تسربت إلى الأسافير مسودة مشروع قانون مفوضية إعادة بناء المنظومة الحقوقية والعدلية لسنة 2019، واستند في تشكيلها إلى المادة 39/1 من الوثيقة الدستورية للفترة الانتقالية لسنة 2019 والتي نصت على إنشاء مفوضيات مستقلة ويرشح لها شخصيات من الخبراء مشهود لهم بالكفاءة والنزاهة، وتشكل وتحدد اختصاصاتها وفق القوانين التي تنشئها. وعلى هذا فإن إصدار قانون المفوضية المذكورة لا غبار عليه من ناحية شكلية، خاصة وأنه جاء في سياق الهدف الأسمى وهو تفكيك بنية النظام العدلي الذي أنشأه نظام الثلاثين من يونيو 1989، إلا أن الأهداف السامية يجب أن يسلك لها الطريق الصحيح الذي يحققها. فإعادة بناء المنظومة الحقوقية والعدلية تتطلب الحفاظ على استقلالية الأجهزة التي تتكون منها هذه المنظومة ومنها على وجه الخصوص السلطة القضائية والمحكمة الدستورية والنيابة. أول ما يلاحظ على مسودة القانون أنها لم تراع الأطر المختلفة التي تنظم عمل المنظومة الحقوقية والعدلية، فجمعت بينها دون وجود مسوغ واضح. فعرف مشروع القانون المنظومة الحقوقية والعدلية بأنها (السلطة القضائية، المحكمة الدستورية، النيابة العامة، وزارة العدل، مهنة المحاماة وكليات القانون في الجامعات السودانية) وليس من جامع يربط بين هذه الأجهزة سوى أنها تخدم هدفاً واحداً هو تحقيق العدالة، لكنها تختلف في نظامها الإداري وتبعيتها القانونية والتشريعات التي تحكمها، مما يجعل معالجة أوضاعها عن طريق مفوضية واحدة أمراً يغاير طبائع الأشياء. فعلى سبيل المثال، فإن كليات ليس لها علاقة من قريب أو بعيد في منظومتها الإدارية وتشريعاتها بالسلطة القضائية أو المحاماة أو المحكمة الدستورية. وقد اجتهدت في التفكير لمعرفة ما يمكن أن تقوم به هذه المفوضية لهذه الكليات، هل هو إعادة النظر في مناهجها التدريسية أو إقالة وتعيين العمداء ومدراء الأقسام، أو اعتماد نتائج طلابها ، فلم اهتد لأمر واضح، حيث أن سلطة إصلاح هذه الكليات وإعادة بنائها حق أصيل للجامعات التي تتبع لها وليس أي جسم غريب آخر. وضعت الوثيقة الدستورية للفترة الانتقالية لسنة 2019 الأسس لإصلاح وإدارة السلطة القضائية والمحكمة الدستورية والنيابة العامة من خلال إنشاء مجلس للقضاء العالي يحافظ على استقلالية السلطة القضائية وجعلت تحديد مهامه وصلاحياته واختصاصه بموجب قانون يصدر بهذا الخصوص. وقد منحت الوثيقة الدستورية هذا المجلس سلطة اختيار أعضاء المحكمة الدستورية. وفي ذات الأوان نصت الوثيقة الدستورية على استقلالية النيابة جهاز النيابة العامة وعلى المجلس الأعلى للنيابة. والطريق الصحيح لإعادة بناء منظومة القضاء والنيابة هو من خلال السير لاستكمال هذه الأجهزة بموجب تشريعات تنظم وتوضح صلاحياتها واختصاصاتها وتحافظ في ذات الوقت على استقلاليتها حسب ما نصت عليه الوثيقة الدستورية، بدلاً من السير في طريق مظلم غير متضح المعالم، وغير محدد الهدف. والاحتجاج بأن تشكيل هذه المجالس سوف يعيد أتباع النظام السابق ليس له أساس بعد تعيين رئيس القضاء والنائب العام واتخاذهما إجراءات ملموسة في سبيل التغيير. وضع مشروع القانون صلاحيات واسعة في يد المفوضية المقترحة ولم يحدد طبيعتها أو يقيدها بقيد، فنص البند أ من المادة رقم (5) على اختصاصها ب (اتخاذ كل ما يلزم نحو تحقيق الاصلاح القانوني وإعادة بناء المنظومة الحقوقية والعدلية وضمان استقلال القضاء) وزاد من هذه العمومية بأن منحها في الفقرة (ك) أي اختصاصات أو سلطات أخرى لازمة لتنفيذ مطلوبات البنود (5، 12، 15) من المادة (8) من الوثيقة الدستورية. وعمومية هذه الصلاحيات وعدم تحديدها بصورة مفهومة يمكن تنزيلها على أرض الواقع، يجعل منها نصوصاً غامضة يصعب معها تحديد الاجراءات اللازمة لتطبيق مشروع القانون بعد إجازته. فالقوانين إنما تشرع لتحدد خطوط السير وخارطة الطريق لتحقيق الأهداف التي صدر من أجلها القانون، وليس لمنح صلاحيات مبهمة. وكان من المتيسر تحديد صلاحيات معقولة وإجراءات يمكن أن تتخذها المفوضية للوصل إلى أهدافها مثل النص على مراجعة قرارات التعيين والتأكد من تطابقها وأحكام القانون، أو إعادة دراسة الهيكل التنظيمي للأجهزة العدلية والتوصية بما يناسب تحقيق أهدافه، أو مراجعة التشريعات وإعداد مشروعات القوانين ورفعها لجهات الاختصاص لاعتمادها وغير ذلك من الصلاحيات المفهومة والقابلة للتطبيق. خلق مشروع القانون وضعاً غير طبيعي بأن جعل رئيس القضاء على رئاسة المفوضية ، ومظهر الغرابة هو منحه صلاحيات تنفيذية وليست قضائية على أجهزة الدولة الأخرى بما فيها النيابة العامة ووزارة العدل وكليات القانون، ومنحه أيضا سلطات تشريعية لتعديل بعض التشريعات القائمة. وهذا الوضع يخل بوضع رئيس القضاء كضامن لحقوق الأفراد حين تتغول عليها أجهزة الدولة الأخرى. وقد سعت المواثيق الدولية على حصر سلطات القضاء على نطاق العمل القضائي وأن لا يمتد لعمل الأجهزة الأخرى إلا ما تقتضيه طبيعة العمل القضائي، فنص الميثاق العالمي للقضاة الذي أصدره الاتحاد الدولي للقضاة عام 1999 على ضرورة تعزيز استقلال المنصب القضائي عن السلطات الأخرى في الدولة وعدم قيامه بأي عمل لا يتفق مع طبيعة العمل القضائي. والسؤال الذي يواجه واضعي المشروع هو كيف يمكن أن تحافظ السلطة القضائية على حياديتها حين تعرض عليها قضايا متعلقة بقرارات تنفيذية أصدرها رئيس القضاء وكيف يضمن الناس عدل القضاء في هذه الحالة. أما أخطر النصوص التي اشتملت عليها المسودة فهي تحصين القرارات التي تصدر عن المفوضية من الطعن عليها بأوجه الطعون القانونية، واعتبارها قرارات نهائية وملزمة للكافة، فذكرت المادة (6): (تعتبر القرارات التي تصدرها المفوضية نهائية وملزمة للكافة وعلى الجهات المختصة تنفيذها). وقد يرد في الخاطر أن المقصود بنهائيتها وإلزاميتها إنما هو من الناحية الإدارية، ومن ثم تظل الولاية القضائية على مراجعتها قائمة. إلا أن هذا الزعم لا يستقيم على ضوء صياغة النص الذي جعل من قرارات المفوضية قرارات نهائية وملزمة للكافة بما في ذلك السلطة القضائية نفسها. و يخالف النص الذي أورده مشروع القانون ما استقرت عليه الأعراف القانونية من منح القضاء سلطة الرقابة على قرارات السلطة التنفيذية، ويهدر الحق الطبيعي للأشخاص في اللجوء للقضاء للتظلم حين تتعسف عليهم سلطات الدولة وتتهجم على حقوقهم دون أساس. كما يخالف ما نصت عليه الوثيقة الدستورية نفسها بجعل ولاية القضاء ولاية عامة والذي نصت عليه المادة (53) من الوثيقة الدستورية حيث ذكرت (يكفل للكافة الحق في التقاضي ولا يجوز منع أحد من حقه في اللجوء للعدالة)، مما يوقع النص المذكور في مسودة القانون تحت طائلة عدم الدستورية ومن ثم اعتباره نصاً باطلاً. وبطبيعة الحال فإن وجود رئيس القضاء على رأس المفوضية لا يعد ممارسة لولاية قضائية على قرارات المفوضية، ولا يخرج قرارات المفوضية عن طبيعتها التنفيذية، وإنما يزيد المشهد تعقيداً على تعقيده. من المهم في هذه المرحلة التأسيس لاستقلال القضاء بما فيه المحكمة الدستورية، وإنشاء الأجهزة الطبيعية التي تقوم بعملية الاصلاح، بدلاً عن إنشاء جسم غريب يهدر المبادئ المستقرة ويهزم قضية الاصلاح. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.