عدم المهنية، والتعتيم، كلمات أصبحت كالمتلازمة للإعلام السوداني، فسياسة الصمت والتعتيم ودفن الرؤوس في الرمال لم تعد مجدية في هذا العصر العجيب، فأنت قد تخشى ذات يوم أن تهمس في أذن زوجتك بكلمة حب. ما علينا .. وهنا أشير في خضم الهجوم على الإعلام السوداني إلى أحداث قريبة وليست من غابر العصر والأوان .. فالأحداث التاريخية يتم تخزينها في العقل الإنساني ولكنها لا تنمحي أبداً فهي تُستدعى عند الضرورة فينكشف الغطاء وتُعقد المقارنات وصولاً إلى دروس مُستفادة .. ولكن لدينا الدروس هي الدروس التي تزول بزوال الامتحان، فتُمزَّق الكتب وتُكسَّر الأقلام ويجف المداد، ولا فائدة .. هل هنالك جني مخصوص يُعمل في عقولنا كيف شاء بالمسح أو الكشط أو الشخبطة .. ففي كل نازلة تُسن الأقلام منتقدة الإعلام السوداني، وعند انقضاء النازلة ومرورها مثلما تمر على عقولنا مثل الماسح فتمسح كل شيء .. ونعود لنغني كثيراً ونرقص كثيراً كل حسب غناه وحسب رقصته، فأنت مكفول لك حرية الرقص (الصقرية.. والعاجكو .. والمردوم .. والكيرنج، والكمبلا .. إلخ) وأيضاً متاح لك أن تمدح رسولك الكريم عليه الصلاة والسلام، ومسموح لك في ذلك أن تنصب قناة كاملة للرقص على أنغام المدائح مقيماً في ذلك الحفلات الصاخبة التي يختلط فيها الحابل بالنابل، تماماً كأنك في عرس، فأنت تجد الموسيقى الصاخبة والرقص الهستيري (ولا أدخل في طائفة من يسميه ذكراً بكل حال من الأحوال)، وفي خضم ذلك فأنت تشاهد المادحات بعد أن أسبغت عليهن لقب (المادحة فلانة أو علانة، وهن مغنيات في الأصل) في أبهى زينة ومظهر، فتخجل أن تتمعن في وجه تلك المادحة وهي تذكر الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام .. ومسموح أيضاً من شلة الفنانين الذين انقلبوا بقدرة قادر إلى مادحين أن يأخذوا من التراث الجاهز ويضيفون إليه قليلاً من الموسيقى والايقاعات، وفي الآونة الأخيرة أصبحت الأوركسترا كاملة مكملة يقودها كبار العازفين والعازفات .. فكم من مادح (فنان مغنٍ بالضرورة) في معرض اللقاءات الطويلة المملة تطرق إلى أنه من أسرة دينية، وجده أول من أنشأ خلوة في قريتهم .. فإذا صدقنا أن لكل فنان جد كان شيخ خلوة لكان كل السودانيين شيوخ خلاوي .. ومسموح لأي مادح (وفي قول آخر راوٍ) أن يرفع الفاعل بالكسر، أو يكسر المفعول به بالفتح، آسف لهذا الاستطراد فهي فرصة كنت أتحينها. نعود إلى متلازمة الفشل الإعلامي، عدم المهنية، والتعتيم، ودونكم سقوط إعلامنا عقب مباراة مصر والجزائر في السودان، والآن تأتي وفاة المحترف النيجيري إيداهور، فخسرنا المعركة الأولى بالخنوع والصمت مع بعض الأصوات المتضجرة على استحياء، وفي الواقعة الثانية ظل يردد المذيع بعد سقوط لاعب المريخ الراحل (إيداهور) على الأرض أنه تعرض لإصابة بالغة ثم أخذ يتحدث عن الأخلاق الرياضية في إدانة ظالمة للاعبي (الأمل) برغم أن المخرج أعاد لقطة السقوط أكثر من مرة، وشاهد كل من يجلس أمام التلفزيون أن اللاعب سقط تلقائياً وكان قبل السقوط منحنياً وهو يسند يديه على ركبتيه، فاستيقنوا أن سقوط اللاعب كان تلقائياً، ولم يتعرض له أحد بأذى، وكان الهروب بالانتقال إلى الأستديو، وزمان كان تطالعنا دائماً لافتة (نأسف للعطل الفني)، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى، هذه تشبه الجريمة المشاهدة فأنت أمامك مشهد معين بأبطاله ومخرجيه وكل (الكاست) وأنت إنسان بكامل قواك العقلية والإدراكية .. بمعنى أنك شاهد عيان .. فعندما أحكي لك هذا المشهد وأقوم بحذف بعض العبارات أو أقحام عليك بعض الأحداث فأنت لا محالة في أفضل الأحوال ستحول وجهك عني. فبربكم ألم نكن حضوراً أمام شاشات التلفاز؟! الإعلام السوداني مطالب بالاحترافية والمهنية .. وهنا أتساءل أين كليات الإعلام في بلادنا .. وإلى أين يذهب خريجوها؟! أما آن الأوان أن يُعطى الخبز لخبازه حتى ولو أكل بعضه؟!!