قديماً كانت أدوار النساء في حروب ومعارك العرب تقتصر على تشجيع الرجال، وإلهاب الحماس في قلوبهم. تغيرت الأدوار. فها هن يتصدرن الواجهة في الساحات والشوارع المنتفضة، لا يهبن اعتقالا أو تعذيباً، ولا حتى قتلاً. وأصبحت أخبار بطولاتهن تحتل عناوين الصحف الكبرى، وتملأ مواقع التواصل الاجتماعي. فمن السودان ارتفع اسم المهندسة الشابة آلاء صلاح، التي تناقلت الفضائيات والصحف العربية والأجنبية فيديوهاتها وصورها، بثوبها الأبيض وأقراطها الريفية، وأصابعها المرتفعة في الفضاء وهي تنشد للثورة، وبوقفتها التي شبهوها بتمثال الحرية الأمريكي الشهير. وسرعان ما صارت أيقونة ورمزا للشعب المنتفض، حتى أن مراسلي الصحف هرعوا إليها ليسألونها عن رأيها في المجلس العسكري الانتقالي بعد إزاحة البشير، فردت قائلة بكل ثقة: «الشعب السوداني يرفض ذلك. نريد حكومة مدنية»، كما نقلت صحيفة «ايفينيغ ستاندرد» البريطانية المسائية، في عددها الصادر يوم الجمعة الماضي. كل هذه الشجاعة والوعي السياسي وهي ما تزال في الثانية والعشرين من عمرها! إنها فعلاً «كنداكة»، كما وصفتها وسائل الإعلام العربية والعالمية، هبطت من المملكة النوبية إلى شوارع الخرطوم المنتفضة، لتغني بأعلى صوتها العذب للثورة، رافعة جبهتها بشجاعة وعزة على منصة عالية تطل على الأمل والمستقبل. «ظاهرة آلاء صالح» ليست بغريبة على المرأة السودانية، التي لعبت دوراً بارزاً عبر تاريخ السودان وقدستها الممالك السودانية القديمة ومنحتها مكانة رفيعة. وفي الجزائر، تحتل النساء أيضاً طليعة المنتفضين، كما أشرنا إلى ذلك في مقال الأسبوع الماضي، ويشكلن عنصراً فعالاً في المظاهرات الشعبية الكبيرة المستمرة منذ شهور بلا هوادة، أمثال الحجة فاطمة، الإنسانة البسيطة، ومناضلات وشاعرات ومثقفات معروفات. وإذا انتقلنا إلى أقصى الأرض، سنجد الظاهرة نفسها. ففي استراليا، ومنها إلى أجزاء كثيرة من العالم، احتل اسم النائبة سارة هانسون عناوين نشرات الأخبار، ومنها العربية، وهي «تمسح الأرض» بزميلها السيناتور فريزر أنينغ، الذي لقب على مواقع التواصل الاجتماعي ب«راس البيضة» بعد حادثة ضربه من قبل مراهق ببيضة على رأسه انتقاماً من تصريحاته العنصرية. وكان هذا السيناتور قد أدلى بتصريح دافع فيه عن سفاح نيوزيلاندا، مبررا مذبحة المسجدين. لم يتصد له أحد من أعضاء البرلمان سوى سارة هانسون، التي قالت له بحدة وهي تنظر مباشرة في عينيه: أنت عار. نعم، أنت عار… لا تضحك! هناك أناس فقدوا حياتهم وأنت تعتقد أنها دعابة. ليس لك شرف الوقوف في هذا المكان، حيث تنشر كراهيتك وعنصريتك. وجودك هنا لا يتناسب مع مبادئ مجلس العموم الاسترالي، لأنك تفح الانقسام والكراهية والرعب.. لن ألقبك بالسيناتور، لأنك لا تستحق هذا اللقب». امرأة بألف رجل وقفت بصلابة وقوة كالنمرة مدافعة عن الحق، فمنع على أثرها «راس البيضة» من إلقاء خطابات الكراهية والعنصرية في البرلمان الاسترالي. شيزوفرينيا ثقافية كتب مارسيل خليفة منذ أيام على صفحته في «فيسبوك»: إلى آلاء صلاح على عرق العاصفة أصدق أجمل أعمق أبعد أصفى أعلى نشيد يا أهلنا في الأقاصي في السودان الحبيب خذونا معكم إلى الحرية شمسكم افترست كل النجوم. ما علينا بركاكة النص المكتوب، وبالشمس التي تفترس النجوم، وأفعال التفضيل المتكاثرة بمياعة مفرطة. المهم هو تعاطف مارسيل خليفة مع الشعب السوداني الجميل الثائر ضد الاستبداد. ولا شك أن موقفه هذا أصيل وإنساني بامتياز. ولكن! ولا بد من لكن هذه! أين كان منشد الأغنية الثورية والسياسية الجميلة مما جرى في سوريا من فظائع اتفق كثيرون على أنها من أبشع فظائع عصرنا الحالي؟ لماذا لم يرفع الصوت احتجاجاً على زج عشرات السوريات، أخوات آلاء صالح، في سجون بشار الأسد. ما الفرق بين منشدة الشعب السوري الفنانة الراحلة فدوى سليمان وآلاء صالح؟ بين «كنداكة السودان» والناشطة الحقوقية رزان زيتونة، وطل الملوحي وإيمان زيادة، وصبا العبدلي، وناديا الأحمد، المغيبات منذ سنوات في أقبية النظام السوري، والفنانة الراحلة مي سكاف؟ لماذا لم نسمع له صوتاً محتجاً، ولو لمرة واحدة، على استخدام البراميل المتفجرة التي كانت تتساقط كالمطر صباح مساء على رؤوس الناس الأبرياء، القابعين في بيوتهم؟ لماذا لم يقل شيئا عن الآلاف الذين شردوا في كل أنحاء الأرض، ومنهم عشرات الكتاب والفنانين، زملاؤه في المهنة؟ الفنان الملتزم، الذي استمد شهرته التاريخية من انحيازه لعدالة القضية الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي البغيض خذل أبناء مخيم اليرموك الفلسطيني، الذين شردهم النظام السوري ودمر منازلهم. السؤال الأكبر: كيف يتعاطف فنان مع شعب مضطهد دون شعب مضطهد آخر؟ أم أن هناك طاغية بعسل وطاغية آخر ببصل؟ لقد شهد تاريخنا العربي الحديث، للأسف، عدداً كبيراً من المثقفين الذين يقولون شيئاً ويفعلون شيئاً آخر. يكتبون وينشدون عن الحياة والحرية والجمال، ويمجدون الطغاة في الوقت نفسه، من دون أن يشعروا حتى بتناقض مواقفهم، أو يدينون هذا الطاغية، لكنهم يتغنون بطاغية آخر. كان بعض المثقفين السوريين ضد بشار الأسد وفي الوقت نفسه مع صدام حسين، ونرى قسماً من المثقفين العراقيين الذين ناضلوا ضد صدام حسين وتعذبوا وتغربوا، يتعاطفون الآن مع بشار الأسد. مرة أخرى، كيف يمكن أن يكون المثقف أو الفنان ضد طاغية بلاده ولكنه يؤيد طاغية آخر؟ ولنصغ السؤال بشكل آخر: كيف يمكن أن نتعاطف مع مضطهدي نظام ما، ونغض السمع والبصر، وبالتالي وجداننا الإنساني ورسالتنا الفنية والثقافية، عن مضطهدي نظام آخر؟! لا يمكن تفسير ذلك إلا بغياب المنظومة الفكرية والثقافية والإنسانية المتماسكة، التي لا يمكن تقسيمها، فنطبقها هنا، ونتجاهلها هناك. إنها، بكلمات أخرى، شيزوفرينا ثقافية وفكرية أنتجت انفصاماً شبه كامل بين كلماتنا الجميلة وأفعالنا الشنيعة. وهذه الشيزوفرينيا، كما يبدو، مرض شائع عند قسم كبير من فنانينا وكتابنا ومثقفينا للأسف. كاتبة لبنانية