تناولت الحلقة الأولى المعانى المركبة لمفردات الحرية والسلام والعدالة، من دون ربطها بالسياق السودانى. والان كيف قاربت ترتيبات المرحلة الانتقالية قضايا الحرية والسلام والعدالة؟ فى موضوع الحرية تضمنت الوثيقة الدستورية او الاعلان الدستورى "وثيقة الحقوق والحريات" التى افرد لها الفصل الرابع عشر من الاعلان. وكما هو معلوم، نقلت هذه الوثيقة من دستور 2006 مع بعض التعديلات. وقد أشار بعض القانونيين الى ضرورة ضبط الصياغة فى بعض المواد او تعديل بعض العبارات هنا وهناك لإزالة اى التباس. وعلى الرغم من هذه الملاحظات السديدة إجمالاً، تظل وثيقة الحقوق إنجازاً كبيراً، خاصة ادا ما تم التعاطى معها بالجدية اللازمة من قبل السلطات التنفيذية والقضائية وكافة الجهات المولج بها تطبيق القانون وحماية الحقوق والحريات. من النقاط الإيجابية والهامة في وثيقة الحقوق الواردة في الإعلان، المادة 41 التي تنص في فقرتها الثانية علي اعتبار ان "كل الحقوق والحريات المضمنة في الاتفاقيات والعهود والمواثيق الدولية والإقليمية لحقوق الانسان التي صادقت عليها السودان جزءً لا يتجزأ من هذه الوثيقة. كما تنص الفقرة الثالثة من نفس المادة علي أن " تنظم التشريعات الحقوق والحريات المضمونة في هذه الوثيقة ولا تصادرها او تنتقص منها ولأتقيّد هذه الحقوق الا لضرورة يقتضيها المجتمع الديمقراطى". هذه نصوص علي قدر كبير من الأهمية، اذ تعطي الفقرة (41 (2) المعايير الدولية لحقوق الانسان التي التحق بها السودان ضمن الوثيقة الدستورية والتي تعتبر القانون الأعلى في البلاد خلال الفترة الانتقالية. اما الفقرة الثالثة من نفس المادة (41 (3)، فهي تبين بوضوح ان القانون المشار اليه يجب ان يكتفي بالتنظيم لا التقييد الا بالقدر الضروري، وبانسجام مع متطلبات المجتمع الديمقراطى، وهذه نقطة أشرنا اليها في مطلع هذا المقال. اشارت الوثيقة أيضا الي التزام الدولة " بحماية وتعزيز هذه الوثيقة وكفالتها للجميع دون تمييز..." (المادة 42)؛ وهذا نهج حميد يؤكد علي التزام الدولة بحماية حقوق الانسان بصفة عامة والحقوق والحريات الواردة في الوثيقة علي وجه التحديد، بجانب النص علي البند الحقوقي الهام المتعلق بعدم التمييز. كما نصت الوثيقة علي حرمة الحقوق والحريات اذ تنص المادة (66): "... لا يجوز الانتقاص من الحقوق والحريات المنصوص عليها في هذه الوثيقة، تصون المحكمة الدستورية والمحاكم الأخرى هذه الوثيقة وتحميها وتطبقها، وتراقب مفوضية حقوق الانسان تطبيقها في الدولة". تبقي ان نشير الي ان وثيقة الحقوق هذه لن يكون لها قيمة عملية وفاعلة علي ارض الواقع الا إذا تم الغاء وتعديل كافة القوانين والنصوص التي تناقض روح ونصوص وثيقة الحقوق والحريات او تلك التي تناقض الاتفاقيات الدولية. بالطبع أشار الإعلان الدستوري في مهام الفترة الانتقالية الي "الغاء النصوص المقيدة للحريات او التي تمييز بين المواطنين على أساس النوع". هذا النص على أهميته اتي مجملًا نوعا ما، ذلك لان هنالك قوانين محددة تتناقض صراحة مع معايير حقوق الانسان وتتعارض مع وثيقة الحقوق الراهنة؛ هذه القوانين والنصوص يجب إعادة النظر فيها بغرض اتخاذ الاجراء اللازم من تعديل او الغاء بما يزيل التعارض. استطرادا نقول انه آن الأوان للخروج من كنف العبارة المجملة الغامضة أحيانا: " الغاء القوانين المقيدة للحريات" وهي تنتمي لحقبة سابقة لهذا العصر ولأتأخذ في اعتبارها التطور الكبير الذي حدث في منظومة حقوق الانسان وقد يكون مفيدا التذكير هنا بما حدث بعد اعتماد دستور 2005 الانتقالي، اذ طالب العديد من الحقوقيين وعلي راسهم الراحل د. امين مكي مدني بالنظر في بعض القوانين التي تتعارض مع وثيقة الحقوق المضمنة في دستور 2005 (مثل القانون الجنائي والنظام العام ...الخ) ولكن عارضت حكومة الوحدة الوطنية وبرلمانها حينذاك هذا المطلب الذي كان سيؤدي الي تعزيز الدستور وتفعيل وثيقة الحقوق المضمنة فيه والتي كانت بالفعل عملا رائدا في تاريخ الدساتير السودانية لكنها ظلت نصوصا معلقة في الهواء تعاني من غياب الإرادة السياسية وعدم الاحترام من قبل السلطات القائمة. لا نريد ان يحدث نفس الشيء مع وثيقة الحقوق التي ضمنّت في الإعلان الدستوري الذي سيحكم الفترة الانتقالية ويجب التنويه هنا الي ان الإعلان قد أشار في مادته الرابعة الي ان "هذه الوثيقة هي القانون الأعلى في البلاد وتسود احكامها على جميع القوانين ويلغي او يعدل من احكام القوانين ما يتعارض مع احكام هذه الوثيقة الدستورية بالقدر الذي التعارض." وبما ان وثيقة الحقوق تعتبر مكوّنا اصيلا من الإعلان الدستوري فيجب بالتالي إعادة النظر في كافة القوانين التي تتعارض مع وثيقة الحقوق والحريات وتعديلها بما يزيل ذلك التعارض. قاربت وثيقة الإعلان الدستوري موضوع العدالة الانتقالية في عدة مواضع. ففي الفصل الأول اشارت بوضوح الي التزام السلطة الانتقالية "بإنفاذ حكم القانون وتطبيق مبدا المساءلة ورد المظالم والحقوق المسلوبة" (المادة 5(2)). كما نصت الفقرة الثالثة من نفس المادة على ان جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والقتل خارج نطاق القضاء وانتهاكات حقوق الانسان والقانون الإنساني الدولي وجرائم الفساد المالي وكافة الجرائم الناجمة عن إساءة استخدام السلطة لا تسقط بالتقادم. (أي الجرائم المرتكبة منذ 30 يونيو 1989). الي ذلك اشارت المادة السابعة التي تعني بمهام المرحلة الانتقالية الي "العمل على تسوية أوضاع المفصولين تعسفيا من الخدمة المدنية او العسكرية والسعي لجبر الضرر عنهم وفقا للقانون" كما اشارت نفس المادة الي إعادة بناء وتطوير المنظومة الحقوقية والعدلية وضمان استقلال القضاء (المادة 7 (5-6)) وكما هو معلوم نصت الوثيقة الدستورية على تشكيل مفوضية للعدالة الانتقالية ضمن المفوضيات المستقلة التي جرى تفصيلها في الفصل الثانى عشر من الوثيقة. يتميز موضوع العدالة الانتقالية بالتعقيد والتشابك في السياق السوداني بل لعله من أكثر الملفات التي ستجابه السلطات الانتقالية تعقيدا ذلك ان ارث انتهاكات حقوق الانسان شائك ومركب. فهنالك الانتهاكات التي وقعت في سياق النزاعات المسلحة في دارفور جنوب كردفان والنيل الأزرق، وهذه الانتهاكات لا تتعلق فقط بما قامت به القوات الحكومية والمليشيات الموالية لها بل أيضا ما قامت بها الفصائل المسلحة المعارضة. ومن نافلة القول ان هذ النهج ضروري في ميزان العدالة. هنالك بالطبع انتهاكات حقوق الانسان التي وقعت خلال نظام الإنقاذ بحق افراد ومجموعات طوال الثلاثة عقود الماضية من اعتقال تعسفي، تعذيب وقتل خارج نطاق القضاء ومحاكمات جائرة بل وصورية أحيانا. هنالك ملف المفقودين سواء في سياق الحروب او غيرها من الانتهاكات ثم هنالك ملف المفصولين تعسفيا (من الخدمة المدنية او العسكرية) والذين فقدوا املاكهم كليا او جزئيا نتيجة تغول من السلطات او من يحسب على النظام. هذه الملفات تتطلب رؤية شمولية للكيفية الأمثل في التعاطي معها واعتماد نهج يتمسك بميزان العدالة والانصاف من جانب، ويعطي التقدير الكافي للاعتبارات العملية والإمكانات المتاحة للبلاد في الوقت الراهن ومن الضروري في المبتدأ ان تسعي مفوضية العدالة الانتقالية لإجراء مشاورات واسعة حول البرنامج المنشود للعدالة الانتقالية والتدابير التشريعية والسياسات التي يمكن تبنيها لتفعيله على الأرض بغرض الوصول لتوافق عام حول هذا البرنامج الامر الذي سيسهل من تطبيقه خلال الفترة الانتقالية. هنالك دول قليلة في المحيط الإقليمي (الافريقي والعربي) اجتازت بنجاح تجارب العدالة الانتقالية رغم ان هذه التجارب لم تخلو من انتقادات من الحقوقيين والضحايا (انظر تجارب جنوب افريقيا والمغرب على سبيل المثال)، على ان غالبية بلدان الربيع العربي تم تتمكن من شق طريقها نحو انجاز برنامج للعدالة الانتقالية يسدل الستار على انتهاكات الماضي ويرسم طريقا جديدا لمجتمع تسود فيه قيم العدالة واحترام حقوق وكرامة الانسان. نأتى من ثم الى ملف السلام. لا جدال فى ان قضية السلام تأتى فى مقدمة القضايا التى تواجه الحكومة الانتقالية المقبلة. وغير بعيد عن الأذهان ان فترات الانتقال التى اعقبت ثورة اكتوبر وانتفاضة ابريل عانتا كثيراً من غياب مشروع السلام قادر على جذب الحركات المسلحة وقتئذ للانخراط فى العملية السياسية، والإسهام فى التحول الديمقراطى للبلاد؛ فاستمرت الحرب الأهلية فى الحالتين. الان وعلى ما يبدو تم الانتباه باكراً لهذا الموضوع حتى قبل نجاح الثورة، ثم تم أفراد مساحة معتبرة لقضايا السلام فى الوثيقة الدستورية. اولاً، وضعت الوثيقة قضية السلام فى صدارة مهام المرحلة الانتقالية كما جاء فى المادة 7(1) التى تنص على "العمل على تحقيق السلام العادل ...،". ثم أفردت الوثيقة الفصل الخامس عشر لقضايا السلام الشامل، والذي وضع قيداً زمنياً يقضى بإتمام اتفاق السلام الشامل فى فترة لا تتجاوز ستة أشهر من تاريخ التوقيع على الاتفاق. وقد فصّلت المادة 68 فى الكثير من القضايا ذات الصلة بموضوع السلام مثل وقف العدائيات، فتح الممرات الإنسانية، إطلاق سراح الأسرى والمحكومين بسبب الحرب، إرجاع الممتلكات التى تمت مصادرتها خلال الحرب ... الخ. كما اشارت هذه المادة الى ضرورة المحاسبة على الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب، "أعمالاً لعدم الإفلات من العقاب". الى ذلك أكدّت المادة على حقوق النازحين واللاجئين وخاصة حقهم فى استرداد ممتلكاتهم التى خسروها إبان النزاع او التعويض عنها. فى موضع اخر، اشارت الوثيقة الى قضايا هامة لتحقيق السلام مثل إيلاء اهتمام خاص للمناطق المتأثرة بالنزاع، بما فى ذلك معالجة قضايا الحكم والإدارة فى هذه المناطق وعلاقتها بالمركز، مسالة الأراضى، الترتيبات الأمنية، المساواة بين المواطنين؛ أي كل ما من شانه ان يسهم فى الوصول الى " سلام شامل وعادل". (المادة 68). وبغض النظر عما هو وارد فى الوثيقة الدستورية او ما سيرد لاحقاً من اتفاقات مع الفصائل المسلحة مجتمعة او قسم منها، فالعبرة هى ما يحدث على الأرض من ترتيبات أمنية او سياسية/ادارية لتفعيل أيّ اتفاق، او البرامج التى تستهدف النازحين او اللاجئين، او المناطق التى كانت مسرحاً للنزاع والحرب؛ وهنالك دائماً ضرورات بناء الثقة بين كافة الأطراف، حتى يصبح ممكناً تنفيذ برامج السلام بنجاح. اذن هنالك العديد من المسائل التى تتصل بموضوع السلام: بعض منها يمكن بحثه بغرض الوصول الى اتفاقات وتفاهمات حولها بغرض ادراجها فى الاتفاقيات المعنية، والبعض الآخر يحتاج لمعالجات واجراءات عملية يتم الشروع فيها بعد التوصل لاتفاق سلام، ولكن لن يكتمل إنجاز السلام الا بإنجاز هذه الإجراءات بصورة مرضية. فيما تبقى من هذا المقال، سأتناول نقطتين، الاولى ذات طابع مفاهيمى تتعلق بالصيغة التى يتم من خلالها التوصل الى اتفاق للسلام، والثانية ذات طابع عملانى تتعلق بقضية نزع السلاح. فيما يتعلق بالصيغة التى بمكن من خلالها التوصل للسلام المنشود، فان نظرة عجلى للتجربة السودانية فى هذا المضمار تشير الى ان النموذج الذى استقر مؤخرا هو نموذج تقاسم السلطة والثروة الذى طبق فى اتفاقية السلام الشامل 2005، ثم جرت محاولات تطبيقه بنجاح اقل فى كافة الاتفاقيات المتعلقة بالنزاع فى دارفور، ومن ابرزها اتفاقيات أبوجا والدوحة. والسؤال هو: هل ستصلح هذه الصيغة فى انجاز سلام شامل وعادل فى الظروف الراهنة، بل هل أنتجت سلاماً عادلاً فى التجارب السالفة؟ الإجابة فى تقديرى هى لا فى الحالتين. واقع الحال ان هذه الصيغة تمخضت فى غالب الأحيان عن شراكة فى السلطة بين النخبة المسيطرة على الحكم فى البلاد (المركز) وقسم من قيادات الحركات المسلحة؛ او ان شئت قل هو اتفاق مشاركة فى السلطة بين بعض النخب - سياسية وعسكرية - بين المركز والأطراف. ولم يؤد هذا النوع من الاتفاقيات الى احلال سلام جدّي فى المناطق المتأثرة بالحروب، بل لم يؤد حتى الى عودة النازحين الى مناطقهم، ولعل دارفور - التى استمرت معاناة أهلها لما يزيد عن الخمسة عشر عاماً - خير نموذج على هذا القصور. قد يقول قائل ان هذه التجارب لا تصلح دليلاً على فساد الصيغة نفسها لأنها أبرمت مع نظام لم يكن حريصاً على السلام قدر حرصه على الحفاظ على سلطته من المخاطر والتهديد الذى تشكلّه الجماعات المعارضة المسلحة، وبالتالى فقد استخدم صيغة تقاسم السلطة لإغواء بعض القيادات من الحركات المسلحة وشق صفوفهم، هذا فضلاً عن جزئية الاتفاقات نفسها التى أبرمت مع بعض الفصائل دون غيرها. كل هذا صحيح، لكن هنالك بالفعل اشكالية فى صيغة تقاسم السلطة اذ انه كثيراً ما يتم الاكتفاء بها دون إيلاء الاهتمام الكافى لمتطلبات السلام الأخرى، بجانب انها كثيراً ما تحصر تمثيل مناطق النزاع فى حملة السلاح مع تغييب شبه كامل لكافة اهل تلك المناطق الذين تضرروا من الحرب فى المقام الاول. إذا سعينا لتقديم مقاربات أخرى لقضية السلام الشامل تتجاوز صيغة تقاسم السلطة التى تسيّدت المشهد ردحاً من الزمان، يمكن ان نقدم مقاربة من شقين: الاول حقوقى، والثانى تنموي. اما المقاربة الحقوقية فتسعي الي اعتماد المساواة في الحقوق وأمام القانون للجميع وعلي أحقيّة كل شخص في ان يطمح لتولي ارفع المناصب في البلاد بغض النظر عن خلفيته الجهوية او العرقية، وأحقية كل شخص في المساهمة الفاعلة في إدارة الشؤون العامة لبلاده علي كافة المستويات محلية كانت أم قومية ومن الضروري أن يلحق بهذه المبادئ المعروفة (والتي اقرتها وثيقة الحقوق) سياسة قاصدة لتمكين المجموعات المستضعفة او المهمشة التي تعاني من التمييز والاقصاء او التهميش مثل أعضاء مجموعات الأقليات الاثنية او الثقافية او الدينية، فضلا عن المرأة والشباب والأشخاص ذوي الإعاقة. في نفس السياق يجب اعتماد سياسة واضحة من قبل الدولة تهدف الي مجابهة قضايا العنصرية والاستعلاء العرقي او الثقافي وذلك عبر تشريعات وسياسات وتدابير صارمة تصل حد التجريم وان تسهر الدولة علي تطبيقها. اما المقاربة التنموية وهي كانت ولاتزال موضع اتفاق علي الصعيد النظري، فتنطلق من إيلاء اهتمام خاص لتنمية المناطق التي عانت من النمو غير المتوازن علي مر العقود، كما عانت من الإهمال بل والتهميش المتعمد. التعاطي مع هذا الملف المعقد يجب ان يأخذ في الاعتبار ما حدث من تطورات في البلاد خلال العقود الماضية وما حدث من تغيرات ديموغرافية وفي بنية الاقتصاد المحلي من جراء النزوح القسري وغيره من متعلقات النزاعات المسلحة. اذن لابد ان تنطلق المقاربة التنموية من الواقع الراهن ثم تمضي نحو وضع سياسات تنموية تسعي لإعادة التوازن التنموي؛ تأخذ في الاعتبار حوجه المجتمع المحلي (عبر مشاورات واسعة وشفافة) ضمن التوجه الكلي للاقتصاد القومي مع وضع الاعتبار الكافي للإمكانيات الكامنة والمتاحة. نأتي لقضية نزع السلاح والتي هي من كبري المعضلات التي تجابه أي حكومة تنجح في ابرام اتفاق للسلام مع فصيل مسلح معارض. اما في حالة السودان فالأمر على قدر أكبر من التعقيد. ففضلاَ عن الحركات المسلحة المعارضة، هنالك العديد من الفصائل المسلحة الموالية للحكومة (في العهد السابق - حكومة البشير). في حالة الفصائل المسلحة المعارضة فلابد ان يتضمن أي اتفاق للسلام إجراءات محددة حول نزع السلاح، التسريح وإعادة الدمج لمقاتلي هذه الفصائل وفق برامج محددة يمكن تطبيقها بمساعدة الأممالمتحدة مكا سلفت الإشارة. ولكن لابد من توفر الإرادة لجميع الأطراف وتوفر مناخ ملائم يرجح كفة الانخراط في العمل السياسي وبناء السلام بدلا من الاستمرار في حمل السلاح. اما قضية المليشيات الموالية للسلطة فهي على درجة أكبر من التعقيد، ذلك أنها لم تعد تمثل ميليشيات موالية للحكومة بعد الثورة بل ربما أصبح يمثل بعضها على الأقل ذراعا مسلحا للثورة المضادة. التعاطي مع هذه الميلشيات يتطلب قدرا كبيرا من الصرامة ويقوم على محورين: الأول حلها وفق منظومة نزع السلاح، التسريح وإعادة الدمج. والمحور الثاني ادماج بعضها الاخر ضمن القوات النظامية وفق ترتيبات محددة. والمطلوب قبل كل شيء هو توفر المعلومات الكافية حول عدد هذه الميلشيات وتواجد عناصرها والسلاح المتوفر لديها واماكنه. وكل هذه مهام شائكة ولكنها ضرورية وفي الحالتين (الفصائل المعارضة او المليشيات الموالية للنظام السابق). يجب ان تنطلق أي معالجة من حيثية ان الدولة هي الجهة الوحيدة التي تحتكر " العنف الشرعي" حسب مقولة عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر. هذا يعني في واقع السودان ان ينحصر السلاح في ايدي القوات المسلحة والشرطة وجهاز المخابرات الوطني (مع الاخذ في الاعتبار التغيير المتوقع في مهماته حسب نصوص الوثيقة الدستورية). هذا بالطبع يتطلب اصلاحا كبيراً ومؤسسيّا لأجهزة الجيش والشرطة والامن حتي تتحول الي أجهزة مهنية قومية تخدم البلاد وتحفظ فيها امن المواطن قبل امن النظام وقادرة على الدفاع عن البلاد والسيطرة على كافة أنواع التفلتات. ولعل من أكبر إشكاليات الوثيقة الدستورية كونها لم تنص صراحة على مهمة اصلاح القوات النظامية وجهاز الامن، كما لم تنص صراحة علي تبعية هذه القوات للسلطة التنفيذية. وبغض النظر عما سكتت عنه الوثيقة الدستورية، تظل قضية إصلاح القوات النظامية قضية ملحّة. وبالطبع فإن مهمة إصلاح القوات النظامية لن تستكمل بين ليلة وضحاها، لكن لابد من اتخاذ الخطوات اللازمة لنجاح هذا الهدف رغم الصعوبات والتحديات، ما ظهر منها وما استتر. هذه إحدى تحديات السلام التي يتطلب التعاطي معها قدراَ من الحكمة وبعد الرؤية. وبعد، لقد تركز حديثنا ضمن إطار الوثيقة الدستورية وما نصت عليه من هياكل ومبادئ تسترشد بها الحكومة الانتقالية، ومهام تشكل عنواناً لمرحلة الانتقال. على أن نجاح هذه المرحلة الانتقالية يتوقف الى حد كبير على السياسات والتدابير التى ستبلورها الحكومة الانتقالية وتعكف على تنفيذها حتى تضع اللبنات الاولى لمجتمع الحرية والسلام والعدالة. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.