عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته. إن الباعث على كتابة هذه السلسلة من المقالات، هو ضرورة إعادة بناء الدولة السودانية القومية التي شاب نشأتها الأولى الكثير من القصور والتشوهات. وننطلق من فرضية أن الحركة السياسية السودانية بكل أجنحتها لم تتفق على بناء الدولة حتى اليوم. ونرى في ثورة الشباب، ثورة ديسمبر فرصة حقيقية في إعادة النظر في الأسس التي قام عليها السياق السياسي القديم والدولة القديمة من اجل بناء السزدان الجديد عبر إحداث قطيعة تامة مع السياق السياسي القديم. (1) التيارات السياسية المتوازية – تكريس الإقصاء ثمة قول مأثور لرجل الدولة الإنجلو أيرلندي إدموند بيرك ( 1729 – 1796) يقرر فيه أن "أولئك الذين لا يعرفون التاريخ مقدر لهم أن يكرروه" قناعتي أن المقولة أعلاه تنطبق حرفياً على الحركة السياسية السودانية في مسيرتها الطويلة التي قادت فيها البلاد عبر طريق دائري مفرغ من التيه، لا يفتأ يعود لنقطة البداية في حركة تكرار دائرية مبهمة الغايات: (ديموقراطية لفترة قصيرة – انقلاب عسكري لفترة مطولة – انتفاضة شعبية. ثم تبدأ الدورة الشريرة من جديد(. لكن دعونا نذكر محاسن موتانا أولاً ونثبت للحركة السياسية السودانية ما انجزت. فالسودان يتمتع، مقارنة مع مثيلاته من أقطار العالم الثالث، بحركة سياسية عريقة تعود بداياتها لبدايات القرن العشرين. وقد إستطاعت هذه الحركة السياسية العريقة، أن تقيم المؤسسات السياسية المدنية التعددية وأن تنجز إستقلال البلاد من خلال هذه المؤسسات السياسية الحزبية التعددية وفي وقت مبكر، مقارنة مع الدول ذات الظروف المشابهة في العالم. ومع كل ذلك فان واقع الحال يقول بوضوح أن الحركة السياسية السودانية لم تفعل شيئاً لصالح تأسيس الوطن القومي السوداني سوى إنجاز الإستقلال. فمنذ أن حصلت البلاد على إستقلالها وسيادتها فجر عام 1956م، لم تستطع الحركة السياسية السودانية أن تخطو بالبلاد خطوة واحدة إلى الأمام في طريق الإستقرار السياسي والإزدهار الإقتصادي وترسيخ القومية ومحو القبلية وتركيز ضمانات الوحدة والحرية والعدالة والمؤسسية. ومن اجل تأسيس فهم متماسك للحركة السياسية السودانية يمّكن من بناء تحليل نقدي متماسك، دعونا نبدأ بتأمل أهم مظهر تجلت فيه الحركة السياسية السودانية منذ بداياتها، ألا وهو حقيقة توزعها على ثلاثة تيارات سياسية مستقلة عن بعضها البعض ومتوازية بحيث تنعدم بينها الأرضية المشتركة. فمعروف أن الحركة السياسية السودانية منذ نشأتها وحتى اليوم تنقسم حول ثلاثة تيارات رئيسية هي: = تيار عروبي التوجه: = تيار ديني التوجه: = إتجاهات حداثية علمانية: ونظرة واحدة للتيارين السياسيين الكبيرين، - العروبي والديني – الأقدر، جماهيرياً، على حكم البلاد، تكشف عن انعدام تام لأي أرضية مشتركة بينهما. ويتضح هذا بجلاء إذ سقنا التوجهات السياسية لهذين التيارين إلى نهاياتها المنطقية خلال فترة تأسيس الدولة السودانية قبل عام 1956. فإذ كان التيار الإتحادي ينادي بضم السودان لمصر بصيغة من الصيغ، فان هذا لكي يتحقق لابد من إجتثاث وإزالة التيار الإستقلالي الديني من الوجود. فلا يعقل أن تقبل الدولة العربية الكبيرة التي تضم مصر والسودان وجود تيار سياسي قوي يسعي لفصل جنوب الوادي عن شماله. فذلك سيكون خيانة وطنية. وبالمقابل فان الدعوة الإستقلالية الدينية إذا تحققت وحكمت، فلا مناص من اجتثاث وأزالة التيار الإتحادي من الوجود. إذ لا يعقل أن تسمح الدولة المهدية الدينية وغالبا ما تكون ملكية، بوجود تيار سياسي قوي ينادي بمحو السودان من خريطة العالم بضمه إلى مصر. فذلك سيكون خيانة وطنية. أما الإتجاهات الحداثية العلمانية، فقد كانت من الضعف والتشرزم بحيث أنها لم تشكل أي نوع من الفعالية السياسية المؤثرة في تحديد تصور لمستقبل سودان ما بعد الإستقلال. فقد كان واضحا أن السودان أمامه خيارين لا ثالث لهما، هما بسط السيادة المصرية عليه أو الإستقلال تحت رأية المهدية الثانية. وهذا هو تحديدا مضمون ما عرف بإتفاقية الحكم الذاتي لعام 1953، التي كان من المفترض أن تنتهي بإجراء استفتاء عام حول هذين الخيارين. وإزاء الواقع السياسي الذي كان سائداً وقبضة دولتي الجكم الثنائي التي لا تسمح بالفوضى وتفجر الصراع المؤجل بين جناحي الحركة السياسية المتوازيين، فقد رضيت هذه الحركة السياسية باتخاذ النظام الديموقراطي على مضض. غير أن نظام الحكم الديموقراطي يتطلب وجود أرضية مشتركة في الحد الأدنى، تجمع كل أجنحة وتيارات الحركة السياسية، كما يتطلب الإعتراف بحق الآخر في الوجود وفي الدعوة لبرنامجه. لكن بإزاء ذلك الإنعدام للأرضية المشتركة حول مستقبل البلاد بين التيارين السياسيين الرئيسين، فما كان للحركة السياسية إلا أن تجعل من طريق التطور الدستوري والنظام الديمقراطي سوى وسيلة مؤقتة مرتبطة بهدف مبتور هو نيل الإستقلال الذي سيكون له ما بعده. كل هذا قاد إلى عجز السودانيين الدائم وفشلهم في إنجاز الدستور الدائم للبلاد طوال ما يزيد عن الستين عاماً. وهذا الوضع الشاذ له نتيجة مماثلة في الشذوذ، إذ يجعل من السودان مشروع دولة حتى يوم الناس هذا. فاللبنة الأولى في بناء الدولة هي الدستور الدائم. وهذا يعني بان هذه الحركة السياسية قد فشلت في الإتفاق علي بناء الدولة. فالدولة وكما يراها بيتروودورد، هي (هيكل إجتماعي محكوم دستوريا) [بيتر وودورد (السودان الإنهيار والنهضة) مركز الدراسات السودانية – القاهرة 1997 ].