دراسة مفاهيم "العري والتعري" باب واسع خاض فيه من قديم الباحثون (وغيرهم)، بعضهم بجدية وصرامة البحث العلمي الموثق، وبعضهم بقطعيات ومجتزأت تعتمد علي غير ذلك. وظل أمر العري والتعري في عقولنا وخاطرنا منذ الطفولة الباكر. فيتعلم المرء منا أول ما يتعلم أن "يستر جسده" خاصة في ما بين السرة والركبة، وأن لا يصلي إلا وهو مرتديا لملابس ساترة، ودرسنا أيضا أن العري صفة ملازمة للتخلف والهمجية. أذكر هنا أيضا ما علق بأذهاننا منذ عهد الصبا الأول حين قرأنا في أول مرحلة دراسية عن "فرعون وقلة عقله" حين خدعه رجال محتالون والبسوه ثوبا لا يراه إلا "الأذكياء" بينما هم لم يلبسوه شيئا غير الوهم، فمضي الملك الغبي يختال وسط الناس في ثوبه (الوهمي) الجديد وهو في الحقيقة عريان تماما، ولا أحد يستطيع البوح بالحقيقة خشية أن يتهم بالغباوة! وفي عهد الشباب رأينا في بلاد الفرنجة – وبكثير من الدهشة والامتعاض الحمامات في الجامعات تخلو تماما من الأبواب أو الستائر، وكنا نري الشباب (الذكور) وهم يستحمون وقوفا دون ما كنا نعده "مراعاة" للشعور العام أو الحياء "الفطري". بل رأيت في الثمانيات حماما جماعيا في أحد بيوت الشباب في ألمانيا "الشرقية" يقف فيه العشرات من الرجال ، كل تحت "الدش" الخاص به دون أن يري الواحد منهم في ذلك شيئا معيبا! اضطررنا مع غيرنا من الأعراب – من فرط الحياء- أن نغشي ذلك الحمام في الهزيع الأخير من الليل لنضمن بعضا من الستر والخصوصية، بيد أنني تذكرت آنذاك أن المستعمر الإنجليزي قد نقل لنا بعضا من ذلك، فلقد كانت المراحيض العمومية في السكة حديد بالخرطوم (قبل أن يطوف عليها طائف من ربك) تخلو من الأبواب، ولعل لذلك أسبابا لا نود الخوض فيها هنا! ليس من أغراض هذه السطور الخوض في تاريخ أو تفسير أو تشريح مفاهيم "العري" و"التعري"، ولكن مما دعاني للكتابة في الأمر هو ما جاء في يوم الخميس 25 فبراير 2010م في القناة الأميركية (سي ان ان) من خبر قصير عن كنيسة في احدي الولايات لا يؤمها غير العراة، ويلقي فيها القسيس خطبته العصماء وهو كما ولدته أمه، وتتجه إليه أنظار المستمعين (ومعظهم من كبار السن) وهم عرايا مثله لا "يستر" أجسادهم المترهلة شئ! لاحظت أن المراسلة التي نقلت الخبر جاهدت جهادا شديدا كي تمنع نفسها من الضحك، وقاومت مذيعة الأستوديو كذلك ضحكات مكتومة. ولعل في ذلك دلالة ما على أن في الأمر بعض جدة وغرابة بل وطرافة، والإعلام – كما هو مشاهد- مولع بكل ما هو جديد وغريب وطريف. ولا ريب أن وقع خبر مثل هذا عند غالب المتدينين (على اختلاف دياناتهم ومذاهبهم) والملحدين أيضا هو الرفض القاطع والذم الشديد، فالإسلام مثلا – كما هو معلوم بالضرورة- يرفض التعري و كشف العورات (مع اختلاف في تحديدها) خاصة العورات المغلظة (والعورة لغة: من العور، وهو القبح والنقص، وسميت كذلك؛ لقبح كشفها شرعاً). بيد أن الإسلام (بحسب ما جاء في موقع إسلام أون لاين) http://www.islamonline.net/servlet/Satellite?cid=1118883145878&pagename=IslamOnline-Arabic Cyber_Counselor/CyberCounselingA/CyberCounselingA يفيد بأنه : " يخطئ من يظن أن الإسلام حرم التعري لأن الجسد العاري قبيح يؤذي الناظر إليه بقبحه، أو لأن الجنس دنس، والتعري هو الزي المناسب، والمقدمة الطبيعية لممارسته، إنما حرم الله التعري ليحفظ عيون المسلمين والمسلمات، ويصون النفوس من أن ترى أو تتأثر برؤية جسد أجمل، أو أقل جمالاً مما عندها. فجسد الشاب أو الشابة غير جسد العجوز، وجسد الفتاة الناهد غير الأم في منتصف العمر.. وهكذا فإنه حين يستتر الناس، وحين يحفظون عيونهم عن النظر في غير موضع حلال فإنهم بذلك يصونون نفوسهم من التقلب والتوتر، وأذهانهم من المقارنات والأحقاد، فإن كان ما عندهم في أجسادهم وأزواجهم جميلاً حمدوا الله، وإن كان غير ذلك قالوا: كل الناس مثلنا، والوضع مختلف لمن تعدى". بيد أن ذات الموقع يشتط ويغلو– في نظري المتواضع حين يقرر في ثقة وتأكيد عجيبين بأنه " ينبغي أن نعرف أن الكشف والعُرْي والتعري هو جزء أصيل في الفلسفة والوجدان الغربي لأسباب أوسع من مجرد أنهم "يريدون أن يفسدوا شباب المسلمين ونساءهم"، فهذه حضارتهم...". هذا ما كان من أمر التعري في قلة من الكنائس الأميركية. أما التعري في المسرح فإن خبره قد أتت به عدد من الصحف البريطانية. فقد نشرت صحيفة "الصن دي تلغراف" البريطانية في يوم 24. 1. 2010م تحقيقا مطولا بعنوان "صحوة العري" حين عرضت لمسرحية جديدة أسمها "الثلاثية Trilogy" قدمت في مهرجان أدنبرا الصيفي الشهير، وقامت بتأليفها الاسكتلندية من جلاسكو "نك قرين". في فصل من تلك المسرحية يشجع الجمهور على القفز علي خشبة المسرح وأن يخلعوا ثيابهم (عن بكرة أبيها) وأن يقفوا أمام الجمهور عرايا كما ولدتهم أمهاتهم، ولا ضير في أن يهزوا أطرافهم وأن يرقصوا في حبور وسرور. يبرر أصحاب فكرة التعري علي خشبة المسرح فكرتهم بأنها تساعد علي تخليص المرء (لا فرق بين ذكر أو أنثي) من الشعور بمشاعر سلبية حيال جسده/جسدها، حيث يقوم المرء بإخفاء هذه المشاعر السلبية بالتدثر بالملابس (وكأنه يخفي ليس فقط جسده، بل مشاعره السالبة نحو جسده أيضا). ذكرت أحدي اللواتي خضن تلك التجربة تطوعا (وعمرها 30 ربيعا) أنها كانت تعاني خجلا مكتوما من جسدها لم تتخلص منه إلا بعد أن قفزت نحو خشبة المسرح لا تلوي على شئ، وهي كما ولدتها أمها تتقافز عارية وتهز مؤخرتها أمام مئات المتفرجين، وكأنها تقول لهم: ليس في جسدي ما استحي منه!. أفادت أنها بعد ذلك صارت تعشق جسدها ولا تشعر بنقص فيه أو عيب، وشفيت (!؟) فتأمل! تقول محررة "الصن دي تلغراف " أن ما شاهدته من اختلاف في الأحجام والأجناس والأشكال عند هؤلاء العراة علي خشبة المسرح أثار عجبها، وهي تؤكد أن ما يفعله هؤلاء لا علاقة له البتة بالجنس أو الإثارة أو التبذل، كما قد يتبادر للواحد (الساذج؟!) منا، فبعض اللواتي يرقصن عراة أمام الناس لا يملكن مقومات الإثارة الجنسية أصلا، بل قد تثير بعضهن النقيض تماما. تقول أيضا أن المسرحية تلخص موقف المرء من الجسد وعدم الرضا (أو قل الاستياء) منه، وهيمنة الذكورة وأشياء أخر (لعلها تشير إلي حركة "الفيمنيزم" الداعية إلي مساوية الجنسين وإلي "الاحتفاء" بالجسد وليس الخجل منه أو إخفاءه). أوردت الصحفية رأي احدي النساء المشاركات في مهرجان التعري على المسرح من أن "التعري" كان في الماضي شيئا مشينا لا تفعله - في نظر المجتمع - سوى "النساء الخاطئات"، وقد آن الآوان لتغيير تلك النظرة. وتقول مؤلفة المسرحية أن المشاركات في المسرحية من النساء (غير الممثلات) يخضن هذه التجربة تطوعا ولأسباب متنوعة، فبعضهن قد شفي توه من مرض عضال، وبعضهن قد كن قد تعرضن لتجارب مريرة من سوء المعاملة أو الاغتصاب أو غير ذلك من الحادثات الجسام. تزعم المؤلفة أن شفاءهن يكتمل عندما "يتطهرن" بتلك الطريقة أمام النظارة ويستعدن ثقتهن بأنفسهن وبأجسادهن. سبق ذلك التحقيق مقال قصير في "القارديان" في يوم 13. 8. 2009م يعلق على تلك المسرحية ويشيد بها وبكاتبتها، ويصفها بأنها مسرحية "تشرح القلب" وتجعلك "تشعر بإنسانيتك"، فهي تلخص وضع المرأة الحديثة في القرن الحادي والعشرين، وعن علاقتها بجسدها وبالآخرين من حولها، وتنتقد بعضا من صور معاملة المرأة في بعض المجتمعات، فتعرض في فصلها الثالث مثلا مشهدا عن تشويه أعضاء المرأة التناسلية (الختان) وآخر عن رجم امرأة. بالطبع يصعب علي رجل شرقي تقليدي (من فصيلتي!) أن يفهم أو يتقبل مثل هذا الكلام عن التعري (سواء أن كان في الشاطئ أو دور العبادة أو المسرح أو أي مكان غير آخر غرفة الطبيب – اضطرارا- أو خلف باب مغلق في حرمة البيت) ، بل ويعده من الترهات وقلة العقل والأدب والذوق (معا)، بيد أن المرء لا يسعه في نهاية الأمر إلا أن يقرأ أو يستمع علي الأقل لما يقوله ويفعله "الآخر"، وأن يحاول أن يفهمه في إطاره الصحيح (إن أمكن) وأن يعلم الأسباب التي دعت ذلك "الآخر" إلي قول أو فعل ما فعل، وعلى كل فإن الإنسان الحر البالغ في تلك المجتمعات مخير إلي حد كبير فيما يفعل (دون إضرار بالآخرين بالطبع)...ولكم دينكم ولي دين! نقلا عن "الأحداث" badreldin ali [[email protected]]