السودان..وزير يرحب بمبادرة لحزب شهير    الهلال السوداني يلاحق مقلدي شعاره قانونيًا في مصر: تحذير رسمي للمصانع ونقاط البيع    تيك توك يحذف 16.5 مليون فيديو في 5 دول عربية خلال 3 أشهر    "ناسا" تخطط لبناء مفاعل نووي على سطح القمر    ريال مدريد الجديد.. من الغالاكتيكوس إلى أصغر قائمة في القرن ال 21    وفد المعابر يقف على مواعين النقل النهري والميناء الجاف والجمارك بكوستي    الناطق الرسمي باسم قوات الشرطة يكشف عن إحصائيات بلاغات المواطنين على منصة البلاغ الالكتروني والمدونة باقسام الشرطةالجنائية    وزيرا الداخلية والعدل: معالجة قضايا المنتظرين قيد التحرى والمنتظرين قيد المحاكمة    صقور الجديان في الشان مشوار صعب وأمل كبير    الشان لا ترحم الأخطاء    والي الخرطوم يدشن أعمال إعادة تأهيل مقار واجهزة الإدارة العامة للدفاع المدني    الإسبان يستعينون ب"الأقزام السبعة" للانتقام من يامال    تكية الفاشر تواصل تقديم خدماتها الإنسانية للنازحين بمراكز الايواء    مصالح الشعب السوداني.. يا لشقاء المصطلحات!    السودان.."الشبكة المتخصّصة" في قبضة السلطات    ريال مدريد لفينيسيوس: سنتخلى عنك مثل راموس.. والبرازيلي يرضخ    مقتل 68 مهاجرا أفريقيا وفقدان العشرات إثر غرق قارب    مسؤول سوداني يردّ على"شائعة" بشأن اتّفاقية سعودية    السودان..إحباط محاولة خطيرة والقبض على 3 متهمين    اللواء الركن (م(أسامة محمد أحمد عبد السلام يكتب: موته وحياته سواء فلا تنشغلوا (بالتوافه)    توّترات في إثيوبيا..ماذا يحدث؟    دبابيس ودالشريف    إعلان خارطة الموسم الرياضي في السودان    غنوا للصحافة… وانصتوا لندائها    توضيح من نادي المريخ    حرام شرعًا.. حملة ضد جبّادات الكهرباء في كسلا    شاهد بالفيديو.. بأزياء مثيرة وعلى أنغام "ولا يا ولا".. الفنانة عشة الجبل تظهر حافية القدمين في "كليب" جديد من شاطئ البحر وساخرون: (جواهر برو ماكس)    امرأة على رأس قيادة بنك الخرطوم..!!    وحدة الانقاذ البري بالدفاع المدني تنجح في إنتشال طفل حديث الولادة من داخل مرحاض في بالإسكان الثورة 75 بولاية الخرطوم    الخرطوم تحت رحمة السلاح.. فوضى أمنية تهدد حياة المدنيين    المصرف المركزي في الإمارات يلغي ترخيص "النهدي للصرافة"    "الحبيبة الافتراضية".. دراسة تكشف مخاطر اعتماد المراهقين على الذكاء الاصطناعي    أنقذ المئات.. تفاصيل "الوفاة البطولية" لضحية حفل محمد رمضان    لجنة أمن ولاية الخرطوم تقرر حصر وتصنيف المضبوطات تمهيداً لإعادتها لأصحابها    انتظام النوم أهم من عدد ساعاته.. دراسة تكشف المخاطر    خبر صادم في أمدرمان    اقتسام السلطة واحتساب الشعب    شاهد بالصورة والفيديو.. ماذا قالت السلطانة هدى عربي عن "الدولة"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان والممثل أحمد الجقر "يعوس" القراصة ويجهز "الملوحة" ببورتسودان وساخرون: (موهبة جديدة تضاف لقائمة مواهبك الغير موجودة)    شاهد بالفيديو.. منها صور زواجه وأخرى مع رئيس أركان الجيش.. العثور على إلبوم صور تذكارية لقائد الدعم السريع "حميدتي" داخل منزله بالخرطوم    إلى بُرمة المهدية ودقلو التيجانية وابراهيم الختمية    رحيل "رجل الظلّ" في الدراما المصرية... لطفي لبيب يودّع مسرح الحياة    زيادة راس المال الاسمي لبنك امدرمان الوطني الي 50 مليار جنيه سوداني    وفاة 18 مهاجرًا وفقدان 50 بعد غرق قارب شرق ليبيا    احتجاجات لمرضى الكٌلى ببورتسودان    السيسي لترامب: ضع كل جهدك لإنهاء حرب غزة    تقرير يسلّط الضوء على تفاصيل جديدة بشأن حظر واتساب في السودان    استعانت بصورة حسناء مغربية وأدعت أنها قبطية أمدرمانية.. "منيرة مجدي" قصة فتاة سودانية خدعت نشطاء بارزين وعدد كبير من الشباب ووجدت دعم غير مسبوق ونالت شهرة واسعة    مقتل شاب ب 4 رصاصات على يد فرد من الجيش بالدويم    دقة ضوابط استخراج أو تجديد رخصة القيادة مفخرة لكل سوداني    أفريقيا ومحلها في خارطة الأمن السيبراني العالمي    الشمالية ونهر النيل أوضاع إنسانية مقلقة.. جرائم وقطوعات كهرباء وطرد نازحين    السودان.. مجمّع الفقه الإسلامي ينعي"العلامة"    ترامب: "كوكاكولا" وافقت .. منذ اليوم سيصنعون مشروبهم حسب "وصفتي" !    بتوجيه من وزير الدفاع.. فريق طبي سعودي يجري عملية دقيقة لطفلة سودانية    نمط حياة يقلل من خطر الوفاة المبكرة بنسبة 40%    عَودة شريف    لماذا نستغفر 3 مرات بعد التسليم من الصلاة .. احرص عليه باستمرار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فِقه الخِصام والوِئام في قاموس السيدين (2) ... بقلم: فتحي الضَّو
نشر في سودانيل يوم 14 - 03 - 2010

توقفنا في الحلقة الماضية حيث أفرغ كل طرف مكنون صدره من شحناء وبغضاء. وكان التراشق بين السيدين الصادق المهدي ومبارك الفاضل قد استمر على مدى سبع سنوات، ولم يخفف من غلوائه تأسيس الثاني لحزب خاص (حزب الأمة/الاصلاح والتجديد) وما أيسر أن تؤسس حزباً في السودان! بيد أن الذي لفت أنظار المراقبين دخول الخصومة الأرض الحرام، إذ اختلطت فيها - على غير ما يتراءى للناس – السياسة ومزالقها بالعلاقات الاجتماعية وسموها. ولعل هذا ما أكده السيد الصادق نفسه في خطاب المصالحة، إذ قال بوضوح (أن ندخل فوراً في كافة وجوه التطبيع الاجتماعي) وهي النقطة الثانية ضمن سبع نقاط اقترحها لاستكمال المصالحة، لكنها قبل ذلك اصبحت دليلاً على أن الطرفين فجرا في خصومتهما وضربا ما يسمى ب (التسامح السياسي السوداني) عرض الحائط. وإن شئت الاتكاءة على فقه المقارنات، ففي الواقع هذا ضرب من ضروب الخصومة، أسس له في التاريخ السياسي السوداني ما سُمي بلقاء السيدين (عبد الرحمن المهدي وعلى الميرغني) والذي جرى قبل نحو نصف قرن بعد خصومة امتدت لأكثر من نصف قرن. وهو ذات اللقاء الذي وصفه الكثيرون ب (التأريخانية) عدا واحد هو السيد محمد أحمد محجوب الذي لم يمنعه تقلده منصب الأمين العام الأسبق لحزب الأمة، من أن يصف ما نتج عنه من تحالف ب (أعظم كارثة مُنى بها تاريخ السياسة السودانية) ومع ذلك لست مع المحجوب في تطرفه، مثلما لست مع الذين أوحوا أن اللقاء معجزة من معجزات ساقها الله على شعب السودان (الآن وقد شاء الله فتحقق الأمل العظيم الذي ظلت تنشده البلاد منذ أن تلاقينا وتصافينا ابتغاء مرضاة الله والوطن) فنظراً للرقم القياسي الذي سجله الخصام، ونظراً لأن شروره استطارت وانسحبت حتى على بعض اتباع الطائفتين من ختمية وأنصار بمقاطعة اجتماعية شبه شاملة.. فقد سبق وأن قلنا إن البيان المذكور انطوى علي افتراء صريح على الخلق وخالقهم بقدر سواء. إذ عزى ما حدث إلى انه جاء (إبتغاء مرضاة الله) علماً بأن المختصمين كانا يعلمان ما نعلمه نحن عباد الله الجاهلين، أن مرجعية طائفتيهما الدينية قال فيها رسولها المبعوث هدى ورحمة للعالمين: لا يحلُ لمسلم أن يهجر أخاه المسلم فوق ثلاث ليال!
صحيح إن التراشق استمر متواتراً ولكن وبصورة نسبية، ولكن ليس من العدل القول إن الطرفين كانا على قدرٍ متوازنٍ من اشتعال الضغائن واثارة المواجع، وذلك نسبة لأن السيدين لم يكونا مستنسخين في طبائعهما، ولا صفاتهما الشخصية العامة والتي تشمل ملكاتهما السياسية، وطرائق تعاملهما مع القضايا المختلفة. فمن باب الانصاف يمكن القول إن السيد الصادق رغم ما يأخذه البعض عليه من سلبيات في مضمار السياسة كتردده في اتخاذ القرار وتقلبه بين المواقف، إلا أنه لا يستطيع سوى مكابر أن ينزع عنه ثقافته العميقة واطلاعه الواسع كصفات تصب في باب ايجابياته. أضف إلى ذلك أن السيد الصادق عُرف بطهارة اليد والزهد في المغنم والمغرم، وأنه يُعد ضمن قلة من السياسيين الذين وضعوا سداً بينهم وبين المال العام. فلم يُعرف له فساد رغم تبوؤه رئاسة الوزارة مرتين، واستمراره ناشطاً في الساحة السياسية لما يناهز نصف قرن. وإن كان الفضل ما شهدت به الأعداء، فالعصبة الحاكمة والتي اغتصبت منه السلطة قبل عقدين من الزمن، لم تجد ما تصمه به في بيانها الأول سوى انه (كثير الكلام) ولاشك أن الكثيرين مثلي قد يتساءلون ما إذا كانت هذه تهمة الآن، بعد أن جبتها العصبة نفسها بما عجز أهل بيزنطة عن الاتيان به. وكذلك عُرف عن السيد الصادق عفة لسانه، فهو إن اضطر إلى تقريع خصومه فقد يلجأ إلى مخزونه الثقافي والفكري، مُسقِطاً الساخر من اللغة وابداعاتها والتراث الشعبي وموروثاته.
في الجهة الأخرى لن يظلم احداً السيد مبارك، إن قال إن شخصيته تقف على النقيض تماماً، فكل أمريء خُلق لما يُسر له. فهو كما سبق ووصفناه بمنظور شخصي في كتابنا المذكور (سقوط الأقنعة) في أنه يعد من زمرة السياسيين الميكافيلليين الذين لا يضعون معايير أخلاقية مثالية في سبيل الوصول إلى أهدافهم. ويبدو أن مبارك ممن يستلذون بخوض المعارك، لكن فيما يتراءى للناظر أن له قدرة غير عادية في خلق الأعداء. لدرجة يقول فيها المقربون إن لم يجدهم فقد يخترعهم صدقاً كان أم وهماً. وهو لا يتورع في النيل من الذين يخالفونه الرأي بأي وسيلة بغض النظر عن غاياتها. ولعله من كثرة معاركه تلك بات يعتقد أن عدم الدبلوماسية شجاعة، وانحناء خصومه للعاصفة جبن وخنوع. لاشك أن بين مبارك والعصبة الحاكمة قواسم مشتركة، خاصة في ايمان كليهما أن المال يمكن ان يقهر المستحيل ويطوع الممكن ويصنع مجداً لمن لا يستحق، لهذا لا غروَّ إن تدحرجت اهتمامات الثقافة والفكر والمعرفة في قائمة الطرفين. البعض يقول أيضاً أن تأثير هذه الخاصية في سلوك الانسان قد لا تغري الآخر باقامة علاقات سوية معه، والحقيقة لا أدري إن كان ذلك مما ينطبق على مبارك من عدمه، لكنني على ثقة بأنك لو جردته من السياسة والجاه الموروث، لصعب عليك العثور على شيء آخر تحت طيات جلده. وإن صدق زعمنا هذا، فلن يكون غريباً إن تقلب كما تتقلب فصول السنة الهوجاء في بلد لم ينعم الله عليه بمناخ مستقر، لا في السياسة ولا في الطبيعة!
ليس في الأمر تجنٍ أو تلبيس. فذلك كتاب مفتوح يقرأه كل من يراه بعينين مفتوحتين في سير ساسة اهل السودان. ولكن من عجب أن كلا الطرفين حباهما الله بذاكرة أصبحت تجد متعة في التناسي والنسيان، لهذا ما اسهل أن يفصل البعض بين الماضي والحاضر بمثلما تفصل العصبة بين الحق والباطل، علماً بأن الأول أبلج والثاني لجلج. أنا مثلاً أخشى أن أقول لماذا هرب مبارك الفاضل يومذاك، فيعتقد البعض أنني أتحدث لغة عفا عنها الزمن؟ ولكن متوكلاً على الحي الذي لا يموت فقد قلت ذلك قبل عشرين عاماً وما زلت اؤمن أيمان العجائز بأن هروب مبارك لم يكن مبرراً عصرئذٍ، ليس لأنه لم يفك ألغازه للسائل والمحروم حتى الآن، وليس لأنه كان وزيراً للداخلية في النظام الذي أطبقت عليه العصبة حذائها العسكري الثقيل، وليس لأنه كان يفترض أن يدير معركة كرامة مثلما فعل الفريق فتحي أحمد على الذي أدار حرسه الخاص معركة يتيمة مع ثلة من العسكر الذين جاءوا لاعتقاله في منزله. ليس لأي من هذه الأسباب وإن كانت كلها في نصاعة وبرودة ثلجنا هذه الأيام، ولكن لأنه كانت بينه وبين العصبة وشائج متينة وصلات عامرة، وصلت لدرجة التآمر على الديمقراطية نفسها، بتدارس فكرة انقلاب مشترك مع بعضهم، وإن لم تمض الفكرة البيئسة إلى نهاياتها المفترضة.
وكلنا يعلم إنه بعد الانقلاب مباشرة اختفى مبارك لبعض الوقت قبل أن يولي الأدبار، وكانت تلك هي فترة الاختبار التي أراد أن يعرف فيها ليل الانقلاب من ضحاه. ولكنها فترة قالت أيضاً من وراء الأكمة: إما أن اتهامات الفساد التي ساقاها البعض عليه، وحدت بالسيد الصادق رئيس الوزراء لتكوين لجنة تقصى ومساءلة له قد تأكدت، فخشي تبعاً لذلك من بطش القادم الذي بدأ عهده بقول متنطع (من اراد أن تثكله امه..) أو أنه أراد أن يتأكد إن كان سيناريو ما حدث يطابق تماماً سيناريو ما اشتهى أو تخيل أو عمل له في الظلام، وأياً كان الترجيح فقد هرب سيادته ذلك الهروب الفطير الذي ظللته علامات استفهام حتى يومنا هذا. ثمَّ انخرط في مسيرة المعارضة الظافرة بهمة حسدها عليه غلاة الشيوعيون الذين بينهم وبين ايديولوجيا الانقلابيين ما صنع الحداد. ولا تظنن يا من تزمل ببراءة أهل السودان، أن سنواته تلك جرت في بحور المعارضة كما يجري الماء السلسبيل في جوف الظمييء الحرور. فقد كان أكثر ما يدهش المعارضون أن مبارك حينما يريد أن يمارس هوايته في التسلط والاستعلاء، يترك أحياناً النظام الذي يناصبه المعارضون العداء ويوجه سهامه نحو نحورهم. ولكن المفارقة الأكبر إنه ريثما يكمل سلطان الكيف والتشبع دورته، يستعيض عنهم برفاق حزبه، وبعضهم اقرب إليه من حبل الوريد، فيدير معهم تلك المعارك الدانكشوتية التي تستدر احياناً عطف خصومه من الأعداء والأصدقاء!
رحلة مقدسة كهذه في مضمار الخصومات، كان لابد وان تنتهي برئيس الهرم الذي لم يكن يعلم أن مبارك أجل عداواته معه إلى وقت معلوم. كنا قد ذكرنا في الحلقة الماضية أن رائحة ذلك بدأت تشيط خلف الكواليس بعد خروج السيد الصادق فيما اسماه ب (عملية تهتدون) ولخصنا سلسلة من المواقف الافتعالية التي كانت تشيء بارهاصات ما هو آتٍ. ذلك بدءاً من إخراج الحزب من التجمع الوطني، ومروراً بعودته إلى السودان، وانتهاءاً بطرح المشاركة في السلطة التي رفع مبارك لواءها. وهي الاستراتيجية التي حينما استعصت واستحكمت حلقاتها من نفر في الحزب، مضى مبارك إلى تحقيق غايته في السلطة ومعه رهط من الأمويين الجدد. وفي بحر عامين كان مبارك قد اسبغ على النظام الذي جعله مساعداً لرئيس الجمهورية منظومة من الأوصاف والنعوت البراقة حتى تضاءل صانعه حسن الترابي خجلاً في محبسه بسجن كوبر. ولم يكن ذلك بمانع الذين بينهم وبينه ثأر فقنصوا له كما تقنص الجوارح لطرائدها، وبعد أن قضى النظام منه وطره لفظه كما يلفظ الجائع النواة. يومذاك استمتع الشامتون بروايات اختلط فيها الواقع الماثل بالخيال الخصب، وتلذذ البعض بتلك الأحاجي التي ساعدت التكنلوجيا في نشرها كما تنتشر النار في الهشيم، وفحواها كان يقول كيف أن هزبراً استأسد في حزبه وتتضبع في حزب الآخرين! ولكن قمة التدراجيكوميدي – كما أزعم وأتخيل – يوم أن تخلى الأمويون الجدد عن مبارك، وجلهم من قال له إذهب أنت وطموحك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون في كراسي الوزارة. وأحسب أن مبارك الذي ينسي أفراحه ولا ينسي مرارته، كلما اختلى بنفسه قال لها مواسياً حتى إنت يا نجيب الخير؟
بعد أن انفض الرفاق لعل مبارك اكتشف إنه أصبح شخصاً بلا ملامح وبلا هوية، فامتثل لثلاثية الشيخ فرح ود تكتوك (الأمير/الفقير/البعير) ومثلما يفعل أي جريح في معركة غير متكافئة، يظل المهزوم دوماً يلعق جراحه بلسان ويتوسل خلاصاً بذات الناس. وبين الحين والآخر كانت السماء تمطر وساطة من وساطات (الأجاويد) ولكنها لا تلبث أن تذروها الرياح أمام إصرار السيد الصادق بالقول إن الذين خرجوا من الحزب ينبغي أن يعلنوا توبتهم واعتذارهم ومن ثم يأتوا لينخرطوا فيه كأفراد. وهل فعل السيد مبارك غير هذا يا صاح؟ بقراءة عجلى في الخطاب الذي ألقاه على الطائفة التي شهدت المصالحة، وضع السيد مبارك السيد الصادق في مكانه العلي الذي لم يتزحزح عنه أبداً (إن أخي الحبيب الإمام الصادق المهدي، كان وما زال بالنسبة لنا الأخ الأكبر، والزعيم لهذا الكيان الذي حمل الراية من الشهيد الإمام الهادي المهدي، وقاتلنا من خلفه نظام مايو حتى سقط، وناضلنا معه ضد نظام الانقاذ حتى رفع الراية البيضاء مستسلماً لمطالب الشعب في الحرية والسلام، إننا نجله، ونقدره، فهو قائد ورمز لهذا الكيان ورمز للوطنية السودانية، نفخر بمجاهداته الفكرية وتضحياته من أجل الكيان والوطن) وكامل الظن غير المأثوم أن السيد الصادق الذي كثر مادحوه، لم يسمع حديثاً شنَّف أذنه ومسَّ شغاف قلبه من قبل بمثلما فعل اطراء مبارك هذا، لا سيما، وقد كان حتى يوم امس الرجل الديناصور الذي تدثر بقيادة أبدية، وأصبح الحزب ضيعة له واسرته. وكان بالأمس الرجل الذي خان العهد، وفاوض نظام نميري من وراء حجاب، وتبوأ فيه المناصب التي تعبت من مرادها الأجسام. وكان حتى يوم أمس الزعيم الذي تسول من العصبة مال السحت، فمنحوه مليون دولار في الباطن حتى يحسن نقدهم في الظاهر. أليست تلك هي ذات الآيات الشيطانية التي ذرها مبارك على رؤوس الأشهاد أمس، واستبدلها اليوم بمزامير داؤود علها تطرب سامعيه، وعلى رأسهم المحتفى به رغم أنف الضالين!
لكن يبدو ان ذلك لم يفت على فطنة السيد الصادق الذي شعر أن السيد مبارك دفع الجزية وهو من الصاغرين، فبقراءة عجلى في الخطاب الذي ألقاه أيضاً في حفل المصالحة. لم يأت على ذكر سيرة خصم الأمس صديق اليوم (لا في طيف الغائيبن ولا صحيان الحاضرين) ولم يكن غريباً ان يخصص الصادق للمناسبة نفسها بضعة أسطر بتسلسله المعروف في تصنيف القضايا، ثم ولى وجهه شطر المسائل العامة، ووجه جل خطابه لها، أي جعل من المناسبة فرصة لطرح برنامجه الانتخابي بزهو تكاد تحسبه إنه اشتم رائحة القصر. ولكن هل يكفي أن تثور الخصومة كما البحار الهادرة، ثمَّ تهمد كسلى كما الحملان الوديعة؟ أليس حقاً على الناس عامة وناشطي حزب الأمة خاصة معرفة الاجابة على أسئلة تقف شاخصة أبصارها كأنها في يوم الحشر؟ تلك ذكرنا منها نذراً في الجزء الأول، ومع ذلك يبقى التأكيد على بعضها.. ومنها هل ما حدث كان مظهراً من مظاهر النفاق السياسي الذي تعج به الساحة السودانية أم أنه يعبر عن مصالحة حقيقية؟ وإن كانت مصالحة حقيقية فعلى أي أسس تمت؟ وهل يمكن أن لا تعيد الأزمة نفسها في صورة من الصور؟ فالحزب مطالب بوضع النقاط على الحروف بشفافية كاملة تحترم عقلية ناشطيه في المقام الأول، والذين نحسب أن كثير منهم اصابته الحيرة في مقتل، فلا استطاع يومذاك الصلاة خلف على ولا طاب له الجلوس في مائدة معاوية. كثيرون منهم وضعوا أيديهم على خدودهم معولين على الجنرال (زمن) لعله يدرأ المحنة بحلوله الكلاسيكية، وكثيرون كانوا قد أتخذوا موقعاً وسطاً، ليس لأنهم من أمة القرآن، ولكن لأنهم حفظوا عن ظهر قلب الحكمة الهندية القائلة إن الحشائش وحدها هي التي تتأذي من صراع الأفيال، وأخيراً ثمة قلِّة لزمت صمت القبور خشية أن تخرج من أفواههم كلمة كبرت ولا يستطيعون لها رداً.
إن الخصومة وفجورها وفق ما ذكرنا من قبل تكاد تكون منهجاً ثابتاً في أجندة السياسيين، بل كل القوى السياسية السودانية بلا استثناء. صحيح إنها في ظل القوى العقائدية تتسم بطلاق بائن لا رجعة فيه، حيث يمضي كل طرف في مسيرته القاصدة حاملا أوزار الطرف الآخر، في حين أنها تحتمل العفو والمغفرة في ظل القوى التقليدية، ولكنها بلا أسس ولا منهج مما يشيء بتكرارها مرة أخرى. والواقع أن كثير منها مجرد افتعال لقضايا قديمة، يريد قائلها أن يوحي لسامعيه إنه اكتشفها للتو واللحظة، في حين أنك تجده قد سبق وأن تعايش معها مثلما يتعايش مريض السكري مع دائه. ولهذا فالراجح عندي أن المنشق أو المنقسم رجل كذوب، وهو أضل وأشر، ما لم يعلن على رؤوس الأشهاد تحمله جزء من تلك التركة المخزية، وما لم ينتقد نفسه ويقول إنه أخطأ مرتين، الأولى حينما صمت على تلك الأخطاء التي كانت تجري أمام عينيه، والثانية عندما زين للناس تلك الأخطاء، جاعلاً من (فسيخها شربات) ودون هذا أزعم أن كل الحرس القديم الذين يدعون رفع راية الاصلاح والتجديد سواء في حزب الأمة أو أي احزاب أخرى، تبقى خطاويهم تلك مجرد محاولة لتحقيق طموحات قيادية، حالت ظروف ما دون وصولهم لها في ظل الأوضاع الطبيعية. وما حدث في حزب الأمة ومثيله في الاحزاب الأخرى هو نتاج طبيعي لما تعاني منه الساحة السياسية السودانية بشكل عام، والمتمثل في غياب ثقافة المساءلة، الأمر الذي جعل كثيرون يتباهون باقترافهم الجرائم الفظيعة والانتهاكات الخطيرة ويرددونها على الملأ كأنهم يعزفون على مسامعنا قطعة موسيقية تخلب الألباب!
أيها الناس لن ينصلح الحال بدون ديمقراطية مبرأة من العيوب، تنداح كما ينداح الضوء الشفيف في اروقة الأحزاب، لتعم البلاد بأسرها. ولن يطيب المآل إلا بالحوار البناء. ولن يستقيم الظل إلا بشفافية تعلي من قدر الانسان الذي كرمه ربّه. ولن تتقدم الأوطان إلا في ظل العدل المبسوط والمساواة الممدودة بين شعوبها. ولن تزدهر الأمم إلا باحترام حكامها لارادة شعوبها. وبالمقابل لن يقدم لها حكامها الديمقراطية في طبق من ذهب، ولن يخضعوا لمحاسبة طالما جلسوا القرفصاء على القانون، ولن يحترموا إرادة شعوبهم وهم قاهروهم، ولن يقيموا العدل فيهم وهم ناسخوه، ولن يرسخوا المساواة بينهم، وفي الناس من يزين لهم الفساد. فالحقوق - يا سادتي - تنتزع ولا تمنح.. أفيقوا واستفيقوا يرحمكم الله!!
عن صحيفة (الأحداث) السودانية 14/3/2010


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.