سعدت جدا السبت الثلاثين من مارس بلقاء الدكتور محمد يونس العالم الاقتصادي الشهير خلال زيارة خاصة اعدت له في "السوق الشعبي المحلي" في حي كيبسلي الذي اقيم فيه والكائن قرب وسط المدينة. ليس امرا عاديا ان تلتقي باناس منّ الله عليهم بنعمة العلم الرفيع والروح الانسانية والموهبة الخلاقة في آن واحد. شقّت شهرته الآفاق، واصبح الجميع يتسابق للتعرف على ابداعه الذي جمع ما اعتبرته المسلمات حتى وقت قريب من المتناقضات ان لم يكن المستحيلات، فاصبح مرجعية، وعلم قائم بذاته، وتجربة فريدة تدل على ان لا شىء مستحيل في الحياة، وان الله قادر ان يدبّر للمستضعفين والمهمشين والمسحوقين عقولا يمكن ان تأخذ بيدهم وتفتح لهم آفاق الحياة والمشاركة في الثروات المكتنزة خارج نطاق الترتيبات والتصنيفات التي يضعها الاقوياء. محمد يونس ليس فقيرا ولكنه كان ناقما من شدة الفقر حوله، وساخطا على استغلال الاغنياء للفقراء عندما وجد نساء فقيرات ممن يصنعن الاثاث البسيط من الخيزران يعتمدن على قروض مجحفة لشراء الخيزران، حتى ان ارباحهن تذهب للمقرضين. آمن محمد ان القروض الصغيرة جدا يمكن ان تحدث فرقا هائلا، واقرض 27 دولارا فقط من ماله الخاص ل 42 امرأة، وطارد البنوك لاقراضهن. ولكن القاعدة هي انك لا يمكن ان تحصل على قرض دون ضمان. واكتشف محمد يونس ان هؤلاء النسوة كانوا الاسرع في سداد القروض من اولئك الذين تصنفهم البنوك مؤهلين. كانت الموهبة والدافع للحياة وحماية الاسرة ضمانات اكبر واقوى من الاموال والعقارات. لم يكن محمد يونس في حاجة الى تدبيج الخطب الدينية، ومسايرة ضجيج شعارات الاسلام السياسي، واحداث الانقلابات العسكرية، وتجييش الشعب، ووهم ما سمي بالاقتصاد الاسلامي، والتلاعب بشعائر الاسلام وهو المسلم المفوه، بل ذهب مباشرة الى جوهر مقاصد الدين، عبر تطويع الامكانيات البشرية في العلم والحس الديني السليم وعادات وتقاليد المجتمع ودمجها جميعا في فكرة بسيطة غير اعتيادية مختصرة في ثلاث كلمات، *للفقراء الحق في الثروة*. قمة العدالة الاجتماعية في اروع صورها. انشأ "بنك جرامن grameen" او "بنك القرية" في قرية صغيرة لتقديم قروض صغيرة لتمويل مشروعات منزلية تقوم عليها النساء. وقد قدم البنك منذ تأسيسه أوائل الثمانينيات اكثر من 11 مليون قرض، ووصلت نسبة السداد إلى 99%. وتحول الاقتراض من عملية تجارية جافة صعبة المنال الى حق من حقوق الانسان. غير ان قوة تجربة محمد يونس ترتبط ارتباطا وثيقا بقضية نصرة المرأة تحديدا خصوصا وهي في وضع الفاقة والتهميش، فليس مصادفة ان تمثل المرأة اكثر من 90% من المستفيدين من "بنك القرية". وهذا يعني ان نجاح يونس هو ايضا ثمرة نجاح المرأة في اغتنام الفرصة وحسن استخدامها. يقول محمد يونس "كنت محبطا من الوضع الاقتصادي الرهيب في بنغلاديش. فحاولت ان اقدم فائدة للفقراء. كان علي أن اتبع غرائزي واحساسي الشخصي. كانت هناك إمكانية أن أنسحب في أي لحظة ولكن هذا لم يحدث. ذهبت وبكثير من العناد للحصول على طريقي، لحسن الحظ كانت النتيجة التمويل المتناهي الصغير ومصرف غرامين". وانتشرت تجربة يونس الآن في 58 بلدا في العالم. واعترف به العالم وقدّم له عام 2006 جائزة نوبل للسلام. قلت له اننا في حاجة اليك، وفوجئت انه يعرف الكثير عن السودان بعد ان عرف موطني الاصلي. كنت عازما الا تكون فرصة اللقاء مجرد علاقات عامة وصور فوتوغرافية، وادركته بالقول لقد قمنا بنفس تجربتك دون ان نعرف عنك شيئا، وضاعت بين تقلبات الاحوال السياسية في بلادي. كنت مدركا انه سيكون خبرا ذي اهمية، فاستعدل في جلسته وانصت باهتمام. حكيت له باختصار تجربة قادها حزب التحالف الوطني السوداني مطلع الالفية في منطقة مينزا في شرق السودان. وكان الحزب قد ابتدع نظاما للتمويل المتناهي الصغر لتقوية النساء الريفيات في تلك المنطقة، بتوزيع قروض قروض صغيرة مستفيدا من منحة قيمتها الكلية 10 آلاف دولار قدمتها احدى منظمات العون الانساني العديدة التي كانت تعمل في المنطقة آنذاك، ونجحت نجاحا باهرا، قبل ان تعود قوات النظام الحالي وتنهي التجربة في مهدها. تمعّن الرجل فيّ بدهشة كبيرة وقدّمني على الفور الى شخص اوربي وقال "بما انك في اوربا تأكد اننا سنلتقي مرارا". كان ذلك هو السيد جان لوك بيرون مدير "مركز يونس" في باريس. تلك قصة صغيرة من طائفة طويلة من قصص الامكانيات السودانية الرائدة التي لو كانت وجدت الاستمرار والاعلام المناسب لدخلت في مصاف النجاحات التي يشار اليها بالبنان. واذا كانت الفكرتان متطابقتان فربما تكون الفكرة السودانية اكثر تفردا لان من قادها كان يريدها مشروعا قوميا نابعا من افكار سودانية بحتة في اطار رؤية اشمل لتفجير طاقات الريف المهمشة استنادا الى الامكانيات الذاتية المتوفرة. ومع الحراك الجاري في البلاد فانها فرصة جديدة كي يتعرف السودانيون على تجارب وامكانيات بعضهم البعض خصوصا تلك التي تحققت فعليا على ارض الواقع. وستبقى مينزا ايقونة بارزة في جهود البلاد للانعتاق من الاستبداد، وارتياد آفاق التنمية والتطور المنشودين. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.