عنوان المقال مستوحي من مُؤلَّف دكتور الاقتصاد والكاتب الأمريكي الشهير، من أصل لاتيني، لورانس كوتوليكوف بعنوان (Jimmy Stewart is Dead). وهو من أروع المُؤلَّفات الإقتصادية المالية التي تناولت الأزمة المالية العالمية 2008م وشرحت أسبابها وفضحت المؤسسات المالية والمصرفية الكبري التي تسببت فيها بأسلوب فنتازي ساخر وممتع جدا يتضح من عنوان الكتاب نفسه، المستوحي بدوره، من قصة الفيلم الأمريكي الخيالي الشهير (It is a Wonderful Life) ، (إنها حياة رائعة)، الذي أصبح أحد أفلام أعياد الميلاد التي تعرض في التلفزيون الأمريكي في شهر ديسمبر من كل عام، والحائز علي العديد من الجوائز، بطولة الممثل الأمريكي الراحل جيمي ستيوارت (بطل الفيلم)، وإخراج فرانك كابرا، استنادا إلي قصة (The Greatest Gift)، (أعظم هدية) للكاتب فيليب فان دورين ستيرن، التي كتبها عام 1939م عقب انفجار الكساد العظيم الذي ضرب أمريكا والعالم الغربي عام 1928م، ولكنها نُشِرَت عام 1943م وتحولت لفيلم عام 1946م. والفيلم يحكي قصة جورج بيلي بطل الفيلم (جيمي ستيوارت)، الذي يقطع إجازة شهر العسل خاصته فجأة ويعود ليتولي إدارة المؤسسة المصرفية التي تمتلكها أسرته بعد وفاة والده وجنون عمه، بإسم (مؤسسة بيلي أخوان للإدخار والقروض). فقد وقف أمام صفوف المودعين الغاضبين المطالبين بودائعهم ومدخراتهم بعد انفجار الأزمة المالية العالمية عام 1928م، مخاطبا لهم (بأنه لا يود الكذب عليهم، معترفا لهم بكل صدق وأمانة، أن مؤسسة بيلي للإدخار والقروض لا تستطيع إرجاع أموالهم لأنها مؤسسة مفلسة، وأن أموالهم للأسف الشديد قد ضاعت). وقد شرع أمامهم، يائساً، في محاولة الإنتحار في مشهد درامي مؤثر ليقدم حياته ثمنا لضياع أموالهم. وقد أوشك أن يقتل نفسه، إلا أن العناية الإلهية قد تدخلت في الزمن الضائع وأرسلت ملاكًا في لمح البصر أمام جموع المودعين الغاضبة لإنقاذ جورج من الموت، وإنقاذ بنكه من الإفلاس جزاءً لصدقه وأمانته. وفي الكتاب يخاطب كوتوليكوف، بسخرية يُحسَد عليها، كل حملة الودائع والمدخرات في العالم الذين يحتفظون بأموالهم في المؤسسات المالية والمصرفية متعددة الأشكال والكيانات أن جيمي ستيورات المصرفي النزيه الصادق ذو الشفافية العالية، المستعد لتقديم حياته ثمناً لأموالهم، قد مات ولم يعد موجوداً في عالمنا اليوم. وردت هذه القصة الرائعة في الخاطرة والعالم كله يتفرج علي صفوف المودعين الطويلة أمام الصرافات الآلية، وتدافع الحشود وتسابقها نحو كاونترات الصرَّافين في صالات البنوك بمجرد فتح الأبواب. ورغما عن البون الشاسع بين الكساد العظيم عام 1928م وحالة البنوك السودانية اليوم، إلا أن أهم القواسم المشتركة التي تجمع بين الحالتين هي الازدحام والتدافع أمام مداخل البنوك وداخل صالاتها وفي صفوف الصرافات الآلية وانعدام السيولة وتناقص سقوف السحب اليومي من ألفين، إلي ألف، إلي 500 جنيه فقط لا غير، ثم أخيرا تشميع الصرافات وخلو كاونترات الصرَّافين من السيولة تماما، وكل تلك المسرحية الدرامية تمت خلال فترة وجيزة جدا. فقد شهدت البنوك الأمريكية لحظة انفجار الكارثة عام 1928م هجوم كاسح من جمهور المودعين وشهدت مداخلها وصالاتها ازدحاما غير مسبوق. وقد بدأت بصرف أموال الناس في بداية الأمر وفق سقوف يومية للسحب، ثم خفضت هذه السقوف شيئا فشيئا، ثم أغلقت أبوابها أمام جمهور المودعين مؤقتا، ثم بعد ذلك أغلقتها نهائيا. وبالتالي ستصل الحالة بالبنوك في السودان قريبا جدا لنفس سيناريو الإفلاس وإغلاق الأبواب بشكل نهائي. ولن تسعفها ماكينات طباعة النقود (رب رب رب) أو المحاصصات الإقليمية والدولية والقروض العبثية التي تحصل عليها الحكومة في هذا الوقت الحرج. كما لا توجد أصلا ملائكة، من بين دعاة أكذوبة المشروع الحضاري أو من خلفهم يمكنها التدخل في الزمن الضائع لانقاذها من السقوط وإنقاذ البنوك من الإنهيار الوشيك، كما فعلت مع جورج بيلي (جيمي ستيوارت). فإذا كان إبليس شخصيا قد اِحتار في أمر هؤلاء وأفعالهم التي عجزت عبقريته في الدهاء والمكر عن الإتيان بمثلها، وحزم أمتعته ورحل عن السودان منذ زمن بعيد، فما بالك بالملائكة. فلا عاصم اليوم لشياطين الإنقاذ من غضب الشعب السوداني، ولا عاصم للبنوك من غضب المودعين الوشيك. الحكومة فاقدة للمصداقية وهي تتعمد الكذب واخفاء الحقيقة المرة، حقيقة إفلاس البنوك. ولا زالت تعتقد يائسة بأنها قادرة علي حل أزمة السيولة بالدعاء والتضرع إلي الله تارة وهم أبعد خلق الله عن الدين، أوباجراءتها العبثية التي اتخذتها من التوسع في طباعة النقود، والتضييق علي تداول الجمهور للعملة المحلية خارج القطاع المصرفي بموجب المرسوم الذي أصدره البشير مؤخرا بمنع تخزين النقود. علما بأن البشير شخصيا وأسرته وحاشيته وكبار المسئولين في الحكومة المركزية وحكومات الأقاليم وكبار ضباط الأمن، وكبار تجار المؤتمر الوطني هم أكبر الذين يكتنزون النقود خارج الجهاز المصرفي في خزائنهم الخاصة وفي حاويات معدة خصيصا لذلك، ويتمتعون ببنود صرف مفتوحة لا حدود لها. وليس هنالك دليلا أبلغ من تصريح وزير الإعلام السابق أحمد بلال في إحدي المناسبات، التي تطرقنا لها في مقال سابق، بأن البشير يتكرم عليهم بمظاريف مالية شهرية عدا ونقدا. وليس هنالك دليلا أكبر من أن جهاز الأمن لوحده قد صرف في قمع المظاهرات منذ اندلاعها وحتي تاريخ اليوم ما لا يقل عن 30 مليار جنيه من مال الشعب الثائر نفسه علي أقل تقدير. وليس هنالك دليلا بسيطا دامغا لا يحتمل أي ذرة تشكيك علي إفلاس البنوك من المشاهد الحيَّة المعاشة لعجزها عن تلبية طلبات المودعين لصرف أموالهم. بل أن إفلاس البنوك في الأعراف والمواثيق المصرفية والمالية الدولية يعني بكل بساطة عجز البنوك عن تلبية طلبات المودعين. كما أن بيانات البنك المركزي المنشورة نفسها تكشف هذا الإفلاس بكل وضوح. فقد بلغ حجم النقد المتداول داخل الجهاز المصرفي حتي ديسمبر 2018م 1.1 مليار جنيه فقط (في حين كانت في نهاية الربع الثالث بنهاية سبتمبر 1.3 مليار جنيه)، هذا مقابل 112.8 مليار جنيه نقد متداول لدي الجمهور خارج الجهاز المصرفي. وكما قلنا في مقال سابق أنه، كلما طبعت الحكومة نقود جديدة وضختها داخل الجهاز المصرفي ستخرج مجددا خارج الجهاز المصرفي ولن تعود، فقد زاد حجم النقد لدي الجمهور من 92.2 مليار جنيه في سبتمبر 2018م إلي 112.8 مليار جنيه في نهاية ديسمبر 2018م أي بنسبة 22.3% خلال ثلاثة أشهر فقط. علما بأن هذه الزيادة قد حدثت نتيجة لحملة التوسع في طباعة النقود لمواجهة أزمة السيولة التي ابتدرتها الحكومة في نهايات عام 2018م. (البنك المركزي، العرض الإقتصادي والمالي، أكتوبر – ديسمبر 2018م، جدول رقم (18)، صفحة 35). وقد زاد أيضا عرض النقد من 327 مليار جنيه بنهاية سبتمبر 2018م إلي 431 مليار جنيه بنهاية ديسمبر 2018م أي بنسبة 32% خلال ثلاثة أشهر فقط. هذه الزيادة الكارثية هي أيضا نتيجة طبيعية لطباعة النقود (المرجع السابق ذكره جدول رقم (20)، صفحة 38). يحدث هذا العبث في حين أن عجز الميزان التجاري قد بلغ حتي نهاية ديسمبر 2018م 4.4 مليار دولار، فقد بلغت الصادرات ما قيمته 3.5 مليار دولار فقط، مقابل واردات بقيمة 7.9 مليار دولار (المرجع السابق ذكره جدول رقم (6)، صفحة 16). وهذا يعكس حجم التدهور والدمار الذي تشهده القطاعات الانتاجية. فالسودان أصبح تقريبا يستورد كل شئ حتي احتياجاته الضرورية من الغذاء. فقد بلغت واردات القمح ودقيق القمح، الزيوت النباتية والحيوانية، المواد الغذائية الأخري، المواد البترولية، المصنوعات، الأدوية، الكيماويات، وسائل النقل، الآليات والمعدات، مواد خام أخري، والمنسوجات حوالي 7.3 مليار دولار تمثل حوالي 92.4% من إجمالي فاتورة الاستيراد. وباقي الفاتورة موزع علي الشاي والبن والعدس والواردات الأخري (المرجع السابق ذكره، جدول رقم (9)، صفحة 19). وبالتالي ووفقا لهذه الأرقام، وهذا الواقع الكارثي تكون أموال الناس في البنوك في ظل حكم هذا النظام وسياساته وإجراءاته الفاشلة قد ضاعت، الأمر الذي يتطلب أولا: وقف التعامل مع البنوك بشكل نهائي والاستمرار في مقاومة المرسوم الرئاسي الجديد بمنع تخزين النقود خارج الجهاز المصرفي حيث أصبح هذا الجهاز أحد أهم الأدوات والوسائل والقنوات التي يستخدمها النظام الفاسد لسرقة أموال الناس، وثانيا: الضغط والمحاصرة والوقفات الجماهيرية أمام البنوك ومطالبتها بصرف الأموال لأصحابها دون قيد أو شرط، وثالثا: رفع الدعاوي القضائية علي البنوك من كافة المودعين بشكل فردي أو بشكل جماعي عن طريق مكاتب محاماة متخصصة في مثل هذه القضايا. فأزمة السيولة لم تعد فقط قضية إقتصادية بل أصبحت قضية من قضايا الجماهير المطلبية لأنها انعكست سلبا علي حياتهم اليومية وأصبحت تهدد مدخراتهم وأموالهم المودعة في البنوك. هذا كله كوم وأموال الناس المستثمرة في شهادات شهامة وأخواتها كوم آخر. فقد تبخرت تلك الأموال وأصبحت في خبر كان وتحولت بكل بساطة إلي تاتشرات، وعِصي، وبمبان، ورصاص حي، وكلاشنكوفات، وخراطيم مياه لقمع ثورة الشعب نفسه صاحب الأموال المستثمرة. وبالتالي علي كل أصحاب الاستثمارات في هذه الشهادات التحرك للمطالبة بأموالهم بكافة الوسائل الجماهيرية والقانونية وإلا فلن يجدوا منها إلا فوارغ الذخيرة والبمبان وخردة التاتشرات المعطبة والآلاف من قطع الأسلحة التي لا يوجد لها سوقا في سودان المستقبل سودان الحرية والديمقراطية والتعدد والسلام. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.