اتسم المشهد العام الذي صاحب الجدل حول تعيين رئيس القضاء الجديد بعد توقيع الوثيقة الدستورية بين المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير بالأحرف الأولى بشيئ من الغموض والضبابية، فقد تم ترشيح مولانا عبد القادر محمد أحمد، ثم برز لاحقاً اسم مولانا نعمات عبد الله، وسرت على وسائل التواصل الاجتماعي عدة تكهنات من بينها وجود عقبات قانونية ودستورية تحول دون تعيين رئيس القضاء قبل إصدار قانون القضاء العالي وتشكيل المجلس المختص. كما سرت بعض أقوال تفيد أن الوثيقة الدستورية (تم فتحها) وإدخال نصوص جديدة عليها لم تكن مضمنة في الوثيقة الموقعة بالأحرف الأولى، وتسمح لمجلس السيادة إلى حين تشكيل مجلس القضاء العالي، بتعيين رئيس القضاء. وتم تداول عدة نسخ، إلا أنها كلها موقعة ورغم ذلك تختلف بعض نصوصها. وهذا الغموض يلقي بظلاله على كافة نصوص الوثيقة الدستورية التي تم توقيعها وليس فقط النصوص التي تتعلق بكيفية تعيين رئيس القضاء. فمن غير المعلوم لعامة الشعب حتى كتابة هذا المقال الوثيقة الحقيقية التي تم التوقيع عليها بصورة نهائية، وتعد المستند الحاكم الذي ينظم الفترة الانتقالية، فلم يتم نشرها بصورة رسمية وإعلانها للملأ ومن بين الوثائق المتداولة ما نشره موقع تجمع المهنيين على موقعه الالكتروني ويحمل توقيع محمد حمدان دقلو وأحمد ربيع سيد أحمد، إلا أن هذه الوثيقة تثير عدداً من الأسئلة وتوجد عدة ملاحظات متعلقة بها تنتظر تفسيراً واضحاً ومقنعاً من المختصين الذين يقع عليهم هذا العبء بصورة رسمية. 1- تضمنت الوثيقة تعديلات بخط اليد في المادة (12) وعلى وجه الخصوص في ترقيمها، وهذا وضع بطبيعة الحال غريب، خاصة إذا وضعنا في الاعتبار أهمية الوثيقة ومناسبتها وظروفها وأنه أنفق وقت طويل في تحديد مضامينها وصياغتها، فليس من المعقول ولا من المهنية أن يتم عرضها للتوقيع بتعديلات خطية، وكان يمكن استدراك ذلك خلال الفترة المناسبة التي مرت منذ أن تم توقيعها بالأحرف الأولى. 2- اختلفت نصوص هذه الوثيقة عن نصوص الوثيقة التي تم التوقيع عليها بالأحرف الأول في أنها تضمنت آلية لتعيين رئيس القضاء والنائب العام ، حيث أضافت نصاً جديداً في المادة (12-1) أجازت بموجبه لمجلس السيادة أن يعين رئيس القضاء خلال الفترة التي لا يتم فيها تشكيل مجلس القضاء العالي، وتعيين النائب العام خلال فترة عدم تشكيل المجلس الأعلى للنيابة. 3- تضمنت هذه الوثيقة نصاً مضافاً أجاز للمجلس التشريعي الانتقالي، تعديل الدستور بأغلبية ثلثي أعضاء المجلس التشريعي الانتقالي، وهو نص لم يرد في الوثيقة الموقعة بالأحرف الأولى. ومن الواضح أن النص قد أدرج على عجل ، فلم يستصحب المشكلات الدستورية السابقة في تاريخ القضاء السوداني، وعلى وجه الخصوص ما ورد في قضية جوزيف قرنق (ضد) حكومة السودان وهي القضية المشهورة بقضية حل الحزب الشيوعي. وخلصت فيها المحكمة إلى رأي عابر مفاده أن بطلان حل الحزب الشيوعي ينبني على عدة أحكام من بينها أن قرار الحل حتى لو استند على أحقية الجمعية التأسيسية في تعديل الدستور بما يسمح بحل الحزب الشيوعي فإنه يستلزم أن يكون بموافقة ثلثي مجمل أعضاء الجمعية التأسيسية وليس ثلثي الحاضرين الذين قاموا بالتصويت، وقد كان أحد أوجه النقد الأكاديمي الذي وجه لقرار المحكمة هو عدم التسليم بما ذكرته المحكمة في هذه الحالة، وذهب المعارضون للحكم إلى أن التعديل يمكن أن يكون بأغلبية الحاضرين وليس كل أعضاء الجمعية التأسيسية. وبالنظر للصياغة التي ورد بها النص المضاف في الوثيقة الدستورية فإنها لم تستدرك هذا الضعف البائن، الذي كان سبباً في أحد أخطر أزماتنا الدستورية خلال فترة الديمقراطية الثانية. وتواجه صياغة النص بالطريقة التي وردت في الوثيقة المعدلة نفس المخاطر السابقة التي واجهها حكم قضية جوزيف قرنق المذكورة. 4- لم يتم إلحاق توقيعات الشهود على الوثيقة وهم عدد من الأشخاص بما فيهم رئيس الوزراء الأثيوبي ورئيس الوزراء المصري. وقد جرت العادة في الاتفاقيات أن تكون مساحة توقيع الشهود على الاتفاقية مباشرة بعد توقيع الأشخاص المفوضين بالتوقيع من قبل أطراف الاتفاقية. والسؤال الذي يتعين الإجابة عليه وتمليك الحقائق الكاملة بشأنه للشعب هو ما هي الوثيقة الدستورية النهائية المعتمدةو متى تمت التعديلات عليها، فهل كان ذلك قبل التوقيع على الوثيقة النهائية، أم أنها أضيفت بعد التوقيع النهائي. وهذه أسئلة مشروعة نظراً للغموض وعدم الشفافية التي تكتنف الموقف كله. وفي تقديري أن أحد أسباب هذا الغموض هو عدم قيام وزارة العدل بما عليها من التزام بنشر نصوص الوثيقة الدستورية المعتمدة بصورة رسمية، وتنوير الشعب بها. وهو التزام موثق بموجب نصوص قانون تنظيم وزارة العدل لسنة 2017 الذي أوضحه في مادته الرابعة وألقى على عاتق وزارة العدل نشر التشريعات والتدابير التشريعية في الجريدة الرسمية وكافة وسائل النشر.. وقد جرى العرف قديماً على أن تقوم وزارة العدل بنشر التشريعات من خلال الجريدة الرسمية التي كانت تصدر ورقياً، وتحول في كثير من الأحيان دون صدورها مصاعب الطباعة الورقية وعراقيلها.وربما يكون هذا السبب هو الذي قعد بالوزارة عن نشرها ورقيا. إلا أن هذا العذر يتهاوى في وقت أصبحت فيه وسائل التواصل الالكتروني صاحبة الغلبة في التنوير والتوعية، وسمح التشريع المنظم بنشر التشريعات من خلال كافة وسائل النشر. فكان على الوزارة أن تنشر الوثيقة على الأقل في موقعها الالكتروني وهو موقع رسمي ومعتمد. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.