ولا يهم أنَّها في موسكو زادها اللهُ بيريسترويكا وغلاسنوست.
كما أنَّ الدولة بهذا التعريف ليست معصومة من التعاطى مع معتقدات النَّاس. بل إنَّها تتأثر بمعتقدات شعبها وتؤثِّر فيها، فى إطارٍ من الجدل الحميم والمحتدم. ويجب ألاَّ يتوقع السياسى الناضج إجابة سهلة على عواقب إقحام الدين فى الدولة أو فصله عنها؛ فالمخاض طويل. والمهم فى كل ذلك هو أنْ تتعاطى الدولة مع معتقدات شعبها بالطريقة التى لا تخل مطلقاً بالحقوق الأساسية لكافة مواطنيها وأن تتعامل معهم على قدمِ المساواة.
ثالثا،ً الدولة المدنية
لاشك أنَّ بدايات السلوك المدنى نبعتْ من أول أسرة من لدن سيدنا آدم عليه السلام، ثمَّ من المصادقة على عقد إجتماعى للعشيرة، ثمَّ للقبيلة ثمَّ فى نهاية المطاف آل الأمر للدولة. وقد كانت الغرائز وحدها - لاسيما الشجاعة والخوف - على أيام العهود البدائية قبل ولادة الدولة هى التى تدفعُ بالنَّاسِ للصراعات وتكفَّهم عنها ((Jean Jacques Rousseau 1913.
ثمَّ من بعد ذلك استطاعت الأديان - خاصةً التى بقِيتْ خالية من الهوى والغرض فى التأويل والتحريف البشرى - أنْ تمدَّ الإنسانية بأنصع العقود الإجتماعية التى قد أسَّستْ للحال المدنى الذى أنجب الدولة الدينية، فالدولة العلمانية ثم مؤخراً الدولة المدنية. وعبر هذه الصيرورة قيَّدَ الفردُ نفسَه، من حال التعامل الغريزى مع محيطه، بحال مدنى/بعقد إجتماعى فصله عن التعامل البوهيمى مع ذلكم المحيط.
ويجب علينا أن نوضِّح هنا بأنَّ عبارة ال (Civil State) التى ظهرت فى كتابات جان جاك روسو 1712- 1778م، ما كانت لتعنى الدولة المدنية، بل تعنى الحال/الوضع المدنى خاصةً إذا علمنا أنَّ جينولوجيا الحديث عن طبيعة الدولة الرأسمالية نفسه هو حديث ورد فى التاريخ المعاصر (بدائياته عند أنجلز ولينين، عميقه عند الماركسيين البنيويين وغيرهم من اللاحقين كما بينَّا في موضع آخر).
وفوق ذلك فإنَّ الغربَ لا يعرف مصطلح الدولة المدنية، ويعتبره مصطلحاً شرقياً. ونحن هنا نؤكد بأنَّ مصطلح الدولة المدنية، كمقابل لمصطلحى الدولة الدينية والدولة العلمانية، هو مصطلحٌ سودانىُّ الجنسية وأبوه (The father founder) هو المفكر الجليل محمد إبراهيم نقد رحمه الله (محمد إبراهيم نقد، حل مشاكل السودان يتمثل فى دولة مدنية، الحوار المتمدن: العدد 425، 15/03/2003، محمد إبراهيم نقد، حوار حول الدولة المدنية 2012).
وأقول ما أقول، لأنَّ كثيراً من الكتابات التى طالعتُها تحاول أنْ تُمصِّرَ المصطلح، أو تُسَوِّرَه، أو تُمغرِبَه، أو تُبغْدِدَه؛ وذلك يحدث فقط لأنَّ الغرب قال أنَّ مصطلح الدولة المدنية مصطلحاً شرقياً؛ فالكلُّ هبَّ لينسبه لنفسه؛ ولكنَّه، شاءَ من شاء وأبى من أبى، فهو سودانىُّ الجنسية.
وصحيحٌ أنَّ هناك العديد من الكتابات التى تناولت المجتمع المدنى وأهميته فى الثلاثة عقود المنصرمة فى المنطقة العربية والإسلامية (راجع مثلاً: عزمى بشارة، محمد الغيلانى، الحبيب الجنحانى، عبد الإله بلقزيز، إلخ)؛ وفى الغرب منذ أزمنة سحقية؛ إلاَّ أنَّها كلُّها لم تنفذ إلى حقيقة الدولة المدنية كما كتب عنها المفكر محمد إبراهيم نقد.
تطور المصطلح
من المؤسف أنَّ مصطلح الدولة المدنية مازال مهزوزاً فى أذهان النَّاس رغم ظهوره كبرنامج عمل للمعارضة الديمقراطية (الحزب الشيوعى السودانى) لحل مشاكل الدولة الدينية المتمثلة فى حكومة الوفاق أبّان الديمقراطية الثالثة عام 1988م. ومَرَدُّ هذا الإهتزاز لسببين فى تقديرى المتواضع:
الأوَّل: عدم ربط المصطلح بشروحات وتفسيرات من أوجده (Lack of Symptomatic Reading) تحت شروط ظرفه التاريخى المحدد الذى هو الكفيل الوحيد (أى ذلك الظرف التاريخى) أن يُضفى على المصطلح دلالته؛ بعيد عن إعمال الذهن والتَّكهُّن اللَّذَيْنِ يُحاولان جعلَ المصطلح مصطلحاً لقيطاً؛ أى بلا واقع تاريخى مادى محدد، وبالتالى يُمكن أن تمتد إليه يدُ السرقة الأدبية. غير أنَّ المصطلح يرتبط بجدل المجتمع والدولة فى صيرورة مادية ديالكتيكية وتاريخية فى الواقع السودانى غايتها المواطنة والحرية والديموقراطية كما يقول الدكتور عزمي بشارة (عزمى بشارة 2012).
والثانى: تجيير أيديولوجيا أهل اليمين وأهل اليسار معاً للمصطلح ليخدم أغراض أيديولوجية تسئ فهم دلالة المصطلح التى عناها مُوجِدُهُ. فاليسار صار يرى فى مصطلح الدولة المدنية مخرجاً من لعنة الإلحاد التى تلازم علمانيته. وبالتالى فإن مصطلح الدولة المدنية قد يُساهم فى زيادة عضويته فى مجتمعات أغلبيتها متدينة. أما اليمين فيتوارى بالدولة المدنية من أيديولوجيته المتهافتة "الإسلام هو الحل"، والتى أفرغتها الممارسة الفعلية للإسلام السياسى فى السودان ومصر وغيرهما من معناها.
وسوف نرى فيما سيأتى إنْ شاء الله، بأنَّ المفكر محمد إبراهيم نقد لم يكن يضع نصب عينيه هذه التُّقية الأيديولوجية النَّزِقَة حينما تكلَّمَ عن الدولة المدنية، بل كان يعنيه إيجاد حل لمأزق أمته التاريخى المتعلق بإهدار حقوق المواطنة وحقوق الإنسان وضياع الديموقراطية والحريات العامة وإعاقة التنمية لثلاث مرات فى: 1958، 1969، و1989، فابتكر لذلك مصطلح الدولة المدنية، وهو ابتكار له حجته المعرفية والعملية كما هو موضَّح أدناه.
الخلفية السوسيوسياسية لولادة الدولة المدنية فى فِكر الأستاذ محمد إبراهيم نقد
هناك العديد من الأسباب فى الواقع السودانى التى تشكل دافعاً مهماً لكلِّ سياسى سودانى جاد فى البحث فكرياً عن مخرج يعالج قضايا المشكل السودانى، وما أكثرها. ولم يذهل المفكر نُقُد بِنُقُد السياسى عن مشاكل السودان التى أصبحت معقدة بعد الإستقلال، وصارت أكثر تعقيداً منذ ظهور الجبهة الإسلامية القومية فى الأرينة السياسية السودانية. كما أنَّ الفكر اليومى لم يَلْهِ المفكر نقد عن الفكر المُنْتِج للمعرفة الذى يضع حلولاً مستدامة لقضايا السودان، وقد نظر الرجلُ ثاقباً فى بعض القضايا الإجتماعية السياسية التى شكَّلتْ وعيه باتجاه الدولة المدنية، ومنها:
1- فشل النخب السودانية فى إيجاد حلول لمشاكل السودان المصيرية (التنمية، الهوية، فصل الدين عن الدولة، تقرير المصير، كيفية الحكم فى السودان، وغيرها) عن طريق منظور الدولة العلمانية (بواكير النظام المايوى) والدولة الدينية (نظام الإنقاذ حالياً). وبالتالى كان هذا الواقع أكثراً تذكيراً للحادبين، من أمثال المفكر محمد إبراهيم نقد، على مصلحة هذا الوطن من أن يبتدعوا حلولاً مستدامةً لهذه القضايا.
2- المفكر نُقُد على علم بأنَّ السلوك المدنى والحال المدنى، لم يَقُدْ إلى الدولة المدنية فى المجتمعات الغربية، وذلك ببساطة لأنَّ العلمانية أغنتهم عن ذلك؛ أى وفَّرت لهم حقوق المواطنة والحرية والديموقراطية دون المساس بعقائدهم الدينية؛ وتلك هى غايات أى مجتمع مدنى. ولكن بالرغم من أنَّ مجتمعنا السودانى على وجه الخصوص (والشرقى عموماً) غنىٌّ بالسلوك المدنى/السلوك الأهلى، لكنَّه ما انفكَّ، لعقود مضت، عاجزاً عن خلق وضع مدنى/مجتمع مدنى يفضى للمواطنة والديموقراطية لتخوُّفِهِ من أنَّ العلمانية التى أذبلت الدين فى الغرب، من الممكن أنْ تُذْبِلَه فى السودان (فى الشرق). وبالتالى هذه العلمانية كثيراً ما يتم تصورها بواسطة الأيديولوجيا الدينية على أنَّها أداة غربية لمحاربة معتقدات النَّاس.
هذا الأمر إضطرَّ الغرب لاستزراع العقيدة المدنية وسط القوى الحية فى بعض المجتمعات العربية إختباراً، خاصةً فى مناطق شمال افريقيا وأنفقت على ذلك أكثر من 5 مليار دولار، وهذا الإختبار للأسف لم يشمل السودان لعوامل كثيرة معلومة لصانعى القرار الغربى. وبالطبع كان الغرض من كلِّ ذلك هو تثوير التشكل الرأسمالى فى هذه المنطقة ليواكب رأسمالية ما بعد الحداثة (د. الصديق عبد الباقى 2011).
غير أنَّ ذلك لم يفضِ بعد إلى دولة المواطنة والديموقراطية أى إلى العلمانية؛ فالقوى الرجعية مازالت متمسكة بالسلطة وتحارب كافة محاولات التغيير (باستثناء تونس إلى حدٍ ما، والتى مُنِحَتْ جائزة نوبل للسلام من أجل هذا الصنيع). وبإنغلاق الأفق على دولة المواطنة والديموقراطية، كان لابد من البحث عن مخرج من هذا المأزق التاريخى الذى كان ومازال أكثر احتداماً فى السودان؛ فكانت الدولة المدنية.
3- لم يكن العرب عبر تاريخهم المجيد ذوى إهتمام بالفكر إذا ما قارنا ذلك بإهتمامهم بالسلطان، وبالتالى كانوا أكثر ما يُعالجون قضاياهم بالسياسة لا بالفكر. ولا عجب إذاً، أن نجد أنَّ معظم الذين أضافوا للفكر العربى والإسلامى فى السابق هم وافدون من أطراف الدولة/الإمبراطورية الإسلامية إلى جزيرة العرب، لا سيما الروّاة الستة الأشهر من رواة الحديث على سبيل النذر لا الحصر.
كما أنَّ كل محاولات المُفكرين المُحدثين الذين أَثْرَوْا المدرسة الفكرية بالحديث عن الدين والدولة (محمد عابد الجابرى) ونَقْد الدولة الطائفية (مهدى عامل) والدولة فى التاريخ المعاصر وفى محيط أزماتها الراهنة (سمير أمين) وغيرها، لم تتجاوز رؤاهم الفكرية المطلب الغربى فى خلق مجتمع مدنى؛ وبالتالى هى الاخرى لم تنفذ إلى مطلب الدولة المدنية كما نفذ إليه المفكر محمد إبراهيم نقد.
4- نشأت فكرة الدولة المدنية عند المفكرمحمد إبراهيم نقد من واقع محك عملى غير متوفر للكثير من الدول العربية أبّان فترة الديموقراطية الثالثة (1985- 1989). وهذا المحك هو الديموقراطية نفسها، وتحديداً حين أحكمت الجبهة الإسلامية القومية خناقها على رئيس وزراء السودان الأسبق السيد الصادق المهدى وإرغامه على توسيع حكومته لتشمل الجبهة الإسلامية القومية بقوانينها السبتمبرية الشهيرة، فكان أنْ أعلن الصادق حكومة الوفاق فى عام 1988.
ولتجنيب البلد متاهات الدولة الثيوقراطية التى تحمل الجبهة الإسلامية القومية جرثومتها من الديانتين الإسلامية والمسيحية البروتستانتينية الكالفينية، عرض المفكر محمد إبراهيم نقد مفهوم دولته المدنية لأول مرة فى ذلك العام (1988) "خلال المشاورات التي أجراها مجلس رأس الدولة مع الكتل البرلمانية" بغرض التوسيع المذكور بعاليه.
5- كان للأُستاذ المفكر محمد إبراهيم نقد رأى فى العلمانية الإلحادية؛ علمانية الإتحاد السُفياتى على وجه التعيين، لما تنطوى عليه من مفهوم لقمع الحريات وبالأخص الحريات الدينية، وكان هناك تخوُّف بالمقابل من أنْ تستغل الجبهة الإسلامية القومية هذا المفهوم وتُروَّج له أيديولوجياً لتصادر الديموقراطية والحريات العامة بموجبِهِ (وللأسف قد كان).
ولعلَّ سقوط الإتحاد السوفياتى عام 1989م قد أفردَ مناخاً معافىً ليتخلص العالم من وِزر الأيديولوجيا الثقيل، وبالتالى انهار المفهوم العلمانى الإلحادي الصِّرف بكل تناقضاته، فنأى المفكر نقد بنفسهِ عن العلمانية المُقيِّدة للحريات فى كتاباته اللاحقة بشكل صريح، ونأى كذلك عن العلمانية المتبنِّية للأديان كعلمانية إنجلترا (راجع أنواع العلمانية في 2 - 4)، وانتهى الأمر بالمفكر نقد إلى التركيز على الممارسة الديموقراطية والحريات العامة والتى تُغذِّى مفاهيم الثورة الوطنية الديموقراطية بشكل مباشر؛ والثورة الوطنية الديموقراطية في تقديري المتواضع هى السياق المعرفى العام للدولة المدنية (محمد إبراهيم نقد، 2012).
6- لقد كانت البلد أبَّان فترة الديمقراطية الثالثة (أعادها اللهُ على الجميع باليمن والبركات) مشحونة بحالة من الإستقطاب الأيديولوجى الحاد بين خيارات الدولة العلمانية والدولة الدينية، وكلاهما لا يخلو من المحاذير التى يتخوف منها المفكر نقد كما جاء بعاليه. وقد تجلى هذا الإستقطاب فى رغبة الكثيرين فى إلغاء قوانين سبتمبر 1983، الذى ناحرته الجبهة الإسلامية القومية فى حكومة الوفاق بقوانين بديلة.
هذا الإستقطاب الحاد (الذى قاد إلى إنقلاب الجبهة الإسلامية فيما بعد) هو الذى ألهم مُفكرنا نقد، فى إطار بحثه الدؤوب لِإيجاد حل لمشاكل السودان - لابتداع الدولة المدنية. وهذه الدولة المدنية ليست وليدة الفكر اليومى كما أسلفنا، ولكنها ترقد بشكل جنينى فى رحم أدبيات الماركسية السودانية خاصة فى حديثها عن الماركسية وقضايا الثورة الوطنية الديموقراطية، ورؤيتها عن النقابات كمنظمات مجتمع مدنى. كما توجد تجليات لهذه الدولة المدنية فى كثير من القوانين السودانية الشرعية والمدنية (القانون المدنى وقانون المعاملات المدنية)، وغيرها من القوانين التى تنظم العمل الطوعى ومنظومات المجتمع المدنى.
وبالتالى إلتقاط هذا المفهوم من قِبَل المفكر محمد إبراهيم نقد وإضافته لقاموس الفكر السودانى والعالمى ليس مستمدَّاً من أىِّ حالة من حالات النزق السياسى (المعادلات السياسية)، ولكنَّه نابع من وعى عميق بوقائع التاريخ وحيثيات تشكل واقعنا السودانى؛ وبالتالى المفردة ليست وافدة بحال من الأحوال.
7- لعلَّ مفهوم الدولة المدنية قد استند على الفكر الحر والتفكير الحر الذى كان يوجِّه المعارضة الديموقراطية فى برلمان 1986 الحر الديمقراطي، والذى كان يقوده المفكر محمد إبراهيم نقد بنفسه من داخل ذلك البرلمان. وذلك الفكر الحر لم يكن متاحاً فى أىِّ دولة من دول المحيط العربى ولا الأفريقى فى ذلك الوقت، وقد كان يعمل تحت سطوة السياسى الديكتاتوري.
وحتى فى الوقت الذى إنعدمت فيه الحرية فى السودان بمجئ الإنقاذ للسلطة، ظلَّ الحزب الشيوعى السودانى يبشِّر بالدولة المدنية عن طريق عضويته فى المعارضة السودانية فى الخارج، المتمثلة فى التجمع الوطنى الديموقراطى، بعد إنقلاب الإنقاذ فى عام 1989؛ الذى تبنِّى مضامين الدولة المدنية وضمنها فى دستور السودان الإنتقالى الذى إنعقد بصدده التجمع الوطنى الديموقراطى فى 26 يناير – 3 مارس 1992 بمدينة لندن.
وقد كان أمر هذه الدولة المدنية أكثر وضوحاً فى إعلان نيروبى الذى إنعقد فى 17 أبريل 1993 حول علاقة الدين بالدولة، وأكثر دقةً فى مؤتمر القضايا المصيرية الذى إنعقد بأسمرا فى يونيه 1995. وعن طريق هذ الفعاليات بُذلت الدولة المدنية لمحيطنا الأفريقى والعربى والعالمى قبل أن يصدُر بشأنها كتاب السيد محمد إبراهيم نقد "حوار حول الدولة المدنية" فى عام 2012.
ليس هذا وحسب، بل أنَّ التجمع الوطنى الديموقراطى المعارض قد استمع فى عام 1999 لورقة الحزب الشيوعى السودانى "قضايا استراتيجية" المقدمة من عضويته فى الشتات والتى تحدثتْ عن: "فصل الدين عن الدولة المتأسِّس على التسامح والإحترام للمعتقد الدينى الذى ينتهى بالأمة للمساواة فى المواطنة؛ حيث لا تخضع المعتقدات لمعيار الأغلبية والأقلية، وأنَّ الدين يشكل مكوناً من مكونات فكر ووجدان الشعب السودانى، ومن ثمَّ رَفْض كل دعوة تنسخ أو تستصغر دور الدين فى حياة الفرد.
وعلى خلفية هذا الواقع الموضوعى وتأسيساً عليه تستند الديموقراطية السياسية السودانية فى علاقتها بالدين على مبادئ النظام السياسى المدنى التعددى، والتى تشكل فى الوقت نفسه فهمنا لمعنى العلمانية. فمصطلح النظام المدنى أقرب لواقعنا من مصطلح النظام العلمانى ذى الدلالات الأكثر إرتباطاً بالتجربة الأوروبية. وبالتالى طرح الحزب الشيوعى السودانى للدولة المدنية يرتكز على أسبقية الديموقراطية والتأكيد على أنَّ العلمانية ليست بالضرورة ديموقراطية (مثال دولة ستالين، موسيلينى، وبونيشيه)، وكذلك الدولة الدينية" (الشريف، سودانيزاونلاين/ محمد إبراهيم نقد، مجلة البيان 28 أغسطس 2002).
هذه هى منطلقات الدولة المدنية فى فكر الأستاذ محمد إبراهيم نقد، التى منبعها التجربة الفكرية الثَّرَّة، وحيثيات الصراع الإقتصادى الإجتماعى فى السودان. وفى هذا الأثناء، كانت كل الدول العربية من حولنا ممنوعة من التفكير الحر، والسياسة – لا الفكر – هى من يوجه صراعاتها. ونتمنى من الذين يَدَّعون بولادة هذا المصطلح خارج البيئة السودانية أن يأتوا بِبُرهانهم.
إرث أهل السودان من الدولة المدنية
لقد رأينا بعاليه أنَّ الدولة المدنية دولة سودانية خالصة وأنَّ المرحوم المفكر محمد إبراهيم نقد هو مبتدع هذا المصطلح، ولن نُكرِّر ذلك هنا. غير أنِّى هنا بصدد البحث عن تناص فكرة الدولة المدنية مع بعض الآراء السودانية المطروحة عبر التاريخ، لا سيما أنَّ المرحوم نقد قارئ نهم ومطلع على دقائق التاريخ؛ وقديماً قال أبو البنيويةِ إبنُ عمتنا عنتر بن شدَّاد الكوشى: "هل غادر الشعراءُ من مُتَرَدَّم". فمثلاً:
1- أشك فى أنَّ المفكر محمد إبراهيم نقد قد ابتدع دولته المدنية دون أن يمر بمنحوتة الأمير خاليوت بن بعانخى التى كُتبت قبل آلاف السنين قبل الميلاد، والتى تقول:
(إنَّنى لا أكذب، ولا أعتدى على ملكية غيرى، ولا أرتكب الخطيئة، وقلبى ينفطر لمعاناة الفقراء، إنَّنى لا أقتل شخصاً دون جرمٍ يستحق القتل، ولا أقبل رشوة لأداء عمل غير شرعى، ولا أدفع بخادم استجارنى إلى صاحبه، ولا أُعاشر إمرأة متزوجة، ولا أنطقُ بحكم دون سند، ولا أنصب الشراك للطيور المقدسة "أو أقتلُ حيواناً مقدساً"، إننى لا أعتدى على ممتلكات المعبد - الدولة، أُقدمُ العطايا للمعبد، إنَّنى أُقدم الخبز للجياع، والماء للعطشى، والملبس للعُرى. أفعلُ هذا فى الحياة الدنيا وأسير فى طريق الخالق، مبتعداً عن كلِّ ما يغضب المعبود، لكى أرسم الطريق للأحفاد الذين يأتون من بعدى فى هذه الدنيا وإلى الذين يخلُفُونهم وإلى الأبد).
ويقول الأستاذ أحمد طه عن هذه المنحوتة: "إذا استبعدنا طيوره وحيواناته المقدسه.. يصلح هذا النص لنا نحن أحفاده وللإنسانية جمعاء (دستوراً) لتأصيل القيم والاخلاق صاغه ملكاً بيده السلطه والقوه ولكنه كان رحيماً بشعبه" (أحمد طه، جبل البركل، وشامخات النخل والمهيرة، الراكوبة 24/12/2014).
وعن ذات المنحوتة يقول الأستاذ صلاح هاشم السعيد عن جزئية "ولا أقبل رشوة لأداء عمل غير شرعي": "أنَّ ما قاله هنا في هذه الجملة تحديداً يدل على وجود دولة مدنية مؤسسية بأنظمتها الإدارية والعدلية بدليل إمكانية خرقها على افتراض وجود أداء شرعي وآخر غير شرعي" (صلاح هاشم السعيد، موقع البركل، 14/10/2009).
وعلى العموم أقل ما يمكن قوله عن منحوتة خاليوت بن بعانخى الذى كان زاهداً فى السياسة أنَّها قسمٌ كوشىٌّ عاكس لدولة راسخة القدم فى المؤسسية، والكفاية والعدل، والقضاء الشفاف، والتوحيد والقيم الرفيعة. إذاً، فهى دولة مواطنة، خاصةً إذا علمنا أنَّها دولة سابقة لنزول الأديان المعروفة (قبل 7000 سنة قبل الميلاد كما ذكر ذلك أحمد طه).
نعم قد إختطَّ لنا جدنا خاليوت بن بعانخى، نحن الأحفاد، طريقاً معبدةً بتلك القيم والأخلاق والمؤسسات إلى الأبد، والمفكر محمد إبراهيم نقد ليس بِدعاً من أحفاد خاليوت البررة، فهو متشبِّع بتلك القيم. أمَّا من حادوا عنها، فحُقَّ لنا أن نسأل كما سأل أديبنا الطيب صالح: من أين أتى هؤلاء؟
2- إنَّ المفكر محمد إبراهيم نقد يعلم علم اليقين بالأيقونة الفكرية للأستاذ المفكر الشهيد محمود محمد طه - وهذا الشبلُ من ذاك الأسد البعناخوى – القائلة: "الحُرِّيَّة لنا ولِسِوانا". وهذا القول الباسق الشاهق إذا تمَّ تفكيك كبسولته وتمَّ تنزيله على أرض الواقع، فلن تستوعبه بالطبع الدولة الدينية لأنَّها عدوة الحرية، ولا الدولة العلمانية الإلحادية (ولو مؤقتاً) لأَنَّها ضد كل ما هو دينى؛ ولكن فقط يستوعبه سياق الدولة المدنية.
لكلِّ هذه الأسباب السوسيوسياسية والسوسيوثقافية فإنَّ السودان يُشكِّل بيئة خصبة لنشوء الدولة المدنية فيه قبل غيره، وذلك بما لديه من إرث تاريخى فى هذا الشأن، وبما لديه من مفكرين شُجعان بذلوا النَّفْسَ والنفيس فداءاً لفكرهم.
خاتمة
تتعلق هذه الخاتمة بالسؤال الراتب وهو: إذا كانت معتقدات النَّاس – حسب ما يقول الحزب الشيوعى السودانى - لا تخضع لمعيار الأغلبية والأقلية (وهذا فوت فكرى للحزب الشيوعى السودانى على الأحزاب الأخرى التى تنادى بديموقراطية الأغلبية)، فإنَّ الحزب الشيوعى السودانى لم يُخبرنا عن المخرج المدنى الديموقراطى لمناداة الأغلبية أوالأقلية بتطبيق شرائعهم عليهم. فمثلاً، أين تذهب حقوق الأقليات إذا كان الناطق الرسمى للحزب الشيوعى السودانى السيد يوسف حسين يقول: "إذا جاءتنا الشريعة الإسلامية بالديموقراطية فسنقبل بتطبيقها".
وهذا يعنى أنَّ بعض الأقليات ستقبل بهذا التطبيق كَرْهاً فى حالة فوز الأغلبية المسلمة بالإنتخابات. وإذا بعد أربعَ سنوات خسِرَ دعاة الشريعة مقعدهم، هل سنمنع تطبيق الشريعة على من أراد أن يُطبقها على نفسه لأنَّ أقلية علمانية أو مدنية فازت بالسلطة؟ كيف العمل إزاء هذه القضية التى لا تقبل بأى تعسف فكرى أو سياسى كما يشير الحزب الشيوعى السودانى نفسه.
يُتبع.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
/////////////


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.